[مقدمة المؤلف]
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم.
قال سيدنا شرف الدين بقية العلماء الراشدين، بهاء الدين محيي سنة المرسلين أوحد العصر، وجوهرة الفخر، قدس الله روحه ونور ضريحه: محمد بن يحيى بن أحمد بن حنش [ ] بدأ الشيخ الإمام العلامة بهاء الدين أبو الحسن أحمد بن الحسن الرصاص رضي الله عنه وأرضاه وجعل الجنة مسرحه ومأواه، بذكر الله تعالى ثم ثنى بالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله، وثلث بآله.
وإذا أردنا الكلام في مذاكرة هذا الكتاب تكلمنا في سبعة فصول:
الأول: في لم بدأ بذكر الله ثم ثنى بالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وثلث بآله.
والثاني: في معنى الحمد وما يتصل بذلك من ألفاظ الخطبة.
والثالث: في فضل العلم على سبيل الجملة.
والرابع: في فضل علم التوحيد وتمييزه على غيره.
والخامس: في بيان الغرض المقصود بهذا الفن والثمرة المطلوبة منه.
والسادس: في مسائل الاعتقاد وما يتعلق بها.
والسابع: في أبواب الكتاب.
पृष्ठ 2
[ الفصل الأول]
وأما الفصل الأول وهو الكلام في الوجه الذي لأجله بدأ بذكر الله، وثنى بالصلاة على رسول الله، وثلث بالصلاة على آله.
أما الوجه الأول: الذي لأجله بدأ بذكر الله فلدلالة العقل والسمع.
أما العقل: فلأنه هو المنعم على على جميع الخلق بجميع النعم فإذا كان هو المنعم بها وجب شكره عليها؛ لأن شكر المنعم واجب فلذلك بدأ بذكره.
وأما السمع [ 2ب ] فالكتاب والسنة.
أما الكتاب فقوله تعالى:{فاذكروني أذكركم} وقوله تعالى:{فاذكروه ذكرا كثيرا} وقوله تعالى:{ وإن تشكروا يرضه لكم} وقوله تعالى:{الحمد لله رب العالمين} فهذا إلهام من الله تعالى لذكره.
وأما السنة: فما روي عن النبي صلى الله عليه وآله [ ] أنه قال: ((كل أمر ذي بال لم يذكر عليه اسم الله فهو أبتر)) وقيل أقطع، وقيل وقيل خداج)). والمراد بقوله ذي بال أي أمر تخطر وقيل له خطر، وقوله أقطع أي منزوع منه البركة، وذلك لأن بذكر الله تعالى تحصل البركة وتطمئن القلوب كما قال تعالى:{ألا بذكر الله تطمئن القلوب}.
पृष्ठ 3
وأما الوجه الذي لأجله ثنى بالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فالذي يدل عليه الكتاب، والسنة والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى [ ]: {ورفعنا لك ذكرك}. ذكر بعض المفسرين أن معنى هذه الآية قرنت ذكرك بذكري وقوله تعالى [ ]:{ إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}، وهو أمر، والأمر يقتضي الوجوب أو الندب على الخلاف.
وأما السنة: فما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم [ ] أنه قال: ((لا تدعوني كقدح الراكب)) فنهى أن يؤخر ذكره.
وما روي عنه صلى الله عليه وآله أنه قال [ ]: ((البخيل من ذكرت عنده ولم يصل علي)).
وعنه صلى الله عليه وآله أنه قال [ ]: ((من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرصلوات ومحى عنه عشر سيئات ورفع له بها عشر درجات واستبقا الملكان الموكلان به أيهما يبلغ روحي منه السلام- يعني الله عليكم-))
وأما الإجماع: فلا خلاف في الندب وإن اختلفوا في الوجوب، فعند أبي مسلم القشد إنها تجب في أي وقت.
وقال الطحاوي: تجب في العمر مرة، وعند جمهور أهل البيت عليهم السلام أنها تجب في الصلاة[3أ ].
وبه قال الشافعي ( ) وعند الناصر للحق عليه السلام: أنها غير واجبة في الصلاة.
وبه قال أبو حنيفة، وإنما هي مسنونة فيها عندهما.
وأما الوجه الثاني لأجله ثلث بآله:
فما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال [ ]: ((لا تصلوا علي الصلاة البتراء، قيل: وما الصلاة البتراء يا رسول الله؟ قال: أن تصلوا علي ولا تصلوا على آلي)).
पृष्ठ 4
وما رواه أبو خالد قال: (عدهن في يدي زيد بن علي ( ) عليهم السلام).
وقال زيد بن علي [ ] عليهم السلام [ ] (عدهن في يدي أبي علي بن الحسين عليهم السلام).
وقال علي بن الحسين: (عدهن في يدي أبي الحسين بن علي عليهم السلام).
وقال الحسين بن علي عليهم السلام:( عدهن في يدي أبي علي بن أبي طالب عليهم السلام).
وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: ( عدهن في يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((عدهن في يدي جبريل عليه السلام)). وقال جبريل عليه السلام: (هكذا نزلت بهن من عند رب العزة وهو اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد وترحم على محمد وعلى آل محمد، وتحنن على محمد وعلى آل محمد، وسلم على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت وترحمت وتحننت وسلمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. قال كل لفظة منها بانفرادها).
واختلفوا العلماء في الصلاة على الآل، فذهب أهل البيت عليهم السلام إلى أنها واجبة في الصلاة وهو أحد قولي (ش) وذهب الناصر عليه السلام و(ح) وأحد قولي (س) إلى أنها غير واجبة.
هذا هو الكلام في الفصل الأول.
पृष्ठ 5
[الفصل الثاني]
وأما الفصل الثاني وهو في معنى الحمد وما يتصل به من ألفاظ الخطبة.
فالحمد: له معنيان أعم وأخص [3ب].
فالأعم: هو الثناء الحسن والوصف الجميل يدل عليه قول الشاعر:
يا أيها المالج دلوي دلوك
يثنون خيرا ويمجدونك ... إني سمعت الناس يحمدونك
أرجوك للخير كما يرجونك
وقيل إنه جوب بأبيات وهو قوله:
ملأتها ملأ يفيض فيضا ... فلن تنالي ما بقيت عيظا ... فاستنفقينها ثم عودي أيضا
والمالح: هو الذي يكون أسفل البئر. والمالج: هو الذي يكون في أعلاه.
وروي أن أبا علي سئل عن الفرق بين المالح والمالج؟ فقال: فرق بينهما إعجامهما.
والأخص: هو الشكر، وحقيقة الشكر: هو الاعتراف بنعمة المنعم مع ضرب من التعظيم.
والأخص ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القلب، واللسان، والجوارح.
أما القلب فهو: أن يعزم على إظهاره، ويجب إذا اتهم.
وأما اللسان: فبالتعريف التعظيم، وأما الجوارح: فالعمل.
पृष्ठ 6
والفرق بين الأعم والأخص من وجوه:
أحدهما: أن الأعم يوضع موضع الأخص، والأخص لا يوضع موضع الأعم فتقول في الأعم:
حمدتك على إحسانك، وحمدتك على علمك، وحمدتك على شجاعتك، ولا تقول شكرتك على علمك ولا على شجاعتك.
وتقول في الأخص: شكرتك على إحسانك إلي وحمدتك على إحسانك إلى.
والثاني: أن الأخص لا يكون إلا في مقابلة نعمة، والأعم على كل خصلة من خصال الكمال.
والثالث: أن نقيض الأعم هو الذم؛ لأن الأعم هو المدح، ونقيض المدح هو الذم.
والأخص هو الشكر للنعمة، ونقيض الشكر للنعمة هو الكفر لها.
والرابع: أن الأعم لا يكون إلا بالقول، والأخص بالقلب واللسان والجوارح، يدل عليه قول الشاعر:
أفادكم النعما مني ثلاثة يدى ... ولساني والضمير المحجبا
وعرف الحمد بالألف واللام ليكون مستغرقا للمعنيين جميعا الأعم والأخص لأنه سبحانه يستحق [ 4أ ]الأعم على سائر صفات الكمال، ويستحق الأخص لأنه منعم بأصول النعم وفروعها، هذا في الحمد.
وأما الإله فله معنيان: لغوي، واصطلاحي.
أما اللغوي: فهو من تأله إليه القلوب ويفزع كل مكروب عند النوائب التي تنوب، ولهذا كانت الجاهلية تسمي الأصنام آلهة لأنهم كانوا يفزعون إليها.
وأما الاصطلاحي: فهو من تحق له العبادة ولا يقال هو من يستحقها؛ لأنه يؤدي إلى أحد باطلين إما أن يكون معه ثانيا يستحقها عليه، وإما أنه لم يكن يستحقها في ما لم يعبد في كل حال بمعنى أنه مختص بصفات الكمال والإلهية والاستحقاق مشروط بوجود المستحق عليه.
والعبادة: هي النهاية في التذلل والخضوع للمعبود وهي غاية الشكر للمنعم بأصول النعم.
पृष्ठ 7
والمنعم بأصول النعم ليس إلا الله تعالى فيجب أن يستحقها، وهي مأخوذة من التعبد وهو التذلل، يقال: طريق معبد: أي مذلل لكثرة المشي فيها، ومنه سمي العبد عبدا لتذلله بالرق.
وقوله على نعمة: على حرف جر، ونعمة جمع نعمة.
فنتكلم في حقيقة النعمة وأسمائها وقسمتها.
فحقيقة النعمة: هي المنفعة الحسنة التي قصد بها صاحبها وجه الإحسان إلى الغير.
قلنا: المنفعة احتراز من المضرة، وقلنا: الحسنة احتراز من القبيحة، واختلف الشيخان أبو علي وأبو هاشم.
فقال أبو هاشم : تكن نعمة وإن كانت قبيحة قبل أن تهب للغير جميع ما يملكه لقوله تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط}. فنهى أن يتصرف بجميع ما يملكه، والنهي يقتضي القبح، ومعلوم أنه لو فعل ذلك لكان منعما .
