مقدمة
لقد ظهر في البندقية، عام 1550 (1) مؤلف ذو قيمة فريدة. فقد عمد عالم ذو ثقافة عالية يدعى جان باتيست راموزيو، وكان أمين سر لمجلس الأمناء العشرة، إلى نشر عدة قصص رحلات باللغة الإيطالية لم يسبق نشرها تحت عنوان «في الملاحة والرحلات»، وكانت أكثر هذه الرحلات أهمية هي «وصف إفريقيا» بقلم جان ليون، الملقب بالإفريقي.
وقد كان لكتاب راموزيو النجاح الذي يستحق. فمنذ عام 1556 (2) ظهرت ترجمتان لهذا الكتاب. فقد نشر جان فلوريان في آنفرس في بلجيكا، ترجمة لاتينية عن كتاب «وصف أفريقيا» ونشر جان تامبورال، من ليون في فرنسا ترجمة فرنسية له. وتعتبر الترجمة اللاتينية عديمة القيمة وخالية من أية فائدة، بينما تبدو الترجمة الفرنسية ممتازة بالنسبة لذلك العصر. فلغتها هي الفرنسية القديمة التي كانت مستخدمة في القرن السادس عشر. ولعل ذلك هو الذي أضفى عليها جاذبية خاصة. وجعل العلماء- حتى في عصرنا الحاضر- يؤثرون نقل نصوص كاملة من هذه الترجمة على الرجوع إلى الأصل الايطالي.
وظلت ترجمة تامبورال هي المعتمدة في فرنسا. بيد أن هذه الترجمة تبدو عند بحثها بدقة منطوية على مآخذ جلية للعيان، فلغتها القديمة صعبة الفهم ومتعبة للقارىء العادي، والمحقق الذي يراجعها على نص راموزيو لا يلبث أن يعثر فيها على الكثير من الأخطاء والنقاط الغامضة. ومن ثم لم تعد قط أداة جيدة للبحث، وأصبح من الضروري إعادة ترجمة كتاب راموزيو من جديد.
وها نحن أولاء نقدم اليوم ترجمة لكتاب «وصف إفريقيا» لصاحبه جان ليون؛ وإذا كانت كل قصص الرحلات التي نشرها راموزيو في عام 1550 ذات فائدة كبيرة من وجهة النظر التاريخية والجغرافية، فإن «وصف» ليون يحوي من الفائدة ما يتجاوز
पृष्ठ 17
ذلك. وسيظل الكثير من المعلومات التي قدمها ليون، حتى عصر طويل قادم، موضع ثقة، وعلى الأخص من وجهة النظر التاريخية البحتة. ولهذا كان من الأهمية أن نقدم لكتاب ليون ترجمة عصرية دقيقة وأمينة قدر المستطاع.
ويوجه راموزيو، في إهدائه كتابه إلى عالم كبير في زمانه، هو جيروم فراكاستور، يوجه انتباهنا إلى أن ليون كان مغربيا. ويذكر لنا بأنه، بعد أسره في جزيرة جربه (3)، قدم هدية للبابا الذي أحسن وفادته حتى أنه عمده ومنحه اسميه جان- وليون، وأنه تعلم الايطالية. وقد ألف ليون في هذه اللغة كتابا في الجغرافيا اعتمادا على مذكراته المكتوبة بالعربية. وهذا الكتاب المنسوخ بقلم المؤلف نفسه، هو الذي وصل ليد راموزيو، والذي أبان عن طريقة نقله له إذ يقول «لن ندخر وسعا في أن نجعله واضحا ممكنة قراءته، وأن نلتزم بكل أمانة ممكنة».
وقد جرى البحث بدون طائل- وكان لا بد أن يحدث ذلك- عن المخطوط العربي. فقد رجح المستشرق لويس ما سينيون، الذي نشر في عام 1906 (4) تحت عنوان «المملكة المغربية في السنوات الأولى من القرن السادس عشر» (5) لوحة جغرافية عن ليون الافريقي، ويعتبر كتاب لويس ماسينيون كبير القيمة ولا يزال وثيقة أساسية فيما يتعلق بمؤلف «وصف إفريقيا»، اذ يرجح أن ليون كتب مؤلفه مباشرة بالايطالية استنادا إلى مذكرات مسجلة بالعربية. فليس لهذا المخطوط أصل عربي نقل عنه، وإنما اعتمد صاحبه فقط على مذكرات كانت لديه باللغة العربية. ولكن هل اختفى النص الإيطالي الأصلي الذي استعان به راموزيو؟
لقد أتيح للمكتبة الوطنية في روما، عام 1931 (6) أن تحصل بطريقة الصدفة في مناسبة بيع كتب، على مخطوط يحمل عنوان هذا الكتاب «وصف إفريقيا» ووضع في ثبتها تحت رقم 953، ولكن هذا النص يختلف كثيرا، في شكله، عن النص الذي طبعه راموزيو، ومن المؤكد أن هذا الكتاب هو نسخة جيدة عن الأصل الذي استخدمه راموزيو.
पृष्ठ 18
ولكن هذا الكتاب مكتوب برطانة، دفعت براموزيو إلى القول بأنه، حتى بالنسبة لأبناء ذلك العصر، من اللازم القيام بنقله إلى لغة سليمة. وقد بذل جهدا، كما قال هو نفسه، في جعله صالحا للقراءة وذلك مع كل الأمانة الممكنة.
وقد كان من الممكن نشر مخطوط المكتبة الإيطالية في روما منذ زمن طويل نوعا ما لولا أن الأحداث العالمية (7) اعترضت سبيل ذلك. وقد عهدت وزارة التعليم العام بهذه المهمة لأكثر الأشخاص كفاءة في هذا المضمار، وهي السيدة آنجيلا كودازي، أستاذة التاريخ والجغرافيا الشهيرة في جامعة ميلانو. وأفردت السيدة كودازي «لجان ليون» مقالة رائعة في الموسوعة الإيطالية للعلم والأدب والفن (روما 1933، المجلد 20 ص 899).
