With Our Virtuous Father Sheikh Muhammad al-Amin al-Shanqiti, May Allah Have Mercy on Him
مع صاحب الفضيلة والدنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله
प्रकाशक
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
संस्करण संख्या
السنة السادسة-العدد الثالث-رجب ١٣٩٤هـ
प्रकाशन वर्ष
فبراير ١٩٧٤م
शैलियों
مدْخل
...
مَعَ صَاحب الْفَضِيلَة والدنا الشَّيْخ مُحَمَّد الْأمين الشنقيطي ﵀
بقلم: الشَّيْخ عطيه مُحَمَّد سَالم القَاضِي بالمحكمة الشَّرْعِيَّة بِالْمَدِينَةِ
الْحَمد لله الْمُسْتَحق لصفات الْجلَال وَكَمَال الْأَسْمَاء، المتفرد بالدوام وبالبقاء. خلق الْخلق من عدم وَقضى عَلَيْهِم بِالْمَوْتِ والفناء. وَجعل الدُّنْيَا مزرعة الْآخِرَة، حصادها الثَّوَاب وَالْجَزَاء. وَاخْتَارَ من عباده رسلًا يبلغون عَنهُ فهم بَينه وَبَين خلقه وسطاء. وَاصْطفى خاتمهم مُحَمَّدًا ﷺ فَهُوَ صفوة الأصفياء، بَعثه رَحْمَة للْعَالمين فجَاء بالحنيفية السمحاء. أطل فجرها بِمَكَّة من قمة حراء.
وأشرقت شمس نَهَارهَا بِطيبَة الفيحاء. ظلت مهَاجر صَحبه فِي ألفة ووفاء فَتحمل الصحب الْكِرَام تراثه. مَا ورثوه مِنْهُ هِدَايَة وضياء. وورثوه من بعدهمْ تَوْرِيث الْآبَاء للأبناء. وغدت الْمَدِينَة مشرقة أنوارها يشع مِنْهَا للْعَالم نور وسناء. وتوالت الأجيال تلو أجيال إنتاجها للْعَالم صفوة الْعلمَاء، مِمَّن قَامُوا لله حَقًا وَأَخْلصُوا لله صدقا ونشروا الْعلم فِي عفة وإباء. نَهِلُوا من المنهل الصافي من منبعه قبل أَن يخالطه الترب أَو تكدره الدلاء. فِي مهبط الْوَحْي محط رحالهم. وَفِي الرَّوْضَة غدوهم ورواحهم فِي غِبْطَة وهناء.
درسوا كتاب الله حكما وَحِكْمَة حَتَّى غَدَتْ آيَاته لمرضى الصُّدُور شِفَاء، وتكشفت حجب الْمعَانِي فانجلت من تحتهَا أشمس وضياء.
وترسموا سنَن النَّبِي مُحَمَّد، وكذاك سنة الْخُلَفَاء، وَكَذَا الصَّحَابَة والتابعون
1 / 20
فَإِنَّهُم لَهُم بهم أُسْوَة واقتداء. فهم النُّجُوم فِي ليل السرى، وهم الهداة لطَالب الْهدى وأدلاء، وهم الْأَئِمَّة قدوة الْأمة وعَلى الدّين أُمَنَاء.
وَنحن بِالْمَدِينَةِ وَفِي هَذَا الْجوَار الْكَرِيم أَشد إحساسًا بمكانة الْعلم ومنزلة الْعلمَاء، وأسرع فَرحا بهم وَأَشد حزنا على مَوْتهمْ وألمًا لفراقهم، إِن فِي موت الْعلمَاء لغربة للغرباء.
وَلَا شكّ أَن هَذِه الآلام تزداد وَهَذَا الْحزن يشْتَد أَكثر وَأكْثر حينما نَكُون قد عرفنَا هَذَا الْعَالم أَو عاصرناه ولمسنا فَضله واستفدنا علمه.
وَهَذَا الْقدر كلنا فِيهِ سَوَاء نَحْو عُلَمَاء الْمُسلمين عَامَّة وَشَيخنَا الْأمين خَاصَّة.
وَإِنِّي كَأحد أبنائه وَمن جملَة تلاميذه أَقف الْيَوْم معزيا متعزيًا. ومترجمًا مترحمًا وَقد عظم الْمُصَاب وَعز فِيهِ العزاء.
وَلَو اسْتحق أحد التَّعْزِيَة لشخصه لاستحقها ثَلَاثَة أشخاص: الشَّيْخ عبد الْعَزِيز بن باز لزمالته ٢١ سنة وَمَاله عِنْده من منزلَة، وَالشَّيْخ عبد الْعَزِيز بن صَالح أول من عرفه وتسبب فِي جُلُوسه، وَصَاحب السمو الملكي الْأَمِير عبد الله بن عبد الرَّحْمَن لمحبته وَتَقْدِيره.
نعم أَقف معزيا متعزيًا مترجمًا مترحمًا كَمَا قَالَ القَاضِي عِيَاض عَن بعض مشايخه "مَا لكم تأخذون الْعلم عَنَّا وتستفيدون منا، ثمَّ تذكروننا فَلَا تترحمون علينا"، إِنَّه ربط أصيل بَين الْعلم والعالم وتنبيه أكيد على أَن الِاعْتِرَاف بِفضل الْعَالم شكر وَتَقْدِير لنَفس الْعلم. رحم الله شَيخنَا رَحْمَة وَاسِعَة ورحم الله عُلَمَاء الْمُسلمين فِي كل زمَان وَمَكَان.
وَقد قَامَ الْخلف بِحَق السّلف فِي حفظ تاريخهم بالترجمة لَهُم خدمَة لتراثهم وإحياء لذكرهم وَمَا أثر عَن السخاوي أَنه قَالَ: "من ورخ مُؤمنا فَكَأَنَّمَا أَحْيَاهُ". أَي من ترْجم لَهُ وأرخه وَهَا هم عُلَمَاء الْأمة يعايشون كل جيل بسيرتهم وتاريخهم فِي أُمَّهَات الْكتب.
1 / 21
وَإِنِّي لاعتقد حَقًا أَن تراجم الرِّجَال مدارس الأجيال أَي فِي علومهم ومعالم حياتهم.
وَإِن مثل شَيخنَا الْأمين رَحْمَة الله لحقيق بتخليده بترجمته والاستفادة من مَنْهَج حَيَاته فِي تعلمه وتعليمه.
وَإِنِّي لأستعين الله فِيمَا أقدم وأستلهمه فِيمَا أَقُول:
إِلَى رَحْمَة الله وَحسن جواره فقيد الْعلم يَا علم الرِّجَال، نعاك الْعلم فِي حلق السُّؤَال. نعم فقيد الدَّرْس يَا علم الرِّجَال، نعاك الدَّرْس فِي فصل الْمقَال. انْتقل إِلَى رَحْمَة الله وَحسن جواره صَاحب الْفَضِيلَة وَعلم الْأَعْلَام الشَّيْخ الْجَلِيل وَالْإِمَام الْهمام زكي النَّفس رفيع الْمقَام كريم السجايا ذُو الْخلق الرزين، عف الْمقَال حميد الْخِصَال، التقي الْأمين والدنا الشَّيْخ مُحَمَّد الْأمين الشنقيطي. توفّي ضحى يَوْم الْخَمِيس ١٧ - ١٢ - ٩٣هـ وَكَانَت وَفَاته بِمَكَّة المكرمة مرجعه من الْحَج وَدفن بمقبرة المعلاة وَصلى الله عَلَيْهِ سماحة رَئِيس الجامعة الإسلامية فَضِيلَة الشَّيْخ عبد الْعَزِيز بن عبد الله بن باز فِي الْحرم الْمَكِّيّ مَعَ من حضر من الْمُسلمين بعد صَلَاة الظّهْر من ذَلِك الْيَوْم. وَفِي لَيْلَة الْأَحَد ٢٠ - ١٢ أُقِيمَت عَلَيْهِ صَلَاة الْغَائِب بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيّ وَصلى عَلَيْهِ صَاحب الْفَضِيلَة الشَّيْخ عبد الْعَزِيز بن صَالح آل صَالح إِمَام وخطيب الْمَسْجِد النَّبَوِيّ وَرَئِيس الدَّوَائِر الشَّرْعِيَّة بِالْمَدِينَةِ ومحاكم منْطقَة الْمَدِينَة بعد صَلَاة الْعشَاء مُبَاشرَة وَصلى عَلَيْهِ من حضر من الْحجَّاج مَا لَا يُحصى عددا. وَمن غَرِيب الصدف وَحسن التفاؤل أَن يقْرَأ الإِمَام فِي صَلَاة الْعشَاء قَوْله تَعَالَى ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا﴾ إِلَى آخر السُّورَة، وَفِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾ .
إِلَى رَحْمَة الله وَحسن جواره فقيد الْعلم يَا علم الرِّجَال، نعاك الْعلم فِي حلق السُّؤَال. نعم فقيد الدَّرْس يَا علم الرِّجَال، نعاك الدَّرْس فِي فصل الْمقَال. انْتقل إِلَى رَحْمَة الله وَحسن جواره صَاحب الْفَضِيلَة وَعلم الْأَعْلَام الشَّيْخ الْجَلِيل وَالْإِمَام الْهمام زكي النَّفس رفيع الْمقَام كريم السجايا ذُو الْخلق الرزين، عف الْمقَال حميد الْخِصَال، التقي الْأمين والدنا الشَّيْخ مُحَمَّد الْأمين الشنقيطي. توفّي ضحى يَوْم الْخَمِيس ١٧ - ١٢ - ٩٣هـ وَكَانَت وَفَاته بِمَكَّة المكرمة مرجعه من الْحَج وَدفن بمقبرة المعلاة وَصلى الله عَلَيْهِ سماحة رَئِيس الجامعة الإسلامية فَضِيلَة الشَّيْخ عبد الْعَزِيز بن عبد الله بن باز فِي الْحرم الْمَكِّيّ مَعَ من حضر من الْمُسلمين بعد صَلَاة الظّهْر من ذَلِك الْيَوْم. وَفِي لَيْلَة الْأَحَد ٢٠ - ١٢ أُقِيمَت عَلَيْهِ صَلَاة الْغَائِب بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيّ وَصلى عَلَيْهِ صَاحب الْفَضِيلَة الشَّيْخ عبد الْعَزِيز بن صَالح آل صَالح إِمَام وخطيب الْمَسْجِد النَّبَوِيّ وَرَئِيس الدَّوَائِر الشَّرْعِيَّة بِالْمَدِينَةِ ومحاكم منْطقَة الْمَدِينَة بعد صَلَاة الْعشَاء مُبَاشرَة وَصلى عَلَيْهِ من حضر من الْحجَّاج مَا لَا يُحصى عددا. وَمن غَرِيب الصدف وَحسن التفاؤل أَن يقْرَأ الإِمَام فِي صَلَاة الْعشَاء قَوْله تَعَالَى ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا﴾ إِلَى آخر السُّورَة، وَفِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾ .
1 / 22
وَقد سَأَلت فضيلته عَن هَذِه الْقِرَاءَة أهوَ قَاصد لهَذِهِ الْآيَات ومختار لَهَا أم جَاءَت عفوا، فَقَالَ حفظه الله بل عفوا فَمَا الملاحظة عَلَيْهَا؟ قلت إِنَّهَا من أغرب الصدف لِأَنَّك صليت على الشَّيْخ الْأمين ﵀ بعْدهَا فَظَنَنْت أَنَّك قصدت إِلَيْهَا، وَلكنه من المناسبات الْحَسَنَة تغمد الله الفقيد برحمته وَأَسْكَنَهُ فسيح جنته إِنَّه جواد كريم رؤوف رَحِيم، كَمَا صلي عَلَيْهِ بالجامعة الإسلامية وَفِي مَسَاجِد الدوادمي.
مَاتَ رَحمَه الله تَعَالَى بعد أَن أَحْيَا علومًا درست، وَخلف تراثًا بَاقِيا، وربى أَفْوَاجًا متلاحقة تعد بالآلاف من خريجي كليات ومعاهد الإدارة الْعَامَّة بالرياض والجامعة الإسلامية بِالْمَدِينَةِ المنورة.
مَا مَاتَ إِلَّا بعد أَن أصبح لَهُ فِي كل دَائِرَة من دوائر الْحُكُومَة فِي أنحاء الْبِلَاد ابْنا من أبنائه، وَفِي كل قطر إسلامي بعثة من البعثات الإسلامية لمنح الجامعة الإسلامية التعليمية بِالْمَدِينَةِ المنورة.
مَا مَاتَ إِلَّا بعد أَن ترك فِي كل مكتبة وَفِي كل منزل (أضواء الْبَيَان) تبدد الظلام وتهدي السَّبِيل.
فَلَا يبعد وَلَا يغالي من يَقُول مَا مَاتَ من خلف هَذَا التراث وَأدّى تِلْكَ الرسَالَة فِي حَيَاته يبْقى أثرا خَالِدا لَهُ على مر الأجيال والقرون.
لقد أدّى رِسَالَة عظمى وانتقل إِلَى الرفيق الْأَعْلَى، ليحصد مَا زرع ويجني ثمار مَا غرس وينعم بِمَا قدم ﵀ رَحْمَة وَاسِعَة.
لقد عَاشَ ﵀ فِي هَذِه الْبِلَاد مُنْذُ سِنِين حِين قدم لأَدَاء فَرِيضَة الْحَج ثمَّ اعتزم الْمقَام وَعمل فِي كبريات معاهد الْعلم وجامعاته وَألف وحاضر وَلم تُكتب عَنهُ كلمة وَلم يكن يرضى بِالْكِتَابَةِ عَنهُ. لقد كَانَت أَعماله تترجم عَنهُ ومؤلفاته تعرف بِهِ حَتَّى عرفه الصَّغِير وَالْكَبِير والقاصي والداني والعالم والعامي، فَلم تكن وَفَاته رزءًا على فَرد أَو أسرة أَو جمَاعَة أَو قطر وَلَكِن على الْعَالم الإسلامي كُله.
1 / 23
وَمَا كتبت عَنهُ سوى كلمة موجزة استقيتها مِنْهُ ﵀ عِنْد طبع أول محاضرة لَهُ بالجامعة الإسلامية فِي آيَات الصِّفَات وطبعت فِي مقدمتها.
وَمَات ﵀ وَلم تكْتب عَنهُ أَيْضا إِلَّا تَعْرِيف موجز بالنشأة والمولد وَمَا إِلَى ذَلِك.
والآن وَقد تحتمت الْكِتَابَة عَنهُ لَا تعريفًا بِهِ فَهُوَ أعرف من أَن يُعرف فَهُوَ الْعلم الخفاق والطود الأشم وَالشَّمْس المشرقة فَلَيْسَتْ الْكِتَابَة للتعريف وَلَكِن لرسم خطاه وَبَيَان منهجه مِمَّا سَمِعت مِنْهُ ﵀ ولمسته من حَياتِي مَعَه الْمدَّة الطَّوِيلَة، وَإِنِّي لأسجل هَذَا عَنهُ ﵀ للقريب والبعيد لكل من عرفه عَالما وَلم يعرفهُ طَالبا، أَو عرفه هُنَا وَلم يعرفهُ هُنَاكَ فِي بِلَاده فَأَقُول أَولا: إِنِّي لَا أَسْتَطِيع إِيفَاء الْمقَام حَقه لعظم مقَامه ﵀ وكبير مَنْزِلَته وَإِن كل كِتَابَة عَن أَي شخص تعْتَبر ذَات جانبين:
جَانب تَرْجَمَة لَهُ وَبَيَان لحقيقته وتعريف بشخصه ومنزلته، وجانب سيرته ومنهجه بِمَا يُمكن أَن يكون نهجًا يُسار عَلَيْهِ ومنهجًا يُقتدى بِهِ ومؤثر يُؤثر على غَيره مِمَّن أَرَادَ السّير فِي سَبيله والنسج على منواله والاستفادة من أَقْوَاله وأفعاله.
وَالْكِتَابَة عَن أَي شخص من هذَيْن الْجَانِبَيْنِ تعْتَبر بِمَثَابَة شخصيته فِي إبراز صورته وَبَيَان مكانته وفيهَا تقييمه فِي عَظمته أَو توسطه أَو غير ذَلِك، وَأي عَالم أَو طَالب علم فَإِن لَهُ شخصية مزدوجة فِي حَيَاته الْعَامَّة وسلوكه الْعَام، وحياته الْخَاصَّة فِي طلب الْعلم ومنهجه فِي تَحْصِيله ونشره وَالْكِتَابَة بِهَذَا الِاعْتِبَار تكون عَن التَّرْجَمَة الشخصية، والسيرة العلمية.