وقال أبو علي: إنها لا تكون نعمة إلا إذا كانت حسنة.
وقلنا: قصد احترازا من أن لا يقصد مثل من يلقى طعاما على قارعة الطريق وينتفع به الغير.
وقلنا: صاحبها ولم نقل فاعلها لأنه قد يكون منعما وإن لم يصدر منه [ 4أ ] فعل كأن لا يطالب غريمه بالدين، فإنه يكون منعما بترفيهه عليه أو بأن يأمر غيره بالفعل.
وقلنا: وجه الإحسان احتراز من أن يقصد وجه الإضرار مثل من يقدم للغير طعاما مسموما ليقتله به أو ليثبطه حتى يأتيه عدوه يقتله فإنه لا يسمى منعما؛ لأنه قصد وجه الإضرار.
وقلنا: إلى الغير احتراز من أن يقصد بإيصال المنفعة إلى الغير نفع نفسه، مثل من يقدم إلى الملك شيئا ليرد له في مقابلته فإنه لايسمى منعما لأنه قصد بذلك منفعة تعود عليه، وكذا من كسا عبده ليربح عليه إذا باعه فإنه غير منعم على العبد لأنه قصد بذلك نفع نفسه، هذا في حقيقة النعمة.
وأما تسميتها فتسمى: نعمة، ويدا وفضلة، وفضلا، وجهوا، وجدوى، وحباء وهبة، وموهبة ومنة وعطية.
وأماقسمتها فهي تنقسم إلى قسمين: أصول، وفروع.
أما الأصول فهي ست:
पृष्ठ 8
خلق الحي، وخلق حياته، وخلق شهوته، وخلق قدرته، وتمكينه من المشتهى، فهذه الخمسة مترابطة ولا تكن نعمة إلا بمجموعها، والسادس: العقل فإنه أصل في نعمة الثواب، لأنه لا يحصل إلا بالتكليف، والتكليف من شرطه كمال العقل، والخمسة المتقدمة تكون نعمة من دونه وهو لا يكون نعمة إلا بأن ينضم إليها.
وأما الفروع فهي: التناول كالأكل والشرب وسائر المتناولات.
وأما قوله التوام، فمعنى التوام: الكوامل لأن نعم الله تعالى تامة جميعها وأياديه الجسام. الأيادي: هي النعم في هذا الموضع، واليد لفظة مشتركة بين معان:
أحدها: اليد بمعنى الجارحة وعليه يحمل قوله تعالى:{فاقطعوا أيديهما} وجمعها أيدي، وبمعنى النعمة وعليه يحمل قوله تعالى [ ]: {بل يداه مبسوطتان} [ 5أ] أي نعمتها، وجمعها أيادي.
وعليه أيضا قول الشاعر :
يا بن الخليفة يا معاوية إنني ... أرجو نوالك فاتخ عندي يدا
ويد: بمعنى القدرة ويدل عليه قوله تعالى [ ]:{يد الله فوق أيديهم} أي قدرته.
وقول الشاعر :
لا شفاك الله والله ما بنا ... لما حملت منك الضلوع يدان
وقول آخر :
وإذا رأيت المرء شعب أمره ... شعب العصي وثلج في العصيان
ويد بمعنى المظاهرة والمعاونة، ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم [ ]: ((المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وأقصاهم وهم يد على من سواهم)).
ويد بمعنى الذمة والصغار يدل عليه قوله تعالى [ ]: {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} أي عن ذلة وصغار.
ويد بمعنى أمام الشيء يدل عليه قوله تعالى:{وهو الذي يرسل رياحا بشرا بين يدي رحمته}أي أمام رحمته.
ويد بمعنى الجملة ومنه قوله تعالى [ ]:{ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد} أي بما فعلته أنت، وإن كان لسانه أو بصره أو سمعه أو فؤاده وغير ذلك من سائر جوارحه الجسام معناه العظام.
الذي هدانا، اعلم أن الهدي لفظة مشتركة بين معان:
पृष्ठ 9
أحدها: هذا بمعنى الدلالة والبينات عليه مثل قوله تعالى [ ]: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان}، أي دلالة وبيان.
وهدى بمعنى التوفيق والتسديد وعليه يحمل قوله تعالى [ ]: {والذين اهتدوا زادهم هدى} أي شرح صدورهم.
وأما قوله تعالى[ ]:{فأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} [5ب] فأخبر أنه تعالى هداهم فاستحبوا العمى على الهدى الأول، وبين لهم فلم يختاروه لأنفسهم فلم تحصل لهم الزيادة.
وهدى بمعنى السلوك وعليه يحمل قوله تعالى [ ]:{إهدنا الصراط المستقيم}، وهدى بمعنى الثواب وعليه قوله تعالى [ ]:{سيهديهم ويصلح بالهم} أي سيثبتهم.