وتنوي هذه الأستاذة قريبا نشر هذا المخطوط، مع شروح ستكون بالتأكيد جزيلة الفائدة، سواء لسعة اطلاع المؤلفة أو بسبب الوثائق التي تستطيع الحصول عليها محليا، لأن ليون كتب كتابه في روما لقرائه الطليان في عام 1526 (م) (8).
ولقد انتظرنا طويلا نشر المخطوط لتقديم ترجمته وليس ترجمة نص راموزيو. ولكننا لاحظنا أن النص الأخير مكتوب بلغة إيطالية سهلة جدا تتواءم مع نقل يكاد يكون حرفيا إلى الفرنسية. فإذا أخذنا فقرة من نص المخطوط وعملنا على تفسيرها بلغة فرنسية مفهومة، فإننا نحصل بالضبط على نفس النتيجة التي نحصل عليها من ترجمة مباشرة لنفس الفقرة من نص راموزيو. إذن ليس هناك كبير فائدة من وراء استخدام نص المخطوط. غير أن راموزيو من طرف، والناسخ من طرف آخر، قد ارتكبا أخطاء في قراءة الأصل الذي استندا عليه، وهي أخطاء تختلف في نوعها، وتسمح الموازنة بين النسختين بتصحيح عدد لا بأس به من هذه الأخطاء. وقد استطعنا، بفضل التلطف الكبير الذي أظهرته السيدة آنجيلا كودازى، أن نقابل بين نسختي المكتبة الوطنية في روما، وأصبح في إمكاننا أن نقدم التصويبات على نسخة راموزيو، والتي تبدو في أنظارنا جوهرية.
ونود أن نؤكد للسيدة كودازى كل عرفاننا. ونحن مقتنعون أن عملها لن يكون عبارة عن تكرار لعملنا هذا، بل على العكس سيكمله بصورة مفيدة، إذ سيقدم الأول التوثيق الإيطالي، في حين يوفر الآخر التوثيق الإفريقي.
पृष्ठ 19
ونظرا لهذا الواقع فإننا لن نتوقف كثيرا عند سيرة حياة جان ليون، والتي لا نعرف عنها فعلا أكثر مما كتبه المستشرق الفرنسي ما سينيون في كتابه. وتتلخص هذه السيرة فيما يلي:
ولد الحسن بن محمد الوزان الزياتي في غرناطه في تاريخ غير معروف بدقة، يتراوح بين عامي 1489، 1495 (م) (9). والحسن هو اسمه، ومحمد اسم والده، والوزان لقب أسرته، مما يدل على أن أحد أجداده شغل وظيفة في مصلحة الموازين العامة.
والزياتي كلمة تدل على نسبه القبلي، أي تدل على قبيلته الأصلية التي انحدر منها. ولم نستطع تحديد النسب المذكور، غير أن كتاب نزهة الهادي، ترجمة هوداس ص 227 و322 يذكر أنه كان في القرن السادس عشر والسابع عشر (م) (10) شخصيتان مغربيتان تحملان هذا النسب، هما الشارح الأديب الحسن الزياتي والإمام سيدي الحسن الزياتي.
وعلى أثر استيلاء الملكين الكاثوليكيين، فرديناند الخامس وإيزابيلا في كانون الثاني (يناير) عام 1492 م (11) والذي أعقب طرد المسلمين المتمسكين بدينهم، التجأت أسرة الحسن إلى فاس، حيث شغلت وظيفة مرموقة، وقد أتم هذا الولد تحصيله متبعا الأسلوب الذي لا يزال حتى اليوم أسلوب مثقفي أيامنا في مدارس فاس وفي جامعة القرويين الإسلامية. وعمل بعد ذلك مدة عامين أمينا عاما لمستشفى الأمراض العقلية في فاس ثم أصبح «طالبا» كالطلبة الذين نرى الكثير منهم حاليا في المغرب، وتجول في سن مبكرة في البلاد، وكان لديه شغف في استنساخ شواهد القبور لبعض مشاهير الرجال.
وعمل من ذلك مجموعة قدمها هدية لشقيق السلطان. وتعطينا هذه التفاصيل فكرة عن مستواه الاجتماعي. أما أبوه فقد كان موظفا حسبما تشير بعض الدلائل. ويروي لنا أيضا أن صاحب الترجمة قام برحلة، وهو لا يزال شابا، إلى القسطنطينية والمشرق العربي، وصاحب أحد أعمامه، وهو في سن السابعة عشر، في رحلته إلى تومبكتو. وكان عمه هذا خطيبا مفوها اختاره السلطان سفيرا له في تومبكتو، لدى السلطان السوداني الكبير، اسكيا محمد توره.
وقد ثابر على تجواله في بلاد المغرب لحساب السلطان، وذلك قبل قيامه برحلة ثانية
पृष्ठ 20
إلى بلاد السودان، والتي يقول بشأنها إنه انتقل فيها من تومبكتو حتى مصر ما را ببلاد الهوسة ومملكة غاوغة في شرق التشاد ثم عاد إلى المغرب بحرا.
وقد أمضى معظم عامي 1514، 1515 م في المغرب (12) وكان يعمل حينئذ فى خدمة السلطان وبعض قواده. ومما لا ريب فيه أنه كلف بمهمات يحتمل أنها سياسية واقتصادية، لأنه يبدو لنا مطلعا في صورة عميقة على بورصة الأسعار؛ وتزايدت هذه البعثات أهمية مع الزمن لدرجة يظهر لنا فيها وسيطا في المفاوضات بين سلطان فاس محمد البرتغالي ، وسلطان مراكش الناصر بن يوسف الهنتاتي، وأمير السوس وحاحه، الشريف أحمد الأعرج، مؤسس أسرة السعديين الذي يمكننا أن نفترض أنه كان رفيقه في الدراسة في بعض مدارس فاس. وفي آذار (مارس) من عام 1514 كانت له مقابلة مع حاكم بادية آسفي، عامل ملك البرتغال، واسمه يحيى أو تعفوفت. وفي عام 1515 وبمناسبة حملة دكالة التي قام بها سلطان فاس برزت شخصية محمد بن الحسن الوزان بروزا كبيرا وظهر أكبر نشاط له. ومنذ هذه الحملة نستطيع تتبع تاريخه في صورة أدق، ومن المحتمل أن كفاءاته الخاصة وثقافته كانت تحظى بتقدير كبير لدى سلطان فاس، حتى لقد عهد إليه بمهمة في المشرق، فغادر فاس فجأة في شهر آب (أغسطس) 1515 م. وليس من المؤكد أنه كان مكلفا بسفارة لدى سليم الأول السلطان العثماني في القسطنطينية، كما اعتقد.