وَقد ملئت المكتبات الإسلامية بتراجم وسير الْأَعْلَام من الرِّجَال من عصر الصَّحَابَة ﵃ إِلَى عصور التدوين وامتدت إِلَى الْيَوْم حفظا للتراث الإسلامي وتسجيل للرعيل الأول، وَلم تكن الْكِتَابَة عَن أَي شخص وافية كَامِلَة إِلَّا بِتَعَدُّد الْكتاب عَنهُ، وتستخلص الْحَقِيقَة من مَجْمُوع مَا كُتب عَنهُ لِأَن كل كَاتب عَن أَي شخص لن يَخْلُو من أحد أُمُور ثَلَاثَة:
1 / 24
١ - إِمَّا موَالٍ متأثر: فقد يَقع تَحت تَأْثِير العاطفة فَينْظر من زَاوِيَة وَاحِدَة، فَيُقَال فِيهِ "وَعين الرِّضَا عَن كل عيب كليلة".
٢ - وَإِمَّا معاد منفعل: فَيَقَع تَحت طائلة الانفعال فَيصدق عَلَيْهِ تَتِمَّة الْبَيْت السَّابِق "كَمَا أَن عين السخط تبدي المساويا".
٣ - وَإِمَّا بعيد معتدل: يرغب التقييم بميزان الِاعْتِدَال، وَمثل هَذَا قد يفوتهُ مَا لم يكن حَرِيصًا عَلَيْهِ بِدُونِ تَقْصِير.
وَمن هُنَا لم تكن كِتَابَة كَاتب عَن إِنْسَان مَا مُطَابقَة كل التطابق ومكتملة غَايَة الاكتمال.
وَقد يتحرج الأصدقاء مَخَافَة التُّهْمَة والتأثر بالألفة أَو يتَوَقَّف الْأَعْدَاء مكتفين بالإغضاء، أَو يتَرَدَّد الْآخرُونَ خشيَة التَّقْصِير، وَلِهَذَا فقد تذْهب الشخصية الفذة دون كِتَابَة عَنْهَا فيفتقده الْحَاضِرُونَ ويفقد سيرته القادمون، علما بِأَن سيرة الرِّجَال مدرسة الأجيال.
وفضيلة الْوَالِد الشَّيْخ مُحَمَّد الْأمين ﵀ لَهُ شخصية متميزة وسيرة وَاضِحَة يعرفهَا كل من لقِيه أَو حضر مَجْلِسه أَو اسْتمع درسه أَو قَرَأَ كتبه أَو حَتَّى سمع عَنهُ، وَقد طبقت شهرته الْآفَاق.
وَإِن الْكِتَابَة عَن مثله ﵀ لمن أشق مَا يكون لتَعَدد جَوَانِب الشخصية وانفساح مجالاته العلمية، وَالْحَال أَنه لَا مرجع لمن يكْتب عَنهُ إِلَّا الْخلطَة وَطول الْعشْرَة وتصيد الْأَخْبَار من ذويه الأخيار.
وَحَيْثُ أَن أَحَق النَّاس بِالْكِتَابَةِ عَنهُ هم تلاميذه وأبناؤه، وَإِنِّي وَإِن كنت قد أكرمني الله بِصُحْبَتِهِ وَطول ملازمته ليل نَهَار وَكَثْرَة مرافقته فِي الظعن والأسفار، دَاخل وخارج المملكة، وَسمعت مِنْهُ ﵀ الشَّيْء الْكثير وَالْكثير جدا فَإِنِّي لأجدني تتجاذبني عوامل الْإِقْدَام والإحجام، فَإِذا استحضرت كل مَا سمعته مِنْهُ وتصورت كل مَا لمسته فِيهِ أجدني أَحَق النَّاس بِالْكِتَابَةِ عَنهُ.
وَإِذا تذكرت مكانته وتراءت لي مَنْزِلَته وأحسست تَأْثِيره على نَفسِي
1 / 25
تلاشت من ذهني كل مَعَاني الْكِتَابَة أَمَام تِلْكَ الشخصية المثالية تراجعت بَعيدا عَن ميادين الْكِتَابَة عَنهُ.
وَلَكِن إِذا كَانَ كل كَاتب لَا يَسْتَطِيع تقييم كل شخصية تقييمًا حَقِيقِيًّا يدل على الشَّخْص دلَالَة مطابقية وَفِي أسلوب الْمُسَاوَاة، لَا موجزًا وَلَا مطنبًا، إِذا كَانَ هَذَا حَال كل كَاتب مَعَ كل شخص.
وَإِذا كَانَ تلميذ الشَّيْخ أَحَق بِالْكِتَابَةِ عَنهُ فَمَالِي لَا أدلي بدلوي بالدلاء وأعمل قلمي مَعَ الأقلام، وأبدي مَا عِنْدِي سَوَاء مَا سمعته مِنْهُ مُبَاشرَة أَو عَنهُ بِوَاسِطَة، أَو لمسته من جَوَانِب حَيَاته وَسيرَته.
دون انطلاق مَعَ العاطفة إِلَى حد الإطناب، وَدون إحجام مَعَ الوجل والتهيب والوجل إِلَى حد الإيجاز. إِنَّه لشيخي وأعز عَليّ من وَالِدي.
إِنَّه حَقًا وَالِدي حسا وَمعنى لقد عِشْت فِي كنفه سنوات مَعَه فِي بَيته وَقد يظلنا سقف وَاحِد فِي غرفَة وَاحِدَة أمدًا طَويلا.
وَقد وجدت مِنْهُ رَحْمَة الله الْعِنَايَة وَالرِّعَايَة كَأحد أبنائه كأشد مَا يرْعَى الْوَالِد وَلَده، وَقد أجد مِنْهُ الإيثار على نَفسه فِي كثير من أحيانه مِمَّا يطول ذكره وَلَا يُنسى فَضله.
وأعز من الإيثار مَا منحني من الْعُلُوم والْآثَار، والتوجيه الأدبي وَالْفضل الخلقي والسمو النَّفْسِيّ فِي مجالسه وَأَحَادِيثه ودروسه من غير مَا حد وَبِدُون تقيد بِوَقْت إِذْ كَانَ ﵀ كل مجالسه مجَالِس علم وكل أَحَادِيثه أَحَادِيث أدب وتوجيه، وَلم يكن يحْتَاج إِلَى تحضير لدرس وَلَا مُرَاجعَة لجواب على سُؤال.
وَلم يكن لي مَعَه ﵀ من وَقت معِين مَعَ كَثْرَة الإخوان الدارسين عَلَيْهِ المقيمين مَعَه فِي بَيته إِلَّا وَقت وَاحِد هُوَ مَا بَين الْمغرب وَالْعشَاء لمُدَّة سنتَيْن دراسيتين وَنحن بالرياض، قَرَأت فِي خلالها تَفْسِير سُورَة الْبَقَرَة.
كَانَت تِلْكَ الدراسة عَلَيْهِ ﵀ هِيَ رَأس مَالِي فِي جلّ تحصيلي وَعَلَيْهَا أساس دراستي الْحَقِيقِيَّة سَوَاء فِي المقررات أَو غَيرهَا، لِأَن فِيهَا جَمِيع أَبْوَاب
1 / 26
الْفِقْه، وعَلى مباحثها تنطبق جلّ قَوَاعِد الْأُصُول، وَلَا يبعد من يَقُول إِن مَا بعْدهَا من السُّور يُعتبر تَفْسِيرا لَهَا أَو أَن من أتقن تَفْسِيرهَا سهل عَلَيْهِ تَفْسِير مَا بعْدهَا، وَقد كَانَت دراستها سَببا فِي تأليف كتابي دفع إِيهَام الِاضْطِرَاب، وأضواء الْبَيَان، وكل مِنْهُمَا إِثْر سُؤال وَجَوَاب.
مَعَ مَا درست من الْأُصُول ومبادئ فِي الْمنطق ودقائق فِي البلاغة وَغير ذَلِك.
لقد وجدت مِنْهُ ﵀ مَا لم أَجِدهُ من غَيره على الْإِطْلَاق كَمَا وأظن أَن أحدا لم يجد مِنْهُ مَا وجدته أَنا مِنْهُ، فلئن شرفت بخدمته فَلَقَد حظيت بِصُحْبَتِهِ فجزاه الله عني أحسن الْجَزَاء.