قوله للإسلام، والإسلام والإيمان والدين معناه في الشرع واحد وهو فعل الطاعات وترك المقبحات والمكروهات، والإسلام في أصل وضع اللغة هو الإستسلام والإنقياد، وقال زيد بن عمرو بن نفيل: أسلمت وجهي لمن أسلمت له المزن لحملن عدنان لا لا وعليه قوله تعالى [ ]:{قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} أي استسلمنا وانقدنا.
والإيمان في أصل اللغة: بمعنى التصديق، وعليه قوله تعالى [ ]:{وما أنت بمؤمن لنا} أي بمصدق لنا، ويستعمل في الإيمان من الخوف .
وأما الدين: فهو مشترك بين معان خمسة:
أحدها: بمعنى الجزاء، وعليه حمل قولهم كما تدين تدن أي كما تفعل تجازى، قال الشاعر:
إلى ديان يوم الدين نمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم
وثانيها: بمعنى الملة وعليه قوله تعالى [ ]:{لكم دينكم ولي دين}.
وثالثها: بمعنى الحساب قال [ ] {مالك يوم الدين}، أي يوم الحساب.
ورابعها: بمعنى الطاعة، يقال: فلان على دين الإسلام، أي هو مقيم على طاعة من هو المقيم بهذه الشريعة وهو محمد بن عبدالله عليه السلام.
ويقال: دان لك القوم، أي طاعوك.
وخامسها: بمعنى العادة، وعليه قول الشاعر:
يقول وقد دارت لها وطيتي ... أهذا دينه أبدا
وديني أمي عادته وعادتي وأما قوله: وجعلنا من أمة محمد عليه السلام [6أ]:
पृष्ठ 10
فالجعل لفظة مشتركة بين معان سبعة:
أحدها: بمعنى الخلق والإيجاد قال تعالى [ ]:{وجعل الظلمات والنور} أي خلقها.
وثانيها: بمعنى اللطف قال تعالى:{واجعلنا مسلمين لك} أي الطف لنا في الإسلام ووفقنا للثبات عليه.
وثالثها: بمعنى الحكم والتسمية قال تعالى:{وجعلوا الملائكة الذين عند الرحمن إناثا} أي سموهم وحكموا عليهم.
ورابعها: بمعنى الطرح والإلغاء قال تعالى [ ]: {ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا} أي يلقي بعضه ويطرحه عليه.
وخامسها: بالمعنى الصيرورة، يقال: جعل الصانع السبيكة خلعا أي صيرها، وقال تعالى [ ]: {ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا} أي صيره.
وسادسها: بمعنى الإرسال وقال تعالى [ ]:{جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة} ومنه قول القائل: جعل فلان فلانا رسولا، أي أرسله.
وسابعها: بمعنى التمليك، يقال: جعلت هذه الدار ليزيد، أي ملكته إياها، وقال تعالى [ ]:{إني جاعلك للناس إماما} أي ملكتك تصرفات الأئمة على الناس.
وأما قوله أمة لفظة مشتركة بين معان:
أحدها: بمعنى الواحد المعظم قال تعالى:{ إن إبراهيم كان أمة} أي كان معظما، ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم في زيد بن عمرو بن نفيل قال: ((يبعث يوم القيامة أمة وحده)).
وثانيها: بمعنى الزمان قال تعالى [ ]:{وادكر بعد أمة} أي بعد زمان.
وثالثها: بمعنى الملة قال تعالى [ ]:{إنا وجدنا آباءنا على أمة} أي على ملة.
ورابعها: بمعنى الجماعة، قال تعالى [ ]:{ووجد عليه أمة من الناس يسقون}.
وخامسها: بمعنى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهم من بعث إليهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، واختلف العلماء في أمته عليه السلام فمنهم من قال: كل من بعث إليه سواء صدقه أو كذبه، فعلى هذا يكون اليهود والنصارى من أمته، ومنهم [6ب] من قال: أمته من بعث إليهم فصدقوه وبايعوه، فلا يكون المكذب له من أمته.
पृष्ठ 11
وأما قوله محمد فنقيضه مذمم قال امرأة أبي لهب لعنها الله لعنا وبيلا: مذمم قلينا ودينه أبينا، لا صمنا ولاصلينا، واللات لئن ألقاه لأرض فاه بهذا المهفر، وهو مشتق من اسم الله تعالى
قال الشاعر:
ألم تر أن الله أرسل عبده
فشق له من اسمه ليجله فذ ... ببرهانه فالله أعلا وأمجدا
والعرش محمود وهذا محمدا
وله أسماء منها: محمد وأحمد، وأبو القاسم، والبشير، والنذير، والحاشر.
وأما قوله رحمة الله عليه: السلام، والسلام: من أسماء الله تعالى.
وأما قوله وصلواته، فالصلاة تستعمل على ثلاث معان في اللغة، والعرف، والشرع.
فهي في اللغة: بمعنى الدعاء قال تعالى [ ]:{وصل عليهم} أي ادع لهم، قال الشاعر وهو الأعشى:
عليك مثل الذي صلوت
أي دعوت.
وفي العرف: بمعنى الرحمة قال تعالى [ ]:{إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} فمن الله بمعنى الرحمة، ومن الملائكة بمعنى الاستغفار، ومن المؤمنين بمعنى الدعاء.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم [ ]: ((اللهم صل على آل أبي أوفى)) أي ارحم.
