वतन फरासीना
وطن الفراعنة: مثل من الشعر القومي
शैलियों
3
ومع ذلك فهم يتعرضون للحكم على الشعر بدل الانقطاع إلى تعليم قواعد اللغة وأصولها وتاريخها ... فلا يرضيهم مثلا أن يقال: «وضرجت الحرب الهواء من القتلى!» إشارة إلى فظائع الحرب العالمية الهوائية بالطيارات والمناطيد، بينما هذا التعبير دون نظيره القديم شرودا في الخيال، وبينما هو أكثر انطباقا على العلم؛ لأن الهواء مادة يمكن تضريجها بالدم من وجهة نظرية، بينما الصوت ليس بمادة فيما نعلم، ومن الظلم أن تتهم لغتنا الشريفة بهذا الجمود، فإنما الذنب واقع على تقصير علماء اللغة أنفسهم في صيانة روح اللغة قبل هيكلها، وفي مراعاة أحاسن التقاليد الأدبية القديمة، تقاليد الإبداع والإنتاج والافتنان، بينما نعيش في عصر اللاسلكيات والراديوم والإلكترون، وفي زمن المعجزات العلمية التي من شأنها أن تفسح المجال للغة الخيال ولسعة التصوير وللابتكار في البيان والتعليل. •••
وأما الروح القومية فإن بثي لها عن طريق اختيار المواضيع ومغازيها، وعن أسلوبها المصري؛ فقد اجتهدت في اختيار مواضيع متنوعة مرتبطة بتاريخ مصر القديم وبحياتها الاجتماعية وبنهضتها الحديثة، فمن حق الأدب القومي أن نحفل بالمواضيع القومية الصميمة، ومهما كانت عنايتنا بتاريخ العرب فإن أبلغ حفاوتنا بالأدب من حق وطننا علينا، وفي كل موضوع عالجته حاولت أن أظهر ما يزينه من محامد وذكريات وطنية جليلة، أو صفاته الممتازة الجديرة بإعجابنا وتقديرنا؛ فلا خير في قصر عناية الطالب المصري على بغداد ودمشق وقرطبة، وطليطلة، أو في إغفاله وادي الملوك ومعبد حاتاسو وبقايا العظمة المدهشة لمصر القديمة، ومشاهد مصر الحديثة الناهضة، وإلا ضاع يقينا ركن من أركان التربية الوطنية، وما يقال عن الموضوع يصح أن يقال أيضا عن اللغة، لقد كان زمن يقرر فيه ابن جني
4
وكثيرون غيره «بأن أصل اللغة إنما هو تواضع واصطلاح»، وبجواز التوليد، وبإباحة ما يشاهدونه «من اختراعات الصناع لآلات صنائعهم من الأسماء: كالنجار، والصائغ، والحائك، والبناء، وكذلك الملاح»، وكان زمن يقول فيه ابن السيد البطليوسي ولا يخشى حرجا في كتابه «الاقتضاب في شرح أدب الكتاب»: «الديوان اسم أعجمي عربته العرب ... والأصل في تسميتهم الديوان ديوانا أن كسرى أمر الكتاب أن يجتمعوا في دار ويعملوا له حساب السواد في ثلاثة أيام وأعجلهم فيه، فأخذوا في ذلك واطلع عليهم لينظر ما يصنعون، فنظر إليهم يحسبون بأسرع ما يمكن ويحسنون كذلك، فعجب من كثرة حركتهم وقال: أي «ديوانه»، ومعناه هؤلاء مجانين، وقيل: معناه شياطين، فسمي موضعهم ديوانا واستعملته العرب، وجعلوا كل محصل من كلام أو شعر ديوانا» ... وكان زمن يسمح فيه سيبويه وتلاميذه بالأخذ عن اللغات الأجنبية دون قيد سوى شرط واحد هو الاستعمال، وكان زمن يقرر فيه الإمام التنوخي في كتابه «الأقصى القريب في علم البيان»: إن «البلاغة تتعلق بالمعنى فقط، وهو أن يبلغ المعنى من نفس السامع مبلغه»، ويقرر أيضا: «أن العناية بالمعنى أعظم من العناية باللفظ لتمام غرض المتكلم من إفهام السامع، فلا يفي حسن اللفظ بما نقص من المعنى، والمعاني، وإن اختلفت في الجودة والرداءة فقد يراد الجيد لذاته، وقد يراد الرديء لذاته، فيقبح وضع الجيد في موضع الرديء، كما يقبح وضع الرديء في موضع الجيد، ويمدح المؤلف باتباع المعنى الذي لم يسبق إليه - وينبغي أن يقال الذي لم يسمعه قبل ابتداعه - فإن السبق إلى المعنى يقل لكثرة ما قال الناس: ولا فرق بين من لم يسبق وبين من لم يسمع؛ فإن كل واحد منهما مبتدع، وإنما ينقص من لم يسمع بقلة اطلاعه على كلام الناس، ولا يقدح ذلك في قريحته، بل تعظم لذلك» ... مضت تلك الأزمان فإذا بنا قبيل النهضة الأخيرة أمام الداعين إلى نكران ظروف مجتمعنا الحاضر يطالبوننا بأن نتقيد بأساليب الأسلاف الذين ما كانوا أنفسهم إبان قوتهم وعزتهم يعبئون بالتقيد، بل كانوا ينشدون الحرية دائما، وكانوا يعملون على نماء اللغة وازدهارها وزيادة ثروتها بالكثير من المعربات، حتى وإن لم يضطروا إليها، فكثرت مترادفاتهم وفاخروا بها، وبسعة أساليبهم، وبقابلية اللغة لاجتذاب حسنات سواها من اللغات دون أن تفقد هي شخصيتها ومميزاتها ... وقلما كنا نجد أسلوب الجاحظ الجميل - الذي هو أسلوب الفكر والبديهة والفطرة المصقولة - ينال من التحبيذ قدر ما كانت تنال رسائل «شمس المعالي قابوس بن وشمكير» المسماة «كمال البلاغة»، وما هي إلا أمثلة من التفنن السجعي الذي ما كان يستحق البعث ولفت الأنظار إليه من جديد.