وَإِن صَاحب مثل هَذِه العلاقة مَعَ مثل هَذِه الشخصية ليحس بثقل دُيُونه على كَاهِله ويلمس عظم الْمِنَّة تطوق عُنُقه، فَهَل أَسْتَطِيع تَوْفِيَة هَذَا الْجَانِب فَحسب فضلا عَن الجوانب الْعَامَّة الَّتِي هِيَ مَوْضُوع التَّرْجَمَة والسيرة، وَهل يَتَأَتَّى مني الإحجام عَن الْكِتَابَة وَأَنا مَدين بِمثل تِلْكَ الدُّيُون مكبل بِتِلْكَ المنن مِمَّا يَجْعَلنِي أَحَق بقول الْقَائِل:
كليني لَهُم يَا أُمَيْمَة ناصب ... وليل أقاسيه بطيئ الْكَوَاكِب
تطاول حَتَّى قلت لَيْسَ بمنقص ... وَلَيْسَ الَّذِي يرْعَى النُّجُوم بآيب
وَصدر أراح اللَّيْل عَازِب همه ... تضَاعف فِيهِ الْحزن من كل جَانب
عَليّ لعمر نعْمَة بعد نعْمَة ... لوالده لَيست بِذَات عقارب
وَلَئِن قيل:
وتجلدي للشامتين أريهمو ... أَنِّي لريب الدَّهْر لَا أتضعضع
فَإِنِّي لأقول:
وتجلدي للسامعين أريهمو ... شمس الْحَقِيقَة من سناه تطلع
وَإِنِّي مُلْزم بِالْكِتَابَةِ وَلَو تأثرت بالعاطفة فَإِنِّي مَعْذُور:
وَإِن قصرت عَن حَقه فَلَا عذر لي فِي التَّقْصِير.
1 / 27
وَإِنِّي لأعتبر مَا أقدمه بداية لَا نِهَايَة وَتَذْكِرَة للآخرين من حاضرين وغائبين لَعَلَّهُم يتمون مَا بَقِي، ويكملون مَا نقص.
وَإِذا كَانَت التراجم وَالسير تَنْقَسِم إِلَى ذاتية وَغير ذاتية، والذاتية هِيَ مَا يَكْتُبهَا الشَّخْص عَن نَفسه من طفولته إِلَى رجولته، ويسجل مَا جرى لَهُ وَعَلِيهِ، وَهِي أصدق مَا تكون إِن كَانَ صَاحبهَا معتدلًا أَمينا.
وَقد ترْجم بعض الْعلمَاء والفلاسفة لأَنْفُسِهِمْ مِنْهُم:
١ - ابْن سينا الْمُتَوفَّى سنة ٤٢٨ كَانَت تَرْجَمته لنَفسِهِ مرجعًا لكل من كتب عَنهُ من تلاميذه.
٢ - والعماد الْأَصْفَهَانِي الْمُتَوفَّى سنة ٥٩٧ فِي مُقَدّمَة كِتَابه (الْبَرْق الشَّامي) .
٣ - وَابْن الْخَطِيب الْمُتَوفَّى سنة ٧٧٦.
٤ - وَابْن خلدون، الْمُتَوفَّى ٨٠٥، والسيوطي وَغَيرهم.
والترجمة غير الذاتية مَا يكْتب غَيره عَنهُ.
وَإِن مَا أقدمه فِي هَذَا المجال ليجمع بَين الْقسمَيْنِ الذاتي وَغير الذاتي لِأَنَّهُ يشْتَمل على مَا قَالَه هُوَ عَن نَفسه وسمعته مِنْهُ مُبَاشرَة، كَمَا تشْتَمل على مَا عَرفته ولمسته من حَيَاته مُدَّة صحبتي لَهُ.
وَالله أسأَل أَن يَجْعَل من سيرته خير قدوة لتلامذته، وَأَن يَجْعَل فِي ولديه خير خلف لخير سلف، وَأَن يأجرنا فِي مُصِيبَتنَا ويخلفنا خيرا مِنْهَا، ونسأله تَعَالَى أَن يتغمده بوافر رَحمته ويسكنه فسيح جنته وَأَن يجزل لَهُ الْعَطاء ويجزيه أحسن الْجَزَاء عَمَّا بذله من جهد، وَخَلفه من علم. إِنَّه جواد كريم (إِن أول مَا يبْدَأ بِهِ فِي مثل هَذَا الْمقَام لَهو الِاسْم واللقب وَالنّسب والنشأة والموطن) ...الخ.
وَهَذِه تَرْجَمته ﵀ كَمَا سَمعتهَا مِنْهُ مُبَاشرَة: الِاسْم: هُوَ مُحَمَّد الْأمين، وَهُوَ علم مركب من اسْمَيْنِ وَذكر مُحَمَّد تبرك. واللقب: آبا. بِمد الْهمزَة وَتَشْديد الْبَاء من الإباء.
وَهَذِه تَرْجَمته ﵀ كَمَا سَمعتهَا مِنْهُ مُبَاشرَة: الِاسْم: هُوَ مُحَمَّد الْأمين، وَهُوَ علم مركب من اسْمَيْنِ وَذكر مُحَمَّد تبرك. واللقب: آبا. بِمد الْهمزَة وَتَشْديد الْبَاء من الإباء.
1 / 28
وَاسم أَبِيه: مُحَمَّد الْمُخْتَار بن عبد الْقَادِر بن مُحَمَّد بن أَحْمد نوح بن مُحَمَّد بن سَيِّدي أَحْمد ابْن الْمُخْتَار من أَوْلَاد أَوْلَاد الطَّالِب أوبك وَهَذَا من أَوْلَاد أَوْلَاد كرير بن الموافي بن يَعْقُوب بن جاكن الابر جد الْقَبِيلَة الْكَبِيرَة الْمَشْهُورَة الْمَعْرُوفَة بالجكنيين. ويُعرفون بتجكانت.
نسب الْقَبِيلَة: وَيرجع نسب هَذِه الْقَبِيلَة إِلَى حمير، كَمَا قَالَ الشَّاعِر الموريتاني مُحَمَّد فال ولد الْعَينَيْنِ مستدلا بفصاحتهم على عروبتهم:
إِنَّا بَنو حسن دلّت فصاحتنا ... أَنا إِلَى الْعَرَب الأقحاح ننتسب
إِن لم تقم بَيِّنَات أننا عرب ... فَفِي (اللِّسَان) بَيَان أننا عرب
أنظر إِلَى مَا لنا من كل قافية ... لَهَا تذم شذور الزبرج القشب
وبيّن شَاعِر آخر مرجع تِلْكَ الْقَبِيلَة إِلَى حمير بقوله:
يَا قَائِلا طاعنًا فِي أننا عرب ... قد كذبتك لنا لسن وألوان
وسم الْعرُوبَة بادٍ فِي شَمَائِلنَا ... وَفِي أوائلنا عز وإيمان
أساد حمير والأبطال من مُضر ... حمر السيوف فَمَا ذلوا وَلَا هانوا
لقد كَانَت خَصَائِص الْعرُوبَة ومميزاتها موفورة لَدَى الشَّيْخ ﵀ ولدى أَهله وَذَوِيهِ فِي النّظم وَفِي النثر، كَمَا توفرت الْعُلُوم والفنون فِي بَيته وقبيلته: وَقد بيّن أحد شعرائهم أَصَالَة الْعرُوبَة فيهم وارتضاعهم إِيَّاهَا من أمهاتهم فِي قَوْله يُخَاطب من ينكرها عَلَيْهِم:
لنا الْعرُوبَة الفصحى وَإِنَّا ... أَحَق الْعَالمين بهَا اضطلاعا
عَن الْكتب اقتبستموها انتفاعا. ... بِمَا فِيهَا ونرضعها ارتضاعا
المولد: ولد ﵀ فِي عَام ١٣٢٥هـ.
الموطن: كَانَ مسْقط رَأسه ﵀ عِنْد مَاء يُسمى (تَنْبه) من أَعمال مديرية (كيفا) من الْقطر الْمُسَمّى بشنقيط وَهُوَ دولة موريتانيا الإسلامية الْآن
1 / 29
علما بِأَن كلمة شنقيط كَانَت وَلَا تزَال اسْما لقرية من أَعمال مديرية أطار فِي أقْصَى موريتانيا فِي الشمَال الغربي.
نشأته ﵀: وَقبل الحَدِيث عَن نشأته يحسن إيجاز نبذة عَن البيئة فِي تِلْكَ الْبِلَاد:
تعْتَبر الْحَيَاة الاجتماعية فِي تِلْكَ الْبِلَاد بِحَسب المواطنين قسمَيْنِ عرب وعجم والعربية لُغَة الْجَمِيع، أما الْعَمَل فالعجم أَكثر أَعْمَالهم الزِّرَاعَة والصناعة وسلالتهم من الزنوج.
