لو كانت مارجريت من قراء صحيفة «نيويورك أرجوس»، لكانت ستلاحظ أن الحقائق التي عرضها ضيفها قد ذكرت بالفعل في هذه الصحيفة، بتفصيل أكبر، في مقالة بعنوان «خبزنا اليومي». وفي خضم الصمت الذي خيم بعدما أنهى ييتس خطبته المطولة عن زاد الحياة البشرية، كسر السكون بصيحة طويلة حادة. بدأت تلك الصيحة بنغمة متواصلة ممتدة وانتهت بصيحة مطولة أدنى من الأولى بنصف نغمة. لم تكترث الفتاة بها، لكن ييتس هب منتفضا على قدميه.
قال: «باسم ال... ما هذا؟»
ابتسمت مارجريت، ولكن قبل أن تستطيع الرد، كسر السكون مرة أخرى بما بدا أنه نغمات بوق قادمة من مسافة أبعد.
قالت: «الأول كان صوت كيتي بارتليت تنادي الرجال من الحقل ليعودوا إلى البيت لتناول الغداء. فالسيدة بارتليت مدبرة منزل ممتازة، وعادة ما تسبق الجيران في إعداد الوجبات ببضع دقائق. أما الثاني، فكان صوت بوق قادما من مسافة أبعد على الطريق. وهذا ما قد تأسى عليه لأن تطورات عصر الصفيح قد امتدت إلى نداء الغداء، تماما كما حل موقدك الصفيحي محل غلاية الخبز الأفضل. أحب صيحة كيتي أكثر بكثير من البوق الصفيح. فأنا أراها أكثر موسيقية، مع أنها جعلتك تنتفض حسبما بدا.»
صاح ييتس صيحة إعجاب جريئة، قائلا: «أوه، أنت تستطيعين التحدث!» فتلون وجه الفتاة قليلا من الخجل وانطوت على نفسها مرة أخرى. «وتستطيعين السخرية من معرفة الآخرين التاريخية أيضا. أيهما تستخدمين إذن: البوق الصفيحي أم الصوت الطبيعي؟» «لا هذا ولا ذاك. إذا نظرت إلى الخارج، فسترى راية أعلى صارية. هذه إشارتنا.»
خطر ببال ييتس أن الفتاة قصدت بهذا تلميحا إلى أنه قد يرى أشياء عديدة في الخارج تثير اهتمامه. شعر بأن زيارته لم تحقق النجاح الباهر الذي كان يتوقعه. بالطبع كان البحث عن الخبز مجرد ذريعة. كان يتوقع أنه سيستطيع محو الانطباع السلبي الذي كان يعلم أنه تركه بمحادثته المرحة المفعمة بالحيوية على طريق ريدج في اليوم السابق، وأدرك أن موقفه ما زال كما هو. كان قدر كبير من نجاح ييتس في الحياة يرجع إلى أنه لم يكن يدري بالهزيمة قط حين يتعرض لها. أبى الاعتراف بالهزيمة في تلك اللحظة، لكنه رأى أنه، لسبب ما، لم يكسب أي أفضلية في مناوشة تمهيدية. لذا استنتج أنه سيكون من الأفضل أن ينسحب بوقار، ويستأنف المنافسة في وقت ما في المستقبل. كان غير معتاد أي شيء من قبيل الرفض أو الصد إلى حد أن كل خصاله القتالية كانت في غاية الاستنفار، وقرر أن يظهر لتلك الفتاة المتبلدة أنه ليس بالرجل الذي يمكن الاستخفاف به.
وبينما كان ينهض، فتح باب القسم الرئيسي من البيت، ودخلت منه امرأة تجاوزت منتصف العمر بقليل بدا عليها أنها كانت جميلة في الماضي بلا شك، لكن وجهها المنهك الباهت كان يحمل قسمات الإعياء الصبور الذي غالبا ما ينتج من انقضاء فترة الشباب في إعانة زوج على التغلب على العناد الشديد لمزرعة أمريكية مليئة بالأشجار. فعادة ما يكون المنتصر في مهمة استصلاح المزرعة مهزوما. وكان جليا من النظرة الأولى إليها أنها الأم التي ورثت منها الابنة حسنها. لم تبد السيدة هوارد متفاجئة برؤية شخص غريب يقف في بيتها؛ ففي الواقع، بدا أنها قد فقدت قدرتها على الاندهاش من أي شيء. عرفت مارجريت أحدهما إلى الآخر بهدوء، وشرعت في تحضيراتها للوجبة. حيا ييتس السيدة هوارد بحفاوة شديدة. قال إنه قد أتى باحثا عن خبز. كان يظن أنه ذو قدر من الدراية بالخبز وصناعته، لكنه علم آنذاك أنه جاء في وقت مبكر للغاية من النهار. وأعرب عن أمله في أن يحظى بشرف تكرار زيارته.
قالت السيدة هوارد بقلق مضياف: «لكنك لن ترحل الآن؟»
أجاب ييتس بنبرة متباطئة: «يؤسفني القول إنني قد مكثت وقتا أطول من اللازم بالفعل. ورفيقي، البروفيسور رينمارك، أيضا قد خرج للبحث عن المؤن الغذائية عند جيرانكم، آل بارتليت. لا شك أنه قد عاد إلى المخيم منذ وقت طويل، وسيكون في انتظاري.» «لا خوف من ذلك. فالسيدة بارتليت لن تسمح أبدا لأي شخص بمغادرة منزلها قبل وجبة وشيكة.» «أخشى أن أسبب متاعب إضافية إذا بقيت. فأنا أتصور أن كل بيت ريفي لديه ما يكفيه من المشاغل وفي غنى عن استقبال أي متشرد عابر يمر به مصادفة. ألا تتفقين معي هذه المرة يا آنسة هوارد؟»
لم يكن ييتس راغبا في الرحيل، لكنه لم يرد البقاء إلا إذا تلقى دعوة من مارجريت نفسها إضافة إلى دعوة أمها. انتابه شعور غامض بأن ممانعته الرحيل تحسب له، وبأنه يتحسن. لم يستطع أن يتذكر أي مرة لم يرض فيها دون نقاش بأي شيء قسمته له الآلهة، وهذا الشعور المفاجئ غير المعتاد بالتواضع جعله يظن أن ثمة أغوارا في طبيعته لم تسبر حتى تلك اللحظة. ودائما ما يسعد المرء حين يدرك أنه أعمق مما كان يتصور.
अज्ञात पृष्ठ