والتفت إلى الشيخ قائلا: أما قلت إنك تعرف أبي؟
فهز الشيخ رأسه في هدوء وقال: دع الأرواح في مراقدها.
فقال سيف: ولكني أسألك عن أبي.
فقال الشيخ: لا تثر الأرواح يا سيف إن كنت تريد سلاما.
فقال سيف: صف لي صورته التي لم أرها، فما أعجب أن يكون أبي ولا أعرف عنه شيئا. صفه لي حتى كأنني أراه، فهذا آنس لقلبي ، صفه لي كيف كان إذا سار وإذا ركب؟ وكيف كان صوته إذا تحدث؟ وما كان لونه وهيئته؟ ماذا كانت حاله إذا طرب وإذا غضب، وإذا صادق أو عادى؟ صفه لي أيها السيد المبجل، فإني أحس في هذه الساعة شوقا إلى أن أملأ منه الفراغ الذي خلال منذ أن عرفت أن أبرهة لم يكن أبي.
فقال الشيخ هادئا: إن الصور حقائق يا سيف، فلا تسرع إلى إثارتها. ها قد أسفرت السماء، فهلم بنا قبل أن تدركنا عاصفة أخرى.
وسارا على الهضبة الصخرية، تبدو لهما الربى في زينتها وقد زادها المطر اخضرارا، وهب النسيم كأن لم تكن قبله زوبعة بارقة راعدة. وأرسلت الشمس شعاعها الخافت من خلال فلول السحاب المتناثرة، فما لبثا أن صرفا بصريهما إلى الآفاق الباسمة وسارا يتأملان مناظرها في صمت، ثم لاحت لهما جوانب وادي ضهر من بعيد، وماء النهر يبرق بينها متعرجا، وبدا قصر ذي جدن مشرفا فوق رابيته عابسا مسيطرا على الوادي.
وبلغا الطريق الصخري الصاعد إلى القصر، فوثب الجوادان فوقه تحف بهما هوتان عميقتان عن يمين وشمال.
ولما خلا الشيخ في مخدعه تلك الليلة تذكر صاحبه أبا مرة، وهو يودعه في ليلة النكبة من بين جثث القتلى، ذلك الوداع الذي لم يلقه بعده، ويوصيه بامرأته ريحانة وولده سيف. أما ريحانة فهي هناك في غمدان، وما جدوى الأسف؟ وأما سيف فهل آن له ...؟
وسبح في ذكريات تلك الأيام البعيدة، التي مرت منذ عشرين عاما كأنها دهر طويل.
अज्ञात पृष्ठ