وتنبه إلى نفسه بين خواطره تلك، وكان الليل قد مضى نصفه، والقمر يغمر الفضاء ويطل شعاعه من نافذته المرمرية. فقام ينظر إلى البستان، وكان الفضاء الساكن لا يشوبه حديث حانق، والقمر يسبح في السماء وأحواض الزهر تحلم في أشعته، وتثاءب سيف وأحس في جفونه ثقلا، ولكنه استمر في أحاديثه الصامتة، وخيل إليه أن ينزل إلى البستان وفي نفسه أمل غامض أن يرى هناك أحدا يذهب عنه الوحشة، أو أن تكون خيلاء في ظل إحدى الخمائل وحدها، فيذهب إليها معتذرا عن طول احتباسه عنها، ويقول لها بعض ما يقول في خلوته لها، وتمنى لو تجرأ يوما أن يفضي إليها بما في سره؛ فهي بغير شك أحرى أن تستجيب له ولا تظن به السخف أو الخبل.
وتثاءب مرة أخرى وكانت جفونه تفيض نعاسا، فذهب إلى فراشه وأغمض عينيه. وكان نومه ثقيلا مضطربا، يهب منه مستيقظا بين حين وحين، فيجد رأسه غائما وصدره منقبضا، ويحاول أن يجمع الصور التي أزعجت نومه، فلا يجد إلا أثرا غامضا لا معالم فيه، كأنه كان يبحث عن شيء يتفلت منه فلا يدركه، أو يسعى نحو غاية فلا تلبث أن تختفي عنه، ويسأل نفسه عنها فلا يعرف ماذا كان يبغي.
وهب آخر الأمر من فراشه على إثر صيحة في أعقاب منظر لم يستطع النوم بعده، وإن كان منظرا مألوفا عاوده مرة بعد مرة، وكان في كل مرة يشرد النوم عنه، فيعصيه من بعد ولا يعود إليه. رأى كأنه عاد طفلا في سن الخامسة، يلعب في بستان القصر مع رفاق صغار، وكان المنظر واضحا بكل دقائقه، حتى لقد تذكر فيه أشياء لا تسترعي نظره وهو كبير، كانت هناك شجرة ضخمة من شجر الجوز فيها فجوة تتسع لطفل أن يختبئ فيها، فكانوا يتخذونها مخبأ في لعبهم لكي يفاجئ أحدهم الآخر إذا مر قريبا منه ليفزعه، وكان هناك بيت مظلم في آخر البستان، له نوافذ قريبة من الأرض تعترضها قضبان من الحديد. فكانوا يتسلقون قضبانها لكي يطلوا منها إلى الظلام الذي وراءها، ثم يقفزون سراعا ويصرخون ضاحكين. وكانت هنا دقائق أخرى كثيرة غابت عن ذاكرته، فأعادها إليه الحلم واضحة المعالم كأنه يراها في ساعته. وكانت خيلاء إحدى رفاقه تجري وراءه حينا ويجري وراءها حينا آخر، فإذا أدركها أو أدركته ضجت منهما ضحكة عالية.
