ولنعد الآن إلى موضوعنا الأساسي - وهو ضرورة تجنب العنف الداخلي عند القيام بالإصلاح. نعود فنقول إن الإصلاح قد يكون مستحبا في حد ذاته، ولكنه لا يلائم الظروف التاريخية القائمة، فيصبح عديم الجدوى من الناحية العملية. ولا أحب أن يؤدي هذا إلى الخطأ الشنيع الذي ارتكبه هجل، وسار على نهجه الحكام المستبدون المحدثون، مرتكبين الجرائم يبررون بها أعمالهم، ومقدمين من القول سخفا يعللون به آثامهم - وذلك الخطأ الذي أعني هو الاعتقاد بأن الواقع هو المعقول، وأن الظروف المحيطة هي الظروف المثالية التي ينبغي أن تبقى بغير مساس. ليس الواقع هو المعقول وليس كل ما هو كائن حقا وصوابا. إن الواقع - في أية لحظة من لحظات التاريخ - يحتوي على عناصر معقولة وعلى عناصر أخرى تخرج عن حد المعقول. والإدراك السليم يقتضينا عند إدخال الإصلاح أن نبقي على المعقول وأن ننبذ كل ما عداه.
ولما كان نبذ أي تقليد من تقاليد المجتمع أمرا عسيرا على أكثر النفوس، فإنه يجمل بنا أن نبقي كذلك على التقاليد التي لا تنفع ولا تضر، أو التي لا يكون من ورائها ضرر محقق؛ وذلك لأن ميل الإنسان إلى المحافظة على القديم حقيقة لا ينبغي إنكارها أو إهمالها. ويترتب على ذلك أن يمتنع المصلح الاجتماعي عن القيام بتعديل لا يراه جد ضروري، أو تعديل يدرك أنه يدعو إلى النفور الشديد. وواجب المصلح - كلما أمكن ذلك - أن يمد في حبل النظم القائمة التي يألفها الناس، وأن يجعلها أساسا للتطور الذي يرمي إليه حتى يتمكن من بلوغ مأربه. إن المبادئ القائمة التي يقرها العقل السليم ينبغي أن تجد لها محلا في الإصلاح المنشود، وواجب المصلح أن ينقلها من النطاق الضيق إلى النطاق الواسع.
بهذه الطريقة وحدها تخف المعارضة التي لا بد تنشأ عند كل إصلاح جديد، كما تضعف الحاجة إلى استخدام وسائل العنف والشدة.
الفصل الخامس
الجماعة التي تسير على خطة مرسومة
لم يتعرض قبل الحرب العظمى للكلام على الجماعة التي تسير على خطة مرسومة غير الفابيين (جماعة الاشتراكيين). وفي أثناء الحرب رسمت الخطة لجميع الجماعات المحاربة. وإذا نظرنا إلى السرعة التي تم بها رسم الخطط حكمنا أنها كانت خططا محكمة وضعت بقصد تمكين الدولة من مواصلة العداء. وما كادت الحرب تنتهي حتى قامت المعارضة في وجه سياسة الخطة المرسومة، وكان ذلك طبيعيا بعد حرب ضروس دامت أربعة أعوام. ثم كانت الأزمة الاقتصادية التي أعقبت الحرب الكبرى، فآمن الناس من جديد بضرورة رسم الخطة للدولة. ومنذ عام 1929 أخذت فكرة تنظيم الدولة في الرواج والانتشار، فرسمت الخطط في نظام وإحكام وعلى نطاق واسع في الدول الدكتاتورية، ورسمت على نطاق ضيق في الدول الديمقراطية، وأخرجت المطابع سيلا جارفا من الكتب في التنظيم الاجتماعي. وكان لكل مفكر مجدد مشروعه في التنظيم. بل لقد أصابت العامة أنفسهم عدوى التفكير في هذا الموضوع. وتنظيم الجماعة اليوم من الأمور المستحدثة المستحبة؛ وذلك لأن العالم يتردى في حمأة من التدهور والضلال. ويبدو لمن يتدبر الظروف الراهنة أنه من المستحيل إنقاذ العالم من الشر الذي يسبح فيه، أو إصلاح ما به من عيوب، دون التفكير في وضع خطة لتنظيمه. غير أننا نخشى - ونحن نحاول إنقاذ العالم أو جزءا منه من اضطرابه الحاضر - أن تكون الخطة المرسومة خطة جهنمية. إننا إذا لا ننتشل العالم من وهدته، إنما نودي به إلى الخراب والدمار؛ فإن من ألوان العلاج ما هو شر من المرض.