بعضهم، إذ لا يتوقع أن يسافر إلى القسطنطينية بتجهيزات تافهة كحبال الخيام التي ذهب إلى شرائها بنفسه من سوق بسكرة بالجزائر. ويضعف من هذا الاحتمال أيضا أنه يذكر لنا أنه كان في مدينة رشيد بمصر في أثناء وجود السلطان سليم في هذه المدينة، ولكن بدون ان يتحدث كثيرا عن هذا السلطان، ولو أنه كان موفدا إليه وأتيح له في هذه المناسبة مقابلته لتحدث عنه بإسهاب.
ولكنه لم يكن بالتأكيد موظفا دبلوماسيا ضئيل الأهمية، لأننا نراه في نفس الرحلة وهو يحرف طريقه كي يذهب للتحادث مع حاكم دبدو، ثم يقصد بلاط ملك تلمسان أبي عبد الله محمد، ثم يحل في مدينة الجزائر ضيفا على «وجيه» أندلسي الأصل، سبق له أن أوفد من قبل سكان مدينة الجزائر كي يتفاوض في شأن عقد هدنة مع الحكومة الأسبانية، ثم يقصد بجايه لمقابلة أمير البحر الشهير عروج بربروس، الشقيق الأكبر لأمير البحر خير
पृष्ठ 21
الدين بربروس (13). وفي النصف الثاني من شهر أيلول (سبتمبر) اضطر عروج للالتجاء إلى مدينة جيجل الجزائرية، وتابع الحسن رحلته باتجاه تونس مارا بمسيلة في منطقة الحضنة الجزائرية. ويقول لنا أنه بلغ تونس مع جوادين فقط وعانى صعوبة في الحصول على الشعير اللازم لهما، وهذا يدل على ضعف تجهيزاته كسفير. وعند وصوله إلى تونس لم يجد السلطان فيها، لأنه كان قد غادرها في رحلة إلى الجنوب، واتصل بالقصر الملكي ولكن يبدو أنه لم يحظ بمقابلة الملك أبي عبد الله محمد، لأنه لا يذكره بخير كثير، ولكن من المؤكد أنه استطاع أن يجمع خلال وجوده في حاشية الملك كمية من المعلومات عن بلاد نوميديا التونسية، والتي قدم عنها تفاسير غير واضحة. ومن المحتمل أن يكون قد تابع رحلته حتى مدينة قفصة وقابس، وهما آخر مدينتين تونسيتين يظهر أنه رآهما رأي العين.
هذا ولا نعرف شيئا عن المكان الذي أبحر منه الحسن قاصدا القسطنطينية، ولا تاريخ سفره ولا عن إقامته في المشرق، اللهم إلا وجوده في مصر في شهر حزيران (يونيو) 1517 (14)، في مدينة رشيد، في نفس الوقت الذي كان فيه السلطان سليم العثماني في هذه المدينة. وقد أدى فريضة الحج في أثناء إقامته في المشرق، وعاد من مصر إلى المغرب بحرا وتوقف في طرابلس سنة 1518 (15) (ونلاحظ أنه هنا قد استعمل التأريخ الميلادي لأول مرة). ويغلب على الظن أنه سقط في الأسر خلال توقف سفينته في جزيرة جربة على يد القرصان الصقلي بيتر وبوفا ديغليا واقتيد إلى إيطاليا، حيث قدم هدية للبابا ليون العاشر (16)؛ واسمه جان دوميديسيس، وحظى بكرم الوفادة لدى هذا الحبر الشهير،
पृष्ठ 22
حامي الفنون، الذي حمله على اعتناق النصرانية على أيدي ثلاثة أساقفة في قصر سانتانج الذي أقام فيه إقامة جبرية سنة كاملة. وأخيرا تم تعميد الحسن بن محمد الوزان الزياتي، على يد البابا نفسه في كنيسة القديس بطرس، في روما بتاريخ السادس من كانون الثاني (يناير) عام 1520 (17)، وسمي جوهانيس ليود وميديسيس (18)، أما هو فقد اتخذ لنفسه اسم جان ليون غراناتينو، وبالعربية يوحنا الأسد الغرناطي. وقد عرف فيما بعد تحت اسم ليون الإفريقي، وهو الاسم الذي أطلقه عليه راموزيو، وذلك استنادا إلى ما اشتهر به بين معاصريه.
هذا ولا تزال تفاصيل إقامته في إيطاليا غير معروفة. ونعرف أنه كان يدرس العربية في مدينة بولونية الإيطالية، وأنه كان يتردد على رجال الأدب. ولكن هل ختم حياته في إيطاليا قبل عدة أعوام سبقت تاريخ 1550 (19)، كما ورد في مقدمة الطبعة الرابعة التي أصدرها راموزيو عام 1588؟ (20)، وهل قفل من إيطاليا عائدا إلى تونس كما عبر عن نيته صراحة في كتابه «وصف إفريقيا» ابتداء من عام 1525 (21)؟ وهل عاد إلى حظيرة الإسلام كما تؤكد ذلك بعض النصوص؟ وهذا هو الأمر الأكثر احتمالا. ولم يكن عمره يتجاوز الأربعين عاما عندما دبج كتابه. فقد كان نشاطه الثقافي كبيرا جدا استنادا إلى مشاريعه في التأليف، والذي يعرضه علينا في نهاية كتابه الثامن عن وصف أوربا، ثم عن القسم الآسيوي الذي زاره، وأخيرا عن إفريقيا. وفي الواقع لقد سبق له أن انتوى، أو ربما كتب فعلا، مختصرا في التاريخ الإسلامي، الذي يتكلم عنه في أكثر من مكان، مما يحملنا على الاعتقاد بأنه أنجز فعلا هذا المؤلف، بالإضافة إلى كتب تاريخ إفريقيا الحديث، وكتاب البلاغة في اللغة العربية، وكتاب في النحو الخ .. وحتى أيامنا هذه لم يمكن العثور إلا على الجزء العربي من مفردات بلغات متعددة، صدر في بولونية بتاريخ كانون الثاني في (يناير) 1524 (22) والذي تحتفظ به مكتبة الاسكوريال في مدريد.
