بسم الله الرحمن الرحيم
ورد بن سعد العمي
ورد بن سعد العمي، لقيه دِعبل، وحدثني أبو الفوارس أحمد بن محمد العمى أنه: وردْ بن عبد الصمد، أخو عُكاشة بصري رشيدي صالحُ الشعرِ مشهور. ومن قوله يمدح خُزيمةَ بن خازم النهشلي:
خُزيمةُ خيرُ بني خازمِ ... وخازمُ خيرُ بني دارمِ
ودارِمُ خيرُ تميمٍ وما ... ومِثلُ تميمٍ في بني آدمِ
ولا ألوتُ الغُزَّ مِن هاشمٍ ... وهمْ سُيوفٌ لبني هاشمِ
وفيه يقول أبو الصلت مولى بني سُليم، وكان أعرابيا ذكر دعبل أنه صار إلى البصرة ثم إلى بغداد، وكان أبوه يعمل التنانير فيما زعموا:
وكان اسمُه فيما مضى بائِكَ امه ... يُسمى به في كُل بدوٍ وحاضرِ
فلما اكتسى رِيشًا وعاد جناحُه ... تَسمى بوردٍ، واكْتنى بِعُذافرِ
قال ابن أبي خيثمة عن دعبل: إن أبا العُذافر اتصل بعلي بن عيسى بن ماهانَ وصحبه إلى خُرسانَ. فوهب له على شِعره ألفي درهم، وفيه يقول:
ولو كانتِ الدنيا له بجميعها ... لأتلفَ ما فيها ودُنيا مع الدُّنْيا
قال دعبل: وكان مختلف الشعرِ، حدثني سعدُ بن الحسن قال: كان وردٌ العمى عند الفضل بن يحيى في جماعة، فذكروا هذا البيت:
ما لقينا من جودِ فضل بن يحيى ... صير الناسَ كُلهمْ، شُعراءَ
فأجمعوا على جودته، وقالوا: ما له عيب إلا أنه يتيم مُنفرد. فقال وردٌ:
علمَ المعجمين أن ينطقوا الأش ... عارَ منا والباخلينَ السخاء
حدثني محمد بن القاسم قال: حدثنا إسماعيل بن أبي محمد اليزيدي قال: اختلف أخي إبراهيم بن أبي محمد ابن أخي أحمد بن محمد بن أبي محمد. في بيت لأبي نُواسٍ ونحن بمروا وكان أحمدُ مقاربًا لإبراهيم عمه في السنّ، وهو:
رسمُ الكرى بينَ الجفونِ مُحيلُ ... عَفّى عليه بُكًا عليك طَويلُ
فقال إبراهيم: والله ما هذا بكلامٍ مطبوعٍ ولا بحسن، وقال أحمد: لقد أجادَ في المعنى وأحسنَ، فتراضيا ممن يحكم بينهما بمسلم ابن الوليد وكان بمرو فسألاه، وكان كثيرًا ما يصير إلى محمد. فقال مسلم: إن كان قول أبي العذافر:
باضَ الهوى في فؤادي ... وفرخَ التذْكارُ
حسنًا فإن هذا أحسنُ. فحكم على ابن أخي.
وأنشد أبو العنبس الصيمري في مثل هذا:
ضِرامُ الحب عشش في فؤادي ... وحضنَ فوقه طيرُ البِعاد
وأنبذَ للهوى في دنّ قلبي ... فعربدتِ الهمومُ على فؤادِي
أبو المُشيع
جبر بن خالد بن عقبة بن سلمة الأسلمي
جبر بن خالد بن عقبة بن سلمة بن عمر بن الأكوع الأسلمي مدني، شاعر مجيد، راوية للأشعار والأخبار، يروى عنه إسحاق شيئًا كثيرًا، ومن قوله:
ألاليتَ شعري هلْ تغيرَ بعدنا ... قطافُ الخُطى والهَضبُ هضبُ رماحِ
وهل رضيتْ عنيِّ قلوبٌ تركتها ... علي من الشحناءِ، غيرَ صِحاح
وما كان في ذنبٍ علي، علمته ... سوى مُرجحناتِ القوامِ ملاحِ
عرضنَ لنا يوم العقيقِ لفتيةٍ ... يُصبنَ بنبلٍ غيرِ ذاتِ قداحِ
ومن قوله:
أمنزلتي جُملٍ سلامٌ عليكما ... وإن هجتُما شوقًا، ولم تَنْفعَا صَبَّا
يبُرح بي ألا أزلَ أرَاكُما ... فيعصبني لبىُ الهوى مِنكما عَصْبَا
ألاَ طالما هيجتما برح الهوى ... بقلبٍ سقيم لم يُطق للهَوى شَغْبَا
لئن شطنتْ أبياتُ جُملٍ وأصبحتْ ... قُوى وَصْلِها من وَصلنِا قُضبِت قَضْبَا
فقد طالما سؤتُ الغيورَ وطالما ... نما حُبها يعتادُ مكنُونُه القَلبَا
ثلاثةُ أحوالٍ وحولٌ وستةٌ ... وعشرُ سنين. طالَ، يا جمُلُ، ذاحُبا
فلم تجزِ جملٌ مُستهامًا بحبها ... كأنَّ به منها، إذا ذُكرت، طُبا
فيا جملُ يسلى خليلٌ خليله ... إذا لم يجدْ، يا جملُ، في وُده عُتْبَى
ومن قوله:
ألم ترأني قد تحسرَ باطلي ... وأقصرَ عن لومِي عَلى ذاك عاذِلي
1 / 1
وأجلت غياباتُ الصبا بعد دَيمها ... وبانَ عمى للجهلِ بعْدَ المخَايل
فلو كُنتُ بعد الشيبِ طالبَ صبوةٍ ... لأصبي فؤادي نسوةٌ بجَلاجِل
عفيفاتُ أسرارٍ، نَعيماتُ زينةٍ ... كثيراتُ إخلافٍ بعيداتُ نائلِ
إذا قلتُ ديني عاجلٌ قلنَ ماله ... محلٌّ علينا يا فتى دون قابل
فإن كُنتَ تَرجو مثلَ ذلك فانتظِرْ ... وإلا فلا تطمحْ لدينا بعاجلِ
أشرُّ ديُون المسلمين علاقةً ... على ظهرِ مِخلافٍ صَمُوتُ الخَلاخلِ
القِصافي
واسمه عمرو بن نصر التميمي، وكنيته أبو الفيض، بصري. قال دعبل: قال القِصافيُّ الشعرَ ستينَ سنةً، لم يقل بيتًا جيدًا إلا هذا البيتَ في الإِبل:
خُوصٌ نواجٍ إذا صاحَ الحُداةُ بها ... رأيتَ أرجُلها قُدامَ أيديِها
وقال أبو هِفانَ: لم يكن في جميع الشعراءِ الرشيديين أحسن ابتداءاتٍ من عمرٍو القصافي. ومن ذلك قوله:
راحُوا ولما يُؤذنُوا برَوَاح.
وقوله:
لا نومَ حتى تقضي دولةُ السهرِ
وقوله:
غيري أطاعَ مقالةَ العُذالِ
وقوله:
في دمعهِ الجاري وإعوالهِ ... ما يُخْبِرُ السائلَ عنْ حالهِ
وفيها يقول:
رحلْتُ عِيسًا كلها عامِلٌ ... في حالِ إِرْقَالي وإرْقَالِهِ
حتى تناهينْ إلى ماجدٍ ... صبٍّ إلى طلعةِ سُؤالهِ
قال أبو هِفان: وكان لا يَمْدَح إلا وضيعًا مثل فرجٍ الرُّخجي وطبقته، فسقط كثيرٌ من شعره. وكان له ابنٌ يُعرف بالقصافي، يكنى أبا نصرٍ. أدركناه نحن. ومن قوله:
فتائقُ أنوار ولونُ شقائقِ ... يُمازِج أمواهَ الصَّفاح الرقائِقِ
ونشرُ عبيرٍ معْ نسيم مُدامةٍ ... تجسم في أعضا بُدُورٍ رَشائقِ
يميسُ فتلقاه كأنَّ ثيابه ... سُدلِنَ على غُصنٍ من البَانِ رائقِ
عجبت له أنى يكونُ مُنعمًا ... وقد كاد يخفى عن عيونِ الخلائقِ
وأخبرني ابن أبي طاهرٍ قال: أهدي أبو أبوبَ ابن أختِ أبي الوزير إلى محمد بن مكرم قدرَ سِكْباجٍ، وعنده القصافي الشاعرُ الأصغر. فقال:
ومُحتَفِلٍ أهدى لنا سِكباجةً ... تظرفَ لما زَلها من غِذائهِ
أتانا بها بيضاءَ لا الخلُّ مَسها ... ولا هي صُبتْ مرةً في إنائه
قال أبو هِفان: كان القصافي الكبير يقول: الشعرُ كله من هذه الألفاظ، ولكن الشأن في عقل يُحسن أن يعرفها ويُؤلفها، وإذا مدحت قلتَ: أنتَ، وإذا هجوتَ قلتَ: لستْ، وإذا رثيتَ قلتَ: كُنت ".
البطين بن أُمية البجلي
وكنيته: أبو الوليد، حمصيُّ جيدُ الشعرِ.
ومن قوله:
دعوني وكلبًا إنني اليوم إلبُها ... كما هي لي في كلِّ نائبةٍ إلبُ
ألا لا أُبالي عتبتَ منْ كان عاتبًا ... يهزُّ على الرأسَ ما رضيتْ كلبُ
وأنشد دِعبلُ لأبي خالدٍ الغنوى يهجو البطين:
وإنَّ حرًا أدى البطينَ بزحْرةٍ ... ولم يتفتقْ قطره لرحيبُ
وإن زمانًا أنطقَ الشعر مثله ... وأدخله في عدنا لعجيبُ
ويحشرُ يومَ البعثِ أما لسانه ... فعىُّ، وأما دبره فخطيبُ
قال أبو هِفان: وكان الفيلُ دون البطين في العظم.