وكان أخوه الأصغر مسروق يتبعهما مترجرجا في جريه كما يحاول طفل في الثالثة أن يلحق بإخوته، وكانت معهم خادم سوداء تضاحكهم بأفانين من ألعابها، فتارة تقلد لهم أصوات الدواجن، فتصيح كالديكة، أو تقأقئ كالدجاجة، أو تعوي كالكلب، وتموء كالهر، وتارة تقلد لهم أصوات السباع، فتصيح مثل الذئب أو ابن آوى، أو تزأر كالأسد، وهم يتضاحكون في زياط أو يتماسكون في رعب، ثم ينفجرون في ضحكة واحدة ويصفقون مرحين. فإذا ما أرادوا تقليد صيحاتها اختار كل منهم ما يحلو له، فكانت خيلاء تقلد الحمامة أو اليمامة، وسيف يزأر كالأسد أو يعوي كالذئب، ويحاول أن يخيف رفاقه كما تخيفهم الجارية. فإذا ما شاركتهم الخادم في الصياح والضحك ورأتهم بلغوا الغاية من ألاعيبهم، اختارت من فنونها صنفا آخر تطرفهم بجدته ليعود نشاطهم كما كان، فقلبت لهم جفونها وغيرت صوتها كأنها تحولت إلى جنية، فيهرعون هاربين منها وهي تعدو في آثارهم صائحة «امسك»، وهم يحاولون الانفلات منها، وكان سيف الطفل يحس قدميه ثقيلتين عند ذلك، ويخيل إليه أن الجارية قد انقلبت حقا جنية تريد أن تجره إلى بطن الأرض معها. ثم عدلت الجارية إلى حيلة أخرى، فكشرت عن أنيابها قائلة إنها قد انقلبت إلى ساحرة غولة تأكل الأطفال، وتحملق بعينيها الحمراوين وتقول في صوت مخيف: «هممم»، فيصرخون ويبكون، حتى تعيد جفونها ثم تضحك مقهقهة فيضحكون وراءها من بين دموعهم، وأخذت الجارية تعدو بهم، وأمسكت بيده مرة في أثناء ذلك واندفعت بسرعة وهو لا يستطيع أن يجاريها، فتعثر ويده معلقة بيدها، وجرته على الأرض حتى خدشت ركبتيه ثم وقفت ضاحكة، وكاد يبكي ولكنه تماسك على مضض ولم يبك، وقال في نفسه: «ألست رجلا؟» وذهب إلى أخيه مسروق فأخذ بيده وجرى به كما جرت الجارية حتى تعثر مسروق، ووقع وخدشت ركبته وصاح يبكي، فجاءت الجارية تصرخ، وجعلت تمسح الرمال عن ركبة الطفل الدامية وهي تصيح بسيف مؤنبة. ثم تبدل المنظر فجأة كما يحدث في الأحلام، فإذا هو في براح من أرض خالية كالصحراء، وإذا شبح ضخم يهجم عليه عابسا، فوقف في مكانه مسمرا لا يستطيع حراكا، وأحس رجليه ثقيلتين في الرمال، وجعلت عيناه تطرفان في خوف، ثم أخذ الشبح الأسود بكتفيه وهزهما هزا عنيفا، وقال في نفسه: «لن أبكي، فإني رجل»، وأخذ الشبح يبرطم بألفاظ سريعة حانقة بلسان غير مبين. ثم رأى نفسه مرفوعا في الهواء ينظر في عينين واسعتين عابستين لهما جفنان ثقيلان متورمان، وبدا الوجه مثل الفحمة من وراء عينين كالجمرتين، وسمع صوتا أجش يصيح به: «من أنت؟ وابن من أنت؟ أتضرب ابن أبرهة؟ ابن من أنت؟» وأراد سيف الطفل أن يقول: «لم أضربه» ولكن لسانه احتبس وقال في نفسه: «ألست أنا ابن أبرهة؟ من أبي إذن؟» وتحول المنظر فجأة مرة أخرى، فإذا هو في البراح وحده وقلبه يخفق رعبا، ولكنه لم يبك وقال في نفسه: «ألست رجلا؟» ونظر حوله يبحث عن رفاقه وعن الجارية، فرآهم من بعيد يختفون عن عينيه وراء شيء أسود مظلم، فصرخ ينادي ويبكي ولم يستطع أن يمسك نفسه، مع أنه كان يقول في سره: «كيف أبكي وأنا رجل؟» ولم يسمع جوابا لصراخه، وخيل إليه أن الشبح الأسود يطل له من بعيد يسد الأفق، وكأنه يتربص به ليمسك به مرة أخرى، وحاول أن يجري إلى الجانب الآخر هربا منه، ولكن رجليه لم تسعفاه كأنهما مسمرتان في الرمال، وأحس وقع أقدام ثقيلة تتبعه، فدق قلبه دقا عنيفا وصرخ في ذعر، فهب من نومه يلهث والعرق يقطر من جسمه.