ومن الواضح أن كتابه «تاريخ إفريقيا الحديث» سيكون ثمينا للغاية بالنسبة
पृष्ठ 23
لمؤرخي تلك الفترة الغامضة. ونحن نأمل أن تكون السيدة آنجيلا كودازى، التي تتابع أبحاثها المتأنية منذ بضعة أعوام، قد تمكنت من جمع الوفير من المعلومات وأن تصبح معارفنا بفضلها أكثر دقة في هذا التاريخ.
وقد ظل «الوصف» الذي قدمه ليون موضع ثقة في خلال أكثر من ثلاثة قرون، إذ ثبت أن مخطوط ليون كان معروفا ويستفاد منه على نطاق واسع منذ 1529 م. وقد كان هذا المؤلف وثيقة جغرافية أساسية، وخاصة بالنسبة لعلماء الخرائط الجغرافيين الذين يبدو أنهم استفادوا من مصادر أخرى لا يستهان بها. ولا تزال الدهشة تعترينا من صحة بعض التفاصيل التي قدمها ليون، ومن صواب نظراته كباحث كان، على الرغم من تكوينه العلمي القديم، متمتعا بروح عصرية، وكان تجرده كبيرا. فلم يكن لديه أية كراهية إلا «للأعراب» الذين نسب إليهم، كما فعل ابن خلدون، مسئولية تخريب بلاد الشمال الإفريقي (*). وفي هذا المجال نحرص على أن نوضح للقارىء غير المتمرس أن عرب القرن السادس عشر لم يكونوا سوى أحفاد قبائل عربية، أو من افخاذ قبائل عربية فوضوية تخلص منهم خلفاء مصر الفاطميون بأن دفعوا بهم لكي يبحثوا عن معيشتهم في المغرب حوالي سنة 1050 م. أما العرب الأصلاء الذين قاموا بفتح البلاد، أو الذين حكموها بعدئذ، فقد انصهروا منذ زمن طويل في السكان البربر، ما عدا بعض الحالات الاستثنائية النادرة. وحتى لو كان ليون نفسه، وهذا محتمل جدا، ينحدر من أصل عربي بعيد جدا، فهو لن يرتاح اذا وصف بانه عربي، وشبه بأولئك الناس، الذين كان بعضهم رجال أمن، وبعضهم قطاع طرق والذين كان عدد كبير منهم يعيث فسادا في أرياف إفريقيا الشمالية.
وإذا كان لكتاب ليون مزايا رفيعة جدا، ويقدم توثيقا يعتبر من أثمن المصادر، فهو مع هذا يبدو حاويا على عدد ضخم من الأخطاء الناجمة عن أسباب عديدة. فقد كتب بدون شك كثيرا منه اعتمادا على الذاكرة التي كانت رائعة أكثر مما أشار إليه في مناسبات عديدة، ولكنها لم تكن أمينة كل الأمانة ولا معصومة؛ فقد ارتكب أخطاء بارزة جغرافية
पृष्ठ 24
وتاريخية. واعتمد أحيانا على روايات رحالة غير صحيحة، أو مفسرة تفسيرا غير صحيح، كما أنه لم يقرأ مذكراته مرة ثانية بدقة. وهكذا تتعذر قراءة نص ليون إلا في ضوء شرح مفصل.
وقد بذلنا جهدا لجعل الترجمة حرفية قدر الإمكان، حتى لو كان ذلك على حساب اللغة الفرنسية، التي فقدت هنا فتنتها الحقيقية التي عرفتها في ترجمة تامبورال، والتي كانت متأنقة على حساب المعنى. وقد توسعنا في الشروح التاريخية لنمهد السبيل أمام القارىء كي يدرك الوقائع في الصورة المتسقة مع الحقيقة التي يسمونها التاريخ، وهي لا تعدو أن تكون حقيقة نسبية غير مطلقة. ولن يفوت العلماء المختصين كشف أخطاء بارزة في هذه الشروح. ونحن نعتذر عنها مؤكدين بأنه لم تكن لدينا مطلقانية تقديم عمل علمي في ثوب جديد، إذ لم نتصدر لدراسة «وصف» ليون إلا بناء على ما لدينا من معرفة لا بأس بها عن بلاد إفريقيا الشمالية، ولا سيما المغرب بشكل خاص. ومن المسلم به مثلا أن مسألة النقود والأوزان والمقاييس بحاجة لمعالجة جديدة على أيدي المختصين. كما أن ليون نفسه لم يكن يرمي إلى إعطائنا أرقاما دقيقة، وقد حاولنا أن نعطي ما يكافىء هذه الأرقام بصورة معقولة بالفرنسية الحديثة. وعند هذا الحد توقفت أبحاثنا التي لا تزال بدون شك في حاجة إلى كثير من التصحيح. وقد وجه المترجم السابق تامبورال في عبارة ودية نظر القارئ إلى هذه الحقيقة إذ يقول: «وهكذا سنلاحظ أن ليون، مؤلف هذا التاريخ عن افريقيا، والذي كتب مؤلفه في روما، باللغة الإيطالية، إنما استخدم أميالا معروفة محليا، يعادل اثنان ونصف منها مرحلة فرنسية» ولكن الميل الإنجليزي، الذي يعادل 1609 أمتار هو الذي يقابل تقديرات ليون.
وقد سمحت لنا أبحاثنا الخاصة والتي أكملتها الملاحظات الثمينة التي أخذناها عن المهتمين بهذه الناحية، أقول سمحت لنا بتشخيص عدد من الأمكنة الجديدة، ولا يزال عدد منها يتطلب تحديد مكانه بشكل دقيق، إذ يكون من اللازم ضبط كتابتها بصورة صحيحة.
