ورأيي في هذا الموضوع الذي يستحق التوضيح أن الأديب لا يغض من أدبه أن يكتب في مسائل الاجتماع والإصلاح الموقوت، ولكن الكتابة في هذه المسائل ليست شرطا من شروط الأدب، وليست حتما لزاما على كل أديب.
لأن الأدب التعبير، والتعبير غاية مقصودة، وغاية كافية، وغاية لا يعيبها أن تنفصل عن سائر الغايات.
ولا فرق بين الأدب المعبر بنظمه ونثره وبين الموسيقي المعبر بألحانه ونغماته، فكلاهما يصف النفس الإنسانية في حالة من حالاتها، وكلاهما مستقل بوحيه، لا يشترط فيه أن يتعرض لعمل المصلح الاجتماعي، أو الباحث الأخلاقي، أو الناظر في مشكلات الثروة وشئون المعيشة.
وإنما جاء اشتراط البحث الاجتماعي أو الاقتصادي على الأدباء وأصحاب الفنون بدعة من بدع المذهب الاشتراكي في العصر الحديث، وهو مع هذا نقيض الدعوة الاشتراكية في الأساس والصميم.
لأن الدعوة الاشتراكية تستكثر على الفقراء أن يستغرقوا حياتهم في طلب القوت، والاشتغال بأعباء المعيشة، وترى أن الحياة الصالحة هي الحياة التي يقل فيها جهد العمل، وتكثر فيها فرص المتعة بالنعيم.
فإذا كان هذا هو رجاءها الأعلى وغايتها القصوى، فمن أعجب العجب أن تجعل الخبز وضرورات المعيشة شاغلا لكل عامل وقائل، ومحورا للأحلام والآمال، وفريضة لا يعفى منها أحد من الناس حتى الذين وكلتهم المجتمعات الإنسانية منذ كانت إلى التجميل والتزيين، وتذكير أبناء آدم بأنهم نفوس وألباب لها مطالب في بعض ساعاتها غير مطالب المعدات والجلود! وأكبر من مطالب السوائم والحشرات.
ماذا نقول؟! أنقول السوائم والحشرات؟ كلا معاذ الله أن نتهم السوائم والحشرات بالاستغراق في المطاعم والمعدات، فإنها تعلمنا ما يجهله غلاة الاشتراكيين، ويريدون منا أن نغفل عنه ونتعلم نقيضه: تعلمنا أن الجمال غاية الحياة، وأن الطعام ضرورة مفروضة وليس بالحياة كلها، ولا بالشاغل الذي يستوعب كل حي في كل ساعة في كل عمل وكل مسعاة، تعلمنا أنها تغني وتمرح وتلعب، وتحب الشمس والقمر، وتلوذ بالأعشاب والأزهار، ولا تدين نفسها بدين الخبز والمعدة إلا ريثما تفرغ من هذه السخرة المفروضة عليها، أو هذا العبء الذي يثقلها ويعطلها عن سرورها ونشوتها.
ونحن إذ نقول هذا لا نجهل ما يقوله الاشتراكيون، إذ يستخفون بالفنون والآداب التي تناط بالجمال الخالد، ولا تناط بالمنافع الموقوتة، فإنهم يزعمون أن الجوع أولى بالتفكير والتعبير من هذه المطالب التي يسمونها بالكماليات، وهي هي كما أسلفنا طلبة الحياة وطلبة جميع الأحياء.
وحسن ما يقولون أو فليكن حسنا كما يشاءون، ولكن الأمة التي لا تستطيع أن تفرغ من حياة جميع أبنائها بضع ساعات لبعض هؤلاء الأبناء يشبعون فيها مطالب الجمال، هي أمة لا تستحق الطعام ولا تستحق الوجود، فبحسب الفرد عشر ساعات من الأربع والعشرين للكد والكدح وطلب المعاش، وبحسب الأمة تسعة ملايين وتسعمائة وتسعة وتسعون ألفا من عشرة ملايين بين أفرادها يكدون ويكدحون لمعاشها، وغير كثير بعد ذلك ألف أو أقل من ألف يذكرونها الجمال، ويعبرون لها عن أحلام الحياة التي يعطيها الطير والحشرة، وتعطيها الضارية والبهيمة كل ما استخلصته من براثن الضرورات.
لا بل نزيد على ذلك أن الألف الذين يذكرونها الجمال، ويعبرون لها عن أحلام الحياة لا يخلون من فائدة في باب الخبز والطعام، إذا نظرنا إلى النتائج والحقائق، ولم نقصر النظر على البوادر والعناوين.
अज्ञात पृष्ठ