لا بد من وضع الخطة لتنظيم المجتمع، ولكن ماذا عسى أن تكون تلك الخطة؟ إننا لا نستطيع أن نجيب عن هذا السؤال، ولا نستطيع أن نحكم على أي مشروع للإصلاح إلا إذا رجعنا إلى مثلنا العليا التي نرمي إليها، فإن كان هذا المشروع يحقق لنا أملنا أو بعض أملنا فهو مشروع مستحب مرغوب، ينبغي لنا عند النظر في أية خطة أن نتساءل: هل تعين هذه الخطة على نشر العدالة والسلام بين الأمم؟ هل تعمل على التقدم العقلي والخلقي، هل تصوغ لنا جماعة من الرجال والنساء المتحررين المسئولين؟ إن كان الأمر كذلك فهي إذا خطة طيبة، وإلا فهي خطة خبيثة لا نرضاها لأنفسنا ولا نقبلها برنامجا لحياتنا.
والخطط الخبيثة في العصر الحاضر ضربان: هناك الخطط التي يضعها ويقوم بتنفيذها قوم يختلفون عنا في نظرهم إلى المثل الأعلى للإنسان. وهناك الخطط التي يضعها ويقوم بتنفيذها قوم يتفقون معنا في النظر إلى المثل العليا للحياة، ولكنهم يتصورون أن الغايات النبيلة يمكن أن تتحقق بوسائل دنيئة، إنهم يعبدون الطريق إلى جهنم وهم لا يشعرون، والضرر الذي ينجم عن أبناء هذه الطائفة الأخيرة ليس أقل شأنا من الخطر الذي ينجم عن أبناء الطائفة الأولى، وفي هذا تأييد لبوذا الذي كان يعد الجهل والغباء من أمهات الكبائر.
ولنضرب للقارئ بعض الأمثلة التي توضح ما نقول: من أبناء الطائفة الأولى الفاشستيون العسكريون الذين يختلفون عنا في مثلهم الأعلى للحياة الصحيحة، يقول موسوليني: «إن الفاشستية تعتقد أن الحرب وحدها هي التي ترفع النشاط الإنساني إلى أقصاه، والحرب وحدها هي التي تطبع بطابع الشرف تلك الشعوب التي تجد لديها من الشجاعة ما يدفعها إلى النزول إلى ساحة القتال.» ثم يقول في موضع آخر: «إن الفاشستية والسلام فكرتان متعاديتان.» الرجل الفاشستي إذا يعتقد أن ضرب المدن المكشوفة بالنار والقنابل، وإهلاكها بالسموم والمفرقعات (أو بعبارة أخرى الحرب الحديثة) عمل طيب في صميمه، هو رجل ينبذ تعاليم الرسل المصلحين، ويعتقد أن خير الجماعات جماعة قومية تعيش في عداء دائم مع المجتمعات القومية الأخرى، هو رجل لا يتورع عن النهب والفتك، ثم هو يحتقر الرجل المتحرر، ويعجب بالرجل الذي يخضع للحاكم المستبد الغاصب، والذي يتصف بالكبرياء والحسد والحقد وسرعة الغضب، وهي صفات أجمع الأنبياء والفلاسفة على أنها حقيرة لا يصح أن يتحلى بها الإنسان الراقي. إن الخطط الفاشستية جميعا ترمي إلى غاية واحدة: وتلك هي أن تجعل المجتمع القومي قادرا على أن يدير عجلة الحرب بنشاط ونجاح؛ فالصناعة والتجارة والمالية توجه نحو هذا الغرض، الدولة الفاشستية تعمل على أن تستقل عن غيرها من الدول من الناحية الاقتصادية، وتحاول أن تكفي حاجات نفسها دون اللجوء إلى غيرها من الأمم؛ ومن أجل ذلك فهي تشجع الصناعات الوطنية التي قد تكون أقل جودة من الصناعات الأجنبية، كما أنها تحاول أن تستعيض عن الخامات التي تفتقر إليها بخامات مصطنعة محلية، وهي فوق ذلك تفرض الرسوم والضرائب على البضائع الواردة، وتشجع التصدير، وتقلل من تبادل السلع، وتعمل على خسارة منافسيها بكل وسيلة مشروعة وغير مشروعة، وتسير السياسة الخارجية في تلك الدول على المبادئ المكيافلية صراحة وجهارا، وتدخل الدولة الفاشستية في اتفاقات جدية مع غيرها من الدول، وهي تعلم أنها سوف تنقضها في اللحظة التي يتبين لها فيها أن مصلحتها في نقض المعاهدة، ثم هي تحتمي بالقانون الدولي إن كان ذلك في مصلحتها، وتنبذه إذا كان هذا القانون يقف لها حجر عثرة في سياستها الاستعمارية، ويتحكم في الدولة دكتاتور يربي الشعب على الإخلاص لمبادئ الفاشستية، ويتعلم الأطفال الذلة والخضوع؛ كي ينشئوا على الطاعة لأولي الأمر، وعلى القسوة على من هم أدنى منهم مكانة في المجتمع. يبدأ الطفل بعد أن يترك روضة الأطفال ذلك التدريب العسكري الذي ينتهي بسنوات الخدمة العسكرية الإجبارية، التي تدوم ما دام الفرد قادرا على القيام بأعباء الجندية. ويتعلم الأطفال في المدارس الأكاذيب الملفقة في دروس التاريخ، فيمجد معلموهم الأسلاف من أبناء أمتهم، ويحطون من قدر العظماء في الأمم الأخرى جميعا. وتقوم على المطبوعات والكتب رقابة صارمة حتى لا يتسرب إلى الراشدين رأي لا يحب لهم الدكتاتور أن يعرفوه. وكل من يحاول التعبير عن رأي لا يتفق وأغراض الدولة يضطهد اضطهادا لا رحمة فيه ولا هوادة. وبالدولة نظام محكم للجاسوسية التي تتتبع الأفراد حتى في حياتهم الخاصة. وتشجع الدولة الغيبة والنميمة، وتكافئ كل من يبلغ أولي الأمر عن شخص يعادي النظام القائم. والإرهاب في هذه الدولة مشروع، والقضاء يجري سرا في أكثر الأحيان، والمحاكم أبعد ما تكون عن العدل، والعقوبات شديدة قاسية، والوحشية ووسائل التعذيب المختلفة من أساليب الحكم في البلاد.
