وسارت بقية الصفوف بين يديه لا يكاد يستوقف منها أحدا إلا ريثما يرد على تحيته بكلمة، قد تكون ضاحكة وقد تكون عابثة ساخرة، ولكن وجهه في كل أحواله ينطق قائلا: «إنني أجيب على ألفاظ بمثلها.» وكان ذو نفر لا يخفي تململه كلما سمع أقوال الوفود، ويميل على صاحبه هامسا: «لشد ما تغير الناس حقا.» وتقدم شيخ من أهل صنعاء يلقي أمام الملك قصيدة من الشعر، يظهر فيها مودة أهل المدينة وعرفانهم لما شملهم به أبرهة من العدل بعد طول عهد المظالم، ومن الرحمة بعد أن كادت القسوة تقضي عليهم.
فقال ذو نفر في دفعة: أتسمع ما يقول هذا؟
فأخذ الشيخ بذراعه وتقدم إلى الأمام صامتا، وكان الإيوان قد خلا إلا منهما، فأقبلا على أبرهة فصاح قائلا: كنت أفحص الوجوه عنك يا أبا الهيثم. جئت تقدم رجلا وتؤخر أخرى؟
فقال ذو نفر مبادرا: أبيت اللعن أيها الملك.
فضحك أبرهة ضحكته المزغردة وقال: لم تنس بعد تحيتك القديمة يا أبا الهيثم؟
وكانت عيناه تلمعان لمعة غريبة عندما اتجه نحو أبي عاصم قائلا: أحسنت يا أبا عاصم إذ جئت مع الشيخ، فقد بلغني أنك غاضب علينا.
وكان ذلك اللقاء مفاجأة للرجلين، وقال ذو نفر في دفعة: لم أتعلم بعد تحية خيرا منها أيها الملك.
فقال أبرهة ساخرا: أبعث إليك من يعلمك غيرها؟
وأحس أبو عاصم في نفسه حرجا شديدا، ولكن الألفاظ غابت عنه فلم يدر كيف يقول، واعتدل في وقفته يتكئ بكفيه على عصاه مواجها لأبرهة، وقال هادئا: هيهات أيها الملك، فإني كما ترى شيخ كبير.
فقال أبرهة في حدة: لا يستعصي أحد على التعلم أيها الشيخ، بل قل إنك ما زلت تتعلق بأذيال الماضي وتخيل إلى نفسك أوهاما تملأ بها شدقيك إذا خلوت إلى من تسميهم قومك. أتحسب أن أقوالك لا تبلغ سمعي؟ ألست تقول لقومك إنكم كنتم الملوك؟
अज्ञात पृष्ठ