معلم
جبور بك
معاز الضيعة
الناس
دايم دايم
جان أفندي
أم لطوف
وجه غريب
موعظة القيامة
لص جواد
अज्ञात पृष्ठ
أم نخول
صلاة نائب
وعظة وديك
وجه مقيت
مهاجرة
نفخ نفخ
معلم
جبور بك
معاز الضيعة
الناس
अज्ञात पृष्ठ
دايم دايم
جان أفندي
أم لطوف
وجه غريب
موعظة القيامة
لص جواد
أم نخول
صلاة نائب
وعظة وديك
وجه مقيت
अज्ञात पृष्ठ
مهاجرة
نفخ نفخ
وجوه وحكايات
وجوه وحكايات
تأليف
مارون عبود
معلم
عرفته في عنفوان شبابه، صدر كالصندوق على فخذين كعضادتين، وهامة تثبت للعلماء أنه كان على وجه الأرض عمالقة، في مشيته شيء من الخيلاء يبرئ تسميتها غطرسة، كأن خطواته موقعة إيقاعا أو مقسمة بالبيكار، مشي السحابة لا ريث ولا عجل، ولكن ليس إلى بيت جاراته.
يتزيا بزي العلماء ويتوقر مثلهم، فأبداه غنبازه «الديما» أطول مما هو، هو متأنق في كل شيء حتى الحديث، كان يرطل كل كلمة ويروزها قبل أن تنطلق في الهواء، رأسه ثقيل كما يعبر العوام عن الرصانة، يدور على قدميه بكل مهابة، إن التفت كأنه مصراع بوابة الدير المصفحة، فلا تسمع منه جلنبلق كما أكد لنا أبو عثمان المازني إذ حدثنا عما يقوله مصراعا الباب عند الغلق والإصفاق.
فحصت ضميري فحص مؤمن موسوس قبل الاعتراف لأتذكر ابتسامته فأصفها، فما تذكرت قط أني رأيته باسما، أذكر أن لثته كانت محمرة، ولهذا حكاية رأيتها وأنا ابن خمس حين كان يعلمنا الألفباء؛ قال لأحد رفقائنا النجباء: قاف. فانتصب بوجهه كالمارد، فغضب المعلم لهذه البلادة، هو يريد الحرف المعروف لا الوقوف، فرفع شفته العليا وأرخى السفلى، وربسه بيديه ساخطا.
अज्ञात पृष्ठ
استيقظت في المعلم الجرثومة اللبنانية فهاجر إلى فلسطين، وعاد بعد سنوات ومعه عروس، كان عرسه أول الأعراس التي شهدتها، جماهير زاحفة بتلك الهدية العسلية، غناء وحداء وزغردة، الملبس والرز والقمح تتناثر من كل بيت تمر به العروس، وأيد لطيفة تلوح بالقماقم راشة عليها وعلى موكبها ماء الزهر والورد. العريس على السطح منتصب فوق الباب الذي تدخل منه العروس، لصقت العروس الخميرة على العتبة، وانهالت عليها ضربا بالرمان ورشقت به الناس، ثم نزلت عن الفرس ودخلت عشها الجديد. كانت أم العريس تصطنع الابتسام وترحب بكنتها العتيدة طائفة حولها بصحن البخور؛ كانت تبخرها وتدرسها درسا فيزيولوجيا. الثياب جميلة والزي طريف، العروس بنت مدرسة ولكن وجهها الديناري يدل على أنها قليلة جدا؛ ذراع كالمسلكة، وساق كالمغزل، ويد كأص الكبا.
كانت أم العريس في تلك الساعة نهبا مقسما، تجيب الجميع على عباراتهم التقليدية بالأجوبة المعدة لها، وتؤهل بحرارة بربة البيت العتيدة، وقد سمعتها فيما بعد تشكر ربها على خروجها من تلك الهمكة ظافرة، يشهد لها الناس بالفصاحة وضبط النفس ...
وصمدت العروس فوق صندوق وإلى جانبها شبينتها وما حولها بنات جنسها، وتصدر العريس المجلس، وقعد الناس حوله وبين يديه في السماطين، وافتتح شاعر العرس سوق عكاظ، فقال «ردة» - هي أول محفوظاتي - مدح فيها العريس، فسرى عن والديه بعض الهم. نقر الدف نقر مدل فتطاولت إليه الأعناق وكان صمت، وما هتف «أوف» حتى صاح الجمهور بصوت واحد كالرعد «أوف»، ولم يقل:
كلن غابوا وما جابوا
السبع غاب وجاب
حتى تماوج الجمهور. أخذت الردة بالعقول كأنها السيما المحكي عنها أنها تحول الأشياء عن حقيقتها، فرددها الجميع متحمسين وصارت زيارة - اسم العروس - أخت الزهرة وبلقيس، إلا ثرثارة سمعتها تقول: لولا يرجع وحده، كان أحسن، الله يساعد أمه! وقالت امرأة أخرى: هذي زيارة، هذي زيار يا طنوس! وبعد أخذ ورد بين القوالة لعبت الخمرة في رءوس الشباب، فكان الرقص على قرع الطبل وعزف القصب، وهموا أن «يدبكوا» فمنعوهم لأن البيت علية أرضها خشب. أما نحن الصغار فعمنا في النقولات: ملبس، وقضامي، وفستق العبيد شيخ النقل الدائم، وفزنا علاوة بتحف مقدسية: مسابح، وصلبان، وصور، وأيقونات من أورشليم المقدسة، فترنحت نفوسنا بنعمة الله، وامتلأت بطون الكبار لحما وخمرا.
كان عرس المعلم أميريا، دام أسبوعين فأجهز على كيسه، أنفق في شهر ما جمعه في سنوات، ولم يبال لأنه ما تعود أن يبالي؛ نشأ وحيدا مدللا في بيت كان غنيا فافتقر، أمه أنوف ولكنها لا تستحي بالعمل، تأكل طورا من المغزل وتارة من الرفش، مشهود لها بالترتيب والنظافة، فبيتها دائما مسنون الأرض لا يدخله الناس إلا حفاة لئلا تخدش نعالهم وجه الطين، فهي تحمره كل سبت وتدلكه. كانت خبازة عبقرية تسهر على الرغيف سهر أكثر نساء اليوم على وجوههن وأناملهن ... يهمها أن يخرج الخبز من عندها بدون لو، أما زوجها أبو طنوس فكان جمالا ولكنه جمال أبي أمين، دستوره: «أعطنا خبزنا كفاف يومنا.» جعل وكده تعليم ولده ليعتز ويستريح، فشبع فخرا ولم يأكل خبزا.
لم يكن المعلم غير بر بوالديه، ولكنه كان والرغيف فرسي رهان، لا يدركه حتى يقطع في الجري أنفاسه، حال علمه وتربيته الأولى دون رضاه بالخسيس من العيش، وأصيب بمرض الكرسي فسعى وراء المثل الأعلى، هاجر في طلبه إلى البرازيل، وكان آخر العهد به.
كان جميل الخط حلو الإنشاء، إذا ظفر والده منه بمكتوب أقرأه معلم الأولاد، فيعجب بتعابيره وينسخها ليتعلمها ويعلمها، يتمنى المسكين لو يوفق مرة في العمر إلى واحدة مثلها. لم يكن يؤلم أبا طنوس هجران ابنه مثلما يؤلمه سؤال الناس عن أخباره، وما يسألون إلا عن الفلوس، وشاع يوما في الضيعة أنه تناول حوالة فسألوه على أي بنك، فقال بكل برودة: على بنك «من علمني حرفا كنت له عبدا.»
تلك كلمة ابنه عند افتخاره بالكرسي، فكانت رمية من غير رام.
