وهذه من وقائع الحياة التي لا سبيل إلى نكرانها، فقد يولد المرء غنيا، ولا فضل له في غناه، وقد يولد فقيرا ولا ذنب له في فقره، أو يولد صحيح الجسم وهو لم يعمل قبل ولادته شيئا يستحق به هذه النعمة، أو يولد سقيما عليلا وهو لم يعمل قبل ولادته شيئا يستحق به هذه النقمة، وقد يولد في بلاد حرة أو بلاد مستعبدة بغير اختياره، وقد يولد عبقريا نافعا أو غبيا لا نفع فيه لأسباب لا تقع في حسبانه ولا حسبان أبويه.
ونهبط من هذه الفوارق الكبيرة إلى فوارق أصغر منها، وأقل منها خطرا في نتائجها وعوارضها، فيولد المرء في قرية تعوزها وسائل التعليم، أو يولد في العاصمة الكبرى إلى جانب المكتب أو المدرسة، فلا يتساوى حظهما من التعلم، وإن تساويا في الثروة والاستعداد للعلوم.
وقد يولد المرء وينشأ في كنف أبويه إلى أن يستوفي نصيبه من التربية، وقد يحرم أمه أو أباه أو يحرم الوالدين معا وهو طفل صغير.
هذه وأمثالها فوارق كثيرة نشاهدها في هذه الدنيا كل يوم وبين كل قوم، وهي غير الفوارق الكثيرة التي يتعرض لها الناس بعد المولد، وبعد النشأة الأولى في جميع أدوار الحياة.
ولا شك أنها جميعا من أكبر المصاعب التي تصادف الإنسان في دنياه، وتضطره إلى العمل لاستدراكها بجهود الأفراد والجماعات .
ولكنها مع هذا لم تخلق بغير حالات فردية أو اجتماعية توازنها، وتصلح آثارها وتتحول بها من الإجحاف إلى الإنصاف.
وليس في وسعنا أن نسرد جميع هذه الموازنات التي نستدرك بها تلك الفوارق والمفارقات.
ولكنا نحصي منها ولا نحصيها فنذكر:
أولا:
إن الفوارق لا تحول بيننا وبين السيطرة على جميع الأسباب، وإن حالت بيننا وبين السيطرة على بعض الأسباب، وإن الأسباب التي نسيطر عليها هي التي تفسح أمامنا المجال للكفاح والنضال، وإبراز الفضائل والخصال، فلو كان كل فرد من الناس يؤتى حقه كاملا من تدبير الطبيعة أو تدبير المجتمع لما بقي للمزايا الفردية عمل يستدعيها ويبرزها، ويبلغ بها إلى تمامها، ولكانت الدنيا أشبه بالملجأ الذي توزع فيه حصص المأكل والمسكن، ولوازم المعيشة بورقة مكتوبة، لا تحتاج إلى عمل ولا مرانة ولا مراس.
अज्ञात पृष्ठ