كان حلما فظيعا، ولكنه لم يكن جديدا، كان ذلك الحلم يعاوده بين حين وآخر في أعقاب لياليه المسهدة، وقضى ساعة يحاول أن يهدئ نفسه بالسخرية والتماس العلل لاضطرابه، فلعل الطعام هو الذي ثقل على قلبه، أو لعلها الوساوس التي شغل بها ذهنه هي التي خلقت له تلك المناظر المزعجة، أو لعله عارض من برد أو تعب، أو هي زيارة روح خبيثة ألمت به في سبحها بالليل. وانطلقت أفكاره هائجة فذهبت تهيم في البعيد والقريب في سرعة مجهدة، حتى ضاق بحجرته ولم يجد بدا من أن يخرج إلى الفضاء لعله يجد في الحركة وانطلاق الجو ما يذهب بالضيق الذي اعتراه. وخرج يتسلل من الحجرة إلى الممر الذي وراءها ثم إلى البهو، وكانت الشموع ما تزال ترقص فيه عند حوافي حواملها.
ومر بحجرة أمه الملكة ريحانة، إنها بغير شك ما تزال في سريرها لا تدري شيئا عن ضيقه ولا عن وساوسه. ولو علمت بأنه يتسلل من حجرته لقامت إليه ملهوفة وأخذته بين ذراعيها. هكذا قال في نفسه وهو يسير على أطراف أصابعه عند بابها. لم تتلهف عليه هذه الأم هكذا كما لا تتلهف على أحد من إخوته؟ كان أحيانا يكاد ينفر من رحمتها التي تخيل إليه أنها تحسبه ما زال طفلا، ومع هذا فما أشد ما يحسه من الحب نحوها! هي عنده تعدل الحياة أو تكاد تعدلها. ولكن خيلاء هناك كذلك في حجرتها المقابلة لحجرة الملكة ريحانة، وهي بلا شك راقدة في فراشها ولعلها تحلم أحلاما أخرى، إنه لم يرها منذ أيام طويلة، وقد كان يود لو رآها، أما ينفتح بابها فجأة وتطل منه هامسة له: «إلى أين يا سيف؟» هكذا همست له مرة وهو يخرج في الصباح الباكر منذ أسبوع، فذهب إليها وأخذ يدها الممدودة ووقف صامتا، وحاول أن يتكلم فلم يجد إلا أن قال لها: «عمت صباحا يا خيلاء. لم تبكرين هكذا؟» وكانت نظرتها عجيبة عندما قال لها: «سأنزل إلى البستان، فإني أحس صداعا»، ثم سار عنها مسرعا. فماذا يقول لها لو رآها تطل في تلك الساعة من باب مخدعها؟ أيقول لها: «سأنزل إلى البستان، فإني أحس ضيقا؟» ومضى يسير على أطراف أصابعه، وكان البهو صامتا ساكنا فيه رهبة. كم شهد هذا القصر من قصص عجيبة ، ولا عجب أن تلم به بعض الأرواح الخبيثة، وكم حدثه عنها الشيخ أبو عاصم أثناء الدرس الذي كان يلقيه إليه مع خيلاء، كان يحدثهما عن الملوك الذين أقاموا في غمدان، وعن الأحداث التي اضطربت بها هذه الأبهاء الفسيحة. أهكذا كان الناس أبدا لا يعرفون سلاما؟ كانوا دائما يتنازعون ويتصارعون، كأن الحياة لا تحتمل الرضى أبدا. أما كانوا يعرفون حبا؟ وأحس حيرة شديدة عندما تمثلت له صورة أمه وصورة خيلاء جنبا إلى جنب، أيهما كان أقرب إلى قلبه؟ كان في هذه الأيام الأخيرة يحس شيئا يشبه الرغبة في التهرب من أمه. أيتهرب منها وهو يحبها ذلك الحب العميق؟ ولكنها هي كذلك كانت مع شدة لهفتها عليه يعتريها شيء كالاضطراب، وتطرق مرتبكة كأنها تود لو هربت منه. كانت عيناها دائما تبعثان فيه الطمأنينة، وكان كلما ذهب إليها بحث عنهما يلتمس منهما نظرة، ولكنها كانت تدير عنه عينيها، فإذا ملأه الشعور بالخيبة استأذن منصرفا، فكأنها كانت ترتاح لذلك، وتقوم إليه لتضمه إلى صدرها في شفق، ثم تدعه يذهب بغير أن تتلاقى عيناهما. أليست القلوب تتحدث كما قال أبو عاصم يوما في درسه؟ لا شك في أنها تتحدث، فإنه يسمع أمه تتحدث صامتة، كما أنه كان بغير شك يسمع خيلاء تتحدث صامتة.