अज्ञात पृष्ठ
وأخيرا ورد المكتوب المضمون، فتجمهر الناس على تلك البشارة، فإذا بتلك الرسالة الحبلى تلد قصاصات من صحف المهجر كالمناظر والمنارة وأبي الهول، كلها تثني على المعلم ثناء عاطرا، وتعظم إقدامه على إنشاء مدرسة لأبناء الجالية بعدما كادوا أن يتأمركوا، فعلمهم لغتهم التي تربطهم بوطنهم، وفيها أيضا مختارات من شعره ونثره وصورته بين أكابر الجالية، فاستقامت قناة أبيه بعدما حناها الهرم، وكاد يسمن بعد أن اخترم جسمه الهم، فاقعنسس بين القوم متعزيا متغذيا، «الصيت الجيد خير من المال المجموع.» هكذا كان يقول إذا ذكر المال، ثم يخرج من عبه الكيس المخملي ليقدم إلى كل قارئ أوراق اعتماده، أي قصائد ولده ومقالاته وما قيل عنه، كان أحب شيء إلى قلبه أن يتلى على مسامعه شيء منها، فيترنح ترنح فاهم، ثم يردها إلى مستقرها.
وعند نشوب الحرب الكبرى، ورد من المعلم كتاب على إثر نعي أمه، يعد فيه أباه بمبلغ من المال متى غلا «الرايش»، ولكن الأحلام لم تصح، فالرايش لم يرتفع ... وأطبقت الحرب كماشتها على الشرق والغرب، فقصر أبو طنوس مع من قصروا من القرية عن إدراك المعاش، فباع أول المقتنى وآخر المبيع أي البيت. كان يجول في القرية صامتا كأبي الهول لا يشكو ولا يتذمر، جلس قبالتي يوما مطبقا شفتيه إطباقة صارمة، تأملته مليا فرأيت شفتيه تتحركان وصدره يخر كزمارة؛ علمت أنه يحدث نفسه، أما ماذا كان يفكر ... طبعا لم يكن يفكر باختراع البارود! هو عي يعمل بقول المثل: «خليها في القلب تجرح، ولا تخرج من الفم تفضح.» وبعد فترة رأيته يتهيأ لحركة ثم يعدل عنها ويغرق في أحلامه، وأخيرا دنا مني وابتسم ابتسامة مخيفة وقال: يا ترى، ابن خالتك نسينا بالمرة، أم بعث لنا شيئا وضاع؟ اقرأ تفرح، جرب تحزن، هذا الذي صار فينا.
فقلت له: أنت محتاج اليوم؟
قال: لا، معي بقوي من ثمن البيت ... ثم تنهد وقال: راحوا من خلف البقر واغتنوا، قبروا الفقر ونحن نشتهي العضة بالرغيف، أنا صرت على حفة قبري ولكن البنت! رطل الطحين بنصف عسملي، أكلنا خبزا «حاف»، ويا ليته قمح.
وفي غد ذلك اليوم استيقظنا على عويل البنية، مضى جدها لسبيله ولم يترك لها إلا ذاك الكيس المخملي، وجاءنا الجدري، فمن لم يمت بالجوع مات بغيره، فألحقت البنت بجدها، وانقطعت عنا أخبار المعلم حتى نعته إلينا صحف المهجر منذ أربعة أعوام، مات كأبيه ميتة كريم مضطر، فأجمعت صحف المهجر على تقديس جهاده القومي في تعليم مواطنيه لغتهم فما نسوا أمتهم، وشكرت جريدة أبي الهول رجلا - لا أتذكر اسمه - واساه في مرضه الأخير، وجهزه للرحلة الكبرى تجهيزا لائقا به.
لم يكن هذا الجندي المجهول كسلانا، ولكنه كان يعتقد أن الدينار شر جار، واعتقاله جريمة لا تغتفر، وبالاختصار لم يكن من أصحاب الجمع والمنع، فمات ميتة جاحظية، وهذا معنى قولنا: «أدركته حرفة الأدب.»
جبور بك
1
كان جبور ينتظر ويفتكر، فتداعت أسراب الذكريات حتى أمست كما قال النابغة: «عصائب طير تهتدي بعصائب.»
أصغى إلى أحاديث حوائج بيته البليغة، فذكرته السجادة النادرة بتلك الحصيرة المقطعة الموروثة عن جده ... وذكرته المرآة الكبرى يوم كان ينحني فوق أجران «الصفوة» ليفتل شاربيه فتلا مغارا، ولمس طوق معطفه المجلل بفرو السمور، فتذكر العباءة البلدية القصيرة الكمين ولقب «دحدوح».
अज्ञात पृष्ठ
وتحرك جبور على الصفة فماج كرشه وترجرج، وأبرقت سلسلة ساعته الغليظة المدلدلة على صديريته، فتذكر «الكمر» العتيق الذي أعطاه إياه أبو خليل حلوانا، فشد وسطه به سنين وألقاه عنه في فندق أنطون فارس بمرسيليا، حيث كان يحتفل بإلباس «أولاد العرب» الثياب الفرنجية.
وحكت جبور رجله فانطوى بعناء مزعج، وكاد ينبج بطنه، ولما تبلغ يده رجله، ذكره الجورب الحريري والحذاء اللماع بالمداس الذي يرى إخوته في أرجل معازة الضيعة وبقارتها.
وسمع جبور حس رجل فقال: هذا هو. وحبس أنفاسه يتنصت، فإذا بالحس يبتعد ثم يضمحل، وعاد جبور إلى أحلام يقظته الرائعة، فجره تفكيره بالقادم إلى مئات الليرات التي أعدها برطيلا، فهز برأسه وقال: «هاي ما شا الله هاي، حصلت يا جبور مدير ناحية جبيل فرخ قائمقام، غدا تضع رجلا على رجل في العربة؛ سق يا عربجي. وحد العربجي نفر عسكري يأخذ سلامك، ويخدمك، ويقول لك: هنيئا يا سيدي. يقول لك الناس «يا صاحب العزة»، إن لم يقولوا «سعادتك»، وبعد أن كنت «دحدوح» تصير جبور بك، وإذا أمحلت جبور أفندي.» فتنحنح وأحكم قعدته، ثم أخرج ساعته الذهبية الضخمة وقلب شفته وقال: الغائب عذره معه. والتفت إلى كتفيه لفتة غريبة، فبش ثم عبس؛ عبس إذ رأى كتفه اليسرى نازلة عن أختها، فتذكر الكشة الثقيلة التي رجحتها، وحاول إصلاح ما أفسده الدهر فما قدر، فاعتصم بحمد الله، وتناسى الماضي وقال: «كثر الله خيرك يا ربي، ربيت على معجن هذا وذاك، واليوم صار بيتي مفتوحا للرائح والجائي ... أهلا وسهلا، كلوا يا بشر ، ربك طعمك، كل واطعم.»
ودرى المسكين أنه تمادى في تحديث نفسه فضحك ثم قهقه، لوى رأسه صوب الشمال فبص القلم الذهبي، فقال: وهذه نعمة نشكر الله عليها، صرنا نمضي ونكتب بالهندي، الذكي لا يخاف عليه، يخلص حاله، من رآني يخمن أني تلميذ بولاق.
وجاءته الخادمة بالقهوة فأخذها بلا شعور، ولما اقتربت من الباب ناداها مشيرا بأصابعه الخمس، فبدت يده كالمذرى: من عندنا يا ناهيل؟ - جمهور يا معلمي، الضيعة عندك. قالت هذا وأشارت بيسراها إشارة قلة اكتراث، واستقبلت الباب، فقال: «احم.» فالتفتت، فأومأ إليها، فعادت. - قولي لهم معلمي مشغول جدا، عنده ناس غرباء، وإذا اهتموا، بالغي وزيدي، قولي لهم عنده ناس من قبل الحكومة ومعهم أوراق أوراق، اسقيهم قهوة، اعتذري عني، قدمي لهم سواكير.