هذا ولم يكن باستطاعتنا إنجاز هذه المهمة الكبيرة نسبيا لولا العون الكبير الذي تلقيناه في العديد من المجالات بفضل المساعدة الفعالة والتضلع اللذين وجدناهما لدى عدد كبير من الأشخاص الذين آسف كثيرا لعدم استطاعتي سرد أسمائهم جميعا هنا.
पृष्ठ 25
ومن المؤكد أنه لولا التعاون النشيط من جهة السيد تيودور مونو الاستاذ في «الموزيوم» (*) ومدير المعهد الفرنسي لإفريقيا السوداء في دكار، والذي التحق به بعدئذ السيد ريمون موني، مساعده، ولولا هنري لوت الملحق بمتحف الإنسان في باريس وجواب الصحراء الكبرى المشهور، لما اقتصر الأمر على قصور مراجعنا قصورا كبيرا فيما يتعلق بالموضوعات، المعروفة لديهم، بل لما استطاع الكتاب نفسه أن يرى النور.
وندين بالشيء الكثير للسيد روبير ريكار، الأستاذ في السربون، والذي يعتبر اتساع معرفته عن قضايا إفريقيا، في عصر ليون، فريدا جدا. كما تفضل الأستاذ جاستون فييت، مدير المتحف العربي في القاهرة- والذي يعتبر كتابه «تاريخ مصر» حجة- بمراجعة الجزء الخاص بمصر في هذا الكتاب. وقدم لنا كل من الأستاذ بوانسو في تونس وج. مارسيه في الجزائر معلومات ثمينة. ووضع الأساتذة: ليفي بروفنسال، الأستاذ في السربون، والسيد كولان الأستاذ في مدرسة اللغات الشرقية، والسيد مارسي، المختص المشهور بالدراسات البربرية، أقول وضع هؤلاء كفاءتهم العالية في خدمتنا. وكذلك تفضل السيد رونيه جروسيه، عضو الأكاديمية الفرنسية، بإرشادنا في بعض الأبحاث التاريخية.
ولم نعمد إلى سرد أسمائهم لإعطاء ضمانة لهذا العمل، لأن هذا سيكون نوعا من سوء الاستغلال. ولكننا سنستوحي من تواضع راموزيو في إهداء كتابه للعالم جيروم فراكاستور، وهو الإهداء الذي سنرى ترجمته بعد قليل، وسنؤكد لهم عرفاننا الصادق للفائدة التي قدموها لهذه المحاولة الرامية إلى نشر «وصف» ليون كائنة ما كانت نواقصها.
*** «الكسيس بولار»
पृष्ठ 26
لقد توقف نشر هذا المؤلف بغته، بينما كان العمل يقارب نهايته، بسبب الوفاة الفجائية للطبيب الجنرال ايبولار (1) الذي نحنيي هنا ذكراه، في أعقاب ظروف مؤلمة. فقد ظل المخطوط مفقودا خلال بضعة أعوام رغم بحث أهم معاونيه الذين كانوا حريصين كل الحرص على نشر الكتاب الذي أتمه صديقهم العظيم.
وأخيرا وبفضل عناية السيدة إيبولار (أرملة المأسوف عليه إيبولار) تم وضع المخطوط بين يدي الأستاذ ه. تيراس مدير معهد الدراسات العليا المغربية، الذي اهتم بنشاط بنشر الكتاب، ووصل الكتاب أخيرا ليدي السيد لوت، الذي عهد إليه بشئون الطباعة بشكل خاص.
وقد أعيدت كتابة بعض التحقيقات أو أضيفت ولا سيما في الجزء المتعلق بالصحراء الكبرى والسودان، والملاحظات التي تحمل الحروف الأولى من الأسماء هي التي تعكس بشكل خاص رأي أحد المحققين.
ونظرا لنفاذ ترجمة تامبورال لكتاب ليون، وهي الترجمة التي قام بطبعها شيفر بين عامي 1896 و1898، والتي لم تعد في متناول الجمهور، بينما لا تزال- نظرا لنوعيتها والقدر العظيم من المعلومات التي تشتمل عليها- كتابا مفيدا لأبناء هذا العصر، لذلك نأمل أن يقدر المختصون بالدراسات الإفريقية هذه الطبعة الجديدة حق قدرها والتي أنجزت لخدمتهم. ذلك أن النهضة التي تتخذها الدراسات التاريخية عن إفريقيا جعلت من الضروري وضع هذا الكتاب تحت تصرفهم، والذي يظل معينا قيما لدراسة ماضي هذه القارة، بعد أن كان أساس المعارف الجغرافية عن هذا الجزء من العالم خلال عدة قرون من الزمن.
ت. مونو، ه. لوت، ر. موني.
TH. MONODH. LHOTEet. RMAUNY
ملحوظة: لقد أخذت الخرائط التي حضرها ايبولار شكلها النهائي بجهود ه.
لوت، وتم رسمها في مكتب الرسم في متحف الإنسان في باريس. ونود هنا أن نشكر هذه الدائرة لتعاونها الثمين وأن نعبر عن عرفاننا للسيد الأستاذ فالوا للتسهيلات التي تكرم بها علينا لإنجاز هذا العمل.
पृष्ठ 27
الى سعادة السيد جيروم فراكاستور من جان باتيست راموزيو
لقد كان من عادة القدامى، والتي لا زالت معهودة حتى أيامنا، أن يعمد الذين يرغبون في نشر تصانيفهم، سواء المنثور منها أو المنظوم، إلى إهدائها لرجال قادرين على الحكم عليها، أو للأصدقاء الذين يودون قراءتها، أو للذين يضفي بريق أسمائهم على المؤلفين مزيدا من الثقة والشهرة.
وأود أن أحافظ على هذا التقليد، وذلك بمناسبة العمل الذي فرغت من إنجازه، والذي يتمثل في تجميع بعض التصانيف عن شئون إفريقيا والهند. ولم أجد أية شخصية أخرى سوى سعادتكم أستطيع أن أقدم لها عملي، فهي وحدها التي تستجيب أفضل استجابة للهدف الذي أقوم بعرضه. وفي الواقع لا أتصور أبدا أن هناك احدا- بفضل ما له من مكانة- يمكن أن يكون أحسن منكم حكما على مؤلفي، أو أشد حفاوة به أو تقديرا له.