وبلغ سيف في سيره جناح أبيه، وهجم عليه شعور عجيب يشبه الحسرة أو الندم، أو هو شيء آخر أقرب إلى اتهام النفس. أكان يحب ذلك الأب؟ وإلا فما ذلك الحاجز الذي كان يجده قائما بينهما؟ لا يذكر يوما أنه اندفع إلى ذراعيه كما كان يفعل أخوه مسروق وأخته بسباسة، وكان يقول لنفسه وهو طفل: «كيف أندفع بين ذراعيه كأنني طفل؟» وكان يسخر في سره منهما عندما كانا يتنافسان على حضن أبيه ويتنازعان قبلته، ويسأل نفسه: أهو طفل مثلهما؟
كان دائما يذهب إليه مترددا يمسك نفسه كأن شيئا خفيا يقف دونه. وأحس سيف هواء صباح الخريف يملأ صدره عندما خرج إلى البستان، وكان القمر ما يزال يغمر الفضاء بضوئه الحائل. كان منذ ساعة قصيرة يرى نفسه في الحلم طفلا في هذا البستان، والجارية السمراء تجره من ذراعه، ثم هاتان العينان، كانتا تظهران له من وراء الضوء الخافت كأنهما قطعتان من الجمر. واعتراه خجل من أنه ما يزال يتذكر هذه المخاوف الصغيرة كأنها حقائق. وبلغ مربط الخيل، ورأى مهره الأبيض يرهف أذنيه لمقدمه. أهي حاسة أخرى غير حواس البشر يستطيع المهر أن يدرك بها قدوم صاحبه قبل أن يراه؟ كان الفرس يتنفس في هزة كأنه طفل يتهاتف نحو ظئره ويهز رأسه في فرحة ظاهرة. وخرج به سيف من باب البستان الخلفي الذي يفضي إلى خارج المدينة، وكان الليل ما يزال ساكنا، لا تقطعه إلا تحية حارس الباب إذ قال له: «لم يطلع الفجر بعد يا سيدي»، وكان شيخا عربيا عرفه سيف في القصر منذ كان طفلا. وكان يؤثر أن يخرج من عنده كلما أراد الخروج، وقد طالما رآه الشيخ يذهب مبكرا إلى الصيد، ولكن صوته في تلك المرة كان لا يخلو من دهشة. وأضاف ضاحكا: «لم تتحرك الطيور بعد.» فقال سيف - وقد داخله شيء من الارتياح: «وماذا يزعجها قبل الصباح يا أبا بردة؟» وكان ذلك هو الاسم الذي اعتاد سيف أن يناديه به منذ صباه؛ لأنه كان يضع على كتفيه بردة من وبر الإبل لا تفارقه ليلا ولا نهارا ولا في صيف أو شتاء. وهز الرجل رأسه في عطف وهو ينظر في أثره ويغلق الباب خلفه. وسار المهر خفيفا نشيطا، فوجد سيف في حركته بعض الأنس، وكان النسيم يرف من قبل الشمال فيمسح على وجهه رفيقا. تذكر يوم أهدى أبوه هذا المهر إليه، وكان ذلك عندما أتم بناء الكنيسة، وذهب في موكبه ليصلي بها أول صلاة مع رسول قيصر. وتذكر في تلك اللحظة أمرا غاب عنه في مضطرب أفكاره، فإن أبرهة سيخرج في ذلك اليوم في موكبه إلى الكنيسة العظمى ليؤدي بها الصلاة قبل خروجه إلى حرب قريش. وقد كان سيف يود لو ذهب معه إلى تلك الحرب، بل لقد طلب ذلك إليه كما ينبغي لشاب فارس مثله يريد أن يجول جولة في الحياة كما يجول الرجال. ولكن أبرهة تبسم له قائلا: «لن ترضى أمك يا سيف.» وكانت نظرته غريبة وابتسامته جوفاء. فلم أجابه بأن أمه هي التي لا ترضى؟ أكان يسخر منه؟ وهل كان يقول ذلك لمسروق لو سأله الخروج معه؟ وعجب سيف من نفسه كيف لم يذكر ذلك الموكب إلا في تلك اللحظة بعد أن بعد عن القصر وضرب في الليلة المقمرة. حقا، إن القلوب لا تتحدث فحسب بل تتصرف وتسيطر، لم يكن في قرارة نفسه راضيا عن الخروج في الموكب مع أبيه، وكان يتمنى لو وجد سببا يمنعه منه، ولكن لم يخطر بباله أن يخرج عامدا من القصر لكي يمتنع عن الذهاب مع أبيه قصدا. أيكون قلبه قد أنساه وجعله يخرج هكذا من القصر قبل الصباح كأنها خطة مدبرة؟ واتجه المهر في الطريق الذاهب نحو وادي ضهر، فقد كان سيف كلما ركبه يذهب به إلى هناك. وقال سيف - وهو يمسح عرقه: «إنك خير من كثير من البشر يا سرحان»، كان يعرفه كما يعرف الصديق صديقه، فهو يأنف أن يأكل من مذوده إذا لم يكن نظيفا، ويأبى أن يشرب الماء إذا لم يكن صافيا، ولا يرتاح في مربطه إذا لم يتعهده سائسه بالخدمة، وهو لا يحتاج إلى مهماز ولا تلويح بسوط، وينفر ثائرا إذا أساء أحد إليه. لم يكن ليرضى أن يعامله أحد كما يعامل خدم القصر من العرب الذين كانوا يضربون بالسياط ويوجه إليهم أقذع السباب، ولا يرضى أن يعيش كما يعيش هؤلاء المساكين الذين يضربون خيامهم في شعاب الجبال، يقنعون بأتفه الطعام وأرذل الملبس. ومر في طريقه بخيمة رثة في ظل صخرة، وكان الفجر ينبثق من أفق الشرق كأن الكون يفتح عينيه من سنة نوم. وإلى ناحية الخيمة رأى أشباحا سوداء مقبلة، فتأملها حتى اقترب منها، فإذا هي امرأة عجفاء تحمل حزمة من الحطب، ومن ورائها أربعة أطفال لا يزيد أكبرهم على سن العاشرة، يحمل كل منهم حزمة، ولا يكاد صغارهم يستقلون بحملهم. هؤلاء كذلك يخرجون في الصباح الباكر، كأن الأحلام المفزعة تزعجهم من مراقدهم، وكانوا جميعا في أسمال بالية لا تغطي من أجسامهم النحيلة إلا قطعا. ووقف الأطفال يتطلعون إليه في فضول بوجوههم السمراء التي يعلوها الصدأ. ولكن المرأة لم تلتفت إليه، وصاحت بهم في حنق، فأسرعوا وراءها وهم يتلفتون إليه من وراء. ومدت المرأة يدها إلى كبرى الصبية عندما أدركتها، فخبطتها في عنف وصاحت بها تنطق بألفاظ لم يفهم سيف منها سوى أنها حانقة، وصاحت الصبية تبكي. هؤلاء كذلك قد خرجوا قبل أن يتحرك الطير، ولكنهم لا يغنون ولا يمرحون. كان سيف يرى في كل مكان أمثال هذه المرأة وأطفالها، ولم يسمع منهم جميعا سوى الحنق، ولم يشهد سوى العري والعنف. وعادت إليه ذكرى يوم خرج إلى النزهة مع بعض أصحابه من أبناء القواد الأحباش وأعيان صنعاء، وكانوا يحملون طعاما خفيفا، فنزلوا في شعب أشجر معشب يستظلون عند الظهيرة، وكان على مقربة منهم نجع فيه خيام رثة مثل خيمة تلك المرأة. وجاء إليهم سرب من أطفال