وأنشد دعبلٌ لابن أبي عاصمٍ الشامي في البطين:
وقلت معدٌّ إذ عرفت لنا الربا ... وكهلانُ صنوا نبعةٍ شكرانِ
وأملت من هذا وذاك سفاهةً ... تداني أمرٍ ليس بالمتداني
فبكَّ عبيدًا إذ تخونه الثرى ... ولا تبكه من نكبة الحدثانِ
ألم بنا صُبحًا فصادف معشرًا ... أقاموا له إذْ حلَّ سُوقَ طعانِ
قال أبو هِفان: حدثني يوسفُ ابن الداية قال: حدثني البطينُ بن أُمية الحمصي قال: لما خرج أبو نُواسٍ إلى مصر يريد الخصيب كتب إلينا بخبره فلم نزل نتوقعه حتى قيل: قد دخلَ حمصَ، فأتيتُ الخانَ أسألُ عنه: ومعي ابنٌ لي حسنُ الوجهِ إذا أنا في الخان بإنسانٍ قاعدٍ على درجة متشحٍ بخلوقية يستاكُ، فقلت: يا فتى، تعرفُ أبا نواس؟
1 / 2
قال ما تجعلُ لمن دلك عليه؟ قلت: حكمه. قال: قبله من هذا الغزال قلت: أنت واللهِ أبو نواس! قال: أنا هو. ألا نظرتَ إلىّ بظلمة الكفر؟ قال: فلم أفارقه مقامه حتى ارتحلَ وشيعته أميالًا.
قال أبو هِفان: قال أبو عمران السُلمي في البطين:
إنما شعرُ البطينِ ... مثلُ سلحٍ وسطَ طين
ليسَ إنْ فكرتَ فيه ... لعريقٍ أو قطينِ
لقي البطينُ عبد الله بن طاهرِ فيما بين سلمية وحمصٍ فوقف على الطريق فقال لعبد الله بن طاهر:
مرحبًا مرحبًا وأهلًا وسهلًا ... بابن ذي الجودِ طاهرِ بن الحسينِ
مرحبًا مرحبًا وأهلًا وسهلًا ... بابن ذي العزتين في الدعوتينِ
مرحبًا مرحبًا بمنْ كفه البح ... رُ إذا فاضَ مزبد الرجوينِ
ما يبالي المأمونُ أيده الل ... هُ إذا كنتما له باقيينِ
أنت غربٌ وذاك شرقٌ مقيما ... أي فتقٍ أتى من الجانبين
وحقيقٌ إذا كنتما في قديمٍ ... لزُريقٍ ومصعبٍ وحسينِ
أنْ تنالاَ ما نلتماهُ من المج ... دِ وأن تعلوا على الثقلينِ
قال: فأمر له عبد الله بن طاهر بعشرة آلاف درهم، فجاءَ أبو عمران فقاسمه إياها. وأبو عمران السلمي الذي يقول في ابن راشد بن إسحاق:
بأبي يا بن راشدِ ... يا كريمَ المشاهدِ
أنت أشهى إلىّ والل ... هِ منْ كلِّ ناهدِ
قال جعفر بن أحمد بن حمدان المصري: قدم علينا البطينُ مصرَ وخرج إلى الإسكندرية، فانخسفت به بئرُ مخرجٍ، فتلفَ فيها.
محمد بن عبد الملك
الفقعسي الأسدي
كوفي شاعر قديم، أدرك المنصورَ ومن بعده، وله مدائحُ وأبياتٌ في الرشيد والمأمون ومن كان في عصرهما من الجلة.
أنشدني أحمد بن أبي خيثمة قال: أنشدنا مصعب بن عبد الله، لمحمد بن عبد الملك، في الفضل بن الربيع:
الناسُ مختلفونَ في أحوالهمْ ... وابن الربيعِ على طريقٍ واحدِ
وأنشد غيرُ دعبل له في المأمون:
أميرَ المؤمنين عفوتَ حتى ... كأن الناسَ ليس لهمْ ذنوبُ
حدثني أحمد بن زُهير قال: أخبرنا علي بن محمدٍ المدائنيُّ عن أبي الوليد: قال محمد بن عبد الملك الأسدي. قال أبو بكر: وأنشدني عبد الله بن شبيبٍ قال: أنشدني السدوسي قال: أنشدني محمد بن عبد الملك:
وسوداءَ من سودِ النساءِ مليحةٍ ... تميلُ بها أردافها فتميلُ
فما بكرةٌ بالدوِّ عيطاءُ كبشةٌ ... من الرملِ فيها هزةٌ وذميلُ
بأوطأَ منها مركبًا حينَ ينتحي ... بها عنْ سبيلِ الناعجاتِ سبيلُ
وفي كلِّ ألوانِ الأباعرِ رحلةٌ ... وفي كل ألوانِ النساءِ قبولُ
وما هذه النسوانُ إلا نجائبٌ ... تُراضُ فمنها ساقطٌ ورجيلُ
قال المدائني: قال أبو الوليد: بلغني أن أبا السائبِ المخزومي الذي أُنشدَ هذه الأبيات قام يسبحُ على بساطٍ.
قال ابن خيثمة، قال دعبل: حضر محمد بن عبد الملك الفقعسي دارًا فيها وليمة، وحضرها ابن أبي صبيح الأعرابي، وكان بدويا نزل بغداد ومات بها، وكان شاعرًا مجيدًا، فازدحما على بابِ الدارِ، فغلبَ ابن أبي صبيحٍ ودخلَ قبل محمدٍ، فقال ابن أبي صبيحٍ:
ألا ياليتَ أنك أم عمرو ... شهدتِ مقاومي كي تعذريني
ودفعى منكبَ الأسدي عني ... على عجلٍ بناجيةٍ زبونِ
بمنزلةٍ كأن الأسدَ فيها ... رمتني بالحواجبِ والعيونِ
وكنتُ إذا سمعتُ نجي خَصيمٍ ... منعتُ الخصمَ أن يتقدموني
محمد بن عبد الملك بن أبي سلالة قال: ورد الكوفة أعرابيٌّ من بني أسد بن الحارث بن ثعلبة على ولد محمد بن عبد الملك الفقعسي.
عبد الله بن المبارك
الفقيه: يكنى أبا عبد الرحمن، خراساني مروزي، شاعر، له الأبيات بعد الأبيات في الزهد وذم الدنيا، دون غير هذا الصنف من الشعر، وكان يأخذ شعره من الأخبار التي يرويها، ومن قوله:
أرى أناسًا بأدنىَ الدينِ قد قنعوا ... ولا أراهمْ رضوا بالعيشِ بالدونِ
1 / 3
فاستغنِ بالدينِ عن دُنيا الملوكِ كما اس ... تغنى الملوكُ بدنياهمْ عن الدينِ
وروى ابن المبارك عن خلف بن حوشبٍ قال: قال المسيحُ ﵇: كما ترك لكم الملوكُ الحكمةَ فاتركوا لهم الدنيا ".
ومن قوله:
رأيتُ الذنوبَ تميتُ القلوبَ ... ويخترمُ العقلَ إِدمانهَا
يبيعُ الفتىَ نفسه في رداهُ ... وأسلمُ للنفسِ عصيانهَا
حدث أبو حنيفة بإسناد له والمازني قالا: ولي إسماعيل بن علية الصدقاتِ بالبصرة، فكتب إلى عبد الله بن المبارك يصف له ما وقع فيه، ويقول له: أحب أن تبعث إلى إخوننا من القُراءِ لنشغلهم، فكتب إليه عبد الله بن المبارك: القراء ضربانِ: قوم طلبوا هذا الأمر لله، فأولئك لا حاجةَ لهم في لقائك، وقوم طلبوا الدنيا، فأولئك أضر على الناس من الشرط، وكتب إليه:
يا جاعلَ الدين له بازيا ... يصيدُ أموالَ المساكينِ
احتلتَ للدنيا ولذاتها ... بحيلةٍ تذهبُ بالدينِ
وصرتَ مجنونًا بها بعدما ... كُنتَ دواءً للمجانين
أينَ رواياتك فيما مضى ... عنِ ابن عونٍ وابن سيرينِ
أينَ أحاديثك والقولُ في ... لزومِ أبواب السلاطينِ
تقولُ أُكرِهْتُ وماذا كَذا ... زَلّ حِمارُ العلْم في الطِّين
قال رجل لعبد الله بن المبارك: أَوْصِنيِ فقال: احفظْ لِسانَك، ثم أَنشده قوله:
احْفَظْ لسانَك إنَّ اللسانَ ... حَريصٌ على المَرْء في قَتْلِه
وإِنَّ اللسانَ برِيدُ الفُؤادِ ... دَلِيلُ الرجالِ عَلى عَقْلِهِ
ومن قوله:
هُمومُكَ بالعَيْشِ مَقرونَةٌ ... فما تَقْطَعُ العَيْشَ إلاَّ بِهَمّ
حَلاَوَةُ دُنْيَاكَ مَسمًومَةٌ ... فما تَأْكُلُ الشَّهْدَ إلاَّ بِسَمّ
حدثني سهل بن عليٍّ قال: حدثني يوسف بن عَدِيّ قال: حدثنا حيَّان بن موسى المروَزيّ قال: سمعت عبد الله بن المبارك ينشد:
إلى الله أَشْكو لا إلى الناسِ أَنَّني ... أَرَى صَالحَ الأَخلاقِ لا أَسْتَطيِعُها
أَرَى خَلَّةً في إِخْوَةٍ وعَشيرةٍ ... وذِي رَحِمٍ، ما كُنْتُ مّمِن يُضِيعُها
فلِوْ طَاوَعَتْني بالمكَارِمِ قُدْرَةٌ ... لَجادَ عَلَيْها بالنَّوالِ رَبِيعُها
حدثني سهل قال: حدثني محمد بن عُبيد الله بن عمرو الهَرَويّ قال: سمعت ابن المبارك يقول:
دُنْيَا تَدَاوَلها العِبَادُ ذَميمةً ... شِيبَتْ بأَكْرَهَ مِنْ نَقيع الحَنْظَلِ
وبَنَاتُ دَهْرٍ لا تَزَالُ مُلِمَّةً ... فيها فَجَائعُ مِثْل وَقْعِ الجَنْدَلِ
هارون الرشيد
وكنيته أبو جعفر، أخبرني أحمد بن أبي خَيْثَمة، عن أبي دِعَامَةَ، عن عطاء المُلِطّ، أَن يحيى بن خالد، أنشده الرشيد في جواريه الثلاث:
