أما الحقيقة التي بإزائها فهي أن المغامرين المقتحمين ينكبون أحيانا في الأرواح فضلا عن نكبتهم في الأرزاق والأموال، وأنهم لا ينطلقون مع طبائعهم القوية في عالم تشتد قيوده وتتساوى نتائجه ولا تتسع فيه الهوة بين الأمل العظيم في نجاح كبير، وبين الإقدام العظيم على خيبة قاصمة للظهور، وأن خسارة العنصر المغامر في أحداث الدنيا وتواريخها؛ لتضارع خسارة العنصر المسالم الوديع.
وهناك حقيقة من هذه الحقائق فحواها أن الغنى ليس بجريمة، وأن الفقر ليس بفضيلة، فلن يقول أحد به مسكة عقل: إن الأغنياء يستحقون الفقر لأنهم أغنياء، وإن الفقراء يستحقون الغنى لأنهم فقراء، وإن جاز أن يقال: إن الإفراط في الغنى والإفراط في الفقر ظلمان محققان.
أما الحقيقة التي بإزائها فهي أن الأمر لا يرجع هنا إلى العدل والاستحقاق، ولكنه يرجع إلى صلاح المجتمع، ولو نال فيه فريق فوق ما يكافئ عمله وجدواه، فكل عضو شاك يكلف الجسم بعض الأحيان فوق حقه، وفوق نصيبه من العمل الجدوي؛ وبغير هذا العلاج لا تستقيم صحة الأجسام.
وصحيح أن العالم مدين للعصاميين، وأن العصاميين لم يولدوا في الذروة العليا من طبقات الأمة، ولكن ليس بصحيح أن طبقة الحضيض هي صاحبة الحصة الكبرى في إنجاب العصاميين، وإنما الصحيح أنهم ينشئون وسطا بين الطبقة التي نهكتها رذائل الترف والغرور، والطبقة التي نهكتها رذائل الهوان والمسكنة. ومعظم المصلحين الذين نفعوا الفقراء لم يكونوا من ضحايا الفقر المدقع والمنبت المنحدر البالغ في الانحدار، مما يؤيد رأي القائلين: إن الفقر المدقع الذي يلازم أصحابه عقبا بعد عقب إنما هو قصور في الذهن والخلق، يحلهم حيث يحل القاصرون المتخلفون، أيا كان المجتمع الذي يعيشون فيه.
وبعد هذه الحقائق جميعها تبقى لنا حقيقة لا يطول فيها جدل المنصفين، وهي أن الفقر آفة يجب أن تزول إذا استطعنا أن نزيلها، ويجب ألا يمنعنا عن إزالتها إلا مانع واحد لا نحفل بغيره: وهو عدم الاستطاعة، ولو كان الفقراء مستحقين لما هم فيه، فلن يبحث منصف عن المريض، هل جلب المرض لنفسه بيديه، أو سيق إلى المرض مكرها عليه، إذا كانت المسألة مسألة طب وشفاء مستطاع.
الفصل الحادي والعشرون
الرحمة قوة
أصحيح ما يقال: إن الرحمة من أخلاق الضعفاء، وإنها أبعد الصفات عن الأقوياء، وإن الإنسان كلما ازداد قوة ازداد قسوة؟ فهل تتفضل يا سيدي بالإجابة على سؤالي هذا؟ •••
وجوابي على سؤال الأستاذ الفاضل أن الرحمة قوة وليست بضعف؛ لأن الرحيم يعطي من فيض نفسه من يحتاجون إلى رحمة، ولا تملك النفس فيضا تعطيه إلا وهي ممتلئة تستغني عن جزء من ذخيرتها لإسعاف غيرها، وليس هذا من شيمة الضعفاء.
والرحمة كلاءة ورعاية، ومن يكلأ غيره ويرعاه فليس هو بالضعيف.
अज्ञात पृष्ठ