91

وطلع الفجر بطيئا يطل في نوره الخافت على الأفق، وازدان الشرق لموكب الشمس الطالعة كأن لم تكن في الليل عاصفة دمرت جيش أبرهة.

وسار الملك المسكين بمن بقي معه يجرر أذيال الحسرة نحو الجنوب في طريق صنعاء.

الفصل الثالث عشر

قال الراوي:

خرج يكسوم يستقبل أباه، ولكنه استقبل جثة ممزقة. وأما جيشه المتدفق الذي سالت به رحبة صنعاء، والفيلة التي خرجت تهز الأرض كأنها حصون، والخيل ذات الخيلاء، والجند العابس الذي كان يثير الغبار سحبا ، وحرابه تلمع من خلاله كأنها بروق، فقد اختفت جميعا كما يختفي طيف الخيال.

وتلفت أهل صنعاء في دهشة يتساءلون: أحقا ما يرون وما يسمعون؟ أتلك هي الفلول التي نجت من الموت تجرر أقدامها خائرة القوى، وتتسلل في ظلام الليل إلى بيوتها مخافة أن تقع عليها العيون من وراء شرفات المنازل المغلقة؟ وأصبحت المدينة مناحة على صرعى القتال الباطل، الذي كان مثل فقاعة ارتجفت حينا على سطح غدير.

ولكن الهزيمة والخيبة لم تزيدا يكسوم إلا عنفا وقسوة، فكان مثل فهد جريح في غابة، لا يكاد يسمع همسة حتى يثب غاضبا مفترسا. وكانت المفاجأة العجيبة مثل صدمة شديدة أذهلت أهل صنعاء، فلزموا بيوتهم في حيرة وذعر، فالوباء ينتشر في المدينة، لا يعلم أحد كيف يتدسس إلى الأصحاء، أيدخل إليهم مع الأنفاس؟ أم يثب إليهم مع أشعة الأبصار؟ ويكسوم يسلط عليه جنوده وأعوانه، فلا يجرؤ أحد أن يظهر شيئا ينم عن الفرحة المكبوتة لهلاك جيش الحبشة. وكانت الكارثة طاحنة مثل زلزال من الأرض أو صاعقة من السماء، لا يكاد الحس يدركها حتى تشله صدمتها. وتلفتوا حولهم لعلهم يرون رجلا يجتمعون إليه أو يجدون في رأيه عصمة، فلم يجدوا من السادة إلا هذه الأذناب التي تتمسح في أذيال يكسوم، وهم أشد عليهم من الحبشة وطأة. فكانت صنعاء مدينة ليس فيها سوى بيوت مفردة بعضها يخشى بعضا، ويحسب كل منها أن جاره يسعى به عند الطاغية. وعاد سيف إلى القصر الحزين، وكان قلبه أشد حزنا، لم يكن يحسب أن هلاك أبرهة يقع منه ذلك الموقع الذي كان أبلغ من حزن الولد على أبيه، فلو هلك أبرهة قبل سيره إلى قريش، إذ كان سيف موزعا بين الشك واليقين لا يدري أهو أبوه حقا أم هو أجنبي عنه، لوقف على جنازته حائرا مضطربا لا يذرف دمعة. ولكنه منذ عرف بموته ارتدت عليه موجة من حزن يشوبه الأسف والندم على ما خطر بقلبه من التنكر له وجحود فضله عليه. ولم يذكر في أثناء سيره إلى صنعاء سوى ما كان يلقى من بره وعطفه ورحمته. تذكر كيف كان يداعبه صغيرا، ويحمل إليه الطرف من الهدايا، وتذكر كيف كان يعابثه ويقهقه بضحكته العالية المزغردة في معابثته. طالما أركبه على ركبته كما لو كانت مهرا، ولقنه صيحات الحرب كما كان الأحباش ينطقون بها، وطالما سمعه يقول لمن حوله: «هذا أول أبنائي العرب.» وإذا كان الشك في أبوته قد أفسد عليه حكمه حينا، فلم يكن ذلك من ذنب أبرهة المسكين ولا من قصور في مودته، بل لقد بدت رحمته لسيف في ذلك الحين أعظم نبلا وأجدر بالشكر من رحمة الأب لابنه؛ لأنه لم يكن أباه.

وأسرع سيف إلى أمه، وعجب إذ رأى في جناحها حبشيين كأنهما تمثالان من نحاس يقفان عند باب البهو وينظران نحوه جامدين. ولما رأته ريحانة هبت تستقبله فاتحة ذراعيها متهانفة بالبكاء وقالت: أهكذا تغيب عني؟

وجلسا حينا في صمت لا تقطعه إلا شهقات الأم الحزينة. وقال سيف مواسيا: تجملي بالصبر يا أماه.

فنظرت إليه نظرة طويلة ثم قالت: لست أدري يا ولدي أينا أكثر شقاء.

अज्ञात पृष्ठ