وَأما الْعَرَب فقسمان: طلبة وَغير الطّلبَة، والطلبة من يغلب عَلَيْهِم طلب الْعلم وَالتِّجَارَة وَغَيرهم من يغلب عَلَيْهِم التِّجَارَة والإغارة. وهم قبائل عدَّة وَمن الْقَبَائِل من يغلب عَلَيْهَا الطّلب وَمِنْهَا من يغلب عَلَيْهَا الإغارة والقتال.
وقبيلة الجكنيين خَاصَّة قد جمعت بَين طلب الْعلم وفروسية الْقِتَال مَعَ عفة عَن أَمْوَال النَّاس، وَفِي هَذَا الجو كَانَ طلب الْعلم على قدم وسَاق سَوَاء فِي حلهم أَو ترحالهم كَمَا قَالَ بعض مشايخهم الْعَلامَة الْمُخْتَار بن بونا:
وَنحن ركب من الْأَشْرَاف مُنْتَظم. ... أجل ذَا الْعَصْر قدرا دون أدنانا
قد اتخذنا ظُهُور العيس مدرسة ... بهَا نبين دين الله تبيانا
أما كرم الطَّبْع فَهَذَا سجية فِي جَمِيعهم وَأمر يشب فِيهِ الصَّغِير ويشيب عَلَيْهِ الْكَبِير، وَقد ألفوا الضَّيْف لنجعة مَنَازِلهمْ وَمن عاداتهم إِذا نزل وَفد على بَيت فَإِن أهل هَذَا الْمنزل يرسلون لأهل بَيت المضيف مِمَّا عِنْدهم قل أَو كثر مُشَاركَة فِي قرى الضَّيْف وتعاونًا مَعَ المضيف حَتَّى لَو كَانَ معدمًا غَدا واجدًا ويرحل الْوَفْد وَهُوَ فِي غَايَة الرِّضَا. وَهَكَذَا دواليك.
وَفِي هَذَا الجو وَتلك البيئة نَشأ ﵀ كَمَا سمعته يَقُول: "توفّي وَالِدي وَأَنا صَغِير أَقرَأ فِي جُزْء عمّ وَترك لي ثروة من الْحَيَوَان وَالْمَال، وَكَانَت سكناي
1 / 30
فِي بَيت أخوالي وَأمي ابْنة عَم أبي وحفظت الْقُرْآن على خَالِي عبد الله بن مُحَمَّد الْمُخْتَار بن إِبْرَاهِيم بن أَحْمد نوح جد الْأَب الْمُتَقَدّم".
طلبه للْعلم: حفظ الْقُرْآن فِي بَيت أَخْوَاله على خَاله عبد الله كَمَا تقدم وعمره عشر سنوات.
قَالَ ﵀: "ثمَّ تعلمت رسم الْمُصحف العثماني (الْمُصحف الْأُم) على ابْن خَالِي سَيِّدي مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد الْمُخْتَار، وقرأت عَلَيْهِ التجويد فِي مقرأ نَافِع بِرِوَايَة ورش من طَرِيق أبي يَعْقُوب الْأَزْرَق وقالون من رِوَايَة أبي نشيط وَأخذت عَنهُ سندًا بذلك إِلَى النَّبِي ﷺ وَذَلِكَ وعمري سِتَّة عشر سنة".
أَنْوَاع الدراسة فِي الْقُرْآن: تعْتَبر الدراسة فِي عُلُوم الْقُرْآن منهجًا متكاملًا لَا تقتصر على الْحِفْظ وَالْأَدَاء بل تتَنَاوَل معرفَة رسم الْمُصحف أَي نوع كِتَابَته مَا كَانَ مَوْصُولا أَو مَفْصُولًا وَمَا رسم فِيهِ الْمَدّ أَو كَانَ يمد بِدُونِ وجود حرف الْمَدّ وَقد يكون حرفا صَغِيرا أَو نَحْو ذَلِك.
ثمَّ ضبط مَا فِيهِ من منشأيه فِي الرَّسْم أَو التِّلَاوَة وَمن الْمَشْهُور عِنْدهم فِي هَذَا الرجز (مُحَمَّد ابْن بِوَجْه) الْمَشْهُور الْمَعْرُوف بالبحر تعرض فِيهِ لكل كلمة جَاءَت فِي الْقُرْآن مرّة وَاحِدَة أَو مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاث مَرَّات إِلَى سبع وَعشْرين مرّة أَي من الْكَلِمَات المشتبهة وأفرد كل عدد بفصل فمثلًا: كلمة (أَعينهم) بِالرَّفْع جَاءَت ثَلَاث مَرَّات قَالَ فِيهَا:
أَعينهم بِالرَّفْع من غير حُضُور ... من بعد كَانَت وتولت وتدور
وَمن الثنائي: كلمة (الأشياع) بِالْعينِ قَالَ فِيهِ:
أشياع بِالْعينِ فَهَل من مدكر ... فِي سبأ من قبل بِأَنَّهُم ذكر
وَقد درس هَذَا كُله فِي طفولته وَكَانَت لَهُ زِيَادَة نظم على ذَلِك تذييلا لزِيَادَة الْفَائِدَة كَمَا قَالَ: على الْبَيْت الْأَخير مُبينًا حركاته وَإِعْرَابه:
1 / 31
فِي سُورَة الْقَمَر خَاطب وانصبا ... وجره وغيبنه فِي سبا
أَي فِي سُورَة الْقَمَر تكون تلاوتها الْخطاب وَالنّصب ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ .
وَفِي سُورَة سبأ تكون تلاوتها بالغيبة والجر ﴿كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ﴾ وَهَذِه دراسة لَا تكَاد تُوجد إِلَّا مَا شَاءَ الله وَهِي من المهام العلمية لحفظها رسم الْقُرْآن من التَّغْيِير والتبديل وَهِي من أثار تعهد الله بِحِفْظ هَذَا الْقُرْآن الْمنزل من عِنْده سُبْحَانَهُ.
ثمَّ قَالَ ﵀: وَفِي أثْنَاء هَذِه الْقِرَاءَة درست بعض المختصرات فِي فقه مَالك كرجز الشَّيْخ ابْن عَاشر وَفِي أَثْنَائِهَا أَيْضا درست دراسة وَاسِعَة فِي الْأَدَب على زَوْجَة خَالِي أم ولد الْخَال أَي أَن ولد خَاله يُعلمهُ الْعُلُوم الْخَاصَّة بِالْقُرْآنِ وَأمه تعلمه الْأَدَب قَالَ أخذت عَنْهَا مبادئ النَّحْو كالأجرومية وتمرينات ودروس وَاسِعَة فِي أَنْسَاب الْعَرَب وأيامهم والسيرة النَّبَوِيَّة ونظم الْغَزَوَات لِأَحْمَد البدوي الشنقيطي وَهُوَ يزِيد على ٥٠٠ بَيْتا وشروحه لِابْنِ أُخْت الْمُؤلف الْمَعْرُوف بحماد ونظم عَمُود النّسَب للمؤلف وَهُوَ يعد بالآلاف وَشَرحه لِابْنِ أُخْته الْمَذْكُور على خُصُوص العدنانيين لِأَنَّهُ مَاتَ قبل شرح مَا يتَعَلَّق بالقحطانيين.
هَذِه دراسته فِي عُلُوم الْقُرْآن وَالْأَدب وَالسير والتاريخ كَانَت فِي بَيت أَخْوَاله على أَخْوَاله وَأَبْنَاء أَخْوَاله وزوجات أَخْوَاله أَي كَانَ بَيت أَخْوَاله الْمدرسَة الأولى إِلَيْهِ، أما بَقِيَّة الْفُنُون فَقَالَ:
١ - أَولا الْفِقْه الْمَالِكِي وَهُوَ الْمَذْهَب السائد فِي الْبِلَاد درست مُخْتَصر خَلِيل بَدَأَ دراسته فِيهِ على الشَّيْخ مُحَمَّد بن صَالح إِلَى قسم الْعِبَادَات ثمَّ درس عَلَيْهِ النّصْف من ألفية ابْن مَالك، ثمَّ أخذت بَقِيَّة الْفُنُون على مَشَايِخ مُتعَدِّدَة، فِي فنون مُخْتَلفَة وَكلهمْ من الجكنيين وَمِنْهُم مشاهير الْعلمَاء فِي الْبِلَاد مِنْهُم:
١ - الشَّيْخ مُحَمَّد بن صَالح الْمَشْهُور بِابْن أَحْمد الأفرم.
٢ - وَالشَّيْخ أَحْمد الأفرم بن مُحَمَّد الْمُخْتَار.