وأشعل هو سيكارة من نوع إكسترا إكسترا، فاستطيبها على القهوة، تذكر كيف كان يشحذها من الناس، واحتار جبور كيف يعلل جمعه الثروة الضخمة وهو ذاك الرجل، بينما فلان الفلاني، وهو معلم مشهور، تركه في البرازيل وهو جوعان عريان. «سر، سر عظيم، سبحان الخالق!» هكذا قال. كان يسكن بيتا دون بيوت الضيعة جميعا، فصار بيته قصرا.
وهذا ممن؟ طرح هذا السؤال ثم أجاب عليه بصوت مفخم: من الله، نشكرك يا رب ونحمدك.
وتذكر أنه ينتظر فانبرى يتمشى، وطال الانتظار فسئم وخرج يتنزه، مر أمام بيت الجيران فوقع اسمه في أذنيه؛ سمع امرأة وولدها يتعالجان، فتقول المرأة: جبور رجل ما كان عليه من الخام ريحه، فصار أمير زمانه، بيته قصر، الخيل مربطة قدام بابه، والحكام تزوره، بنات الضيعة ماتت عليه ونقى أحسنهن، كان يتنقل من بيت إلى بيت وقت الغدا والعشا حتى يأكل اللقمة، وصار أغنى الضيعة والجوار. وأنت يا بغل، قاعد على سكين ظهرك تقشط أمك البشلك والمتليك، باب البحر مفتوح، تغرب يا بهيم، الله يقصف عمرك، ما أبلدك! ليتني خلفت جرو كلب وما خلفتك!
فضحك الشاب ضحكة سامة ثارت لها أمه وهاجت، ولكن ضحكته وقعت على جبور كجلمود صخر حطه السيل من عل، وقال الفتى لأمه ساخرا : ومن يعمل مثل جبور؟ عاش بين عبيد أميركا عيشة «نور» وجاء يتبغدد ويتفرعن على الضيعة، هذا مال رائح، مال مول، لا تنغري بالظواهر، رغوه رغوه يا أمي. فصاحت الأم: ليتني أقبرك بجاه السيدة! تفلسف يا جحش. وأتم الشاب كلامه: بعد سنة أو سنتين يعود جبور كما كان.
فصرخت الأم: وإذا صار جبور مثلنا اغتنينا نحن؟ يا حسرتي عليك! بعد يومين ثلاثة يصير جبور مدير جبيل، وتقف له الناس على الصفين. - لو صار متصرف جبل لبنان يظل عندي أقل من دحدوح، قصريها لا تطوليها.
अज्ञात पृष्ठ
فامتعض جبور تحت الشباك وكاد يزفر زفرة رنانة لو لم يتذكر الموقف، سمع لقبه القديم فكاد ينشق من الغيظ.
وضاق صدر الأم فأسرعت إلى الشباك ففتحته، فاضطرب جبور، ومشى مفكرا بما سمع، تنبه وحسب عن ظهر قلب ماذا صرف من مال أميركا، وبعد تعبيس دام هنيهة ضحك ضحكة استهزاء وقال: لعن الله الحسد، ما ترك بيتا عامرا، غدا يعرف طنوس أين صار جبور، غدا نكتفه ونفرك رقبته ويزور بيت خالته.
قال هذا وتمشى يتخطر كالأعيان، وأفاق من نجواه على صوت خادمته الراكضة وهي تصيح: يا معلمي، عندك ناس. فانفتل راجعا.
وبعد عبارات المجاملة والترحيب دخل جبور وزائره الموضوع، فأجاب السمسار: مديرية جبيل أمر بسيط، تصير قائمقام كسروان إذا كنت تريد، الواسطة تعمل عجائب، خمسمائة ليرة عثمانية تعمل أكثر من مدير.
فالتفت إليه جبور التفاتة استغراب وقال: السر بيننا، أنا لا أصدق، هذا ضحك على ذقني، مدير بالكد يعلق إمضاه.
فقال الوسيط محتدا: بلى، صدق يا سيدي. ثم ضحك وقال: تريد رئاسة القلم التركي محل ناصيف بك الريس؟ ادفع، يا خواجا جبور أنت فيلسوف، بالنسبة إلى فلان وفلان.
فقال جبور: قالوا ننتظر «حلة». - لا تصدقهم يا سيدي، الحلة عندك، حل عقدة كيسك تنحل ظهورهم.
فأطرق جبور ثم قال: الخمسمائة ليرة حاضرة. ثم حك رأسه وقال: نسيت أن أذكرك بواحدة، أخاف أن يحتجوا أن ابن عمي موظف.
فضحك السمسار بملء فكيه وقال: حيف عليك يا خواجا جبور، ما مت ، ما رأيت من مات؟ تأمل بعينيك عيال بأسرها موظفة، تغيرت الأيام ... الاستحقاق قبل كل شيء، أنت مستحق، أنت رجل ربيت في بلاد العالم، تعرف كيف تحكم، الغربة مدرسة عظيمة.
فزهي جبور وتنفش كالديك على مزبلته، وتذكر هجرته ورفع رأسه بأبهة الموظف الكبير وقال: «سي، سي سنيور.»
अज्ञात पृष्ठ
فضحك الرجل غصبا عنه وقال: هذا قليل عليك، أنت تستحق قائمقامية، نسيت أنك تحكي باللسان الأسبنيولي، الخير قدام إن شاء الله، هيئ المبلغ، بعد ثلاثة أيام تصدر البيلوردي - المرسوم.
والتفت إليه فرأى الشك في وجهه فقال: أريد أن أفهمك بالقلم العريض، فلوسك تصيرك رئيس مجلس الإدارة، أفندينا مظفر باشا ينظر إلى الأهلية، أنت مستأهل، أفهمت؟ ادفع ولا تخف، صدقني إذا قلت لك إن الوظيفة في أيامنا خير من سفرتين إلى أميركا، من انتخاب شيخين ثلاثة، وتعيين أربعة خمسة مخاتير ورئيس بلدية تحصل أكثر من المبلغ، وإذا كنت صاحب بخت وسياسة تحصل المبلغ من جناية واحدة ... الوظيفة بقرة درتها مثل الجرة، والحلاب القدير مثلك يمسطها.
حسب جبور كلام السمسار تعريضا بماضيه يوم كان يحلب قطيعا كاملا لقاء رغيفين وصحن طبيخ فانقبض، وتابع الوسيط حديثه فقال: إذن الدفع غدا، أهنئك سلفا يا جبور بك.
فانبسط جبور وقال: ولقب بك أيضا؟ - نعم إذا زدت المبلغ مئتين.
فقال جبور: أظن ذلك أليق. - بدون شك، ومع نيشان أحسن وأحسن.
ففكر جبور قليلا وقال: نؤجل النيشان لنعمل فرحة ثانية.
فقال الرجل: «طيب، أوريفوار.» فارتبك جبور، ولكنه تماسك وتذكر ما يقال فصاح: «آديوس.» وهز يد الوسيط هزة كادت تخلعها من الكتف.
وكانت ناهيل بمسمع من سيدها جبور، فاغتبطت حتى كادت تطلع من ثيابها، وتخيلت الناس يسألونها قضاء حاجاتهم، ويدسون في يدها الريالات المجيدية، وهي تأبى أولا ثم ترضى، فصاحت: «آهيك، يحرز دينك يا جبور بك!»
فزأرها البك الطازج قائلا لها: على مهل يا ناهيل، هس، لا تفسدي الطبخة، لا تقولي فول حتى يدخل المكيول.
فرقصت ناهيل ابتهاجا وقالت: صارت في العب. وزغردت: «آووها» ... فهف إليها جبور وسد بوزها بيده.
अज्ञात पृष्ठ
2
كانت مديرية جبيل - على عهد لبنان الدولي - أغلى المديريات مهرا ... لجودة مناخها وجود أهلها، يدر على مرعاها اللبن، ويسمن من يطول له في ضواحيها فيستكمل شحما ولحما ...