وفي الشرع: عبارة عن أفعال، وإذا كان تحريمها التكبير وتحليلها التحريم وهي مأخوذة من صليت العود بالنار إذا لينته للتثقيف لئن قلب المصلي يلين، وقال ابن خالويه: والصلاة تستعمل في خمسة معان:
أحدها: هذه الشريعة.
وثانيها: الدعاء.
وثالثها: الرحمة من الله.
ورابعها: بيت النصارى يقال صلونا، ومنه قوله تعالى [ ]:{وصلوات ومساجد}.
وخامسها: أحد الصلابين وهما العظمان اللذين على يمين الذنب ويساره، وقيل: هما عرقان [7ب] في مؤخره، وسمي المصلي مصليا لأنه يحرك صلوبه، وسمي التالي من حبل الحبلة مصلبا لأن رأسه يكون عند صلوى السابق.
وأما قوله على من اختصه، قال: اختصاص والإختيار والاجتباء والاصطفى لفظه مختلف ومعناه واحد.
وأما قوله بالنبوة فهي والرسالة بمعنى واحد في...، وهي ما يحمله الرسول عن الله إلى الخلق من غير واسطة بينة.
पृष्ठ 12
قلنا: من غير واسطة، احتراز من الأئمة والعلماء، فإنهم وإن تحملوا الشرائع والأحكام عن الله تعالى إلى عباده، ولكنهم يحملونها بواسطة الأنبياء.
وقلنا ببينة: احتراز من الواسطة التي ليست بينة.
والنبوة تستعمل في اللغة مهموز فهي مأخوذة من الإنباء وهو الإخبار قال تعالى [ ]:{من أنبأك هذا} أي أخبرك، وإن استعملت غير مهموز فهي مأخوذة من الرفعة.
وأما قوله: اصطفاه، فقد بينا أن الاصطفى والاجتباء والارتضى بمعنى واحد، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم مصطفى لما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال [ ]: ((إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل واصطفى من ولد إسماعيل كنانة واصطفى من كنانة قريش، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم)).
وأما قوله: وأيده معناه قواه بالرسالة، والرسالة تستعمل في أصل اللغة والاصطلاح.
أما في اللغة: فالألوكة.
وأما في اصطلاح المتكلمين: فمعناه والنبوة واحد على ما تقدم.
وأما قوله: وفضله على سائر أنبيائه، فالدليل على أنه أفضل الأنبياء وجهان:
أحدهما: أن شريعته دائمة إلى يوم القيامة.
وقد قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم [ ]:((من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة)).
فخرج من هذا أنه أكثر الأنبياء ثوابا؛ لأن أتباعه أكثر الأتباع، وشريعته أدوم [7ب] الشرائع بخلاف غيره من الأنبياء، فإن منهم من بعث إلى قومه، ومنهم من بعث إلى أهل بيته.
الوجه الثاني: ما يدل على أنه أفضل الأنبياء قوله: (( أنا سيد ولد آدم ولا فخر وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر، وأنا أول شافع مشفع ولا فخر)).
فإن قيل: فما تقولون في قوله صلى الله عليه وآله وسلم [ ]:((لا تفضلوني على أخي يونس فإنه يرفع له في كل يوم مثل ثواب أهل الأرض)).
قلنا: قد دللنا على أنه أفضل أهل الأنبياء، تأويل الخبر على أحد وجهين:
पृष्ठ 13
إما أنه لم يكن قد علم أنه أفضل الأنبياء، وإما أنه فهم منهم وضع يونس ... عن درجته فأراد رفع درجته من الله.
وأما قوله الرسول الزكي المبارك. ومنه سميت الزكوة زكاة؛ لأنها بركة المال، لأن المال إذا زكي نما وتبارك.
فالرسول والنبي في الشرع واحد: وهو المتحمل للرسالة عن الله إلى الخلق من غير واسطة بشر.
والزكي المبارك، ومنه سميت الزكوة زكاة لأنها بركة المال؛ لأن المال إذا زكي نما وتبارك.
وقوله: محمد، قد تقدم الكلام فيه.
وأما النبي فهو يستعمل مهموز وغير مهموز كما تقدم خلافا لأبي علي فإنه قال: لا يجوز أن يوصف مهموزا، واحتج بما روي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم:[ ] يا نبي الله، فقال: ((لست بنبي الله وإنما نبي الله أنا)).
والجواب عن ذلك: أنا نقول إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما أنكر عليه لأنه فهم من حال وصفه عن منزلته.
وأما قوله الأمي، فالأمي: هو الذي لا يقرأ المكتوب ولايكتب المقروء.
أو هو مدح فيه، وذم في غيره.وقلنا: مدح فيه لأنه صلى الله عليه أتى بما عجز عنه الثقلان.
ووجه الحكمة في أن جعله الله أميا لئلا يقال أنه أخذ ما أتى به عن كتاب واستكتبه من غيره، وهذا أبلغ في الإعجاز.