1 / 32
٣ - وَالشَّيْخ الْعَلامَة أَحْمد بن عمر
٤ - والفقيه الْكَبِير مُحَمَّد النِّعْمَة بن زَيْدَانَ
٥ - والفقيه الْكَبِير أَحْمد بن مُودْ
٦ - والعلامة المتبحر فِي الْفُنُون أَحْمد فال بن آدُه
وَغَيرهم من الْمَشَايِخ الجكنيين.
قَالَ ﵀: "وَقد أَخذنَا عَن هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخ كل الْفُنُون: النَّحْو وَالصرْف وَالْأُصُول والبلاغة، وَبَعض التَّفْسِير والْحَدِيث.
أما الْمنطق وآداب الْبَحْث والمناظرة فقد حصلناه بالمطالعة".
هَذَا مَا أملاه عَليّ ﵀ وسجلته عَنهُ.
علما بِأَن الْفَنّ الَّذِي درسه على الْمَشَايِخ أَو مطالعة من الْكتب لم يقْتَصر فِي تَحْصِيله على دراسته بل كَانَ دَائِما يديم النّظر ويواصل التَّحْصِيل حَتَّى غَدا فِي كل مِنْهُ كَأَنَّهُ متخصص فِيهِ بل وَله فِي كل مِنْهُ اجتهادات ومباحث مبتكرة سنلم بهَا إِن شَاءَ الله عِنْد إِيرَاد الْمنْهَج العلمي لدراسته وآثاره العلمية.
منهجه العلمي فِي الدراسة: وَقبل إِيرَاد الْمنْهَج العلمي لَهُ ﵀ فِي دراسته نلم بالمنهج الْعَام السائد فِي بِلَاده لكافة طلبة الْعلم وَطَرِيقَة تَحْصِيله. تعْتَبر طَريقَة الدراسة فِي تِلْكَ الْبِلَاد جُزْءا من حَيَاة الْبَوَادِي حلا وارتحالًا. وَإِذا أَقَامَ أحد الْمَشَايِخ فِي مَكَان توافد عَلَيْهِ الطلاب للدراسة عَلَيْهِ وَمكث حَتَّى يَأْخُذُوا عَنهُ وَقد يُقيم بِصفة دائمة لدوام الدراسة عَلَيْهِ ويُقال لَهُ (المرابط) نظرا لإقامته الدائمة لنشر الْعلم. وَلَا يَأْخُذ المرابط من طلابه شَيْئا وَإِن كَانَ ذَا يسَار ساعد المحتاجين من طلابه وَقد يساعد أهل ذَاك الْمَكَان الغرباء من الطلاب. فينزلون حول بَيته ويبنون لَهُم خيامًا أَو مسَاكِن مُؤَقَّتَة، وَيكون لَهُم مجْلِس علم للدرس والمناقشة والاستذكار.
منهجه العلمي فِي الدراسة: وَقبل إِيرَاد الْمنْهَج العلمي لَهُ ﵀ فِي دراسته نلم بالمنهج الْعَام السائد فِي بِلَاده لكافة طلبة الْعلم وَطَرِيقَة تَحْصِيله. تعْتَبر طَريقَة الدراسة فِي تِلْكَ الْبِلَاد جُزْءا من حَيَاة الْبَوَادِي حلا وارتحالًا. وَإِذا أَقَامَ أحد الْمَشَايِخ فِي مَكَان توافد عَلَيْهِ الطلاب للدراسة عَلَيْهِ وَمكث حَتَّى يَأْخُذُوا عَنهُ وَقد يُقيم بِصفة دائمة لدوام الدراسة عَلَيْهِ ويُقال لَهُ (المرابط) نظرا لإقامته الدائمة لنشر الْعلم. وَلَا يَأْخُذ المرابط من طلابه شَيْئا وَإِن كَانَ ذَا يسَار ساعد المحتاجين من طلابه وَقد يساعد أهل ذَاك الْمَكَان الغرباء من الطلاب. فينزلون حول بَيته ويبنون لَهُم خيامًا أَو مسَاكِن مُؤَقَّتَة، وَيكون لَهُم مجْلِس علم للدرس والمناقشة والاستذكار.
1 / 33
وَقد يكون المرابط مُخْتَصًّا بفن وَاحِد وَقد يدرس عدَّة فنون، فَإِذا كَانَ مُخْتَصًّا بفن وَاحِد فَإِن دروسه تكون فِي هَذَا الْفَنّ موزعة فِي عدَّة أَمَاكِن مِنْهُ بِحَسب مجموعات الطلاب فقد تكون مَجْمُوعَة فِي الْبِدَايَة مِنْهُ ومجموعة فِي النِّهَايَة وَأُخْرَى فِي أَثْنَائِهِ وَهَكَذَا.. فتتقدم كل مَجْمُوعَة على حِدة فتدرس على الشَّيْخ ثمَّ تَأتي الْمَجْمُوعَة الْأُخْرَى وَهَكَذَا.
وَإِذا كَانَ يدرس عدَّة فنون فَإِنَّهُ يقسم طلاب كل فن على النَّحْو الْمُتَقَدّم.
إِفْرَاد الْفُنُون: وَلَا يحِق لطَالب أَن يجمع بَين فنين فِي وَقت وَاحِد بل يدرس فَنًّا حَتَّى يكمله كالنحو مثلا ثمَّ يبْدَأ فِي البلاغة حَتَّى يكملها وَهَكَذَا يبْدَأ مثلا فِي الْفِقْه حَتَّى يفرغ مِنْهُ ثمَّ يبْدَأ فِي الْأُصُول حَتَّى يكمله، سَوَاء درسها على عدَّة مَشَايِخ أَو على شيخ وَاحِد.
طَريقَة الدراسة اليومية: يبْدَأ الطَّالِب بِكِتَابَة الْمَتْن فِي اللَّوْح الخشبي فَيكْتب قدر مَا يَسْتَطِيع حفظه ثمَّ يمحوه ثمَّ يكْتب قدرا أخر حَتَّى يحفظ مقرأ من الْفَنّ حسب التَّقْسِيم الْمَعْهُود فمثلًا النَّحْو تعْتَبر الألفية أَرْبَعَة مقارئ وَيعْتَبر متن خَلِيل فِي الْفِقْه نَحوا من ذَلِك.
فَإِذا حفظ الطَّالِب مقرأ من الْفَنّ تقدم للدراسة فيشرحه لَهُ الشَّيْخ شرحًا وافيًا بِقدر مَا عِنْده من تَحْصِيل دون أَن يفتح كتابا أَو يحضر فِي مرجع ثمَّ يقوم هَؤُلَاءِ للاستذكار فِيمَا بَينهم ومناقشة مَا قَالَه الشَّيْخ وَقد يَأْخُذُونَ بعض الشرّاح لمقابلته على مَا سَمِعُوهُ أَو يرجعُونَ إِلَى بعض الْحَوَاشِي وَلَا يجتازون ذَاك الْمَكَان من الدَّرْس حَتَّى يرَوا أَنهم قد حصلوا كل مَا فِيهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِم من سرعَة أَو إنهاء كتاب بِقدر مَا عَلَيْهِم من فهم وَتَحْصِيل مَا فِي الْبَاب وَقد ذكرُوا عَن بعض الطلاب مِمَّن عرفُوا بالذكاء وَالْقُدْرَة على التَّحْصِيل أَنه كَانَ لَا يزِيد فِي متن خَلِيل على سطرين فَقَط فَقيل لَهُ: "لمَ لَا تزيد وَأَنت قَادر على التَّحْصِيل" فَقَالَ: "لأنني عجلَان لأعود إِلَى أَهلِي". فَقَالُوا لَهُ إِن العجلان يزِيد فِي حِصَّته. فَقَالَ: "أُرِيد أَن أتقن مَا أَقرَأ حَتَّى لَا أحتاج إِلَى إِعَادَة دراسته فأتأخر".
1 / 34
الْحَيَاة الدراسية:
دراسة الشَّيْخ ﵀: على هَذَا الْمنْهَج كَانَت دراسة الشَّيْخ ﵀ إِلَّا أَنه تميز بِبَعْض الْأُمُور قل أَن كَانَت لغيره. نوجز مِنْهَا الْآتِي:
١ - فِي مبدأ دراسته: تقدم أَنه أتيح لَهُ فِي بادئ دراسته مَا لم يتح لغيره حَيْثُ كَانَ بَيت أَخْوَاله مدرسته الأولى، فَلم يرحل فِي بادئ أمره للطلب، وَكَانَ وحيد وَالِديهِ فَكَانَ فِي مَكَان التدلل والعناية.