وهذا يعود أولا ان سعادتكم أرسخ من أعرفهم قدما في علم الجغرافية، وإلى أنكم ارتأيتم أنني سأجلب بعض المسرة للناس بفضل هذا المؤلف، وإلى أنكم منذ البداية شجعتموني على القيام بهذا المشروع، ولأسباب كثيرة أيضا شددتم عزيمتي في عدة مناسبات، وذلك بفضل المحادثات الحكيمة والمناقشات الودية التي كانت لي مع السيد الكريم الكونت ريموندو ديلاتوره، الذي سبق له أن أنصت بسرور لجنابكم وأنتم تتكلمون بعلم غزير عن كثير من الأمكنة والكثير من المواقع.
وأخيرا رغبت في أن أترك للخلف، بعملي هذا، نوعا من شاهد على صداقتنا الطويلة الطاهرة. ولن أستطيع أن أصنع خيرا من ذلك تجاه الاحترام الذي أدين به لجنابكم، وللمودة التي تحملونها لشخصي، وإنني لعلي يقين بأن هذا المؤلف سيكون عزيزا عليكم وستقرءونه عن طيب خاطر.
ولكنني إذا كنت أريد إتمام رغبتي في رؤية عملي هذا حيا بين الناس، فلن أستطيع
पृष्ठ 29
أن أعمل خيرا من أن أقدمه لاسمكم الشهير. إنني مقتنع بأنه بعد فناء الجسد ينبغي أن يظل هذا الاسم خالدا، نظرا لأن جنابكم كان الوحيد، في عصرنا، الذي عمل على إحياء طريقة القدامى الجليلة في الكتابة في مجال العلوم. فأنتم لم تقلدوا، ولم تحرفوا، ولم تنقلوا كتابا عن كتاب، كما لم تنسبوا لأنفسكم أشياء الآخرين كما فعل الكثيرون؛ بل عملتم على تمحيص الوقائع بحذق ودراية. وقدمتم للعالم عددا من الطرق الجديدة التي لم يسمع أحد كلاما عنها من قبل بل التي لم يتصورها أحد. وهذا ما حدث في علم الفلك، فقد اكتشف شخصكم الحركات السماوية مع يقين مطلق، وأوجد نظرية غاية في احكامها عن وحيدات المركز. وفي الفلسفة، فقد مهدتم للطريقة السرية التي تولد فينا الذكاء والطريقة التي كانت مجهولة للبحث عن أسباب ظاهرات غريبة، أسباب ظلت مخفية خلال العديد من القرون، كأسباب التوافق والتنافر الطبيعية، والتي نلاحظها في ظروف كثيرة. أما في مجال الطب فقد درستم لأسباب الأمراض السارية وأفضل الطرق وأسرعها في علاجها. وإني لأترك جانبا قصيدة مرض الزهري، التي على الرغم من أنها كتبت بقلم جنابكم في سن الشباب، والتي تبدو كأنها لعبة، فهي مع ذلك مليئة بأفكار فلسفية وطبية وبديعة جدا، وموشاة بحلة قشيبة من أفكار قدسية، ومزدانة بأزهار شعرية متنوعة، حتى أن رجال عصرنا لا يعتورهم ريب في أنها تعادل القصائد القديمة، مما يضعها في عداد القصائد التي تستحق البقاء وأن تقرأ خلال قرون لا نهاية لها.
لقد اعتبرت الدول والإمارات والثروات والأشياء التي من هذا القبيل والتي يمنحها الحظ، اعتبرت دائما أمورا غير مستقرة وقصيرة البقاء. وهي في الحقيقة كذلك. أما كنز العقل، ولا سيما إذا كانت قيمته من مستوى عقل جنابكم، فمن المعروف يقينا بأنه متين، يقاوم أية إهانة ويصمد لكل صرف من صروف الدهر، ويعمل جاهدا، رغم أنف الزمن، ليصبح سرمديا وخالدا. وما أقوله هو الحقيقة. وإن من يرغب في التكلم عن حياة عدد ضخم من كبار الأمراء أو الأشراف الذين عاشوا في إيطاليا أو في أجزاء أخرى من العالم، بل من يرغب في التكلم عن المعاصرين أنفسهم، فإنه بلا شك سيجد فيما يتعلق بكثير منهم، إن لم نقل فيما يتعلق بأكبر عدد منهم، أن اللحد الذي احتوى أجسادهم قد أسدل رداء النسيان على أسمائهم، بينما نرى أن ذكرى العديد من العلماء والكتاب الذين ماتوا منذ عدة قرون، لا تزال تعيش بين ظهرانينا، وتنعم بنضارة نامية في كل ساعة تمضي.
पृष्ठ 30
وهكذا أحسب إذن أنني قمت بأفضل اختيار، باعتبار الهدف الذي كنت أرمي إليه قبل كل شيء. فقد جذبت إليه بنوع من غريزة محبة عفوية وتبجيل تجاه رجال الأدب الذين يهتمون خاصة بالعلوم الفلكية والطبيعية.
ويتراءى لي في الواقع أن العلوم المذكورة تحوي شيئا الاهيا نوعا ما مما يجعلها مؤهلة للتشريف والإعجاب بين الناس. ولكن السبب الذي حدا بي لبذل الكثير من العناء، عن طيب خاطر، في هذا العمل بالذات، هو التأكد الذي حصلت عليه من دراسة وتمحيص لوحات بطليموس الجغرافية، فقد وجدت أن اللوحات التي تصف أفريقيا والهند تشكو من نقائص كثيرة تجاه المعرفة الواسعة التي لدينا حاليا عن هذه المناطق وقد قدرت أن جمع أقاصيص كتاب عصرنا، الذين كانوا في هذين الجزأين من العالم والذين تكلموا عنها بصورة مفصلة سيكون عملا ثمينا وجزيل الفائدة. وإذا ضممنا إليه صورة عن الخرائط البحرية البرتغالية، فسيكون صنع عدد مكافىء من اللوحات عملا ذا فائدة كبيرة لأولئك الذين يهتمون بهذه المسائل، إذ سيصبحون على يقين من درجات العرض والطول، وذلك على الأقل بالنسبة لسواحل كل هذه الأصقاع، ومن أسماء الأمكنة، والمدن والأمراء الذين يقطنون فيها حاليا، وسيتمكنون من موازنة هذه اللوحات مع ما كتبه الأقدمون.