وأما قوله: وعلى أخيه وابن عمه [8أ]:
أما أخوته فهو أخوه من الدين، والنسب جميعا ! أما أخوته فلأنه ابن عمه وابن العم أخا مجازا، وأما في الدين فالدليل عليه الكتاب والسنة.
أما الكتاب فقوله تعالى [ ]:{إنما المؤمنون إخوة}. وهما رأس المؤمنين وأولاهم في الدخول في الآية.
وأما في السنة ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم [ ]:أنه آخى بين المهاجرين والأنصار وقال: ((وعلي أخي)).
وأما أنه ابن عمه فذلك ظاهر؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم، وهو علي بن أبي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم.
وأما قوله: وباب مدينة علمه.
पृष्ठ 14
فلما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم [ ]أنه قال: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأتها من بابها)).
وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم:[ ]أنه قال: ((أقرؤكم أبي وأفقهكم معاذ وأفرضكم زيد بن ثابت وأقضاكم علي)) والقضاء جامع لعلوم الاجتهاد.
وروي عن علي عليه السلام [ ]: أنه قال: (والله لو ثنى لي الوسادة ثم جلست عليها لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم، وأهل الفرقان بفرقانهم، وأهل الإنجيل بإنجيلهم، وأهل الزبور بزبورهم، والله ما من آية في بر ولا بحر ولا سهل ولا جبل ولا سماء ولا أرض ولا ليل ولا نهار إلا وأنا أعلم في من نزلت وفي أي شيء نزلت).
وقال عليه السلام [ ]:( أنا عبدالله وأخو رسول الله ما قالها أحد قبلي ولا يقولها أحد بعدي إلا كاذب).
وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم [ ] في قوله: {وتعيها أذن واعية}.
قال [ ]:((سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي فأعطانيها)) إلي غير ذلك.
وأما قوله الصديق الكبر؛ فلما روي عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: ((الصديقون ثلاثة وهم: حبيب النجار مؤمن آل ياسين الذي قال: {يا قوم اتبعوا المرسلين}، وحزقيل مؤمن آل فرعون الذي قال: {أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله} ، وعلي عليه السلام)).
وأما قوله: الطاهر [8ب] المطهر، فالمراد به الطاهر من الشرك، والمطهر المعصوم، والذي يدل على عصمته أخبار كثيرة كخبر الغدير، وقوله: (( علي مع الحق والحق مع علي)) وغير ذلك.
पृष्ठ 15
وأما أنه صاحب لواء الحمد، فالذي يدل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم [ ] أنه قال: (( ليس في القيامة راكب غيرنا ونحن أربعة نفر قال فقام إليه رجل من الأنصار فقال: فداك أبي وأمي أنت يارسول الله ومن؟ قال: أنا على دابة الله البراق وأخي صالح على ناقة الله التي عقرت، وعمي حمزة على ناقتي العضباء، وأخي علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة على ناقة من نوق الجنة بيده لو اء الحمد واقف بين يدي العرش أنادي لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: فيقولون الآدميون ما هذا إلا ملكا مقربا مقدر أو نبي مرسل أو حامل عرش الرب عزوجل، قال: فيجيبهم ملك من تحت بطنان العرش: معاشر الآدميين ما هذا ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا ولا حامل عرش رب العالمين هذا الصديق الأكبر هذا علي بن أبي طالب صلوات الله عليه)) .
وقوله ونهر الكوثر، الكوثر: نهر في الجنة لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم [ أنه قال: ((نهر الكوثر أشد بياضا من الزبد وأحلى من الشهد لا يطعمه إلا من أتى بجواز من علي عليه السلام)).
وقوله أبي شبير وشبر، شبير الحسين عليه السلام، وشبر الحسن عليه السلام؛ لأنه صلى الله عليه وآله نزل عليا منه منزلة هارون من موسى، وسمى ابنيه باسم ابن هارون.
وعلى آل بيته المطهرين، واختلف في أهل البيت فقيل: زوجاته، وقيل: بني هاشم، وقيل: بنو عبد المطلب، وقيل: علي وفاطمة والحسن والحسين وأولادهما عليهم السلام، وهذا مذهب أهل البيت [9أ] وشيعتهم لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله [ ]: أنه جمعهم وجللهم بكسا فدعا وقال: ((إن هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا قالت أم سلمة أنا منهم يا رسول الله قال: (( لست منهم وإنك لعلى خير)). فسميت أم الخير.
पृष्ठ 16
وقوله المطهرين المعصومين وفيهم قال الله [ ]:{إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا}. لأن إذهاب الرجس ليس إلا العصمة من المعاصي لا إذهاب النجس؛ لأنه يتنجس منهم كما يتنجس من غيرهم.
صحابته المقربين، والصحابي: هو من طالت مجالسته ومتابعته للنبي صلى الله عليه وآله في حياته ويبقى على ذلك بعد وفاته.
قلنا: ويبقى على ذلك؛ احتراز ممن ارتد بعد وفاته وهم الذين قال فيهم صلى الله عليه وآله [ ]: ((يؤتى برجال يوم القيامة فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول أصحابي أصحابي فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح: {وكنت عليهم شهيدا...} الآية.