مَلَكَ الثَّلاَثُ الآنِساتُ عِنَاني ... وَحلَلْنَ مِن قلبي بكلِّ مكانِ
مَا لي تُطاوعني البريةُ كُلّها ... وأُطيعهنَّ، وهُنَّ في عِصيانيِ
ما ذاكَ إلا أَنَّ سُلطانَ الهوى ... وبه غلبن أعزُّ من سُلطاني
قال أبو بكر: ومن قوله فيهن أنشده جماعةٌ من الناس، وأنشد أيضًا دعبل:
إنَّ سِحرًا وضياءً وخنثْ ... هُنَّ سحرٌ وضياءٌ وخنثْ
أخذتْ سحرُ ولا ذَنبَ لها ... ثُلُثي قلبي وترباها الثلثْ
قال أبو عبد الله: سمعت الحسن بن مخلد يقول: حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن العباس قال: حدثني العباس بن الأحنف أن هذين البيتين له قالهما ونحلهما الرشيد أخبرنا أحمد بن أبي خيثمة قال: أخبرنا الزبير عن عمه قال: أخرج الفضل بن الربيع من عند هارون الرشيد رقعةً فيها أبيات فأجيزوها، وهي:
أهدى الحبيبُ مع الجنوبِ سلامه ... فارددْ عليه من الشمالِ سلاما
واعرفْ بقلبك ما تضمنَ قلبهُ ... وتداولا بهواكما الأياما
فإذا بكيتَ له فأيقنْ أنهُ ... سيفيضُ منه للدموع سِجاما
فاحبسْ دموعك رحمةً لدموعه ... إنْ كُنتَ تحفظُ أو تحوطُ ذِماما
1 / 4
وحدثني أحمد بن أبي خيثمة قال: أخبرنا صالح التركي مولى رشيدٍ الخادم - وكان المعتصم في حجره - قال: اشترىُ الرشيد ماردة بنت شبيبٍ - أم أبي إسحاق - فعشقها عشقًا مبرحًا، وقال فيها الشعر، وكان مما قاله فيها:
وتنالُ منكَ بحدّ مُقلتها ... ما لا ينالُ بحدِّه النصلُ
شغلتك. وهي لكلِّ ذي بصرٍ ... لاقى محاسنَ وجهها شغلُ
فلقلبها حلمٌ يباعدها ... عن ذي الهوى ولطرفها جهلُ
وإذا نظرتَ إلى محاسنها ... فلكلِّ موضعِ نظرةٍ قتلُ
أنشدني ابن أبي خيثمة، عن أبي أيوب، للرشيد في جاريةٍ له اسمها صِرف وأخبرني ابن أبي طاهر أنهما لأبي الشبل:
قُلْ لمنْ يملكُ الملو ... كَ وإنْ كانَ قدْ مُلكْ
قد شربناكِ مُدةً ... وبعثنا إليكِ بكْ
أنشدني عبد الله بن مسلم بن قتيبة للرشيد:
النفسُ تطمعُ والأسبابُ عاجزةٌ ... والنفسُ تهلكُ بين اليأسِ والطمع
إبراهيم بن المهدي
يكنى أبا إسحاق ويعرف بأمه شكلةَ شاعر مُحسن كثير الشعر.
سمعت أبا القاسم عُبيد الله بن سليمان يقول: لم يكن في قريش ولا يكون أشعر منه.
وكان أهل بغداد عند شغبهم على الحسن بن سهلٍ دعو له وبايعوه بالخلافة وحاربوا الحسن وأقام في أمره سنةً وأشهرًا إلى أن قدم المأمون بغداد من خراسان فانفض أصحابه واستتروا.
وكان يهجو المأمون وذا الرياستين أفحش الهجاء، ويرمي المأمون بأمه وإخوته وأخواته، ومن أيسر ذلك قوله:
صدَّ عنْ توبةٍ وعن إخباتٍ ... ولها بالمجونِ والفيناتِ
ما يُبالي إذا خلا بأبي عي ... سى وسربٍ من بدَّنٍ أخوات
أن يغصَّ المظلومُ في حومةِ الجوْ ... رِ بداءٍ بين الحشَا واللَّهاةِ
فطلبه المأمون حتى ظفر به وعفا عنه، فله فيه مدائح حسان وذكر لما كان منه، من ذلك قوله:
رددتَ مالي ولم تضننْ عليَّ به ... وقبلَ ردك مالي قد حقنتَ دمي
فبؤتُ منك، وما كافأتها، بيدٍ ... هُما الحياتانِ من موتٍ ومن عُدم
لئن جحدتك معروفًا مننتَ به ... إني لفي اللؤم أحظى منك في الكرم
ومن ذلك قوله في قصيدته المشهورة وأولها:
يا خيرَ من ذملتْ يمانيةٌ بهِ ... بعد الرسولِ ليائسٍ أو طامعِ
َ وفيها يقول:
لم أدرِ أنَّ لمثلِ جُرمي غافرًا ... فأقمتُ أرقبُ أيُّ حُتفٍ صارعي
واللهُ يعلمُ ما أقولُ فإنها ... جَهدُ الأليةِ منْ مُقرٍّ باخع
ما إن عصيتكَ والغواةُ تمدني ... أسبابها إلا بنيةِ طائعِ
وكان أحسنَ خلقِ الله غناءً، وله شعر رقيقٌ حسن.
وكان يغني في أشعاره. وقد هجاه بذلك دعبلٌ لما بويع له بالخلافة. واجتمع إليه الأعراب وغيرهم فقال:
يا معشرَ الأعراب لا تقنطوا ... خذوا عطاياكم ولا تسخطوا
فسوف يُعطيكمْ حُنينيةً ... " يلتذها الأمردُ والأشمطُ "
" والمعبدياتِ لقوادكمْ " ... لا تدخلُ الكيسَ ولا تربط
وهكذا يرزقُ أصحابه ... خليفةٌ مُصحفه البربطُ
وقال: أنشدني محمد بن إسحاق قال: أنشدني دعبل:
إنْ كان إبراهيمُ مُضطلعًا بها ... فلتصلحنْ من بعدهِ لِمخارقِ
ولتصلحنْ من بعدِ ذاك لزُلزُلٍ ... ولتصلحنْ من بعدهِ للمارقِ
فقال له مخارق: يا أبا عليٍّ. أنا صديقك تهجوني؟ قال: قعدتَ على طريق القافية. وحدث هارون بن مُخارق أنه قال له ذلك، فقال: ألا ترضى؟ ذكرتك مع مولاك! أخبرني المبرد قال: بلغني أنه قيل لدعبل: أنت القائلُ في المعتصم: مُلوكُ بني العباسِ في الكتب سبعةٌ فقال: لا والله، ولكن من حشا الله قبره نارًا إبراهيم بن المهدي أشاط بدمي بسبب هجائي إياه. ومن قول إبراهيم في صفة الخمر:
كأسٌ كأنَّ شُعاعها ... قبسٌ على شرفٍ مُطلِّ
ولقدْ ذعرتُ بها الظلا ... مَ فبتُّ في شمسٍ وظلِّ
أبو الهيذام
1 / 5
عامر بن عمارة بن خُريم المري، شامي شاعر فحل الشعر، وفارس مشهور، وأخوه عثمان بن عمارة مولى أبي يعقوب الخريمي، وكان ينزل سجستان. حدثني سوار بن أبي شراعة قال: قتل عامل للرشيد بسجستان أخًا لأبي الهيذام، فخرج أبو الهيذام بالشام وجمع جمعًا عظيمًا، وقال يرثي أخاه - أنشد هذه الأبيات محمد بن الحسن الزرقي قال: أنشدنيها عبد الله بن شبيب قال: أنشدني عبد الله بن الزبير -
سأبكيكَ بالبيضِ الرقاقِ وبالقنا ... فإنَّ بها ما يُدركُ الطالبُ الوترا
ولسنا كمن يبكي أخاه بعبرةٍ ... يُعصرها من ماء مُقلته عصرا
وإنا أناسٌ ما تفيضُ دُموعنا ... على هالكٍ منا وإنْ قصم الظهرا
ولكنني أشفي الفؤادَ بغارةٍ ... ألهبُ في قُطريْ كتائبها جمرا
قال: فغلظَ أمره، واشتدت شوكته، وأعيتِ الرشيدَ الحيلُ فيه، فأحتال له من قِبلِ أخٍ له يقال له عامر، كتب إليه فأرغبه ووعده. تولية البلد. فشدَّ على أبي الهيذام فقيده وحمله إلى الرشيد وهو بالرقة، فقال لما دخلَ عليه:
أفي عامرِ لا قدس اللهَ عامرًا ... تبيتُ تعنيني السلاسلُ والكبلُ
فماضرَّ منْ كانتْ سِجستان داره ... بأَنْ فاتكٌ بالشامِ زِلتْ به النعلُ
إذا نحنُ خلينا عن الصلحِ عامرًا ... وكان التصافي بيننا الرمحُ والنصلُ
فما نحن إلا أهلُ سمعٍ وطاعةٍ ... وهل أنت إلا السيدُ الحكم العدلُ
فأحسنْ أميرَ المؤمنينَ فإنه ... أبى اللهُ إلا أيكونَ لك الفضْل
فمن عليه الرشيدُ وأطلقه.
ومن قول أبي الهيذام أنشده دعبل:
يقولونَ الحديدُ أشدُّ مني ... وقد يُثني الحديدُ وما ثنيتُ
تجنُّ الأرضُ إن نوديتُ بِاسمي ... وتنهدُّ الجبالُ إذا كُنيتُ
وكمْ من شامتٍ بي يومَ أُنعى ... ومنْ باكٍ عليّ إذا نُعِيتُ
وفيه يقول أبو المُنيب الكلبي، أنشده دعبل:
فمهلًا يا بني القينْ بن جسرٍ ... ولا يغرركمُ مِنا السرابُ
يمنيكمْ أبو الهيذامِ نصرًا ... ويسلمكمْ إذا اختلف الضِّرابُ
الكسائي
علي بن حمزة، يكنى أبا الحسن. كوفي نزل بغداد، وأدب محمدَ بن الرشيد، وهو إمامُ الناسِ في النحو وفي القراءة، وأُستاذُ الفراء، وعلي بن المباركِ الأحمرِ.