وكان المدير في ذلك العهد السعيد أطول باعا من المحافظ اليوم، يشغل مناصب شتى؛ فهو مستنطق، وقاض، ومدع عام، وهو قائد «الضابطية» - الدرك - يقول لضابط المركز اليوزباشي رتبة: رح فيروح، وتعال فيأتي. يأخذ الناس بالظنة إذا شاء، ويجتاحهم كالعاصفة إذا كان قوي الظهر، لا كبير عنده إلا الجمل ... يبث الضابطية في القرى للجباية، فيذبحون عنزة هذا وخروف ذاك ودجاجات تلك، وقد يذبحون البقر إذا كانت «الأوامر شديدة»، ويمسحون - كما يعبرون - بفروة المدير.
يتولى «عزته» التحقيق في الجرائم حتى الجنايات، وإذا أذنب «شيخ صلح» فهو المحقق، ثم يشرف على انتخاب الخلف، وإذا كرجت الليرات في الساحة ضرب «الصندوقة» بقضيبه السحري فيصير الأبيض أسود، والأخضر أحمر. وخير تعبير عن تلك السلطة الهوجاء قول العامة: كان يقضي ويمضي.
فلا بدع إذن إن تبرجت أسكلة جبيل - أورشليم العالم القديم - وازينت كالعروس يوم الزفة؛ ففي الساحة العمومية، وعند سيدة البوابة، وأمام مدخل القلعة عقدت أقواس نصر احتفاء بقراءة «البيلوردي» - المرسوم - لجبور بك الذي أصاب عصفورين بحجر واحد: البكوية والمديرية ...
هبط المدينة شيوخ القرى، والمختارون ومن يحلمون بمشيخة الضيعة أو المختارية ... كانت توجه الدعوات إلى الأعيان فيأتون من كل فج، وأكثرهم يهنئ عزة المدير بالمبلغ المرقوم ... احتياطا ... من يدري فربما احتاج إلى معونته لينكي جاره أو ابن عمه أو أخاه، فالمشيخة والمختارية والناطور والوقف والمشاع والمقابر والطرقات أجل وأعظم خطرا عندهم من الممر البولوني ...
ماجت جبيل بالخلائق، فضاقت الخانات على الخيل والبغال والحمير، لم يكن في ذلك العهد طرقات ولا سيارات، فجاء أكثر المدعوين مساء السبت، ولم يتأخر إلى صباح الأحد غير وفود القرى القريبة.
كان قلب جبور يضرب مائة وما فوق، تعروه لذكرى الموعد اهتزازة العصفور بلله القطر، ولا غرو فالوظيفة سيدة المعشوقات ... أخذت جبور رجفة سماها «تشة برد»، وكان ينهض كل دقيقة ليعرض «بكويته» الطريئة على المرآة، فيعادل في كل لحظة ميزان شاربيه، جاعلا القب على العاتق ... وأتت الساعة فمشى يختال في أبراده إلى القلعة، والأعيان حوله وحواليه. أخذت سلامه على الدرج شرذمة ضابطية المركز فارتعد، فضحك البعض ضحكات مستورة إلا واحدة أفلتت من فم مدير قديم، فاحمر وجه جبور بك ... لم يرد جبور التحية، فأراح الجنود بندقياتهم ضاحكين، وقال جندي عتيق اسمه رجب: راح السلام طعام القرد!
كانت بيارق القرى تتطاول في الهواء، والقوالة يتنافسون في الحداء والهزج و«القول»، وكلمة «يا بيكنا يا عزنا» كانت أحلى «القول» وقعا في قلب جبور، يتمنى لو ظلوا يرددونه، وجاء وفد يعطعط:
جبور متى يا ملك
अज्ञात पृष्ठ
من سطوتك رج الفلك
فازبأر جبور وقال: هذا قول! هذا طق حنك، سكتوهم.
وأطل المدير على الناس وعن يمينه ضابط المركز، ومن عن شماله قارئ «البيلوردي»، فقرأ ما كتب على الظرف بصوت بين بين: لحضرة صاحب الرفعة جبور بك متى مدير ناحية جبيل المحترم.
فامتعض جبور وقال له بنبرة: راجع، قو صوتك.
وأخرج الكاتب البيلوردي من الظرف فاحتدم التصفيق حين لاحت الطغراء الهمايونية، وضج الناس فصاح القارئ: اسمعوا يا بشر. ومد صوته في كلمة «بشر» مدا طرب له جبور واهتز، وقال واحد: اسكتوا. وقال ثان: وحوش. فقام عراك بين وفدين من ذوي الحزازات فأخمدته الضابطية إذ صرخ جبور: كيت وكيت من ... خذوهم إلى الحبس.
وساد الهدوء، فقرأ الكاتب بصوت جهوري كما يشتهي جبور: «رفعتلو بك محترم دام بقاه.»
فتطاول لها واشرأب، وغمزه ليعيدها فأعادها، وجر «محترم» جرة تمنى جبور لو أنها «للبك»، وما تلي التوقيع: «مظفر»، حتى هتفت الضابطية: «بادشاهم جوق ياشا.» فتزعزعت أركان جبور ولا سيما حين رد الجمع: الله ينصره!
وجاء دور الشعراء، فقالوا أبياتا لا بأس بها، فاغتبط جبور وبان الفرح في وجهه الأسمر وقال في قلبه: تقبر الليرات، ساعة مجد تسوي الدنيا وما فيها. ثم انتخى ودعا الناس إلى الأكل، فاستأنفوا الشراب والهزج. •••
وظلت أعصاب جبور متوترة، فما ذاق طعم النوم إلا قبل الصبح بقليل، فرأى حلما راعه، وكان مسك ختامه خوارا مثل خوار الثوار، هرولت ناهيل مذعورة فعثرت بالسجادة وتدحرجت، ثم نهضت وهي تقول: مديرية منحوسة، وبكويه أنحس، ما ذقنا حلاوتها بعد ... وظلت تحبو وتتلمس حتى وقفت عند رأس جبور، فصلبت على وجهه وحوطته باسم الصليب المقدس فعل الأم عند سرير ابنها ساعة الكابوس، وضوأت الغرفة فرأت العرق يتقطر من جلد جبور السمين، وانفتحت عينا البك على ناهيل، فقال لها: لا تخافي يا أختي، حلم بشع، الله يستر.
فصاحت ناهيل: لا تفزع يا بك، الله معنا.
अज्ञात पृष्ठ
فطرب جبور لسماع كلمة بك منها. أما حرصها جدا على أن تخاطبه دائما بيا بك، وعلمها كيف تجيب الزوار، فإذا قالوا مثلا: الخواجا جبور في البيت. فعليها أن تجيب: نعم، البك في البيت. أو: لا، جناب البك في المدينة.
وبعد تنهد وشهيق قال جبور: أبصرت في نومي أني على ظهر حصان مثل حصان مار جريس وأعظم. فقالت ناهيل على الفور: الخيل عز يا بك! - وأني في سهل مد العين والنظر، الحصان يشخر وينخر وأنا ألهث وأطحر حتى وصلنا إلى رأس جبل عال، فامتد قدامنا سهل جديد، ما بلغت آخره حتى اتصل بسهل آخر أطول منه، سهول أعرفها من قبل، ولكني كنت أتعجب من اتصال بعضها ببعض، وأخيرا انفتحت هوة قدامي وانشقت الأرض وبلعتني.
فوجمت ناهيل، ثم تذكرت أن الأحلام تعبر بالمقلوب، فقالت: عشت عمرا جديدا ...