الفصل الثالث
وهو في فضل العلم على سبيل الجملة، فالذي يدل عليه العقل والسمع.
أما العقل فاعلم: أن الشيء يشرف بشرف المنفعة، وأجل المنافع وأدومها من الثواب، والثواب لا يحسن إلا على التكليف، والتكليف على ضربين: علم، وعمل، والعمل على ضربين: علم بالمعبود وصفاته، وعلم بالعبادة وصفاتها.
والثواب يستحق تارة بالعلم وتارة بالعمل، فحيث يستحق بالعلم أستغل فاستحقاقه وإن لم يتبعه العمل، ويمكن تحصيله من دون العمل، وحيث استحق بالعمل فالعمل أصل في صحة العمد لأنه يترتب عليه إذ لولا العلم بالمعبود وصفاته، والعبادة وصفاتها لها صحت العبادة ولا استحق لها الثواب فقد صار العلم أصلا في الوصول [9ب] إلى هذه المنفعة الجليلة، فثبت بذلك فضل العلم من جهة العقل.
وأما الذي يدل على فضله من جهة السمع فالكتاب والسنة والإجماع .
पृष्ठ 17
أما الكتاب فقوله تعالى:[ ] {هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} ووجه الاحتجاج بهذه الآية أنه تعالى هيأ المساواة في الفضل بين من يعلم وبين من لا يعلم لأن الاستفهام ههنا بمعنى الإنكار، وقوله تعالى [ ]:{يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كبيرا}. والحكمة ها هنا العلم، وقوله تعالى [ ]:{يرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات}. فإنه روي عن ابن عباس: أن معناه يرفع الله الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا درجات.
وأما السنة: فما روي عن النبي صلى الله عليه وآله [ ] أنه قال: ((الناس كلهم هلكى إلا العالمين، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملين، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم)).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم [ ] ((خيار أمتي علماؤها وخيار علماؤها رحماؤها ألا وإن الله يغفر للعالم أربعين ذنبا قبل أن يغفر للجاهل ذنبا واحدا ألا وإن العالم الرحيم يجئ يوم القيامة وأن نوره أضيء يمشي فيه ما بين المشرق والمغرب يسري كما يسري الكوكب الدري)).
وعنه صلى الله عليه وآله [ ]:((العلماء ورثة الأنبياء)).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم:[ ] ((من جاءه أجله وهو في طلب العلم ليحيي به الإسلام لم يكن بينه وبين الأنبياء إلا درجة واحدة وهي النبوة)).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم [ ]: ((أيما ناشيء نشأ في طلب العلم والعبادة حتى يكبر أعطاه الله ثواب اثنين وسبعين صديقا)) .
وعنه صلى الله عليه وآله [ ] أنه قال: ((إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع وإنه ليستغفر لطالب العلم من في السموات والأرض حتى حيتان البحر وهوام البحر)) .
पृष्ठ 18
وعنه صلى الله عليه وآله [ ]أنه قال: ((إذا كان يوم القيامة [10ب] يقول الله تعالى للمجاهدين والعابدين ادخلوا الجنة، فيقول العلماء بفضل علمنا تعبدوا وجاهدوا يا رب، فيقول تعالى: أنتم عندي كملائكتي اشفعوا تشفعوا ثم ادخلوا الجنة)) إلى غير ذلك من الأخيار .
وأما الإجماع: فلاخلاف في فضل العلم على سبيل الجملة.
[الفصل الرابع]
وأما الفصل الرابع: وهو فضل هذا الفن، وبيان مرتبته على سائر الفنون فبدأ تفسير كلام الشيخ رضي الله عنه قوله رحمه الله أما بعد:
فاعلم أن هذه اللفظة من أفصح كلام العرب، واختلف في أول من قالها فقيل أول من قالها قس بن ساعدة وهو من فصحاء العرب، وهو من المبشرين بالنبي قبل البعثة، وقيل: أول من قالها داود عليه السلام وهو المراد بقوله تعالى [ ]:{وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب}. وقيل: أول من قالها علي عليه السلام.
وقوله فإن مدة العمر قصيرة لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله [ ] أنه قال: ((معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين. وقال: أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين)). يعني صلى الله عليه وآله الأغلب فيمن عمر أنه لا يعمر إلا هذا المقدار وإن جاء أكثرا؛ لأن هذا هو الأغلب.
قوله وفنون العلم كثيرة وأعلم أنها أربعة علم أديان، وعلم لسان، وعلم أبدان وعلم أزمان، وإن شئت قلت: ديني ودنيوي.
فالديني الأصولان والفقه والفرائض والنحو واللغة، والكتاب والسنة والمنطق والناسخ والمنسوخ.
والدنيوي وعلم الطب وعلم الحساب [10ب]، وعلم اللسان كالنحو واللغة إذا قصد بهما غير معرفة الكتاب والسنة.
