واحترام النفس ينشأ عنه دائما الحط من قدر الآخرين. والغرور والخيلاء والكبر تولد الاحتقار والكراهية لأبناء الشعوب الأخرى. ومن هنا ينشب القتال .
ويكمن وراء تقديس الدولة خطر آخر، وذلك أن أكثر الرجال والنساء يسلكون في الظاهر سلوكا حسنا، ولكنهم يضمرون في نفوسهم دوافع دنيئة لا يقرهم عليها المجتمع، وإنك لتراهم فرحين بقصص العصابات والقرصان والخداع؛ لأنهم عن طريقها ينفسون عما تنطوي عليه نفوسهم الخبيثة، وهم يجدون في الدولة ما يجدون في هذه القصص، بل يجدون فيها أكثر من ذلك؛ لأن الدولة شخصية معنوية مقدسة، عظيمة في قوتها وسلطانها، ولكنها منحطة من الوجهة الخلقية. إن أخلاق الساسة في الشئون الدولية لا تختلف في شيء عن أخلاق عصابات اللصوص والقرصان والمخادعين. ويستطيع المواطن أن ينفس عن رغبته في الإجرام لا في أشرطة السينما فحسب، بل في ميدان العلاقات بين الأمم أيضا. إن الدولة المقدسة - التي ينتمي إليها المواطن - تهدد غيرها من الدول وتخادع وتتبجح بطريقة ترضي فينا الطبائع الدنيئة المكبوتة. إن الرجل قد يحب زوجه وأطفاله، وقد يعطف على جيرانه، ويخلص في عمله، لا يضر أحدا ولا يصيب غيره بأذى، ولكنه يشعر بالنشوة حينما تنتصر بلاده على غيرها من البلدان، وحينما تتسع رقعتها وتخضع غيرها، أو بعبارة أخرى حينما تعتدي على غيرها من الأمم الوادعة وتخدعها وتسرق جهدها ومالها.
إن الأمة معبود عجيب، ولها على النفوس سلطان غريب، إنها تفرض علينا واجبات شاقة فنؤديها، وتطلب إلينا تضحيات عظيمة فنقدمها؛ وذلك لأننا نحبها ونقدسها، إننا نحبها لأنها تثير فينا الطبائع الدنيئة الخبيثة، وهي تقدم لنا المعاذير لتظاهرنا بالصلف والكبرياء على غيرنا من أبناء الأمم الأخرى، وهي تهيئ لنا الفرصة بما تشن من حروب لأن نشهد المذابح، فنروي برؤية الدماء نفوسا متعطشة إلى الفتك والدمار.
ونكتفي بهذا القدر من الكلام على الأسباب السيكولوجية للحروب. ولنبحث الآن في أسباب الحرب المباشرة، وهي أسباب - وإن تكن سيكولوجية كذلك إذا أخضعناها للتحليل الدقيق - سياسية واقتصادية في ظاهر أمرها. ونحن في الواقع إنما نلجأ إلى هذا التقسيم - سيكولوجي وسياسي واقتصادي - عند البحث في أسباب الحرب لسهولة التبويب. ولكنه تقسيم له مثالبه؛ لأننا بهذا الفصل بين الأسباب ننظر إلى شئون «السياسة » و«الاقتصاد» كأنها عوامل لم تنبع من داخل نفوسنا، وإنما هبطت علينا من عالم آخر، ونحسبها عوامل قد تنفصل عن الطبيعة البشرية. أجل إن للسياسة والاقتصاد أثرهما المستقل، ولكن الإنسان ليس بالآلة الصماء التي تتأثر ولا تؤثر؛ فهو كثيرا ما يتدخل في هذه العوامل السياسية والاقتصادية، ويمسها بالتعديل والتبديل حتى تلائم حاجاته؛ ولذا فلا ينبغي لنا أن ننظر إلى السياسة والاقتصاد كأنهما عاملان لهما أثرهما المستقل، ولهما سلطانهما الذي لم يتفاعل مع نفوسنا؛ لأن هذه النظرة تؤدي بنا إلى نتائج خاطئة. وأنا أكرر القول بأننا حينما نفصل العوامل السياسية والاقتصادية عن العوامل النفسية فإنما نفعل ذلك لتيسير البحث فحسب؛ لأن عوامل السياسة والاقتصاد سيكولوجية في طبيعتها. (ج)
وأول الأسباب السياسية للحرب هي الحرب ذاتها؛ فكم من حرب اشتعلت نيرانها بسبب الاستيلاء على قطعة من الأرض لها قيمة حربية، أو بقصد الوصول إلى الحدود الطبيعية - أي الحدود التي يسهل الدفاع عنها، والتي تجعل الهجوم على الدول المجاورة أمرا ميسورا. إن المزايا الحربية المحضة لها عند حكام الأمم أهمية المزايا الاقتصادية. ثم إن مجرد حشد الجيوش وبناء الأساطيل البحرية والجوية سبب من أسباب نشوب القتال. يقول الرجل العسكري: «يجب أن نستخدم قوانا الحربية كي ندربها على إجادة القتال حتى تكون أقرب إلى النصر في الحرب المقبلة.»