يشبهون أطفالها في عظامهم الناتئة وثيابهم المخرقة التي لا لون لها إلا أن يكون التراب لونا. ووقف الأطفال يرقبون الجمع المرح كما تقف الكلاب الجائعة تترقب فضلة من العظام، على مقربة من وليمة تفوح رائحة طعامها. وأخذ أصحاب سيف يعبثون بالأطفال فيلقون إليهم قطعا من فتات الخبز ويتضاحكون كلما رأوهم يتزاحمون عليها. وكانوا في تزاحمهم عليها يعفرونها في الرمال، فمن استطاع منهم أن يفوز بقطعة منها أسرع بها ودسها في فمه، ولا يبالي أن ينفض التراب عنها. وتذكر سيف كيف أحس عند ذلك بما يشبه الحنق، وكانت ضحكات أصحابه ترن في سمعه قاسية مزعجة. إنها فكاهة للمترفين ومعركة حياة للمعذبين. وقام يحمل ما استطاع حمله من الطعام، فمد به يديه إلى الأطفال وأمرهم أن يذهبوا به ليأكلوه بعيدا في هدوء. ولم يدر لم كان في قوله غليظا جافيا، مع أنه كان يرحمهم في قلبه. وضج أصحابه بضحكات عالية عندما رأوا الأطفال يصيحون به صياحا يشبه السخرية وهم يخطفون الطعام ويسرعون به، كأنهم يخشون أن يستعيده من أيديهم، وجعل الفتيان يتبادلون فكاهات قارصة وهو يمسك نفسه من الغضب. ووقع في قلبه في ذلك اليوم أن هؤلاء المساكين الذين ذهب الفقر بإنسانيتهم أقرب إليه من رفقائه أصحاب الكبرياء. وتمثلت له أمه ريحانة العربية تبتسم له شاكرة، وخطر له في تلك اللحظة خاطر جديد، وعجب لنفسه كيف لم يخطر له من قبل أن هؤلاء المساكين قوم أمه الحبيبة ريحانة. وكان سيف قد بلغ في سيره منتصف الطريق، حيث كان جبل ينور الذي ينطوي على كهف يسكنه الجن. وظهرت أشعة الشمس الأولى تضرب في السماء بمثل حراب دامية؛ فأحس رهبة شديدة، وهمز مهره فانطلق يعدو به، وأحس شيئا من الارتياح للحركة السريعة. ولكن هواجسه لم تفارقه، فسأل نفسه: «ماذا كان يفعل لو كانت ريحانة ولدته لأحد أبناء قومها من حمير، أو لرجل من بني خثعم أو الأزد أو السكاسك؟ كيف كان ينظر إليه هؤلاء الشبان الساخرون أبناء قواد الحبشة؟ وذهب بفكره إلى أحاديث الشيخ أبي عاصم؛ إذ كان يقص عليه وعلى خيلاء أخبار جده ذي جدن، وأطرافا من سير ملوكهم وآدابهم وعقائدهم. أكانوا يسيرون عند ذلك عراة هكذا؟ جياعا ينتظرون أن تلقى إليهم فضلات الطعام؟ وهل كان فيهم دائما أمثال أولئك الرفاق من أبناء القادة الذين يتضاحكون سخرية من بؤس المساكين؟»
وصعدت الشمس بموكبها في السماء، وألقت أشعتها على حواشي السحب فصبغتها بالعصفر والقرمز، وعادت إليه صورة أبيه أبرهة الذي سيخرج في موكبه إلى الكنيسة العظمى؛ ليصلي ويدعو المسيح لينصره. أيسأل عنه إذا افتقده ولم يجده؟ أم هو لا يفتقده ولا يحس غيبته كما فعل من قبل مرارا؟ كان أبوه أبرهة إذا اتجه إليه في حضرته يبسم له عاطفا ويكرمه رحيما، ولكنه لم يتجه إليه يوما بعتاب على غيابه عن مشهد من المشاهد، ولم يقل له يوما: «ما كان ينبغي لك أن تغيب اليوم يا ولدي»، لم يذهب إلى الكنيسة في يوم عيد الميلاد السابق؛ لأن خيلاء كانت مريضة ببرد، فآثر أن يبقى إلى جانب سريرها، وفي يوم الفصح لم يذهب لتهنئة أبيه؛ لأن حلمه المزعج زاره في تلك الليلة فأفسدها عليه، ولم ينم إلا قبيل الصباح، ففاتته ساعة التهنئة بالعيد، ولكن أبرهة لم يغضب في إحدى المرتين ولم يتجه إليه بلوم، بل بعث إليه يوم الفصح بهديته مع أمه. وعادت إليه كلمات الشبح الأسود إذ قال له في الحلم: «من أنت؟ وابن من أنت؟ أتضرب ابن أبرهة؟» ألم يكن أبرهة أباه؟ وتمنى لو تجرأ أن يذهب إلى أمه ليلقي عليها السؤال الذي صار ينمو في طي نفسه كما تنمو الشياطين إذا تصورت في صور الحيوان، وكاد الشك الذي أثاره الحلم المتكرر يصير يقينا، وهاجمه السؤال مرة أخرى في لجاجة: «أأنا ابن أبرهة؟ ألا يكون ذلك الحلم من وحي الغيب جاء ليطلعني على حقيقة خفية؟» بل لقد بعدت به الدفعة عن مداها، وسأل في ثورة قائلا: «أأنا ابن ريحانة؟» ولكنه ما كاد يفطن إلى سؤاله حتى ارتد في فزع، كأن هوة عميقة تفغر له فاها في الطريق على حين فجأة، أو كأنه رأى عدوا يتربص له لينتزع منه كنزا ثمينا، وقال في غيظ: «بل هي أمي، ولا يمكن إلا أن تكون أمي. إنني أعرف ذلك كلما نظرت إليها أو سمعت صوتها، وكلما نظرت إلى صورتي في المرآة أو تأملت أعماق نفسي. إنها بلا شك أمي، ولن يداخلني في أمرها شك أبدا.» وبلغ به السير إلى قصر جده ذي جدن على قمة التل المشرف على وادي ضهر، ولم يحس مرور الزمن كأن لم تمض ساعتان، وكانت الشمس تعلو في السماء مقدار رمحين.
وكان القصر العابس مقفرا، ليس فيه إلا صبيح الحارس وبعض الخدم من الأعراب، وحجراته الواسعة الحجرية الباردة، ولكنه كان أرفق به من غمدان؛ لأنه لا يضطره إلى التسلل والتخفي. كان هناك يستطيع أن يخلو إلى نفسه ويمضي مع أحاديثه، بغير أن يتعمد الاعتزال أو يضطر إلى الاعتذار باختلاق الأكاذيب، ولكنه عندما أقبل الليل كاد يختنق من الوحشة؛ فخرج إلى الوادي، وكان القمر يغمره بضوئه الرفيق، ويجعل مناظره أشبه بمناظر الخيال. وكانت تمر به أوقات يفيق فيها إلى حسه فيفزع، ويتمنى لو كان إلى جانبه أحد يحدثه ويسمعه صوته، خيلاء أو أبو عاصم أو ريحانة، فإن هذه الحياة التي يحياها في الخيال توشك أن تقطع صلته بالأشياء والأحياء جميعا، وتجعل كل حركته لا تزيد على سلسلة من الهذيان المحموم. ومع ذلك فقد أمضى أكثر وقته في ذلك الوادي مدة إقامته في قصر جده، يهيم مع خياله فلا يعود إلا قبيل الصباح، عندما تثقل جفونه، ولكنه إذا عاد إليه استأنف في نومه سلسلة الهذيان في الأحلام.
अज्ञात पृष्ठ