ترى كم كابدت روحي الكليلة والصغيرة من عناء في هذا العمل، ولا سيما بسبب تنوع اللغات التي كتب بها هؤلاء المؤلفون، ولا أريد أن أشير إلى ذلك الآن كيلا يظهر أنني أبالغ في الكلام عن متاعبي وسهدي. ولكن آمل من قرائي الكرام أن يلاحظوا ذلك، في بعض الأمكنة، عندما يفكرون في هذا الأمر. وإذا كنا قد ارتكبنا عددا كبيرا من الأخطاء، وهذا ما أعترف به حقيقة، فهذا لم يصدر عن قلة في العناية من جهتنا، بل يعود ذلك بالأحرى إلى أن مستوى ذكائنا عجز عن مجاراة حماس إرادتنا الطيبة.
وفضلا عن ذلك فإن نسخ المؤلفات التي وصلت إلى يدي كانت مضطربة للغاية ومغلوطة، وهذا ما كان يخيف أي نفس جلودة وجريئة إذا لم تكن مدعومة بفكرة الحبور الذي يستشعره هواة المسائل الجغرافية، ولا سيما من معرفة ذلك الجزء من إفريقيا الذي كتبه جان ليون. وليس هناك، كما نعرف، أي مؤلف آخر في عصرنا أعطى مثل ذلك القدر من المعلومات عنه، وبمثل تلك الغزارة وذلك اليقين.
पृष्ठ 31
ولكن ماذا أقول عن المتعة التي سيحصل عليها الأدباء والدارسون؟ ومن ذا الذي يرتاب في أن العديد من الأشراف والأمراء ستنشرح نفوسهم من هذه المطالعة؟ ومن حق هؤلاء أكثر من سواهم أن يعرفوا أسرار هذا الجزء من العالم وخصائصه، وتفاصيل تلك المناطق وأقاليمها ومدنها، والعلاقات المتبادلة بين الأشراف وبين الأقوام التي تسكنها، حتى لو كانوا مطلعين، أو عرفوا بعض الحقائق من أشخاص آخرين سبق لهم أن جابوا هذه الأقطار، او قرأوا ما كتبه هؤلاء، أو استمعوا إلى ما سردوه عليهم، وكان لديهم بفضل ذلك فكرة مسبقة عن عدد هذه المواقع واتساعها، فإني لعلي يقين أنهم عند مطالعة هذا الكتاب، وبعد الإلمام بما يحتويه، وما هو معروض فيه، سيظهر لهم أن المعلومات التي لديهم تبدو بالمقارنة مع مكنونات هذا الكتاب، معلومات مبتسرة وناقصة وقليلة القيمة، تلك هي الثمرة التي سيجنيها القراء من هذا الكتاب والتي ستوفر لهم كل ما يحبون .
ولقد تردد مؤلفنا (يقصد جان ليون) كثيرا على قصور أمراء بلاد المغرب، كما اشترك معهم في عدة حملات حربية، في عصرنا، وسأروي عن حياته ما ورد عن أشخاص جديرين بالثقة من الذين عرفوه وترددوا عليه في روما.
لقد كان مغربيا مسلما، ولد في غرناطة، وعندما استولى الملك الكاثوليكي على هذه المملكة، كان هذا في جملة الذين التجأوا إلى بلاد المغرب مع أسرته، وأتم تحصيله بالعربية في مدينة فاس. وقد كتب في هذه اللغة عدة مؤلفات في علم التاريخ ولكنها لم تصل إلينا حتى الآن، فضلا عن كتاب في علم النحو يقول الأستاذ يعقوب مانتينو أنه بحوزته. ولقد جاب كل أرجاء الشمال الإفريقي، وبلاد السودان، وجزيرة العرب، وبلاد الشام، مسجلا كل ما رآه وما سمعه. وفي آخر مرحلة سقط في الأسر، في جزيرة جربه، في عهد البابا ليون، بواسطة أحد مراكب القرصان. وقد اقتيد إلى روما حيث قدم هدية لقداسته. ولما رآه البابا، وأدرك أنه يهتم بقضايا الجغرافيا، وأنه سبق أن ألف كتابا يحمله معه، أكرم وفادته وأثنى عليه كثيرا ومنحه مرتبات طيبة كي لا يغادر البلاد.
وبعدئذ ناشده أن يعتنق النصرانية وأوصله لذلك ومنحه اسميه جان وليون. وهكذا سكن ليون مدة طويلة في روما بعد ذلك. وتعلم فيها اللغة الإيطالية قراءة وكتابة وترجم كتابه من العربية قدر استطاعته. وهذا الكتاب الذي كتبه بيده وصل إلينا في أعقاب أحداث عديدة سيكون ذكرها نوعا من إسهاب. أما نحن فقد بذلنا أحسن عناية بإمكاننا وقد اجتهدنا في سبيل إخراجه للنور، بكل أمانة، على الصورة التي يقرأ فيها الآن.