وجمع الرشيد بينهم وبين سيبويهِ البصري، فخطأه الكسائيُّ وغلاماه، فأمر الرشيدُ بصرفِ سيبويه، وأمر له بعشرة آلاف درهم. فلم يدخل البصرةَ استحياءً مما وقع عليه، ومضى إلى فارسَ فمات بها. ويزعم البصريون أنه مات وله نيفٌ وعشرون سنةً.
وللكسائي أشعارٌ حسانٌ قليلة، وأنشد له الجاحظ:
إنما النحوُ قياسٌ يتبعْ ... وبه في كلِّ أمرٍ ينتفعْ
وإذا ما أبصرَ النحوَ الفتى ... مر في المنطق مرًا فأتسعْ
وإذا لم يعرف النحوَ الفتىَ ... هاب أن ينطقَ جبنًا فانقمعْ
يقرأ القرانَ لا يعلمُ ما ... صرفَ الإعرابُ فيه وصنعْ
فتراهُ يخفضُ الرفعَ وإن ... كان من نصبٍ ومنْ خفضٍ رفعْ
حدثني ثعلب قال: حدثني سلمةُ عن الفراءِ قال: لما صار الكسائي إلى رنبويهِ وهو مع الرشيد في سفرته الأولى إلى خرسان اعتل فتمثل:
قدرٌ أحلكَ ذا النُخيلِ وقد ترى ... وأبي مالكَ ذو النُّخيلِ بدارِ
ألا كداركمُ بذي بقرِ الحمى ... هيهاتَ ذو بقرٍ من المزدار
ثم مات بها ومحمد بن الحسن، فقال الرشيد: خلفتُ الفقه والنحو برنبويه. ورثاهما اليزيدي.
أخبرني أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر قال كتب الكسائي النحو إلى الرشيد بهذه الأبيات، وهو يؤدب محمدًا:
ماذا يقول أمير المؤمنين لمن ... أمسى إليكَ بِحرمةٍ يُدلي
ما زلتُ مذ صار الأمين معي ... عبدي يدي ومطيتي نعلي
وعلى فراشي من ينبهني ... من نومتي بقيامهِ قبلي
أسعى برجلٍ منه ثالثةٍ ... موفورةٍ مني بلا رِجلِ
وإذا ركبتُ أكون مرتدفًا ... قدام سرجي راكبًا مِثليِ
1 / 6
فامنُنْ علىَّ بمنْ يسكنه ... عنىِّ وأهدِ الغمدَ للنصلِ
فأمر له الرشيدُ بعشرة آلاف درهم، وجاريةٍ حسناءَ بآلتها وخادمٍ، وبرذَوْنٍ بسرجه ولجامه.
؟ يحيى بن المبارك اليزيدي
بصري يكنى أبا محمد، مولىً لبني عدي بن عبد مناف، ونسب إلى يزيدَ ابن منصورٍ الحميري، لأنه كان يؤدب ولده. وهو غلامُ أبي عمرو ابن العلاء في النحوِ والغريبِ والقراءة، وكان مؤدب المأمونِ: وله أشعارٌ كثيرةٌ جياد، قال إسماعيل بن أبي محمد: كان لأبي أشعارٌ كثيرةٌ في الرشيدِ وجعفر بن يحيى وغيرهما، فقبل أن يموت أحرقها وأخذ علينا ألا نُخرج له غير المواعظ: ومن قوله قصيدته المشهورة:
منْ يلُمِ الدهر ألا ... فالدهرُ غيرُ معتبهْ
وفيها أمثالٌ جيادٌ وحكمة.
وكان اليزيدي ظريفًا.
أخبرني أبو حنيفة عن أبي الفضل اليزيدي قال: انصرف اليزيدي من كتابه يومًا، فقعد المأمونُ مع غلمانه ومنَ يأنس به، وأمرَ حاجبه ألا يأذن عليه لأحدٍ وهو صبي في ذلك الوقت فبلغ اليزيدي خبره، فصار إلى الباب فمنع فكتب إليه:
هذا الطفيليُّ على البابِ ... يا خيرَ إخوانٍ وأصحابِ
فصيروني بعضَ جُلاسكمْ ... أو أخرجوا لي بعضَ أترابيِ
فأذن له، فدخل، فأنقبض المأمونُ، فقال: أيها الأمير عدْ إلى انبساطك، فإني إنما دخلتُ على أن أكون نديمًا لا معلمًا.
ومن قول اليزيدي يعتذر إلى المأمون من شيء تكلمَ به وهو سكران:
أنا المذنبُ الخطاءُ والعفوُ واسعٌ ... ولو لم يكنْ ذنبٌ لما عرف العفو
سكرتُ فأبدتْ مني الكأسُ بعض ما ... كرهتَ وما إنْ يستوي السُّكرُ والصحوُ
ولا سيما إذا كنتُ عندَ خليفةٍ ... وفي مجلسٍ ما إن يجوزُ به اللغوُ
فإنْ تعفُ عنيِّ أُلفِ خطوىَ واسعًا ... وإلا يكنْ عفوٌ فقدْ قصُرَ الخطوُ
ومن قوله يهجو الأصمعي في شعرٍ له:
ومن أنت هلْ أنتَ إلا امرؤٌ ... إذا صحَّ أصلكَ من باهلهْ
وحسبكَ لؤمُ قبيلٍ بها ... لمنْ هيَ في كفه حاصلهْ
فكيفَ لمن كان ذا دعوةٍ ... وكفه نسبته شائلهْ
ومن قوله في عِنانَ جاريةِ الناطفي، وأبي تغلب الأعرجِ وكان شاعرًا:
أبو تغلبٍ للناطفي زءورُ ... على خُبثه والناطفي غيورُ
وبالبغلةِ الشهباءِ رقةُ حافرٍ ... وصاحبنا ماضي الجنانِ جسورُ
ولا شكَّ في أن الأعيرج آرها ... وما الناسُ إلا آيرٌ ومؤورُ
ومن قوله، أنشده المدائني. وقال: إنه أنشدهما في الكسائي وكان يُماظُّه، وقد رثاه اليزيدي بعد موته:
يا رجلًا خفَّ عِنده الثقلُ ... حتى به صارَ يُضربُ المثلُ
ثقلتَ حتى لقد خففتَ كما ... سَمجتَ حتى مَلُحْتَ يا رجل
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ الأصمعي
عبد الملك بن قريب الباهلي، ويكنى أبا سعيد. بصري، راوية للشعر والغريب. موثوق به في الحديث، روى عنه يحيى بن معين فأكثر وصحب الرشيد وأعطاه مالًا جليلًا وخص به. وله أشعار جياد وأراجيز. ومن قوله في إسحاق بن إبراهيم الموصلي:
أأن تغنيتَ للشرب الكرام: ألا ... حثَّ الخليطُ جمالَ الحيَّ فانطلقوا
وقيلَ أحسنتَ فاستدعاكَ ذاك إلى ... يا قلبُ ويحكَ لا يذهبْ بك الخرقُ
وقيلَ أنت حُسانُ الناسِ كُلهمُ ... وابن الحُسانِ فقدْ بروا قد صدقوا
فما بهذا تقومُ النادباتُ ولا ... تبكي عليكَ إذا ما ضمكَ الحزقُ
وكان الشعر سهلًا عليه، ذلولًا على لسانه وفيه يقول عبد الصمد بن المعذل:
لن تلبسوا منطقي بمشكلةً ... إلا عن الأصمعي أو خلفِ
يريد خلفًا الأحمر.
قال أحمد بن القاسم بن يوسف الكاتب، عن عمه علي بن يوسف عن العباس بن الأحنف، أنه أنشد الرشيد أبياته التي يقول فيها:
إذا ما شئتَ أن تُب ... صرَ شيئا يًعجبُ الناسا
فصَوَّر هاهنا فوزًا ... وصوَّرْ ثمَّ عَباسا
وقسْ بينهما شبرًا ... وإنْ زادَ فلا بَاسا
1 / 7
فإنْ لم يدنوا حتى ... ترى رأسيهما رَاسا
فَكذِّبْها وكذَّبْهُ ... بما قاستْ وما قاسا
قال: فاستحسنها الرشيد وقال: هل سبقك إلى هذا المعنى أحد؟ فقلت: لا. فقال: علىَّ بالأصمعي. وكانت بيني وبينه نفرة، فأخبره الرشيد باستحسانه الشعر والمعنى، وسأله: هل تعرف شيئًا منه؟ قال: كثير، ولكني حاقن، وأعجلني الرسول عن البول، فخرج ثم رجع، وقد صنع أبياتًا مثلها على الراء وعلى القاف، قال فيها:
......يُجب البشرا. و.....يُعجبُ الخلقا
وأتمها على هذا وزعم أنه سمعها مذْ دهر، فخجلت وانصرفت محزونًا. فقلت له لما خرجت: سألتك بالله: ألست الذي صنعتها؟ قال: بلى والله! وأنت أيضًا فعاد الرجال.
وكتب إلى الكراني: أنشدني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي لعمه أرجوزة طريفة أولها:
ياربَّ خودٍ من بناتِ الأحرارْ ... من آل كسرى في ذرا الزندِ الوارْ
يستنُّ في مفرقها مسكُ الفارْ ... كأنها منْ جسدٍ في الأعطارْ
وزعفرانٍ شرقٍ بالأبصار ... عدا على لباتها عِرقٌ ضارْ
يموتُ فيها فيشلُ كالطومارْ ... مستغنيًا عن عمراتِ العطارْ
وهي نيف وخمسون بيتًا.