وطلعت الشمس وانصرف جبور إلى سياسة الرعية ... ومرت شهور وما خلف الله عليه بشيء، فتذكر التجارة في البرازيل، رأى أن تحديد الأسعار مريح، فجعل لكل قضية سعرا؛ ناطور لا خلاف عليه: هدية لا بأس بها، وإذا كان خلاف فالسعر من خمس ليرات فصاعدا، والمختار من عشر إلى عشرين، والشيخ من خمسين إلى مائة، والتوقيف في حبس القلعة من خمس وما فوق، تبعا للمدعي والمدعى عليه، وإحضار وجيه تحت الحفظ من عشرين إلى ما يمكن تحصيله، أما «ملحوظات المدير» فيكون سعرها حسب أهمية الدعوى، وحضور المآتم: المدير وحده خمس ذهبات، وإذا كان معه ضابطية يواكبون النعش، فلكل نفر ذهب.
وكانت آيته الذهبية: الفصاد على قدر الدم. وكان يضحك من مكاتيب التوصية ويسميها «عملة ورق»، ويقول: جواب الورق ورق مثله ...
وحدث حادث مستعجل والكاتب غائب، فأصدر أمره بخط يده فكتب: للفحص عن هذه المسألة ... فكتب «الفحص» بلا حاء والمسألة مسلة ...
وجاء دور الاستثمار والحلب، فبلغوا جبور أنه «مهزوز»، أوعزوا إليه بإعداد هدية إلى رئيس أحد الأقلام ليدعمه عند أفندينا، فاشترى خمسين رأسا من الغنم وساقها راع إلى بعبدا ... استغرب الرئيس تلك الهدية الثرثارة وردها غاضبا، فباعها جبور كما أشير عليه، وحمل ثمنها إلى الرئيس فرحب به، واستضحك عند القبض قائلا: هذي هدية لا «تمعق»، وطيب خاطر البك الطازج.
وجاءت نوبة حرم أفندينا فعولت على زيارة جبيل للتفرج على آثارها؛ لم تكن الزيارة لأنتيكة جبيل بل لدار المدير، فقد بلغت مسامع عصمتها أخبار ثروته وطرفه النفيسة، فانصرفت من عنده ومعها خاتمه الألماسي، و«المضاليون» - بلغة جبور - والقرط النادر الذي أعده لعروسه، وشبعت «الخانم» من اللآلئ، فحولت وجهها نحو السجاد العجمي فأخذت الكبرى، وطولها سبعة وعرضها خمسة.
حلم جبور بالثروة مع الجاه، فخاب خيبة مرة، جمعها حبة حبة، فكانت للجمل غبة، ونفد ماله فأبرق إلى شريكه في «الريو»، فأجابه: «الرايش» هابط ... التجارة واقفة ... ثورة.
وأطل السمسار بعد أيام يسأل جبور أن «يغطي»، فضرب يده إلى أزراره ... فضحك السمسار، ثم أفهمه بعد هدأة الضحك ما معنى التغطية في لغة المضاربات، فاعتذر وأراه التلغراف، فانصرف عنه متهددا.
अज्ञात पृष्ठ
ونام جبور على مضض فلم يصبح ... واستيقظت الأسكلة على صراخ ناهيل وتفجعها، وقال طنوس حين أذاع الجرس نعي جبور إلى الضيعة: أماه! يسلم رأسك، جاء خبر جبور؛ صدقت أنه مال رائح؟
فدقت أم طنوس يدا بيد، وبهتت هنيهة، ثم استأنفت شغلها ...
معاز الضيعة
رأسه كالبطيخة، وحول أنفه الأفطس بثور زرقاء كأنها طلائع الزنجار في ذلك الوجه النحاسي المفلطح، عينان ثعلبيتان فوق شاربين كئيبين، مفركح أفرم يلبس عباءة براقة ذات كمين دون الكوع، ليس يتخلى عن عصاه، أحيانا يعرضها كالرمح، وطورا يمدها فوق كتفيه تحني عليها الأصابع، ما رأيته يتعكز عليها إلا بعد وقعة الذئاب.
يصف قطيعه كالعسكر المدرب، إذا شردت عنزة يناديها باسمها فتعود إلى مستقرها، رام ماهر إن شاء أصاب القرن، وإن أراد أصاب الفخذ، ويصيب المقتل إن كان قرما إلى اللحم، فالويل للعاصية من حجر جليات، وإذا عصى الكراز فهناك المسئولية العظمى والحساب العسير، عصا زعرور تهتز في الهواء، وراع كأنه متر مكعب يهرول ليلقي على التيس دروسا مسلكية يستفيد منها كل فرد من أفراد الرعية، والتيوس تقبل الآداب.
ما ألذ وقع حوافر القطيع عائدا عند الغروب، فهو كحفيف أوراق الخريف الصفراء، وكتساقط المطر على السطوح في الليلة الخرساء. موكب صامت، القطيع بين مدبرين: الكراز أمامه والراعي خلفه، والكلب يروح ويجيء بينهما. في كتف الراعي سطله وهو مزنر بالجراب يشك في وسطه الناي، ورأس القصبتين المضمومتين باد من عبه. الموكب يمشي الهويناء، والزعيمان لا يتكلمان، لا صوت يسمع إلا رنين الجرس المعلق في عنق الكراز، وعلى الكراز مهابة تفيض على جنبات الدرب، فهو لا يلتفت البتة كأنه يحس طعم الزعامة تحت أضراسه، إذا حاول ربع أو سدس أن يماشيه ينكزه بقرنه العظيم، فيعرف مقامه. أما الأنثى فلا يخاشنها، ولا بأس عليها إن اخترقت خط العظمة.
من رأى الكراز يمشي بأبهة وجلال خاله يفكر بمشاكل خطيرة، كان صوت جرسه يعلن قدومه فأسرع إلى استقباله، ومتى غاب عني شغلني المعاز الظريف، يداعب سائليه عن الحليب واللبن وعينه على رعيته، لسانه مر وحديثه حامض، يعبث الأولاد بقطيعه ليغضب ويسب، ولكنه لا ينثر درره الغوالي ما لم يتحقق أن ليس هناك من يحتشم، كثيرا ما كنت أدعوه إلى السهرة فيجيء، وكنت أوسع عليه في الحديث ليتبسط في مواضيعه؛ مارست ذلك معه مدة، فصار يأتيني بلا دعوة، وسقطت كل كلفة ما بيننا.
عجبت لمعرفته قطيعه واحدا واحدا، فقال: لا تتعجب، أعرفهم مثلما تعرف تلاميذك، ولكل واحدة اسم، وفي عنزاتي المطيعة والعاصية والهادئة والورشة، عندي عنزة شقراء تتلصص مثل البشر، تغافلني وتغزو. السكاء آدمية جدا، بنت حلال لا تتعبني أبدا. وقال بصوت مسموع: الله يرضى عليها! ولكن الملحاء شيطانة، بنت حرام، لها حركات تشيب الرأس، إذا غفلت عيني عنها تهجم وتنتش، الله يقصف عمرها، هي وحدها سودت وجهي عند الضيعة.
فقلت له: اذبحها. فتهدلت شفته السفلى وقال كالمستهزئ: أذبحها! الحكي هين، كل سنة بطن، تخلف ثلاثة أربعة، اثنين ثلاثة، خلفها اليوم جدي، إن الله أعطاه العمر الكافي، كان أعظم فحل في المسكونة.
وجئنا ليلة على ذكر الجن فتبسم وقال: سمعت عنهم وما ظهر لي شيء منهم، قالوا إنهم اختفوا لما كثرت الأجراس في البلاد، ومع هذا أنا أصلب كثيرا.
अज्ञात पृष्ठ
ورأيته مرة يضرب الكراز ضربا عنيفا، فقلت له: ما عرفت يا مخايل؟ فأجاب بهزة كتف عنيفة مستغربا، فقلت: الشريعة الحاضرة تغرمك وتحبسك إذا ضربت الكراز كما ضربته اليوم.