ثم أشرقت شمس النهضة الأدبية الأخيرة فإذا علماء لغتنا المتبحرون يدركون خسارتنا الجسيمة بالاقتصار على ثروة الماضي التليدة بينما لدينا آلاف الكلمات الظريفة المصقولة الجميلة ما بين مشتقة ومعربة وموضوعة، فاختاروا منها الكثير وأباحوا استعمالها، وقاموا في شجاعة ونشاط مقام مجمع لغوي راشد، وأخص بالذكر من هؤلاء السادة الأعلام الأجلاء الشيخ إبراهيم اليازجي، والإمام الشرتوني، والعلامة الأب لويس معلوف اليسوعي، والمحقق الكبير الأب شيخو اليسوعي، فحفظوا في معاجمهم ومؤلفاتهم النفيسة الكثير من الألفاظ العصرية القيمة، وشجعوا الأدباء على استعمالها وإحيائها، فأصبحت شائعة في أرقى أمثلة الإنشاء والشعر العصري، وصارت مما يستحب؛ لأنها دليل على عصرنا الحاضر وعنوان أذواقنا وثقافتنا، وما يقال عن المفردات يقال عن بعض الأساليب المستحدثة، فأصبحت غاية ما يطالب به الأديب المعتدل الغيور على حرمة لغته أن يحافظ على شرف ديباجته الإنشائية دون أن يكون متطرفا في تجرده أو جامدا في أسلوبه، وعلى هذا، فكما أصبح دليلا على البلادة الذهنية أن يتهم القارئ الشعر التصويري الخيالي الجريء بالتعقيد فقد أصبح حجة على الناقد في تقعره أن يذم الأديب الذي يمثل عصره أصدق تمثيل في أسلوبه ولغته، مؤثرا عليه الناظم الصانع المتكلف الذي يقضي السنوات في نصب محاولا تقليد العربية الأولى، فلا هو يستطيع أن يملك ناصيتها كما يود ، ولا هو يخدم الأدب القومي كما يجب ...
5
ومن الألفاظ التي تعمدت استعمالها لأنها من أحسن الألفاظ العصرية البليغة كلمة: «توفقت» فإنها خير من «وفقت»؛ لأن لفظ: «توفق» بمعنى «كان مظهرا لتوفيق الله وتسهلت له طرق الخير»، بينما كلمة: «وفق» قاصرة على الدلالة على الإلهام والهدى (راجع «المنجد» للعلامة لويس معلوف)، وكذلك استعمالي كلمة: «بساطة» بدل: «سذاجة»؛ فإن الأولى تشير ضمنا إلى البشر وغنى النفس، بينما الثانية ذات تلميح إلى شيء من البله، وتعمدت التحرر من القيد العروضي في قصيدة «أبي الهول» كما فعل شوقي بك في قصيدته البيروتية، وما عدا هذه القصيدة فقد حافظت جهد الطاقة على الأساليب القديمة - خلافا لنزعتي ومذهبي - في جميع منظومات الكتاب، مكتفيا بالروح المصرية المشبعة بها، وحسبي أن أكون بذلك قد عبرت عن عواطفي ونظراتي الوطنية بلغة شريفة يصح أن تعد لسان الثقافة المصرية الحاضرة، لا بلغة غريبة عن بيان هذا العصر وذوقه. •••
لقد قام المجددون الجريئون من علماء لغتنا الفطاحل المعاصرين رغم تشتتهم مقام أكاديمية لغوية، وحفظوا أساليب البيان ومفردات التعبير لبيئاتنا العصرية، فساروا على سنة السلف الصالح في نشاطهم وإنتاجهم وإبداعهم وزادوا ثروة اللغة، وكانوا أئمة الأدباء في صدق التعبير والبر بعصرهم قبل سوالف العصور، وهذا الكتاب نتيجة طبيعية لهذه النهضة الأدبية؛ فلغته إجمالا لغة العصر، ومباحثه مفاخر الوطن ومظاهر حياته، وديباجته ليست مثل التقعر ولا أسلوب العامة، ونزعة الفكر والخيال فيه هي ثمرة اطلاعي الطويل على أدب الغرب؛ حيث القومية لها المكان المعلى من الإجلال، وحيث قضيت نصف حياتي العملية، فإذا لم أكن أرضيت به من لا يرضون عن استقلال الأدب المصري ولو استقلالا مقيدا، ولا يرتاحون إلا إلى صميم العربية فلا يرضون حتى عن الفيروزابادي، فلعلي أنصفت به بيئتي ووطني ... ويكفيني عوضا وجزاء حسنا أن أشجع به النقد الأدبي وحب البحث الشعري في نفوس قارئاته وقارئيه من طلاب الأدب.
أحمد زكي أبو شادي
अज्ञात पृष्ठ