هذه هي خطة الفاشست، وهي خطة قوم لا يعترفون بالمثل العليا للمدنية المسيحية، أو المدنيات الآسيوية القديمة التي سبقتها، قوم ساءت نياتهم، وهم لا يحاولون أن يستروا خبث مقاصدهم. ولننظر الآن في أمثلة من الخطط التي يرسمها قادة سياسيون أغراضهم نبيلة ووسائلهم وضيعة. إن أول ما نلاحظه على هؤلاء الرجال هو أن إيمانهم بمثلنا العليا واه ضعيف، وكلهم يعتقد أن الغايات النبيلة يمكن أن تحقق بوسائل دنيئة، إنهم يختلفون عن الفاشست كل الاختلاف في أهدافهم وأغراضهم، غير أنهم يسلكون الطرق عينها التي يسلكها الدوتشي والفوهرر، هم من دعاة السلم، ولكنهم يعتقدون أن السلم وسيلتها القتال، وهم قوم مصلحون، ولكنهم يتصورون أن العدالة الاجتماعية يمكن أن تكون وسيلتها الظلم والاستبداد. إنهم يحبون الحرية، ولكنهم يرون أن تركيز السلطة واستعباد الجماهير يمكن أن يحقق الحرية للجميع. إن روسيا الثائرة، التي تزعم أنها تعمل على نشر الحرية كاملة بين أفراد الشعب جميعا ، لديها أكبر جيش من جيوش العالم، ولديها بوليس سري يضارع في دقته وصرامته البوليس السري الألماني أو الإيطالي، ولديها رقابة شديدة على الصحافة، ونظام للتعليم ينبني على خضوع الصغير للكبير كالنظام الألماني الهتلري، ولديها نظام شامل للتدريب العسكري يطبق على النساء والأطفال كما يطبق على الرجال، ويحكمها دكتاتور يرتفع إلى مكانة التقديس في شعب ذليل، لا يختلف عما كان عليه رجال روما المتألهون أو رجال برلين المتغطرسون، وبها بيروقراطية لها امتيازات وحقوق، وهي تستخدم سلطة الدولة للاحتفاظ بامتيازاتها ولحماية مصالحها، وبها حزب أوليجاركي يسود الأمة كلها، ولا يتمتع أعضاؤه أنفسهم بالحرية داخل الحزب (إن معظم الطبقات الحاكمة في أكثر الأمم تمنح الحرية على الأقل لأعضائها وإن حرمتها عامة الشعب، ولكن الحزب الروسي الاشتراكي ينكر الحرية على أعضائه كما ينكرها على أفراد الشعب). ولا يسمح في الروسيا بالمعارضة؛ ولذا تكثر المؤامرات الخفية. وقد كانت تلك المؤامرات سببا في محاكمات الخيانة والتطهير التي انعقدت في الروسيا في عامي 1936 و1937. ومعالجة البناء الاجتماعي وتنظيم الدولة تسير في الروسيا على غير ما يحب الشعب ويرضى، وتستخدم في سبيل ذلك كل وسائل القسوة والاستبداد (في عام 1933 هلكت في الروسيا جوعا عدة ملايين من الفلاحين بإرادة أولي الأمر السوفيتيين ورغبتهم). إن القسوة تولد الحقد، والحقد لا يقمع إلا بالقوة الغاشمة، والعنف - كما قلنا من قبل - يولد الرغبة في الاستزادة منه. هذا هو التنظيم الروسي، إنه نظام نبيل في مقصده، دنيء في وسائله، وقد أنتجت هذه الوسائل نتائج تختلف كل الاختلاف عن تلك التي كان يصبو إليها زعماء الثورة الروسية الأولون.
अज्ञात पृष्ठ