وانتقل الملك إلى ابن عمه الحارث الرائش بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس. فالرائش أبو التبابعة السبعة. ويقال: إنه أول ملك استعمل الدروع لأصحابه وألبسهم إياها. ويقال: إنه قسم بلدان اليمن سهلها وجبالها وأوديتها بين عشائره، وأعانهم على عمارتها، وأخرج لهم فيها المستغلات، فارتاشت العشيرة واستغنى بعضها من بعض عن كثير مما كانوا محتاجين إلى الملك مما في يده، ولارتياشهم معه سموه الرائس، وإلا فاسمه الحارث بن قيس بن صيفي بن سبأ الأصغر.
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن الرائش وصى ابنه ذا المنار بن الرائش فقال له: إن أباك حوى لك الملك، وأقره في محتد أنت أوسط الناس فيه، وأولاهم به. وإنه ليوصيك بزيادة ما نالت يدك من الخير أن تفعله إلى من سمع لك وأطاع. واجعل العدل ناصرًا، واتخذ الأحساب لك تجده، واصطنع العشيرة ليوم.
وأنشأ يقول:
حويتُ لكَ المُلكَ الذي كانَ حازَهُ ... لأولادِهِ في سلفِ الدَّهر حِميرُ
فكُنْ حافظًا للمُلكِ بعدي عامرًا ... فقدْ يُحفظُ المُلكُ الأثيلُ ويعمرُ
وعِمرانُهُ أن يُبسطَ العدلُ دُونهُ ... وبالعدلِ تنهى ما نهيتَ وتأمرُ
وثابِرْ على الأحسابِ إنك لن ترى ... فتىً محسنًا إلا يُعانُ ويُنصرُ
وقومكَ واصِلهُم وحِطُهُمْ وإنَّما ... بقومِكَ تعلُو منْ أردتَ فتقهرُ
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال أن أبرهة ذا المنار بن الرائش ولي الملك بعد أبيه الحارث الرائش، وثبت على ما وصاه به أبوه الرائش وعمل به وحفظه، وهو أول ملك نصب الأعلام وبنى الأميال والعلامات على الطرق والمناهل، ولذلك سمي ذا المنار، وذلك أنه ضرب في الأرض يطلب بلاد في شرقها وغربها ليفتحها، وليأخذ إتاوتها واسمه أبرهة ذو المنار بن الرائش، وهو الذي ذكره صلاءة بن عمرو الأودي في شعره الذي ذكر التبابعة والمثامنة حيث يقول: " من الوافر "
فلَو دامَ البقاءُ إذًا جُدودي ... وأسلافي بنو قحطانَ دامُوا
ودامَ لهم تبابُعُهمْ ملوكًا ... ولم تَمُتِ المثامنةُ الكرامُ
وعاشَ الملكُ ذو الأذغارِ عمروٌ ... وعمروٌ حَولَه النُّجُبُ اللُهامُ
وخُلِّد ذو المنارِ وما تردَّى ... أبُوهُ الرَّائِشُ المَلِكُ الهُمامُ
مُلُوكٌ أدَّتِ الدُّنيا إليهمْ ... إتاوتها ودانَ لها الأنامُ
ولمَّا يَعصِهِم حَامٌ وسَامٌ ... ويافثُ حيثُ ما حَلَّتْ ولامُ
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: أما سام فأبو العرب، وأما حام فأبو النوبة والحبش والزنج والبجاة والبازة. قال: وقرأت في بعض الكتب أن خراسان أخو فارس، وأخوهما كرمان والكرد الأكبر، أبوهم يافث بن نوح النبي ﷺ، وقال: إن الروم منه من ولد لام بن نوح النبي ﷺ، وفيه من ولد عيصو بن إسحاق بن إبراهيم ﷺ. قال: فأما الروم الأولى فمن ولد لام بن نوح النبي ﷺ، إخوتهم الصقالبة والخزر والغورط والكابل والصين والسند والهند.
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي أن أبرهة ذا المنار وصى ابنه عمرًا ذا الأذعار بن أبرهة ذي المنار، فقال له: يا بني، إن الملك زرع، والملك قيِّمٌ ملك الزرع، فإن أحسن القيم قيامه عليه في سقائه عند حاجته إليه، وفي إجلابه غرائب النبات مما نبته وتعاهده إياه بالكرم وحمايته عن المؤذيات من البهائم والطير زكا حصاده، وكثر محصوله، وحمد القيم، واستكرمت الأرض، وإن كان القيم غير متفقد لذلك الزرع ولا متيقظ لمثابرته على سقياه وكرمه وحمايته وحفظه أوهنه العطش، وأيبسه الخلى، وأكلته الطير، وداسته البهائم، فلا الزرع زاك، ولا الأرض معمورة، ولا القيم محمود.
ثم أنشأ يقول:
يا عمروُ إنَّكَ ما جهلتَ وصيَّتي ... إيَّاكَ فاحفظها فإنَّكَ ترشُدُ
يا عمروُ لا واللهِ ما سادَ الورى ... فيما مضى إلا المعينُ المُرفِدُ
كلُّ امرئٍ يا عمرو حاصدُ زرعِهِ ... والزَّرعُ شيءٌ لا محالةَ يُحصَدُ
إن كانَ مذمُومًا فيعرفُ دُونَهُ ... بالذَّم فيه الزَّارعُ المُتقلِّدُ
أو كانَ محمودًا فَتُحمدُ أَرضُهُ ... والزَّرعُ والزَّرَّاع كلٌ يحمدُ
1 / 8