قال أبو هِفان: ليس في وصف وقع شيءٍ على شيء أحسن من قول الأصمعي:
كأنما وقعُ أقلامِ الرجالِ بها ... حسُّ الطرافِ بوقعِ المسبلِ الساري
وهذا يقوله في قصيدته التي يرثى فيها سفيان بن عُيينة أنشدنيها ابن فهم عن الأصمعي ومن قول الأصمعي في الحية:
أرقش إنْ أسبطَ أوتثنيَّ ... حسبتَ ورسًا خالطَ اليرنا
خالطه من ها هُنا وهُنَّا ... إذا تراءاهُ الحُواةُ استنا
رزين بن زندورد العروضي
حدثني ابن عمار عن أبيه وعن داود بن جميل أنه مولى طيفور بن منصور الحميري خال المهدي يكنى أبا زهير أخبرني به محمد بن القاسم بن علي بن الصباح وأحمد بن هارون بن إبراهيم وهو شاعرٌ صاحب عروض كان ينزل بغداد. أنشد أحمد بن أبي طاهر لرزين يهجو آل جعفر بن محمد بن الأشعث بن مكلم الذئب الخزاعي وأنشدنيها محمد ابن القاسم قال: أنشدني أبو الطيب عبد الرحيم بن أحمد قال: حدثني أبو نصر محمد بن الأشعث بن جبير بن محمد بن الأشعث أنه قالها في جده فضربه ثلاثمائة سوط
تهتمْ علينا بأنَّ الذئبَ كلمكمْ ... نعم لعمري أبوكمْ كلمَ الذيبا
فكيف لو كلَّمَ الليثَ الهصور، إذا ... تركتمُ الناسَ مأكولًا ومشروبًا
هذا السنيديُّ ما ساوى إتاوته ... يُكلمُ الفيلَ تصعيدًا وتصويبا
وأنشد " له " دعبل يهجو خُزاعة:
أخُزاعَ إن ذُكرِ الفخارُ فأمسكوا ... وضَعوا أكُفكمُ على الأفواهِ
لا تفخروا بسوى اللواطِ فإنما ... عندَ المفاخرِ فخركمْ بستاهِ
وكان يعارض عنانَ جاريةَ النطاف ويكثر عندها. وذكر محمد بن الحسن أنه ألقى على عنان هذين البيتين وقال قطعيهما. أحدهما:
لم تر عيني كنيحابٍ وصاحبهِ ... يضرب حرصًا على الدنيا إلى الشامِ
فلما قالت: مستعلن فاعلن، قال: لا أفعل، ففطنت فأخجلها.
والبيت الآخر:
فلا الزُّهد يعنيني ولا الحرصُ نافعي ... على الزبدِ بالتمرِ الذي أنا آكلهْ
فلما قطعته قال لها: ظريفة تذكر السوأتين. فأخجلها أيضًا.
وحدث محمد بن القاسم قال: حدثني أحمد بن محمد بن هارون قال: حدثني أبو زهير رزين العروضي قال: دخلت على عنان وعندها أعرابي فقالت لي: يابهَ جاء الله بك على حاجة. قلت: ما هي؟ قالت: هذا الأعرابي يسألني أن أقول بيتًا ليجيزه، وقد عسر عليّ فابتدئ عليَّ بالقول. فقلت:
لقدْ قلَّ العزاءُ فعيلَ صبري ... غداةَ حمولهمْ للبينْ زُمتْ
فقال الأعرابي:
نظرتُ إلى أواخرها ضُحيا ... وقدْ رفعوا لها عُصبًا فرنتْ
وقالت عنان:
كتمتُ هواهمُ في الصدرِ مني ... على أن الدموعَ على نمت
قال: فكانت أشعرنا.
1 / 8
وأخبرني محمد بن القاسم قال: أخبرني محمد بن زرين قال: حدثني محمد بن عبد الله بن طيفور قال: كان رزين مولانا، قال: وأنشدني له، وكنا نشرب فرمينا من دارٍ لبعضِ جيراننا بتفاحة:
أيا تفاحةً زمتْ ... فؤادي للهوى زما
لقد ألقاكِ إنسانٌ ... وألقاكِ لأمرٍ ما
لتهدي داعي الشوقِ ... إلى منْ عضَّ أو شما
وله في الحسن بن سهل قصيدة لا تخرج من العروض، أولها:
بئسَ ما جزاك به الظاعِنو ... نَ إذْ من جوارهمُ أخرجوكْ
قربوا جمالهمُ للرحيلِ ... بُكرةً أحبتك السالبوكْ
ذُو الرياستينْ وأنت اللذا ... تُحييانِ سُنةَ غازي تبوكْ
الفضل بن العباس
ابن جعفر بن محمد بن الأشعث الخزاعي كوفي قال ابن أبي خيثمة عن دعبل: له أشعار كثيرة. وكان له بها أثر حسن فقال في ذلك:
إنا على الثغر نحميهِ ونمنعهُ ... بنصرةِ الله، والمنصورُ من نصرا
كم وقعة بحمى إسكينَ مُشعلةٍ ... وبالمنوحار أُخرى تقدح الشررا
يا أهل كابلَ هلاَّ عاذَ عائذكمْ ... بالبدِّ يمنعُ منَّا من به انتصرا
لو كانَ يدفعُ ضيمًا عنكمُ لدرا ... عنه القسيَّ التي غادرنه كِسرا
تصبنا نقمةٌ لله بالغةٌ ... رضوانه فاصبروا لا تهلعوا ضجرا
بالله يطلُب ثأرَ الدين طالبنا ... وبالرسولِ وبالفرقان إذْ نُشرا
لا نمنعُ الواردينَ الورْدَ ما نهلُوا ... إلى اللقاء، ولكنْ نمنع الصدرا
وفي أبيه العباس بن جعفر، يقول دعبل قصيدته التي فيها:
أما في صُروف الدهر أن ترجعَ النوى ... بهمْ ويُدالَ القربُ يومًا من البعدِ
بلى في صُروفِ الدهرِ كُلُّ الذي أرى ... ولكنَّما أغفلنَ حظي على عمدِ
فو الله ما أدري بأي سهامها ... رمتني، وكُلًّ عندنا ليس بالمُكدي
أبا لجيدِ أمْ مجرى الوشاح وإنني ... لأُتهمُ عينيها مع الفاحمِ الجعدِ
والعباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث صاحب الإيغار الذي يسقي الفرات من عمل كُوثي والفلُّوجة، أجراه الرشيدُ كما أجرى المنصور يقطينَ بن موسى وقاطعه عنه، فصار إلى هذا الوقت عملًا مفردًا. وكان قد قلده خُراسان، وصير محمدًا الأمين في حِجره، واستخلفه بمدينةِ السلام في وقتِ خُروجه عنها. وكان الرشيد لا يقيمُ بمدينة السلام من السنة إلا شهرًا أو شهرين، ومنزلُ جعفرِ بن محمد ابن الأشعث بالباب المحول من الجانب الغربي،قصره إلى هذا الوقت واقف بإزاء الميل.
زرزر الرفاء
يُكنى أبا الخطاب بغدادي شاعر مليح الشعر قليلُه. قال دعبل: له شعر صالح ويروى أنه اجتمع ووالبة ابن الحباب وعلي بن الخليل وجماعة من شعراء بغداد في مجلس، فقال كل واحد منهم شعرًا يعرض به على أصحابه منزله وما عنده، فقال زرزر:
ألا قُوموا بنا نمشي ... إلى بستانِ صباحِ
فعندي لكمُ الوردُ ... وما شئتمْ من الراحِ
وبيتٌ من رياحينٍ ... وتُفاحٍ، ولُماحِ
وصَنَّاجةُ فتيانٍ ... بصنجٍ جدِّ صياحِ
تدينُ الله بالنَّيك ... به تدعو بإفصاحِ
وأنشد دعبل لزرزر يهجو رزينًا العروضيَّ:
سلحتْ أمُّ رزينِ ... ذاتَ يومٍ في طحِين
فسألناها فقالتْ ... ذا خميرٌ للعجِين
وحدث ابن أبي بدر: أنَّ زرزرًا كان ماجنًا من أصحاب أبي الحارث جُمينْ وكان أبو الحارث مضحكًا طيبًا.
قال أبو الحسن إسحاق بن إبراهيم حدثني محمد بن القاسم مولى بني هاشم قال: اسم أبي الحارث جُمينْ وولاؤه لبيتِ حمزة ابن عبد المطلب. وقد هجاهما رَزِين. ومن قوله في أبي الحارث يتهكم به:
سلامٌ ناقصُ الميمِ ... على وجهكَ بالحاءِ
خروفٌ لك في البيت ... فكلْ منه بلا فاءِ
وخردلةٌ بلا دالٍ ... ولا لامٍ، ولا هاءِ
وخرنوبٌ بلا نونٍ ... مُحشي كرِشَ الشاءِ
جزاكَ الله يا جُمَّ ... ينُ خيرًا ناقصَ الياءِ
1 / 9
فلا أنتَ بلوطيٍّ ... ولا أنت، بِزناءِ
ولكنك حا لامٌ ... وقافٌ بعدها ياءِ
حدث أبو اليزيدي قال: حدثني ابن أبي السري قال: حدثني رزين العروضي قال: رأيت غلامًا لمحمد بن يحيى بن خالد يضرب أبا الحارث جُمينْ بباب الجسر، فقلت له في ذلك. فقال: شتم مولاي فقلت له: لم فعلت؟ فقال: والله لو أن يوسف الصديق جاء إلى مولاه ومعه النبيون والملائكة شفعاء في أن يعيرهم إبرة يخيط بها ما قُدَّ من قميصه، وله طور مملوء إبرًا ترسل المهر في أوله فلا يبلغ إلى آخره حتى يقرح، لما أعارهم. قال رزين: فقلت:
لو أرك أنبتت لكَ واحتشتْ ... إبرًا يضيقُ بها فضاءُ المنزلِ
وأتاك يوسفُ يستعيرك إبرةً ... ليخيطَ قدَّ قميصهِ لمْ تفعلِ
عنان
جارية الناطفي، شاعرة ظريفة أديبة، كانت تجلس للشعراء ويجتمعون إليها فيلقي عليها كل رجل منهم الأبيات الغريبة والمعاني النادرة فتجيبه بديهًا.
وكان أبو نواس يظهر التعشق لها، وأعطى مولاها مالًا جليلًا وطلبها الرشيد فلم يبعها ثم باعها بعد من عبد الملك بن صالح الهاشمي بمائة ألف درهم.