فقهقه وجعل يضرب الأرض برجليه ويصفق على ركبتيه، وطفرت الدموع من عينيه، ولما هدأت ثورته قال: ومن يربي الكراز كلما خرب؟ نتشكي إلى المدير! بأية لغة نحاكيه حتى يفهم؟ ثم أغرب في الضحك وقال: كل خطرة يعصي علي الكراز أقيم عليه دعوى! ثم افتكر قليلا وقال: طيب يا سيدي، ومن يشتكي علي؟ الكراز!
قلت: الناطور. فغضب وصاح: الناطور! الناطور يضرب الأولاد ولا نشتكي عليه، شريعة عوجاء.
قال هذا وسكت ينتظر حديثا جديدا، فقلت له: تسمع ما يقول هذا الشاعر الفرنجي عن الراعي؟ فقال وقد هدأت فورته: هات خبرنا. فقلت: يصف الهواء المعطر الذي تتنشقه، وأشعة الشمس المطهرة التي تنسكب عليك حرارتها المحيية ... فقاطعني قائلا: حقا نار الشمس غنيمة، ما كان عندنا خبرها. قلت: والمناظر الجميلة التي تتمتع بها والأعشاب المفيدة التي تأكلها. فقال: قل له يجيء يرعى مع العنزات، عندنا ما يكفينا ويكفيه.
قلت: والقطيع المخلص الذي تسوسه، والكلب الأمين الذي تعاشره. فقال: يحسدنا على عشرة الكلاب، الجنون فنون!
وترجمت له القصيدة كلها بلغة يفهمها، وأسرعت لكيلا يقاطعني، فكان أحيانا يتعجب، وأحيانا يستهزئ، وأحيانا يصدق على قول الشاعر بإحناء الرأس، ولما انتهيت قال لي: ولكن الشاعر نسي زبل المراح وصنة المعزى.
فأجبته: لست أقول لك شيئا من عندي، هذا المكتوب أمامي. فقال: أنت صادق، ولكن هذا مثلك لا يعرف من حياتنا إلا دق القصب والغناء، لا يعرف أني أنام مرات وما عندي عشاء ليلة، أمس استعرنا عشرة أرغفة. لا يذكر كيف نهرب من وجه «العداد»، ولا ما يصيبنا أيام البرد والثلج، نسي المرض الذي يفني المعزى ونعلق الجرس على الكلب، تعجبكم حياة المعازة في الربيع، ولما يمعكنا المطر ولا نلاقي مغارة نلطي بها، يكون الشاعر قاعدا على النار يتدفأ.
وجاءني يوما بسؤال غريب، سألني إن كان سماع القداس في الراديو يغني عن حضوره في الكنيسة، فعجزت عن الجواب، فوجم ومغمغ: ما ترقينا شيئا. وبعد هنيهة قال: ما يقول كتابك اليوم؟ قلت: فيه حكاية حلوة، حكاية مرأة وأختها. فتربع وأنصت، فقلت: كان لمرأة أخت عزيزة عليها فمرضت وماتت، فركعت أختها قدام فراشها على جلد أسد تسأل ربنا بحرارة أن يحمي جميع من في تلك الغرفة، فسمع ربنا واستجاب. كان على «برنيطتها» عصفور محنط ففرفر وغنى، وكان على رقبتها فرو ثعلب فعاش وأخذ يدور في الغرفة ليهرب، وفتحت أختها الميتة عينيها وطلبت الأكل، ولكن الأسد لم يمهلها فعاش وأكل الجميع.
فأرخى فكه الأسفل تعجبا وقال: يا رب. ونهض، فقلت: ما لك؟ اقعد. فقال: عندي في البيت جلد ذئب وقشرة حية كبيرة، أخاف أن تصلي بنت عمي في ساعة رضا، فيقوموا ويأكلوا العنزات. وخرج من الباب وهو يضحك.
وجاء مرة وكان يلبس فروا، فقلت: فروك يذكرني بعاموس النبي. فقال: من يدري، ربما أصير نبي آخر زمان. فقلت له: أكثر الأنبياء قاموا من بين الرعيان. فضحك وقال: الله يجبر خاطرك، أمس كنت معازا واليوم صرت راعيا، كلنا رعيان، من كبيرنا إلى صغيرنا، منا من يرعى في البيوت، ومنا من يرعى في العب مثل البراغيث، ومنا من يرعى في الجبل الأقرع مثل المعزى.
अज्ञात पृष्ठ
فتفرست لأثبت إن كان يعني ما يقول، فما تبينت في وجهه دليلا.
وقلت له ذات يوم: في هذا الكتاب، وأشرت إلى مجلة أمامي، بعض سؤالات فهل تجاوب عليها؟ فقال: اسأل. قلت: ما ألذ ساعة في حياتك؟
فجاوب فورا: ساعة ترجع المعزى إلى البيت وبطونها مزكرة مثل عرانيس الذرة.
فقلت: وأبشع ساعة؟ ففكر قليلا وقال: ساعة أرجع وتكون حرمتي غائبة، والمعزى عطشانة، وبطني لازق بظهري من الجوع.
فقلت: وأصعب ساعة؟ فضحك وقال: ساعة أنسى الضبوة في البيت وتنسى أن تعطيني سيكارة.
وصعد دخان سيكارته حلقات حلقات، فانبسطت أسرته فقلت: من مع المعزى اليوم؟ فأجاب: الصبي. فقلت: تكثر الوحوش في الأيام الباردة. فأجاب: معه غدارة تفلق الصخر، وهو يصيب عين الدوري، شب يرضي خاطرك.
وفي يوم عم الثلج فيه كنت مستجيرا بالنار فإذا بمناد يصيح: يا مارون عبود. فردوا عليه، فأجاب: قولوا له يطل. فأسرعت إلى الباب فصاح بي من الجبل المقابل: «أيش رأيك بحياة المعاز اليوم؟ قل لشاعرك الفرنجي يعمل نشيدة جديدة.»
ودام الثلج في تلك السنة زهاء شهر، فتضايق أصحاب المواشي وخصوصا المعازة، عز المرعى وتكاثرت عليهم الوحوش، فكان بينها وبين معازنا وابنه معركة حامية، انقض ذئب ضار على المعزى وكاد أن يفترس الراعي، لو لم يغامر ابنه ويصرع الذئب برصاصة من غدارته.
وجاء الناس لنجدتهما، فراح فريق يبحث عن القطيع المذعور المشتت، وفريق حملوا المعاز الجريح، ولما استلقى على قفاه في زاوية بيته قال لي بصوت يرتجف: أتحسد المعازة بعد؟
فقلت: السلامة غنيمة.
अज्ञात पृष्ठ
فأجاب: الله يسلمك، وتلحف.
الناس
لقد أصبحت عبدا للناس منذ تصورت في البطن، وتقيدت بسلاسل مشيئتهم حين رفعت يدي أول مرة نحو السماء. ضايقني فضولهم منذ تحركت في ذلك الزندان، فتهافتوا على والدتي ساعة عرفوا أن عددهم سيزداد واحدا، هذا يدلي برأي طبي ورثه عن جد جده، وتلك تنثر نصائحها وإرشاداتها الصحية، وهكذا توطدت العلاقات بيني وبين أصحاب وصاحبات المروءة؛ أرسلوا إلي نجدة تلو نجدة، قبل تشريفي هذه الدنيا، ليحفظوا حياتي الغالية، فلا أذهب طرحا وتخسر الإنسانية واحدا، ليته لم يكن.
