ولما فشلت خطته في ضبط المدينة بغتة بسبب ذعر جماعة السكوادرة؛ شرع بالهجوم فورا واستولى على ميناء ترميني في صباح 27 أيار، وأخذت نواقيس الكنائس تدق داعية الناس إلى القتال، وأخذ الشعب يتحرك ويثور، واستطاع غاريبالدي بذلك أن يحتل المدينة خطوة بعد خطوة إلى أن أقصى جنود نابولي، الذين لجئوا إلى قلعة «كاستل مارة» وما جوارها وإلى بعض المباني المنفردة في أطراف القصر، وكانت مذبحة هائلة وصفها أحد الحاضرين بقوله: «لقد ضبط كل ما بقي تحت وابل مدرار من القنابل واستولى على كل قدم من الأرض في لظى اللهيب المتأجج وطقطقة الدور المتداعية وعويل المصابين، الذين ينشدون الإفلات من الأنقاض، وصيحات الضحايا الذين ذبحهم الجنود الضواري حين لاذوا بالفرار.»
وانقطع القصف صباح 29 أيار لمساعدة الحامية على القيام بحركة خروج، بيد أن الهجوم الذي قام به الجند توقف أمام المتاريس، ووهنت عزيمة قائد الحامية وفقد شجاعته، وبعد قتال استمر أربعة أيام طلب قائد الحامية إلى قائد الأسطول البريطاني الراسي في الميناء المتوسط، وتلقى غاريبالدي طلب إيقاف القتال تمهيدا للهدنة بلهفة ووافق على مهلة أربعة وعشرين ساعة، ولما انقضت هذه المدة طلب قائد الجنود تمديدها للاتصال بنابولي، ولما علم الملك بأن سبيله الوحيد إنما هو التفاهم مع إنجلترة وفرنسة أرسل أمرا بإخلاء المدينة، وفي 20 حزيران ركب آخر جندي السفينة مغادرا الجزيرة، وقد انتشرت الثورة في الجزيرة كلها قبل ذلك التاريخ.
وبحركة غاريبالدي هذه تحررت الجزيرة من الحكومة ما عدا مسينة وسيراكوزة اللتين كانتا تخافان القصف من قبل الأسطول النابولي، وقلعة ميلانو وأوجوستة.
إن هذه الحركة ترينا كيف تغلب ألف رجل على أربعة وعشرين ألفا من الجنود في شهر واحد، واستولوا على جزيرة يبلغ عدد نفوسها مليونين.
وانهار في الجزيرة ذلك الاستبداد الذي يكمن الشر والفساد في طياته، وكان تأسيس حكومة تحل محل ذلك الاستبداد من أشق الصعوبات؛ ذلك لأن الصقليين رغم كونهم استقبلوا الثورة بكل جوارحهم وبترحيب قلبي عظيم، حتى إن الإكليروس نفسه انضم إلى القضية العامة، وتجول الرهبان والخوارنة في الجزيرة يبشرون بالحرب المقدسة، لم يكونوا على استعداد لتقديم تضحيات، وحسبهم أن جزيرتهم تحررت وأنهم تخلصوا من النابوليين البغيضين.
أما الوحدة الإيطالية فلا تهمهم كثيرا، وقد وقف الأغنياء الأنانيون موقف المتفرج، تملأ نفوسهم الريبة من حاشية غاريبالدي، وفشل مشروع التجنيد الذي رسمه غاريبالدي أمام مقاومة الشعب السلبية، ولم يجتمع لديه سوى ألف من المتطوعين.
وأخذ جماعة السكواردة يطالبون برواتبهم صاخبين، فاضطر غاريبالدي إلى تسريحهم وإعادة تنظيمهم، وكانت الحكومة المركزية عاجزة كل العجز، وكانت توجد عناصر خطيرة في باليرمو نفسها، وقد فتحت أبواب السجون أيام القتال، وأخذ المجرمون يتجولون في الطرقات ويتهددون خصومهم الشخصيين، ولم ينقذ صقلية من فوضى الجرائم التي تعقب الثورات إلا سمعة الدكتاتور المطلق التصرف وحدها.
حقا لقد عجز الدموقراطيون عن تأسيس حكومة في الجزيرة، وكان كريسبي الذي أصبح الرئيس الحقيقي في الحكومة لا يزال يجهل قيادة الناس، لقد كان عنيدا نشيطا ولكن لم يكن محبوبا من الناس إلا قليلا، وكان من الرجال الذين يستطيعون أن ينجزوا عملا كثيرا، وربما كان الشيء الكثير أقرب إلى الإساءة منه إلى الصلاح، وقد فشلت مساعيه في تأسيس حكومة من الهواة.
وعلى الرغم من أن الشعب أظهر كل احترام ومحبة نحو غاريبالدي فإنه لم يقدم على تأدية الضرائب، وأصبح غاريبالدي دكتاتورا بالاسم وألعوبة بيد الرجال الذين اعتمد عليهم، واكتفى بالتوقيع على الأوراق التي يضعها كريسبي أمامه، وأخذ كريسبي يغمر البلاد بقوانين جديدة زادت في الارتباك، فسدت المحاكم أبوابها أو كادت بعد أن أقصي القضاة من مناصبهم ، وأحدثت أخبار الفوضى في الجزيرة قلقا عظيما في نفس كافور.
وقد هبت العاصفة السياسية الأوروبية إلا أنها لم تكن مخيفة كما توقع كافور أن تكون؛ إذ اقتصر الأمر على إنذار من روسيا تقول فيه إن موقعها الجغرافي وحده هو الذي حال دون تدخلها، أما إنجلترة فكانت كثيرة العطف على الحركة وأما فرنسة فقبلت اعتذار كافور بكون الحكومة لا تستطيع أن تحول دون حركة غاريبالدي من دون أن تعرض للخطر الشديد؛ فلذلك قرر كافور - بعد قليل من التردد - تسهيل سفر النجدات الخصوصية.
अज्ञात पृष्ठ