وقوله: وإن أنفسه فائدة وأعظمه منفعة علم الكلام، وله أسماء التوحيد والعدل والأصول وعلم الكلام، وسمي علم الكلام لوجهين:
أحدهما: أنه أوسع الفنون كلاما وأكثرها أدلة وحججا.
पृष्ठ 19
الوجه الثاني: قال الغزالي: إنه إنما سمي علم الكلام لأنه العلم الكلي لأن المتكلم يقول الشيء لا يخلو إما أن يكون موجودا أو معدوما، والموجود إما أن يكون قديما أو محدثا، والمحدث إما جسم وإما عرض فعم جميع الأشياء.
ووجه ثالث: وهو أنه سمى بذلك اصطلاحا كتسمية النحو والفقه، وإن كان كل علم منحو، وكذلك كل علم فإنه يحتاج إلى الفقه الذي هو الفهم، وسمي علم أصول الدين؛ لأن مبنى جميع العلوم الدينية عليه ومرجعها إليه، وسمي علم التوحيد والعدل لأنه كلام في إثبات الصانع وصفاته وعدله وحكمته وما به يجوز عليه وما لا يجوز، ومعرفة أنبيائه وصدقهم فيما جاءوا به، فهو مشتمل على توحيد الله وعدله.
وقوله الذي يعرف به الصحيح من السقيم والمعوج من المستقيم فهو رأس العلوم وأولاها بالإيثار والتقديم.
والذي يدل على أنه أفضل العلوم وأولاها: العقل والسمع.
أما العقل: فوجوه:
أحدها: أن العلم يشرف بشرف معلومه، وأجل العلومات تحقيق سنا هو الله تعالى الحي القيوم فيجب أن تكون المعرفة به أجل العلوم فإذا كان كذلك وجب على كل عاقل أن يشغل قلبه في طلبه [11ب] ليفوز يوم القيامة بسببه، ولله القائل:
وإذا علمت بأنه متفاضل ... فاشغل فؤادك بالذي هو أفضل
ولأن العلوم إنما تشرف بشرف معلوماتها، فشرف الفقه بشرف معرفة الحلال والحرام، والفرائض شرفه بمعرفة المواريث، والنحو شرفه بمعرفة الكتاب والسنة، وليس معلوم التوحيد إلا الله تعالى فيجب أن يكون أشرفها.
الوجه الثاني: أن العلوم تحتاج إليه وليس هو محتاج إليها.
أما الفقه: فأدلته الكتاب والسنة، وكذلك الفرائض، والكتاب والسنة لا يكونان دليلين إلا بعد معرفة الصانع وصفاته، ومعرفته لا تحصل إلا بالتوحيد وكذلك النحو واللغة إذا قصد بهما معرفة الكتاب والسنة وليس ذلك إلا بعد بمعرفة الصانع.
पृष्ठ 20
الو جه الثالث: أن الشيء يشرف بحسب حساسة ضده ألا ترى أن الصدق يشرف بشرف حساسة ضده وهو الكذب كذلك العلم يشرف بحساسة ضده وهوالجهل، وأخس الجهل هو الجهل بالله تعالى؛ لأن الجهل به يؤدي إلى الكفر والكفر أخس الأشياء، فشرف التوحيد لما كان ضده أخس الأضداد.
الوجه الرابع: أن سائر العلوم يجوز عليها النسخ والتغيير، وتختلف بحسب اختلاف شرائع الأنبياء وتغاير الأزمنة ما خلا علم الأصول فإنه لا ينسخ ولا يتغير بل هو عقيدة كل نبي.
الوجه الخامس: أن العلم بالشيء يشرف بحسب عظم الخطر في الجهل به، والخطر في الجهل بالأصول قد يكون كفرا، وقد يكون فسقا بخلاف غيره من العلوم، فإن الخطأ فيه لا يبلغ هذه الحال، ألا ترى كل مجتهد [11ب] في علم الفقه مصيب ولا يكون مخطئا إذا وفى الاجتهاد حقه عند الجمهور، ومن ذهب إلى أن المصيب واحد قال إن الخطأ معفو.
وأما السمع: فالكتاب والسنة والإجماع المخلصين من سائر الفرق.
أما الكتاب: فآيات منها قوله تعالى :{شهد الله أنه لا إله إلا هو وأولوا العلم} فبدأ بنفسه وثلث بأولي العلم، ولأهل الأصول شرف هذه الآية وفضلها وهي المدارون بها؛ لأن الشهادة لا تكون إلا عن علم ويقين والعلم به لا يحصل إلا بالتوحيد لأنهم لا يعلمونه إلا به.
لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: ((على مثلها فاشهد وإلا فدع -وأشارالى الشمس-)) ولن يحصل العلم، النص إلا لعلماء الأصول ولا يعني بعلم بعلم الأصول إلا هذا وهو العلم بالله تعالى وحدانيته... وعدله وحكمته، ومنها قوله [ ]: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} وإنما موضوعة للحصر فكأنه قال: لا يخشى الله إلا العلماء به، ولا تحصل معرفته ولا العلم به إلا بالتوحيد.
पृष्ठ 21