ومن قولها تمدح الفضل بن يحيى بن خالد أنشده أبو هفان:
بديهته وفكرته سواءٌ ... إذا اشتبهتْ على الناسِ الأمورُ
وأحزمُ ما يكونُ الدهرَ رأيًا ... إذا عمى المشاورُ والمشيرُ
وصدر فيه للهمِّ اتساعٌ ... إذا ضاقتْ من الهمِّ الصدورُ
وأخبرني محمد بن يزيد النحوي أنها قالت ترثي مولاها الناطفي:
يا موتُ أفنيتَ القرونَ ولم تزلْ ... حتى سقيتَ بكأسكَ النَّطَّافَا
يا ناطفيُّ وأنت عنا نازحٌما كنتَ أولَ منْ دعوهُ فوافَى
أبو العباس المبرد قال: دخل أبو نواس إلى عنان يومًا، فكتب إليها بيتًا يمازحها:
ما تأمرين لصبٍّ ... يكفيكِ منه قُطيرهْ
فأجابته:
إيايَ تعنيِ بهذا ... عليكَ فاجلدْ عُميرهْ
فأخجلته، وأدهشته، إلا أنه أدركها ببيت فأخجلها وانقطعتْ عنه وهو:
أريدُ ذاكَ وأخشى ... على يدي منكِ غيرهْ
وأخبر المبرد قال: دخل أبو نواس عليها يومًا وقد ضربها - وهي تبكي - فقال، وذكر أبو زيد عمر بن شبه أن أحمد بن معاوية حدثه قال: حدثني مروان بن أبي حفصة قال: دخلتُ بيت الناطفي وقد ضرب عنان فقال:
بكتْ عِنانٌ فَجَرى دَمْعَها ... كالدرِّ قد تُوبعَ في خيطه
قال فقالت - والعبرةُ في حلقها:
فليتَ منْ يضربها ظالمًا ... تجفُّ يمناهُ على سَوْطهِ
فقال مروان: هي والله أشعر الجنِّ والإنس.
ويروى أنها هجت أبا نُواس بعدما كان بينهما من المودة فأفحشت، وهجاها، فمن قولها فيه:
مت متى شئت قد ذكرتك في الش ... عرِ وجزرْ أثواب ذيلكَ فخرَا
لا تُسبح فما عليك جُناحٌ ... جعلَ اللهُ بين فكفيكَ دُبرَا
أنتَ تفسُو إذا نطقت ومن سب ... ح بِالفَسْو نَالَ إثمًا وَوِزرَا
قال أبو زيد عمر بن شبه: حدثني أحمد بن معاوية، عن رجل قال: وجدت بيتًا على كتاب، فلم أجد من يجيزه، فأتيت به عنان فأنشدتها إياه. وهو:
ومَازالَ يشكو الحُب حَتَّى سمعته ... تنفسَ مِنْ أَحشائهِ أو تكلمَا
فما لبثت أن قالت:
ويبكي فأبكى رحمةً لبكائهِ ... إذا ما بَكى دَمعًا بكَيْتُ له دَمَا
عبد الجبار بن سعيد
ابن سليمان بن نوفل بن مُساحِق بن عبد الله بن مخرمة القرشي، من بني عامر بن لؤي، شاعر أديب ظريف مدني. أنشدني له أحمد بن يحيى قال: أنشدنيه عبد الله بن شبيب، وأنشدنيه أحمد بن أبي خيثمة عن الزبير بن بكار عنه يعني عبد الجبار قال: هي لأبي سعيد بن سليمان:
بلوتُ إخاءَ الناسِ يا عمرُو كُلهم ... وجربتُ حتى حنكَتْني تجارِبي
فلمْ أرَودَّ الناسِ إلا رِضاهُمُ ... فمنْ يُرزَ أو يسخط فليس بصاحبِ
فهوْنكَ في بُغضٍ وحُبٍّ فربما ... بدا جانبٌ منْ صاحبٍ بعد جانبِ
وخذ عفوَ منْ أحببتَ لا تنزرنه ... فعند بلوغِ الكدرِ رنقُ المشاربِ
1 / 10
ومن إنشاد الزبير لعبد الجبار أنشده محمد بن الحسن الزرقي، قال: أنشدني عبد الله بن شبيب، قال: أنشدني عبد الجبار لنفسه:
وذي إٍحنةٍ قد قُلتُ: أهلًا ومرحبا ... لهُ حين يلقاني فحيا ورحبَا
وأعطيته من ظاهري مسحةَ الرضا ... وقربته حتى دنا فتقربَا
فصلتُ به مُستمكنَ الكفِّ صولةً ... شفيتُ بها أضغانَ من كان مُغضبَا
ومن إنشاده له:
وعوراءَ قدْ أسمعتها فصممتها ... وأوطأتُها من غير عيٍّ بها نعْليِ
فلمْ يَنثِها ناثٍ وكانتْ كما مضى ... وجرت عليها العاصفاتُ سَفَى الرَّمْل
حدث أحمد بن أبي خيثمة قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني عبد الجبار بن سعيد بن سليمان المُساحقي قال: ولاني الحسنُ ابن زيد شرطته بالمدينة، فقال لي يومًا قولًا كان جوابه مني خلافَ ما أراد، فقال: واللهِ لهممتُ أن أفارقك فراقًا لا رجعةَ بعده، فقلت: أيها الأمير إذًا أقول. ويقال: الشعر لمسلم، وقوم يقولون للمساحقي:
وفارقتُ حتى ما أبالي من انتأى ... وإن بانَ جيرانٌ على كرامُ
فقد جعلتْ نفسي على النأي تنطوي ... وعيني على هجرِ الحبيبِ تنامُ
فوثب، فلم أشكك في التي تهددني بها، فما زالَ برا بي حتى فارقني. أخبرني أحمد بن زهير قال: أخبرنا الزبير قال: حدثني محمد بن الضحاك قال: رأت امرأةٌ من بني هلالِ بن عامرٍ ثم من بني قرة عبد الجبار حين سعى عليهم لبكار الزُبيري فأعجبها. فقالت:
لعمري لقد أودعتنا الحزنَ كُله ... عشيةَ رُدَّتْ للنجاءِ النجائبُ
فو اللهِ لا أنساك ما هبت الصبا ... وطول الليالي مادعا الله راغبُ
وواللهِ لا أنساكَ يا ابنَ مُساحقٍ ... وإن جُمعتْ فيكم على الحواجبُ
وواللهِ ما أحببتُ حبكَ والدًا ... ولا ولدًا لي فانظرنْ منْ تصاحبُ
أبو الجنوب وأبو السمط
ابنا مروان بن سليمان بن يحيى بن أبي حفصة، شاعران رشيدان مجيدان. أنشد أبو هِفان لأبي الجنوب، يقول في بيعة الأمين:
للهِ دركِ يا عقيلةَ جعفر ... ماذا ولدتِ من الندى والسؤددِ
إن الخلافةَ قد تبينَ نورها ... للناظرين على جبينِ محمدِ
إني لأعلمُ إنه لخليفةٌ ... إنْ بيعةٌ عُقدتْ وإنْ لم تُعقدِ
قال: فحشتْ أمُّ جعفرٍ فاه جوهرًا. واسم أبي الجنوب عبد الله، قال: ذكر ذلك أبو هِفان.
قال أبو هِفان: وذكر ابن إدريس بن سليمان بن يحيى أبي حفصة أن هذه الأبيات بن يحيى، بعض آل أبي حفصة قال: والحقُّ عندنا أنها لعبد الله لأن ذلك لم يكن يُحسن هذا الكلام أحمد بن أبي الطاهر قال: حدثني محمد بن علي بن طاهر، قال: بعث عبد الله بن طاهر وهو بالجزيرة إلى عبد الله بن مروان أبي حفصة وهو ببغداد بعشرين ألف درهم وكسوة، فقال، وحدثني بمثله أحمد بن يحيى عن محمد بن سلام عن أبي الغراف، فقال السمط بن مروان:
ونعمَ الفتى والبيدُ بيني وبينه ... بعشرين ألفًا صبحتني رسائلهْ
فكنا كحي صبح الغيثُ أهلهُ ... ولم تنتجعْ أظعانُه وحمائلُهْ
أتى جودَ عبد اللهِ حتى كفتْ به ... رواحلنا سيرَ الفلاةِ رواحلهْ
أحمد بن يحيى قال: حدثنا ابن سلام قال: قال أبو الغراف: سرق هذا المعنى من نهشل بن حري حيث يقول، وأخبر ابن أبي طاهر عن أبي محلم قال: بعث كثير بن الصلت الكندي. وهو قاضي عثمان على المدينة. إلى نهشل بن حري وهو بالبصرة بكسوة ومال، فكتب إليه نهشل:
جزى الله خيرًا والجزاءُ بكفه ... بني الصلتِ إخوانَ السماحةِ والمجْدِ
أتاني وأهلي بالعراقِ نداهمُ ... كما انقض سيلٌ من تهامة أو نجْد
فما يتغير من بلادٍ وأهلها ... فما غيرَ الإسلامُ مجدكم بعدي
قال دعبل: كل من قال الشعر من آل أبي حفصة بعد مروان وإخوته وولده وولد ولده فمتكلف، وقد جهدنا أن نجد لهم بيتًا نادرًا فلم نجده.