ويجدر بنا هنا أن نقول كلمة في الدور الذي يلعبه التسليح في إثارة الحروب. إن كل رجال السياسة يزعمون أن تسليح بلادهم إنما هو لأعراض الدفاع فحسب، وأنه لا يقصد به الهجوم. ثم إنهم يزعمون - فوق ذلك - أن تسليح الدول الأجنبية يحتم عليهم تسليح بلادهم. إن كل أمة تتخذ الحيطة للدفاع عن نفسها ضد ما تتخذه الدول الأخرى من أسباب الاحتياطات الدفاعية! ولا مراء في أن هذا التسابق في التسليح لا بد ينتهي بإعلان الحرب والنزول إلى ميدان القتال. إن التسليح يؤدي حتما إلى القتال لسببين: أولهما نفسي؛ وذلك لأن تسليح بلد من البلدان يبعث الخوف والشك والحقد والبغض في البلدان المجاورة. وفي مثل هذا الجو الموبوء ما أسرع أن ينتهي الخلاف والجدال بالقتال والمعارك. والسبب الثاني فني؛ وذلك أن الأسلحة إذا لم تستخدم في حينها تصبح طرازا قديما قد لا يصلح لملاقاة العدو الذي يستخدم أسلحة حديثة الطراز. خذ مثلا لذلك الطائرة. إنها تتقدم كل يوم باطراد؛ ولذا فإن الدولة التي تحس بأنها خير من غيرها تسليحا تسارع إلى إعلان الحرب قبل أن يتفوق عليها غيرها في نوع السلاح، فتحاول أن تجاريها، ويكلفها ذلك مالا طائلا قد لا تتحمله إذا كانت من الأمم الفقيرة. ثم إن أكثر الأسلحة تقوم بصنعها الشركات الأهلية، ومن الجلي أن من مصلحة هذه الشركات الإكثار من صناعة السلاح، وبيعه لأمتها، وللأمم الأجنبية الأخرى بربح عظيم. وذلك من أسباب الحروب الهامة، وسأعود إلى الكلام فيه ثانية في موضع آخر من هذا الفصل. (د)
وقد تشتعل الحرب لنشر عقيدة دينية أو سياسية؛ فحروب الإسلام والحروب الصليبية والحروب الدينية الأوروبية في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وحروب الثورة الفرنسية، والحرب الأهلية الأمريكية، والحرب الإسبانية الأهلية الأخيرة، كلها أمثلة لحروب الغرض منها نشر فكرة خاصة أو عقيدة بعينها. حقا إن بعض هذه الحروب قد يرجع إلى أسباب أخرى غير نشر العقيدة، مثل الطمع في جمع الثروة، أو السيادة وبلوغ المجد، أو غير ذلك. ولكن الغرض الأول في جميع هذه الحروب هو نشر الفكرة التي يتحمس لها المقاتلون؛ فلو لم تكن هناك رغبة في نشر عقيدة جديدة أو الدفاع عن عقيدة قديمة ما قامت هذه الحروب وما قاتل المحاربون فيها بالحرارة والحماسة والشجاعة التي يتصفون بها دائما. وقد حل التعصب القومي في العصر الحديث محل العقائد الدينية والسياسية في الزمان القديم. وتدل الدلائل على أن الحروب المقبلة كلها سوف تهب للدفاع عن رأي من الآراء، كما كانت الحروب في الزمن الخالي تنشب للدفاع عن الدين. (ه)
وثمة سبب آخر من أسباب الحرب ألمعنا إليه من قبل إيجازا، وذلك هو تحقيق «المجد» الذي يعقب النصر. والمجد حلم لذيذ يحلم به الملوك وقواد الجيوش؛ فمن أجل المجد كان ملوك آشور يقاتلون، ومن أجل المجد دوخ الإسكندر الأكبر المشرق والمغرب، ومن أجله قاتل ملوك العصور الوسطى ونبلاؤها، ولويس الرابع عشر، والأسر المالكة في أوروبا في القرن الثامن عشر، ونابليون بونابرت. ومن أجله يقاتل هتلر وموسوليني في العصر الحديث. إن الزهو والغرور والتعطش إلى العظمة والمجد كثيرا ما تدفع الحاكم إلى إقحام بلده في حرب ما كان أغناه عنها، وبخاصة إذا كان الحاكم دكتاتورا مستبدا على رأس أوليجاركية حربية. (و)
ولقد تحسب المجد من خصائص الملوك والقواد وحدهم. كلا؛ فإنه يعود على كل فرد من أفراد المجتمع في البلدان التي تشتد فيها العواطف القومية وتقوى؛ فالفرنسيون جميعا شاطروا لويس الرابع عشر مجده. وقد نجحت الثورة الفرنسية من أثر الدعاية التي كانت تحاول أن تقنع الناس بأن المجد لهم أجمعين. ومثل هذه الدعاية تعم العالم اليوم، فيتصور الرجل العادي أن في نصر أمته فخارا له ومجدا. والصحافة والراديو والسينما تشعر كل فرد أن له في المجد نصيبا. وعندما تسوء الأمور داخل البلد الدكتاتوري، ويبدأ الناس بالتذمر والضجر، كثيرا ما يرى الدكتاتور أن في مجد القتال علاجا لذلك. وقد كان المجد في الماضي أرخص منه في الحاضر؛ لأن المدنيين في العصر الحديث يكابدون مشقات الحرب كما يكابدها المحاربون، وذلك بعد استخدام الطائرة في القتال؛ فكلنا يدفع ثمن المجد إن كنا من الظافرين. والحرب بالوسائل الحديثة تهلك الحرث والنسل؛ فيقاسي منها الرجل في كسر بيته كما يقاسي منها الرجل في ساحة القتال. (ز)
من أهم الأسباب الاقتصادية في تقاتل الأمم الطمع في أرض خصبة تملكها أمة أخرى؛ فقد أعلن هتلر في خطبه مرارا أن ألمانيا بحاجة إلى أرض جديدة يقطنها السكان الزائدون عما تحتمله مساحة البلاد الألمانية.
अज्ञात पृष्ठ