وبعد آلام استمرت ثلاثة أيام غير كاملة ولدت أخيرا ... ولو عرفت أن نساء القرية في انتظاري وأني سأعرض عليهن واحدة واحدة لهربت ، ولكن أين المفر؟ ما أرسلت أول صرخة حتى وقعت علي عيونهن، وامتدت إلي أيديهن؛ كل واحدة تحاول أن تستلم الحجر الأسود ... وكان معرض قصير الأمد عقبه النقد المر، هذه تروزني وتقلب شفتها السفلى، وتلك تنظر إلى التي حدها رافعة حاجبيها وجفنيها إلى العلا، وأخرى تغمز بعينيها، وواحدة تقرص جارتها قرصة خفية وتقول: يا حسرة! هاتيك تقول: دميم. وتلك تقول: مليح - وتجر الياء وتقطم الحاء - وأخرى تقول: بشع ولكن بشاعته حلوة ... وغيرها تقول جبرا لخاطر الوالدة المنكوبة: الولد يتغير ويتقلب، منتحلة لي العذر، كأني أنا أفرغت نفسي في القالب الذي لم يعجبها.
لم تقل «اسم الله حوله وحواليه، يخزي العين عنه» إلا واحدة فقط تعرفون من هي! هذه امتلأ فمها ضحكا وقلبها فرحا، وحشي صدرها رجاء وأملا. وكيف لا، أما صارت أما؟
وتعددت النذور إلى قديسين وقديسات وسيدات اختصاصيات، فلم ينفعني إلا سيدة «المكبوسين» فاستويت على قدمي. تحننت هذه «السيدة» على الوالدة فمشى ابنها «المكبوس» مشية الجواد المشكول، ولكنه رأى حوله سورا من الناس أطول من سور الصين، سورا لا يفر منه إلا ليصطدم بجدرانه، إن يظن أنه أفلت من بين حيطانه إذا هو فيه، فكأنه عين ضمير قاين.
الناس، وما أشد فضول الناس! هذا يزجرني، وتلك توبخني، وذلك يرشدني، فكيفما اتجهت أضايقهم ويضايقونني، كأني ابنهم جميعا وكأنهم كلهم أولياء علي.
وازداد تقيدي بالناس لما صرت أفهم عن أبي وأمي؛ إن تحركت قال الوالد للوالدة: يا مرأة، ربي ابنك مثل الناس. وإذا توحشت قالت هي: البس ثيابك مثل الناس. أسمع هذا فلا آخذ ولا أعطي، ويعلو صياحي وضجيجي فتصرخ بي: استح من الناس. وألتفت فلا أرى حولي أحدا غيرها، فأرفع عقيرتي هاتفا: وأين الناس يا أمي. فتقول لي: لا ترفع صوتك، أنا «طرشا»؟ احك مثل الناس. وإذا تراقصت في مشية مدفوعا بنزق الصبوة صاحت: امش مثل الناس يا صبي. وأخيرا تنتهرني فأركض وتركض خلفي، فتعجبها خفتي فتقف ضاحكة، فتصيح بها جارتنا العنيفة: عافاك يا أم مارون، اضحكي له اضحكي، ربيه مثل الناس.
أما الوالد - رحمة الله على ترابه - فكان له أداتان يسبكني بواسطتهما في قالب الناس: قضيب ولسان أمر من القضيب، إذا تحركت في مقعدي وقف حاجباه على سلاحهما استعدادا للطوارئ، ثم يصيح بي: اقعد مثل الناس. وإن ترنمت صباحا - وصوتي رخيم كما تعرفون - انتهرني قائلا: سبح ربك مثل الناس، بهيم أنت؟ وإن مددت يدي إلى الزاد قبلهم أو كبرت لقمتي، انتهرني بقوله: كل مثل الناس. وإذا ضحكت ضحكة ليست على الوزن والقافية المفروضين، قال لي: اضحك مثل الناس. وكثيرا ما كان ينهاني عن الضحك عملا بالمادة المشهورة من قانون آداب المجالس: «ضحك بلا عجب، من قلة الأدب.»
هكذا كانت كلمة «الناس» حملا ثقيلا على ظهري، وشريطا شائكا في طريقي أصطدم به أينما اتجهت، فنشأت عبدا للناس يسيطرون علي ويسيرونني كما تشاء أهواؤهم وعرفهم وتقاليدهم، كأني لا أعيش لنفسي بل لهم، كأني مرتبط بهم بناموس أشد من ناموس الجاذبية، لا يحول ولا يزول ولو مات أحد الأجرام كالقمر مثلا. كلما قلت أحطم هذه السلسلة التي يسمونها الناس، أجدني مقيدا بها من جديد، إنها لأغرب من أساطير ألف ليلة وليلة.
अज्ञात पृष्ठ
أجل إن كلمة الناس أثقل عبء يلقى على ظهور الناس، فمن منا لا يستجدي إعجابهم، وكم فينا من يحمل نفسه فوق طاقتها ليظهر بمظهر يرضيهم ويلفت أنظارهم إليه، فيقضي العمر وشبح الهم يماشيه كظله، يأكل معه في صحنه، وينام معه في فراشه. وكم من امرأة خربت بيتها لتكون على حد قولها: مثل الناس ولا بأس.
اسمعوها تخاطب زوجها: ماذا يقول عنا الناس إذا رأوا بنطلونك مرفوءا؟ اشتر غيره. وماذا يقول عنا البشر إذا جاء العيد وليس لابننا طقم جديد، ولبنتنا فسطان من أحدث طراز؟ وماذا يقول عنا الناس إذا لم نشتر كذا كذا، ولم نأكل كذا كذا، ولم نعمل
Soirée
و
Aprés-Midi ؟ وتظل تقول: الناس ... الناس ... حتى تدك البيت من الأساس.
غريبة كلمة الناس، ما أعظم سلطانها على العقول! لا أقول الناس بلاء الناس كما يقولون، ولكني أقول: الناس تسير الناس، وليس أحد منا حرا في ذاته، فمن يزعم أنه لا يبالي بهم يخدع نفسه، إنه أشدنا تهافتا عليهم، ومن حسب أنه معلمهم فهو أحد تلاميذ مدرستهم، إن شاءوا منحوه الشهادة بامتياز، وإلا عاد محترق الفؤاد يردد: ما أصعب مرضاة الناس!
إن كلمة «الناس» نطار منصوب في مقثأة الإنسانية ليرد عنها الثعالب، وهي الخفير الدائم على أبواب كهوف التقاليد، حالت وتحول دون رذائل كثيرة ما كنا نتأباها لولا أعين الناس، وأقصرنا نظرا من ظن أنه يتغلب على الناس بغير الناس، ففي كل عبقرية أثر من عبودية الناس، فأنا وأنت وهو جميعنا عبيد الناس ولا نحيا إلا بهم.
أما قال المسيح لتلاميذه: من يقول الناس إني أنا ابن الإنسان؟ فرددوا له أقوالهم فيه، فسألهم: وأنتم من تقولون إني أنا هو؟ فأجابه بطرس: أنت المسيح ابن الله الحي.
إن جواب التلميذ لمعلمه، وهو واحد من الناس، لفجر وردي انبثق منه عهد وعالم جديدان.
فهل ألوم أبي وأمي إذا كانت كلمة الناس نجمة القطب عندهما، يراعيانها في بحر الحياة خوفا من التيه والسقوط في اللجة؟
अज्ञात पृष्ठ
ففي خلوتنا الخرساء نسمع ضجيج الناس الصاخب، وفي عزلتنا نحس أنهم حولنا يتجولون في مخيلتنا جولان أشباح الغوغاء على الشاشة البيضاء. كانوا في انتظاري عند المهد، وسيجذفون قاربي ليبلغ ميناء اللحد، وإن حسبت يومذاك أني نجوت منهم لأني نمت عنهم، فشباكهم ستلحقني إلى بحر الظلمات.
كل امرئ رهن غربالهم، سوف ينصبون ميزانهم ساعة ينفضون يدهم من ترابي، ويا ويلي إن شلت في ذلك الميزان.