محمد بن أمية بن أبي أمية
الكاتب البصري، شاعر مجيد، رقيق الشعر، ابن شاعر. ومن قوله:
1 / 11
بنفسي من يناجيهِ ... ضميري بأمانيهِ
ومنْ يعرض عن وصفي ... كأني لستُ أعينيهِ
لقد أسرفتُ في الذلِّ ... كما أسرفتَ في التيهِ
أما تذكرُ لي إحسا ... نَ يومٍ فُتكافيهِ
ومن قوله، أنشده المبرد:
يا فراقًا أتى بإثر فراقِ ... واتفاقًا جرى بغيرِ اتفاقِ
حينَ حُطتْ ركابنا لإياب ... زمَّ منه رِحاله لانطلاقِ
إن نفسي بالشامِ إذ أنتَ فيها ... ليسَ نفسي نفسي التي بالعراق
أشتهي أن ترى فؤادي فتدري ... كيفَ صبري عنكم وكيف اشتياقي
أخبر أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة قال: أنشدنا محمد بن سلام لمحمد بن أمية بن أبي أمية:
وملاحظينِ يُكاتمانِ هواهما ... جعلا الصدورَ لما تجنُّ قبورا
يتلاحظانِ تلاحظًا فكأنما ... يتناسخانِ من الجُفونِ سطورا
وأخبر أبو بكر قال: أنشدنا محمد بن سلام أيضًا:
تترجم عنا في الوجوهِ عيوننا ... ونحنُ سكوتٌ والهوى يتكلمُ
ونغضبُ أحيانًا فنرضىَ بطرفنا ... وذلك بادٍ بيننا ليس يُعلمُ
وأنشد ابن أبي خيثمة عن دعبل وغيره عنه:
ربَّ وعدٍ منكِ لا أنساه لي ... واجبُ الشكرِ وإن لم تفعلي
أقطعُ الدهرَ بظنٍّ حسنٍ ... وأُجلى غمرةً ما تنجليِ
وأرى الأيام لا تُدني الذي ... أرْتجي منكِ وتُدني أجليِ
كلما أملتُ يومًا صالحًا ... عرضَ المكروهُ لي في أمليِ
حدث محمد بن القاسم قال: حدثني محفوظ بن عبيد الله قال: حدثني ابن أبي فنن قال: دخل أبو العتاهية على العباس بن الفضل بن الربيع، فقال: بلغني أن في ناحيتك شابًاّ يقول الشعر، قال: هو أقربُ الناس مجلسًا منك وكان إلى جانبه محمد بن أبي أمية فقال أبو العتاهية: أنشدني شيئًا من شعرك. فأنشده هذه الأبيات، فلم يزل أبو العتاهية يبكي وأنشد أيضًا عنه له:
يا ليتَ شِعري ما يكونُ جوابي ... أما الرسولُ فقد مضى بكتابي
وتعجلتْ نفسي الظنونَ وأشربتْ ... طمع الحريص وخشية المرتاب
ويروعني حركاتُ كل محركٍ ... والبابُ قرعته، وليس ببابي
واحسرتا من بعدِ هذا كُلهِ ... إنْ كانَ ما أخشاهُ ردّ جوابيِ
ومن قوله:
أيا كثيرَ العِللِ ... ويا قليلَ الشُّغُلِ
ويا لذيذَ القُبلِ ... ويا عظيمَ الكفل
سُرعةَ هذا خنتني ... فأينَ أيمانكَ لي؟
تؤيسني مُجتهدًا ... منكَ ويأبىَ أمليِ
علي وعبد الله وأحمد
بنو أمية بن أبي أمية، شعراءٌ محسنون.
أنشد أبو هِفان لعلي:
أحبك حُبا لو يفضُّ يسيره ... على الخلقِ مات الخلقُ منْ شدةِ الحبِّ
وأعلمَ أني بعدَ ذاك مُقصرٌ ... لأنك في أعلى المراتبِ منْ قلبي
وأنشد ابن خيثمة عن دعبل لعلي بن أمية، قال أبو هفان: هما لمحمد، وهذا مشهور من قول علي، أنشدنيه عن أبي حشيشة:
يا ريحُ، ما تصنعينَ بالدمنِ؟ ... كمْ لكِ منْ محوِ منظرٍ حسنِ؟
محوتِ آثارنا، وأحدثتِ آ ... ثارًا بربع الحبيبِ لم تكنِ
ومن قول علي بن أمية بن أبي أمية. أنشدهما أبو هفان:
أنا مُشتاقٌ إلى منْ ... لا يباليِ باشتياقِ
أنا أبكي من هوايي ... هِ ومنْ يومِ الفراقِ
وعلي هذا هو: أبو أبي حشيشة الطنبوري، ولأبي حشيشة شعر صالح، واسمه: محمد بن علي، وكنيته: أبو جعفر.
ومن قول عبد الله، أنشده أبو هفان. ويروى هذا الشعر للأشتر صاحبِ علي ﵇ وهو طويل يقول فيه:
إن لمَ أشنَّ على ابنِ حربٍ ...
لا تربعنَّ على محلِّ البوسِ ... حيثُ الرئيسُ بمنزلِ المرءوسِ
إن لم أشنَّ على ابن سهلٍ غارةً ... لم تخلُ يومًا من نهاب نفوسِ
فوفرتُ وفرى وانحرفتُ عن العُلا ... ولقيتُ أضيافيِ بوجههِ عبوسِ
1 / 12
ومن قول أحمد بن أمية بن أبي أُمية، ويكنى: أبا العباس، أنشده أبو هفان وقال: ليس في الأرضِ هجاءٌ أشرف ولا أظرف من هذا الهجاء:
إن ابن شاهكَ قد وليته عملًا ... أضحى وحقك عنه وهو مشغولُ
بسكةٍ أحدثتْ ليستْ بشارعةٍ ... في وسطها عرصةٌ في جوفها ميلُ
يُرى فُرانقُها في الركضِ مندفعًا ... تهوي خريطته والبغل مشكُولُ
ومن قوله، أنشده دعبل:
خبرتْ عن تغيري الأتراب ... ومشيبي، فقلنَ: بالله شابَا
نظرتْ نظرةً إلي وصدتْ ... كصدود المخمورِ شمَّ الشرابَا
الصمري
شاعر مجيد، مدح معن بن زائدة وغيره.
ومن قوله في معنٍ، وذكر أبو عكرمة عن القحذمي أنه قال في يزيد بن مزيد، وأنه قيل ليزيد: ما أحسنُ ما مُدحتَ به؟ فأنشد هذا الشعر:
أنتَ امرؤٌ همكَ المعالي ... ودلوُ معروفكَ الربيعُ
وأنت منْ وائلٍ صميمٌ ... والقلبُ تُحنى له الضلوعُ
في كلِّ يومٍ تزيدُ خيرًا ... يذيعه عنكَ منْ يُذيعُ
وأنشد له أبو هفان:
وشاطِرةٍ من البيضِ الظرافِ ... وقفتُ لها بمكةَ في الطوافِ
أمازحُها ب: قد حانَ انصرافي ... فقالتْ ليتَ أنك خلف قافِ
أبو فرعون الساسي
التيمي العدوي، من عدي الرباب، اسمه: شويس، أعرابي بدويٌّ، قدم البصرة يسأل الناس بها، وكانت له أشعارٌ طريفة.
ومن قوله، أنشدنيه أحمد بن زهير عن دعبل، وقال أبو العيناء، قاله في عمر بن حبيب القاضي:
كفاني الله شركَ يا ابن عمي ... فأما الخيرُ منكَ فقد كفاني
وأنشد له أبو هفان:
تفردوا وامرأتي قُدامي ... ليسَ لكمْ لدي من مُقامِ
أنا حمامُ فرجِ الحجامِ
فرج الحجام: مولى جعفر بن سليمان بن علي، وقال المدائنيُّ: لم يُدركْ حجامٌ أعقل منه. وطائرهُ هذا الذي يذكره أبو فرعون أولُ طرسوسي طارَ بالبصرة.
ومن قول أبي فرعون:
بنيتي هدني الزمانُ ... وملني الأهلُونَ والإخوانُ
رد فلانٌ وجفا فُلانُ ... واللهُ ربُّ الناسِ مُستعانُ
ومن قوله:
ولا يريم الدهرَ منْ مكانهِ ... أشجعُ منْ ليثٍ على دكانهِ
لا يطمع السائلُ في رُغفانهِ ... أعطاني الفلسَ على هوانهِ
ومن قوله، أنشدنيه عمر بن محمد بن عبد الملك قال: أنشدني الحسن بن جهور:
هذا زمانٌ عارمٌ منْ يُبسهِ ... ترى اللئيمَ ينتقي من جنسهِ
يُصبحُ من صبيانهِ وعُرسه ... مُستأثرًا بخبزه ودبسهِ
ومن قوله أنشده أبو حنيفة:
وصبيةٍ مثلِ صغارِ الذرِّ ... سودِ الوجوهِ كسوادِ القدر
جاءهمُ البردُ وهمْ بشرِّ ... بغيرْ قطفٍ وبغيرْ دُثْرِ
تراهمُ بعدَ صلاةِ العصرِ ... بعضهمُ مُلتصقٌ بصدري
وآخرٌ مُلتصقٌ بظهري ... إذا بكوا عللتُهُمْ بالفجرِ
حتى إذا لاحَ عمودُ الفجرِ ... ولاحتِ الشمسُ خرجتُ أسري
عنهمْ وحلوا بأصولِ الجدرِ ... كأنهمْ خنافسٌ في جحرِ
هذا جميعُ قِصتي وأمري ... فاسمعْ مقالي وتولَّ أجري
فأنتَ أنتَ ثقتي وذُخري
ومن قوله أنشدنيه محمد بن خلف:
أنا أبو فرعونَ زينُ الكُورهْ ... أحسنُ شيءٍ مِشيةً وصورهْ
تضحكُ إن مرتْ به ممكُورهْ ... ضحكَ الأفاعي في جِرابِ النورهْ
ومن قوله، أنشده عمر بن محمد، عن الحسن بن جعفر مولى بني هاشم:
يا أخوتي يا معشر الموالي ... أنا ابنكمْ وأنتمُ أخواليِ
هذا زبيلي وجِرابيِ خالي ... والماءُ عالٍ والدقيقُ غالي
وقد مللنا كثرةَ العيالِ
وأنشد عمر قال: أنشدني الحسن لأبي فرعون يهجو قومه:
إن عديًا نفشتْ لحاها ... وظلمتْ في حقها أخاها
لا يرني اللهُ كما أراها
سرق المعنى من أوسِ بن حجر يقول:
أبني لُبينىَ لا أحبكمُ ... وجدَ الإلهُ بكمْ كما أجدُ
الخاركي
واسمه عمرو
1 / 13
وكان أعور بصري أزدي، وخاركُ: قرية من عمل فارسِ على البحر، شاعرٌ خبيثٌ سفيه ماجن.