٢ - قَالَ ﵀ كنت أميل إِلَى اللّعب أَكثر من الدراسة حَتَّى حفظت الْحُرُوف الهجائية وبدأوا يقرئونني إِيَّاهَا بالحركات: با فَتْحة با بِي كسرة بِي بُ ضمة بو وَهَكَذَا ث د ث. فَقلت لَهُم أَو كل الْحُرُوف هَكَذَا قَالُوا نعم فَقلت كفى إِنِّي أَسْتَطِيع قرَاءَتهَا كلهَا على هَذِه الطَّرِيقَة كي يتركونني. فَقَالُوا اقرأها فَقَرَأت بِثَلَاثَة حُرُوف أَو أَرْبَعَة وتنقلت إِلَى آخرهَا بِهَذِهِ الطَّرِيقَة فعرفوا أَنِّي فهمت قاعدتها واكتفوا مني بذلك وتركوني، وَمن ثمَّ حُببت إِلَيّ الْقِرَاءَة.
٣ - وَقَالَ ﵀: وَلما حفظت الْقُرْآن وَأخذت الرَّسْم العثماني وتفوقت فِيهِ على الأقران عُنيت بِي والدتي وأخوالي أَشد عناية وعزموا على تَوَجُّهِي للدراسة فِي بَقِيَّة الْفُنُون، فجهزتني والدتي بجملين أَحدهمَا عَلَيْهِ مركبي وكتبي، وَالْآخر عَلَيْهِ نفقتي وزادي، وصحبني خَادِم وَمَعَهُ عدَّة بقرات وَقد هيئت لي مركبي كأحسن مَا يكون من مركب وملابس كأحسن مَا تكون فَرحا بِي وترغيبًا لي فِي طلب الْعلم، وَهَكَذَا سلكت سَبِيل الطّلب والتحصيل.
تقوم الْحَيَاة الدراسية على أساس منع الكلفة وَتَمام الألفة سَوَاء بَين الطلاب أنفسهم أَو بَينهم وَبَين شيخهم مَعَ كَمَال الْأَدَب ووقار الحشمة، وَقد تتخللها الطّرف الأدبية والمحاورات الشعرية وَمن ذَلِك مَا حَدَّثَنِيهِ ﵀ قَالَ: قدمت على بعض الْمَشَايِخ لأدرس عَلَيْهِ وَلم يكن يعرفنِي من قبل فَسَأَلَ عني من أكون وَكَانَ فِي ملإ من تلامذته فَقلت مرتجلا:
1 / 35
هَذَا فَتى من بني جاكان قد نزلا ... بِهِ الصِّبَا عَن لِسَان الْعَرَب قد عدلا
رمت بِهِ همة علياء نحوكم ... إِذْ شام برق عُلُوم نوره اشتعلا
فجَاء يَرْجُو ركامًا من سحائبه ... تكسو لِسَان الْفَتى أزهاره حللا
إِذْ ضَاقَ ذرعًا بِجَهْل النَّحْو ثمَّ أَبَا ... أَلا يُمَيّز شكل الْعين من فعلا
قد أَتَى الْيَوْم صبا مُولَعا كلفا ... بِالْحَمْد لله لَا أبغي لَهُ بَدَلا
يُرِيد دراسة لامية الْأَفْعَال:
وَقد مضى ﵀ فِي طلب الْعلم قُدمًا وَقد ألزمهُ بعض مشايخه بِالْقُرْآنِ، أَي أَن يقرن بَين كل فنين حرصًا على سرعَة تَحْصِيله وتفرسًا لَهُ فِي الْقُدْرَة على ذَلِك، فَانْصَرف بهمة عالية فِي درس وَتَحْصِيل.
وَقد خاطبه بعض أقرانه فِي أَمر الزواج فَقَالَ فِي ذَلِك وَفِي الْحَث على طلب الْعلم:
دَعَاني الناصحون إِلَى النِّكَاح ... غَدَاة تزوجَتْ بيض الملاح
فَقَالُوا لي تزوج ذَات دلّ ... خلوب اللحظ جائلة الوشاح
تَبَسم عَن نوشرة رقاق ... يمج الراح بِالْمَاءِ القراح
كَأَن لحاظها رشقات نبل ... تذيق الْقلب آلام الْجراح
وَلَا عجب إِذا كَانَت لحاظ ... لبيضاء المحاجر كالرماح
فكم قتلا كميّا ذَا ولاحى ... ضعيفات الجفون بِلَا سلا
فَقلت لَهُم دَعونِي إِن قلبِي ... من العي الصراح الْيَوْم صاحي
ولي شغل بأبكار عذارى ... كَأَن وجوهها ضوء الصَّباح
أَرَاهَا فِي المهارق لابسات ... براقع من مَعَانِيهَا الصِّحَاح.
أَبيت مفكرًا فِيهَا فتضحى ... لفهم الفدم خافضة الْجنَاح
أبحت حريمها جبرا عَلَيْهَا ... وَمَا كَانَ الْحَرِيم بمستباح.
1 / 36
نعم إِنَّه كَانَ يبيت فِي طلب الْعلم مفكرًا وباحثًا حَتَّى يذلل الصعاب وَقد طابق القَوْل الْعَمَل.
حَدثنِي ﵀ قَالَ: جِئْت للشَّيْخ فِي قراءتي عَلَيْهِ فشرح لي كَمَا كَانَ يشْرَح وَلكنه لم يشف مَا فِي نَفسِي على مَا تعودت وَلم يرو لي ظمئي، وَقمت من عِنْده وَأَنا أجدني فِي حَاجَة إِلَى إِزَالَة بعض اللّبْس وإيضاح بعض الْمُشكل وَكَانَ الْوَقْت ظهرا فَأخذت الْكتب والمراجع فطالعت حَتَّى الْعَصْر فَلم أفرغ من حَاجَتي فعاودت حَتَّى الْمغرب فَلم أنته أَيْضا فَأوقد لي خادمي أعوادًا من الْحَطب أَقرَأ على ضوئها كعادة الطلاب وواصلت المطالعة وأتناول الشاهي الْأَخْضَر كلما مللت أَو كسلت وَالْخَادِم بِجوَارِي يُوقد الضَّوْء حَتَّى انبثق الْفجْر وَأَنا فِي مجلسي لم أقِم إِلَّا لصَلَاة فرض أَو تنَاول طَعَام وَإِلَى أَن ارْتَفع النَّهَار وَقد فرغت من درسي وَزَالَ عني لبسي وَوجدت هَذَا الْمحل من الدَّرْس كَغَيْرِهِ فِي الوضوح والفهم فَتركت المطالعة ونمت وأوصيت خادمي أَن لَا يوقظني لدرسي فِي ذَلِك الْيَوْم اكْتِفَاء بِمَا حصلت عَلَيْهِ واستراحة من عناء سهر البارحة.
فقد بَات مفكرًا فِيهَا فأضحت ... لفهم الفدم خافضة الْجنَاح
وَإِن هَذَا لدرس لأبنائه ومنهج لطلاب الْعلم فِي الصَّبْر والدأب والمثابرة وَقد نَفَعَنِي الله بِهَذِهِ الْحَادِثَة فِي دراستي وتدريسي وخاصة فِي صُورَة مشابهة فِي الْفَرَائِض لم أكن درستها على أحد وَكَانَ الِاخْتِيَار فِي المقروء لَا فِي الْمُقَرّر.
وَتلك هِيَ آفَة الدراسة النظامية الْيَوْم وَكنت كلما ضجرت فِي تحقيقها تذكرت قصَّته ﵀ فَصَبَرت حَتَّى حصلتها وَللَّه الْحَمد والْمنَّة وَكَانَ من بعد الظّهْر إِلَى هزيع من اللَّيْل، وَلَكِن كم كَانَت لذتي وارتياحي.
وَمَعَ هَذِه الشاعرية الرقراقة والمعاني الْعَذَاب الفياضة والأسلوب السهل الجزل فقد كَانَ يتباعد ﵀ عَن قَول الشّعْر مَعَ وفرة حفظه إِيَّاه وَله فِي ذَلِك أَبْيَات يَقُول فِيهَا:
1 / 37
أنقذت من دَاء الْهوى بعلاج ... شيب يزين مفارقي كالتاج
قد صدني حلم الأكابر عَن لمي ... شفة الفتاة الطفلة المغناج
ماءُ الشبيبة زارع فِي صدرها ... رمانتي روض كحق العاج
وَكَأَنَّهَا قد أدرجت فِي برقع ... يَا ويلتاه بهَا شُعَاع سراج
وكأنما شمس الْأَصِيل مذابة ... تنساب فَوق جبينها الْوَهَّاج.
