الفصل الرابع والعشرون: عد إلى ربك
أيبها العبد: تناه عنة قبيح فعلك قبل انبثاث جهلك، وانظر لنفسك في أمرك قبل حلولك في قبرك.
كتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعد، فكأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل.
ووعظ أعرابي ابنه، فقال: لا الدهر يعظك، ولا الأيام تنذرك، والساعات تعد عليك، والأنفاس تعد منك، أحب أمريك إليك أردهما بالمضرة عليك.
ووجد على حجر مكتوب: ابن آدم، لو رأيت ما بقي من أجلك لزهدت في طول أملك، ولرغبت في الزيادة في عملك، ولقصرت من جهلك وحيلك، وإنما يلقاك ندمك إذا زلت قدمك، وأسلمك أهلك وحشمك، وباعدك الولد القريب، ورفضك الولد والنسيب، فلا أنت إلى دنياك عائد، ولا في حسناتك زائد فاعمل ليوم القيامة.
قبل الحسرة والندامة.
وقف قوم على راهب فقالوا: إنا سائلوك، أفمجيبنا أنت؟ فقال: لا تكثروا فإن النهار لم يرجع، والعمر لن يعود، والطالب حثيث في طلبه، ذو اجتهاد، فقالوا: ما على الخلق غدًا عند مليكهم؟ قال: على نياتهم، قالوا: فأنى الموئل؟ فقال: إلى المقدم، قالوا: فأوصنا، قال: تزودوا على قدر سفركم، فإن خير الزاد ما بلغ البغية.
يا هذا: لا تجزع لرؤية ملك الموت، وائت وأنت تشاهد فيها عملك، عمرك قليل، وقد ضيعت أكثره، فكيف شعورك في البقية، ولعل هذا اليوم الآخر، والليلة الأخيرة ما أرخص ما يباع عمرك، وما أغفلك عن السرى، إنما المرض نهاية الصحة، والفرق قرين الوصلة، والأيام ترحل، ولابد من مسة بدن والحبيب مفارق، والمرء رهن مصائب.
الأيام تنقضي حتى يواري جسمه في رمسه فمؤجل يلقي الردي في غيره، ومعجل يلقي الردي في نفسه، الدنيا لمن فهم، قنطرة العبور وسوق التزود ومتطهرة التنظيف وزرعت للحصاد، فأما للعاقل فهي مفرقة المجامع، ومحزنة الربوع، ومجربة الدموع، من نال من دنياه أمنيته اسقطت الأيام منها الإلف، اطلب فيها قدر بلغتك، وخذ مقدار حاجتك خصها خصوص المسافر في طلب علف بعيره، اطلب الدنيا قدر الحاجة، واطلب الآخرة على حسب الطاقة، هذا ولو أنك بلغت إلى الحمى التوكل لاستراح قلبك، وغذاك الله كما يغذي الطير، تغدو خماصًا، وتروح بطانًا.
1 / 115