فإن كنت تخشى ألسنة الخلق، وتصدق أنها أقلام الحق، فاعمل بالمثل القائل: «كل ما تشتهيه نفسك، والبس ما يعجب الناس.» ومعنى هذا وقوف الدولاب وبقاء القديم على قدمه، ليس ذلك من نواميس الطبيعة؛ فالطبيعة تركض وتوصينا لنسرع معها، وإن وقفنا جرفنا تيارها، فلنركض.
إن الطبيعة تهدم اليوم ما بنته أمس، فلا يفزعك هذا الخراب، واعلم أن الحياة ترقص بين النوائح حول التابوت، أما نحن فلسنا نراها لأننا نحب الركود، نؤثر أن نعيش أمواتا على أن نحيد عن الدرب ليمشي أبناؤنا ولا يعثروا بنا.
أرأيت الولد في عبثه كيف يعمر ويخرب؟ إنه يقلد أمه الطبيعة، فهي لا ترفع عرشا حتى تدكه وتجعله شعلة لإحدى ثورات اليوم الثامن.
قد تقول: وما هو هذا اليوم الثامن؟ اسمع فأعرفك بهذا المخلوق الجديد العجيب.
في ستة أيام خلق ربك السموات والأرض، وفي اليوم السابع استراح الجبار وتنفس الصعداء ... أما اليوم الثامن فهو يومنا نحن، أعني يوم الناس، يوم صباحه الأزل ومساؤه الأبد، فلا يكون صباح ولا يكون مساء حتى تحبل الإرادة الإنسانية وتلد العجائب.
اليوم الثامن جبهة سرمدية، لا تهدأ جنودها ولا ينفد عتادها، تنقض صواعق الأيام السبعة فتقتل حمارا أو تشقق جدارا، وتهبط صواعق اليوم الثامن فيغمر الأرض طوفان الموت والخراب.
لم يسترح ربك إلا حين خلق ابنا على صورته ومثاله، أطلق يده فيما أعد له ميراثا، وخبأ له الكنوز في الماء والهواء، وبين الجمادات والأحياء ليأكل خبزه بعرق جبينه كما وصاه ... فانتزع هذا الابن الذكي تلك الكنوز من مخابئها، وسيظل يجد ما دام يجد.
قل سبحان ربك في ملكه، فهو من جعل كلمة «الناس» قوامة على الناس ... وذر المنطق ودع القياس؛ فالفرض ضروري لحل المعضلات واستخراج المجهولات ...
अज्ञात पृष्ठ
دايم دايم
ليلة «الغطاس» ليلة خصبة تحبل فيها العقول بالأحلام والأماني، فتلد العجائب والغرائب، وهنيئا لك يا فاعل الخير.
تربع الخوري نصر الله في تلك الليلة عن يمين الموقدة، وتقرفصت قبالته خوريته كأنها قفة ثياب.
الخوري معبس حيران، تارة يمشط لحيته الطويلة بأصابعه، وطورا يحكش النار وينفخها، فيتطاير الرماد في سماء العلية، ثم يستقر أجلى ما يكون على جبته، وقاووقه، والبلاس، فتصر الخورية فمها المتكرش فيصغر حتى يصير كالخاتم، تتذكر كم حفت ثياب الخوري ليظهر نظيفا يوم عيد الغطاس، فتتنهد وترقص على شفتيها كلمة ثم تتوارى، فتنفض ثيابها وكوفيتها بتأفف كأنه توبيخ لبق للمحترم العكش ولكنه لا يحس.
بماذا كان يفكر الخوري في تلك الساعة؟ أبنسله المقطوع فهو - علم الله - مؤمن بأنه ابن الكنيسة، وكل أبنائها ذرية واحدة لأب واحد هو المسيح، فسيان عنده أعقب أم لم يعقب؟ ثم ماذا يرتجي ابن الثمانين من مرأة تحبو إلى السبعين؟ ... لو كان علمانيا لترقب الموت فضاض المشاكل، ولكن الخورية كالصنوبرة إذا قطعت لا تفرخ ... فماذا يحير الخوري إذن؟ وما يشغل باله، وهو الحاكم المطلق وليس على الرعية إلا الطاعة؟ أنقول إنه مؤمن كالعوام من الناس بمرور «الفادي» على بيوت النصارى، ومن يعمل ساعة مروره عملا دام عليه، إن حسنا فحسنا، وإن سيئا فسيئا؟!
كل هذا تخمين، أما الثابت فهو أن الخورية لم تر زوجها قط كما رأته الليلة، حاولت أن تنبهه فقامت إلى مغزلها هاتفة: يا يسوع! ثم جاءت به من عن يمين مخدتها وقعدت قائلة: يا مريم! ولكن بلا جدوى. الخوري في دنيا غير هذه الدنيا، فانكبت أخيرا على نفش الصوف وغزله، غير منفكة عن التأمل في خوريها المنتصب أمام وجهها كالوتد.
وبعد صمت طويل فتح الخوري فمه وقال: كم رطلا عجنت؟
فتنهدت الخورية وأجابت: أربعة أرطال.
فقال: قليل! الضيعة كلها عندك الليلة.
فقالت وهي تعد على أصابعها: القمح، والحمص، والتين، والجوز، واللوز، والزبيب.
अज्ञात पृष्ठ
فأجابها بهدوء مرح: عاداتك يا مبيضة الوجوه، احسبي حساب الضيعة كلها، أطعمي ولا تبعزقي.
فأجابته وقد هزها ثناؤه: ما عليك، عندنا خير كثير، وبركتك تغنينا عن كل شيء.
فحنا الخوري رأسه اتضاعا، وقال: أنا «خاطي» يا خورية.
فحسبت أن خطايا رجلها تتراءى له في هذه الليلة المباركة، فانغمت وسكتت.
وعاود الخوري الصمت فأخذ يعدل النار وينفخها، فيتطاير الشرار من أرومات التوت التي توقد خصيصا ليلة الغطاس، ومرت فترة لا نفخ فيها، كأنما كانت استعدادا لعاصفة أثارها الخوري في الموقدة، فأخرج الريح من البابين ... وذرى الرماد.
لم تطق الخورية فقالت بنبرة تخالطها ابتسامة مرة: وسخت الدنيا يا خوري، توق ثيابك.
فانبسط وجهه اعتذارا، وطلب السراج فنهضت على الأربع، فقال لها مداعبا: قصرت يا خورية. فاستضحكت، ومشت وهي تقول: نشكر الله، بين الخوري سنه الليلة.
وأجلست المسرجة عن يمينه وقعدت في مبركها تغزل، حول الخوري وجهه نحو الشرق وركع يصلي، ثم نظر شزرا فرآها تغزل فتنحنح، ثم أح الأحة المعهودة فحلت محل المغزل مسبحة «وردية» طول الحبل.
وأخذ الناس يتوافدون على بيت الخوري، فجلسوا صامتين، لم تكن تخرج كلمة إلا من أفواه الأطفال، فتحبسها الأمهات في تلك الأكمام، ولا يفلت منها إلا القليل، وإن أبطئوا عن إسكات طفل جأر الخوري وهمر، فيسد فم الصبي سدا هرمسيا.
وأطبق الخوري شحيمته وتحرك للقعود، فمسوه جمعيا بصوت واحد، وتكوموا حوله يقبلون يده - والمورد العذب كثير الزحام - فاصطدمت الرءوس بالرءوس كأكر البليار، لم يرتدوا حتى باسوها جميعا، ثم قعدوا سكوتا ينتظرون كلمته، فقال لهم: هذي ليلة شريفة ينتظرها الناس كل عام مرة، هي تذكار حلول الروح القدس على المخلص في نهر الأردن، طوبى لأنقياء القلوب فإنهم يعاينون الله، كما قال مخلصنا وإلهنا له المجد، هل أنتم مستعدون يا أولادي المباركين؟
अज्ञात पृष्ठ