يعلى لموقع جنبها فِي خدرها ... فَوق الحشية ناعم الديباج.
لم يبك عَيْني بينُ حَيّ جيرة ... شدوا الْمطِي بأنسع الأحداج
نادت بأنغام اللحون حداتهم ... فتزيلوا وَاللَّيْل أليل داجي
لَا تصطبيني١ عاتق فِي دلّها ... رقت فراقت فِي رقاق زجاج
مخضوبة مِنْهَا بنان مديرها ... إِذْ لم تكن مقتولة بمزاج
طابت نفوس الشّرْب حَيْثُ أدارها ... رشأ رمى بلحاظ طرف ساجي
أَو ذَات عود أنطقت أوتارها ... بِلُحُونِ قَول للقلوب شواجي
فتخال رنات المثاني أحرفًا ... قد رددت فِي الْحلق من مهتاج
وَقد سَأَلت ﵀ عَن تَركه الشّعْر مَعَ قدرته عَلَيْهِ وإجادته فِيهِ فَقَالَ: "لم أره من صِفَات الأفاضل. وخشيت أَن أشتهر بِهِ وتذكرت قَول الشَّافِعِي فِيمَا ينْسب إِلَيْهِ:
وَلَوْلَا الشّعْر بالعلماء يزري ... لَكُنْت الْيَوْم أشعر من لبيد
وَلِأَن الشَّاعِر يَقُول فِي كل مجَال، وَالشعر أكذبه أعذبه، فَلم أَكثر مِنْهُ لذَلِك".
وَمَعَ هَذَا فقد كَانَت لَهُ ﵀ عدَّة مؤلفات نظمًا فِي عدَّة فنون سَيَأْتِي بَيَانهَا إِن شَاءَ الله.
_________
١ - أَي لَا تستميلني.
1 / 38
أَعماله فِي الْبِلَاد:
كَانَت أَعماله ﵀ كعمل أَمْثَاله من الْعلمَاء: الدَّرْس والفتيا وَلكنه كَانَ قد اشْتهر بِالْقضَاءِ وبالفراسة فِيهِ وَرَغمَ وجود الْحَاكِم الفرنسي إِلَّا أَن المواطنين كَانُوا عظيمي الثِّقَة فِيهِ فيأتونه للْقَضَاء بَينهم ويفدون إِلَيْهِ من أَمَاكِن بعيدَة أَو حَيْثُ يكون نازلًا.
طَرِيقَته فِي الْقَضَاء: كَانَ إِذا أَتَى إِلَيْهِ الطرفان استكتبهما رغبتهما فِي التقاضي إِلَيْهِ وقبولهما مَا يقْضِي بِهِ ثمَّ يسْتَكْتب الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ جَوَاب الْمُدَّعِي عَلَيْهِ أَسْفَل كِتَابَة الدَّعْوَى وَيكْتب الحكم مَعَ الدَّعْوَى والإجابة وَيَقُول لَهما اذْهَبَا بهَا إِلَى من شئتما من الْمَشَايِخ أَو الْحُكَّام، أما الْمَشَايِخ فَلَا يَأْتِي أحدهم قَضِيَّة قَضَاهَا إِلَّا صدقُوا عَلَيْهَا، وَأما الْحُكَّام فَلَا تصلهم قَضِيَّة حكم فِيهَا إِلَّا نفذوا حكمه حَالا، وَكَانَ يقْضِي فِي كل شَيْء إِلَّا فِي الدِّمَاء وَالْحُدُود، وَكَانَ للدماء قَضَاء خَاص.
قَضَاء الدِّمَاء: كَانَ الْحَاكِم الفرنسي فِي الْبِلَاد يقْضِي بِالْقصاصِ فِي الْقَتْل بعد محاكمة ومرافعة وَاسِعَة النطاق وَبعد تمحيص الْقَضِيَّة وإنهاء المرافعة وصدور الحكم يعرض على عَالمين جليلين من عُلَمَاء الْبِلَاد ليصادقوا عَلَيْهِ ويسمي العلمين لجنة الدِّمَاء وَلَا ينفذ حكم الإعدام فِي الْقصاص إِلَّا بعد مصادقتهما عَلَيْهِ. وَقد كَانَ ﵀ أحد أَعْضَاء هَذِه اللجنة وَلم يخرج من بِلَاده حَتَّى علا قدره وَعظم تَقْدِيره وَكَانَ علما من أعلامها وَمَوْضِع ثِقَة أَهلهَا وحكامها ومحكومها.
خُرُوجه من بِلَاده ﵀: كَانَ خُرُوجه من بِلَاده لأَدَاء فَرِيضَة الْحَج وعَلى نِيَّة العودة وَكَانَ سَفَره برا كتب فِيهِ رحْلَة ضمنهَا مبَاحث جليلة كَانَ آخرهَا مَبْحَث القضايا الموجهة فِي الْمنطق مَعَ عُلَمَاء أم درمان بالمعهد العلمي بالسودان. وَبعد وُصُوله إِلَى هَذِه الْبِلَاد تَجَدَّدَتْ نِيَّة بَقَائِهِ، وَلَعَلَّ من الْخَيْر وَبَيَان الْوَاقِع ذكر سَبَب بَقَائِهِ: لقد كَانَ فِي بِلَاده كَغَيْرِهِ يسمع الدعاية ضد هَذِه الْبِلَاد باسم الوهابية إِلَّا أَن بعض الصدف قد تغير من وجهات النّظر (وَإِذا أَرَادَ الله
طَرِيقَته فِي الْقَضَاء: كَانَ إِذا أَتَى إِلَيْهِ الطرفان استكتبهما رغبتهما فِي التقاضي إِلَيْهِ وقبولهما مَا يقْضِي بِهِ ثمَّ يسْتَكْتب الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ جَوَاب الْمُدَّعِي عَلَيْهِ أَسْفَل كِتَابَة الدَّعْوَى وَيكْتب الحكم مَعَ الدَّعْوَى والإجابة وَيَقُول لَهما اذْهَبَا بهَا إِلَى من شئتما من الْمَشَايِخ أَو الْحُكَّام، أما الْمَشَايِخ فَلَا يَأْتِي أحدهم قَضِيَّة قَضَاهَا إِلَّا صدقُوا عَلَيْهَا، وَأما الْحُكَّام فَلَا تصلهم قَضِيَّة حكم فِيهَا إِلَّا نفذوا حكمه حَالا، وَكَانَ يقْضِي فِي كل شَيْء إِلَّا فِي الدِّمَاء وَالْحُدُود، وَكَانَ للدماء قَضَاء خَاص.
قَضَاء الدِّمَاء: كَانَ الْحَاكِم الفرنسي فِي الْبِلَاد يقْضِي بِالْقصاصِ فِي الْقَتْل بعد محاكمة ومرافعة وَاسِعَة النطاق وَبعد تمحيص الْقَضِيَّة وإنهاء المرافعة وصدور الحكم يعرض على عَالمين جليلين من عُلَمَاء الْبِلَاد ليصادقوا عَلَيْهِ ويسمي العلمين لجنة الدِّمَاء وَلَا ينفذ حكم الإعدام فِي الْقصاص إِلَّا بعد مصادقتهما عَلَيْهِ. وَقد كَانَ ﵀ أحد أَعْضَاء هَذِه اللجنة وَلم يخرج من بِلَاده حَتَّى علا قدره وَعظم تَقْدِيره وَكَانَ علما من أعلامها وَمَوْضِع ثِقَة أَهلهَا وحكامها ومحكومها.
خُرُوجه من بِلَاده ﵀: كَانَ خُرُوجه من بِلَاده لأَدَاء فَرِيضَة الْحَج وعَلى نِيَّة العودة وَكَانَ سَفَره برا كتب فِيهِ رحْلَة ضمنهَا مبَاحث جليلة كَانَ آخرهَا مَبْحَث القضايا الموجهة فِي الْمنطق مَعَ عُلَمَاء أم درمان بالمعهد العلمي بالسودان. وَبعد وُصُوله إِلَى هَذِه الْبِلَاد تَجَدَّدَتْ نِيَّة بَقَائِهِ، وَلَعَلَّ من الْخَيْر وَبَيَان الْوَاقِع ذكر سَبَب بَقَائِهِ: لقد كَانَ فِي بِلَاده كَغَيْرِهِ يسمع الدعاية ضد هَذِه الْبِلَاد باسم الوهابية إِلَّا أَن بعض الصدف قد تغير من وجهات النّظر (وَإِذا أَرَادَ الله
1 / 39