पृष्ठ 32
وصف افريقيا وما فيها من أشياء جديدة بالإهتمام
पृष्ठ 33
القسم الأول منشأ إسم إفريقيا
تدعى أفريقيا بالعربية، إفريقية، من كلمة فرق التي تقابل معنى الكلمة اللاتينيةSepararit وهناك رأيان حول أصل هذه التسمية. فالأول يرتكز على أن هذا الجزء من العالم ينفصل عن أوربا وعن جزء من آسيا بواسطة البحر المتوسط. ويرى القول الثاني أن هذا الاسم مشتق من أفريقوس ملك بلاد العرب السعيدة، (1) على اعتبار انه أول من جاء وسكنها، فبعد أن هزم هذا الملك في معركة مع آشور وطرد من مملكته عجز عن العودة اليها، فعبر النيل على عجل متابعا طريقه نحو الغرب ولم يتوقف قبل وصوله الى ضواحي قرطاج. ولهذا فان العرب لا يقصدون بإفريقية سوى ضواحي قرطاج ذاتها، ويطلقون على مجموع افريقيا اسم المغرب. (2)
حدود إفريقيا
يعتبر النيل، وذلك استنادا الى العلماء الأفارقة والجغرافيين، تخما شرقيا لافريقيا، وهذا ابتداء من روافد بحيرة غاوغه جنوبا (3) وحتى مصب هذا النهر في البحر الابيض المتوسط، وتمتد غربا حتى اعمدة هرقل. وتذهب غربا من هذا المضيق حتى نون، وهي
पृष्ठ 35
آخر موقع من ليبيا على المحيط. (4) وتبدأ افريقيا في الجنوب من رأس نون وتمتد على طول المحيط الذي يطيف بها حتى صحراء غاوغه. (5)
أقسام إفريقيا
تنقسم افريقيا، كما يرى كتابنا الى أربعة اقسام وهي: بلاد البربر، نوميديا، ليبيا، وبلاد السودان. وتبدأ بلاد البربر في الشرق من جبل معيز، وهو آخر بروز من جبال الاطلس على مسافة ثلاثة آلاف ميل تقريبا من الاسكندرية. (6)
ويعتبر البحر المتوسط حدا شماليا لها ابتداء من جبل معيز حتى اعمدة هرقل. وفي المغرب تبدأ حدودها من هذا المضيق وتحاذي ساحل المحيط حتى آخر بروز من جبال الاطلس، أي عند النهاية الغربية لهذه الجبال، على حافة المحيط، عند المكان الذي تقوم فيه مدينة ماسه. وتنتهي بلاد البربر جنوبا قرب جبال الاطلس. أي عند سفح هذه الجبال المطل على البحر الابيض المتوسط. وهنا نجد أشرف جزء من افريقيا حيث نجد أناسا من الجنس الابيض يسيرون وفق نظم منبثقة من التفكير السليم ومن القوانين الوضعية.
أما القسم الثاني فيسمية اللاتين نوميديا، والعرب يدعونه بلاد الجريد وهي البلاد التي ينمو فيها النخيل، (7) وتبدأ نوميديا شرقا من الواحات، وهي مدينة على مسافة مائة
पृष्ठ 36
ميل من مصر. (8) وتبدأ نوميديا غربا حتى نون الواقعة على ساحل المحيط. وتمتد شمالا حتى جبال الاطلس على السفح الجنوبي. وبذلك تتاخم رمال صحاري ليبيا من الجنوب، ويطلق العرب (9) نفس الاسم على كل هذه الاصقاع التي تنتج التمور لأن لها جميعا نفس الموقع.
ويدعى القسم الثالث ليبيا في اللاتينية، ولكنه لا يحمل في العربية اسما آخر سوى الصحراء أي القفار (10). وتبدأ شرقا من تخوم الواحات كي تمتد غربا حتى المحيط.
وتتاخم نوميديا من الشمال بلاد النخيل وتتاخم من الجنوب بلاد السودان، ابتداء من مملكة ولاته شرقا، والتي تقع على المحيط. (11)
ويبدأ القسم الرابع، أي بلاد السودان، من شرقي مملكة غاوغه ويستمر غربا حتى مملكة ولاته (12) وتثاخم بلاد السودان من الشمال صحراء ليبيا. وتنتهي بلاد السودان جنوبا في أمكنة نجهلها، ولكننا نملك عنها معلومات جديدة استقيناها من تجار يأتون من هذه المناطق الى مملكة تومبوكتو. ويمر من أواسط بلاد السودان نهر النيجر، الذي يتولد في صحراء تدعى سو، وحيث يخرج من بحيرة. (13) واستنادا الى ما يؤكده جغرافيونا فان نهر النيجر هو عبارة عن فرع من النيل يغور تحت الارض، ومن ثم ينبثق منها كي يشكل هذه البحيرة. ويقول البعض ان هذا النهر ينشأ في الغرب، في جبال، وثم يجري
पृष्ठ 37
نحو الشرق كي يتحول الى بحيرة. وهذا غير صحيح، فقد ركبنا متن هذا النهر بالفعل منطلقين من تومبوكتو شرقا وسرنا مع تيار الماء حتى مملكة جنه، وحتى مملكة مالى، وكلاهما الى الغرب من تومبوكتو (14) وأجمل بلاد السودان هي تلك التي تمتد على طول نهر النيجر.
وأوجه انتباهكم إلى انه نظرا الى ما يقوله الجغرافيون، فان قسما من بلاد السودان التي يخترقها نهر النيل في قسمها الغربي، تمتد شرقا حتى بحر الهند ويبلغ في بعض النقاط البحر الاحمر في اتجاه الشمال، في جزء من هذا البحر يقع الى ما وراء المضيق الذي يفصل هذه البلاد عن بلاد العرب السعيدة، (15) ولا يعتبر هذا الجزء من إفريقيا لأسباب عديدة وردت في مجلدات طويلة ويسمي اللاتين هذا القسم أثيوبيا، ومن هناك يأتي بعض الرهبان الذين تكون وجوههم موسومة بالنار ويمكن رؤية بعضهم في كل أوربا، ولا سيما في روما. ويحكم هذه البلاد رئيس، هو نوع من بطريق يسميه الطليان الكاهن حنا.
والقسم الاكبر من هذه المنطقة يقطنة نصارى. وهناك زعيم مسلم يملك فيها مع ذلك ولاية كبيرة.
أقسام وممالك هذه الأجزاء الأربعة من إفريقيا
تقسم بلاد البربر الى أربع ممالك:
الأولى هي مملكة مراكش التي تقسم الى سبع مناطق هي: حاحه، السوس، مراكش، جزولة، دكالة، هكسورة، وتادلة. (16)
والثانية هي مملكة فاس وتضم عددا مماثلا من المناطق وهي: تامسنة، إقليم فاس، أزغار، الهبط، الريف، غارت، والحوز.
الثالثة هي مملكة تلمسان التي تشمل ثلاث مناطق هي: الجبال، تينس، والجزائر.
الرابعة وهي مملكة تونس التي تخضع لها أربع مناطق هي: بجاية، قسنطينة،
पृष्ठ 38