أنشد له الجاحظ ودعبل:
إذا لام على المُردِ ... نصيحٌ زادني حِرصا
ولا واللهِ يا قومِ ... فلا أُقلعُ أو أُخصىَ
قال الجاحظ: عطس الخاركي فقال: الحمد لله الذي لا ينام ولا يُنيم، وعطس فزارة فقال: الحمد لله الذي لا يُحلف بأعظم منه.
وأنشد حماد بن إسحاق الموصلي لعمرو الخاركي:
إن كنتُ أرجوكَ إلى سلوةٍ ... فطالَ في حبسِ الضنىَ لُبثي
وعشتُ كالمغرورِ في دينه ... يوقنُ بعدَ الموتِ بالبعثِ
ومن قوله:
عللاني بمزهرٍ ويراعهْ ... لا تُفيتانيَ المُدامةَ ساعةْ
يا نديميَّ فاشرباها فإني ... قد أرى في النديم سمعًا وطاعهْ
بادرا أوبةَ المنون فإن ال ... دارَ دارٌ حصادةٌ زراعهْ
ومن قوله:
عليكِ ما تنوينَ لا تخدعي ... عنْ طيب عيشٍ بالأباطيلِ
فتاركُ اليومِ لما في غدٍ ... أحقُّ معقولٍ بتجهيلِ
ما ... يسألُ تعجيلًا بتأجيلِ
وله:
قلتُ يومًا لها وحركتِ ال ... عودَ بِمضْرابِها فغنتْ وغنىَّ
ليتني كنتُ ظهر عودكِ يومًا ... فإذا ما احتضنتني كنتُ بطناَ
فبكتْ ثم أعرضتْ ثم قالتْ: ... من بهذا أتاكَ في النوم عناَّ
قلتُ لما رأيتُ ذلك منها: ... بأبي ما عليكِ أنْ أتمنىَّ
ومن قوله أنشده أحمد بن أبي خيثمة ثم قال: هو لأحمد بن إسحاق الخاركي:
نعى نفسي إلى أبي ... وخبرَ أينَ مُنقلبي
بموعظةٍ رآها في ... أبيه كما رأيتُ أبي
سلبتُ أبي سلامتهُ ... وأسلبُ بعدُ مُستلبي
فأينَ من المطلِّ على ... مذاهبِ مهربي هربي
وما لمُسافر جدَّ ال ... رحيلُ به وللعبِ
سري طلقًا بغمرته ... وأغفلَ ليلةَ القربِ
وفي القربِ اقترابُ الوا ... ردينَ بها إلى العطبِ
قال الجاحظ: كان عمرو الخاركي يذكر أم المخلخل:
وقدْ طولتِ الإسبَ ... فصار الإسبُ قاريهْ
علاها رمصُ الصدعِ ... فصارتْ بردانيهْ
وأنشد أبو العيناء:
منْ كانتِ الدنيا له شارةً ... فنحنُ من نظارةِ الدنيا
نرقبها من كثب حسرةً ... كأننا لفظٌ بِلا معنىَ
أحمد بن إسحاق الخاركي
بصريُّ شاعر كثير الشعر، هجا الفضل الرقاشي هجاءً كثيرًا، ومن شعره أنشده أحمد بن أبي خيثمة:
يا خاطب الدنيا ألمْ تعتبر ... بفعلها قبلك في العالم ِ
إن التي تخطبُ غرارةٌ ... قريبةُ العرسِ من المأتمِ
وأنشد له أيضًا في الخمر، وذكر المبرد أنها لأبي نواس، وهي مختارة حسنة المعنى:
أم طوقِ الشَّذْرِ والذهبِ ... قُرنتْ باللهو واللعبِ
خُلقتْ للهمِّ قاهرةً ... وعدوَّ البخلِ والنشبِ
لم يسُغها قطُّ راشفها ... فخلا من نشوتي طربِ
لا تشبها بالذي كرهتْ ... هي تأبى دعوةَ النسبِ
أخبرنا أبو العباس المبرد قال ليس يعني! لا تشبها بالماء، ألا تسمع قول سلمٍ الخاسر: لا تصلح الخمرة إلا بما.ولكن يعني لا تشبها بالطبخ فتزيلها عن اسمها ومعناها. وأنشد أبو بكر بن أبي خيثمة أيضًا في الجاحظ:
يا فتىً نفسه إلى ال ... كفرِ بالله تائقهْ
لك في الفضلِ والتن ... سك والزهدِ سابقهْ
فدعِ الكفر جانبًا ... يا دعيَّ الزنادقه
وأحمد بن إسحاق وذكر ذلك دعبل أنشد له يهجو أبا ذفافة إبراهيم بن سعيد بن الباهلي:
أردتُ به الهجاءَ فأدركتني ... على الأشعارِ حيطةٌ ورافه
وأنشد له:
أبديت سوءةَ منصبيكا ... وهتمت فاك بِوَالدَيْكَا
أنشدني علي بن محمد بن نصر قال: أنشدني أبو عبد الرحمن العطوي قال: أنشدني أحمد بن إسحاق الخاركي لنفسه:
1 / 14
كأسٌ وصلتُ ظلامها بنهارِ ... وفللتُ حدَّ خُمارها بعقارِ
وهي طويلة، قلت لعلي: إن الناس يروونها لمصعبٍ الوراق، فقال: لا وفيها يقول في خُروج لحية أمرد:
لهفي عليكَ وما يردُّ تلهفي ... بعدَ الظلامِ غضارةَ الأنوارِ
وكأنَّ خطَّ الشعرِ في جنباتهِ ... ليلٌ أقامَ على نُجومِ نهارِ
لو يُبتلى بدرُ السماءِ بلحيةٍ ... لاسودَّ حتى لا يُضيءُ لساري
أبو الخطاب البهدلي التميمي
عمر بن عامر، بصري فصيح راجز متقدم. كان الأصمعي يتخذه حجة ويروي شعره.أحمد بن أبي طاهر قال: أهدى رجل من أهل البصرة إلى أبي الخطابِ البهدلي خروفًا مهزولًا، فقال أبو الخطاب:
أهدى إلينا معمرٌ خروفًا ... كانَ زمانًا عنده مكتوفَا
يعلفهُ الكشيحَ والسفُوفَا ... والفارقونَ بعده مدُوفَا
حتى إذا ما صار مُستجيفَا ... أهدى فأهدى قصبًا ملفوفَا
جُللَ جلدًا فوقه وصُوفا ... وكانَ منْ فعاله موصوفَا
وأنشد أبو هفان لأبي الخطاب:
الجودُ طبعٌ وما يسطيعهُ أحدٌ ... إلا امرؤٌ والداهُ: الدين، والكرمُ
وأنشد له محمد بن إسحاق المروزي الفقيه قال: أنشدني أبو الخطاب:
قلْ لليالي: ما أردتِ فاصنعي ... إنَّ الذي أبليتهِ لم يرجعِ
من الشبابِ فأجدي أودعي ... وأنتِ قدْ أودعتِ شرَّ مودعِ
تقرحٌ في بدني وأضلعي ... وضعفُ صُلبي واشتِكاءُ أخدعِي
بوجعٍ نظيرهُ لم أيجعِ ... ما في يا عاذلُ من مُستمتعِ
أنحلني كرُّ الليالي الرجعِ ... تسعينَ قدْ وصلتها بأربعِ
ويحكِ كُفي عنْ ملامي واربعي ... وحقِّ ما ألقي إليكِ فاسمعي
إني لوْ عُمرت عُمرَ الأصمعي ... وعُمرَ لُقمانَ وعُمرَ تُبعِ
ونسرِ لقمانَ الهجفِّ الأقرعِ ... ما كانَ بدُّ من تبوي مضجعي
في عرضِ شبرينِ وخمسِ أذرعِ ... في مضجعٍ ساكنه لم يهجعِ
وسرق الحمدوي من أبي الخطاب قوله في الخروف، وأهدى إليه سعيد بن أحمد بن جواسبيداد أضحيةً مهزولة فقال:
ما أرى إنْ ذبحتُ شاةَ سعيدٍ ... حاصلًا في يديَّ غيرَ الإهابِ
ليسَ إلا عظامها لو تراها ... قلتَ: هذا أرازنٌ في جرابِ
وأنشد محمد بن إسحاق بن عبد الرحمن الفقيه قال: أنشدني أبو الخطاب لنفسه وقد كبر:
قلتُ لرجلي وهي عرجاء الخطا ... تشكو إلىَّ وجعًا من النسا
أو من أذى الريح ففي الريح الأذى: ... مُوتي وهيهاتكِ من أخذِ العصا
ومنْ ترجيكِ الذي لا يرتجي ... أتفضحيني بين حُورٍ كالمها
أوانسٍ مثلِ تصاويرِ الدمى ... كم بين قولِ الغانياتِ: يا فتى
وقولهنَّ: شابَ هذا وانحنى ... أشدُّه منهنَّ كيما لايُرى
جبينَ وجهٍ وجبينًا في القفا ... وإنْ بدا رمينَ رأسي بالحصى
وقال أبو الخطاب في الحسن بن سهل:
قمعتَ كُلَّ ناكثٍ مفتونِ ... بالصلحِ لما صرت كالبنينِ
جمع عليٍّ لعدا صفين وله:
قالتْ ولجتْ في العتابِ والعذلْ ... بصريةٌ ذاتُ مراءٍ وجدل
أبو دُهمان
بصري عربي، وكاتب له أشعار ملاح. أخبرنا أحمد بن أبي خيثمة، عن الزبير بن بكار عن ثابت بن الزبير بن حبيب، عن ابن أخت أبي خالد الحربي، قال: لما ضرب المهدي أبا العتاهية في تشبيبه بعتبة قال: أبو دُهمان:
لولا الذي أحدثَ الخليفة في ال ... عشاقِ من ضربهم إذا عشقوا
لبحتُ باسم الذي أحبُّ ول ... كني امرؤُ قد نبا بي الفرقُ
أخافُ إن بُحثُ أنْ أُعاقب وال ... قلبُ بطولِ الكتمان يحترقُ
قال الجاحظ: تقلد أبو دُهمان سابور من كورِ فارس، وتقلد جميلُ بن محفوظ المهلبي أرجان، فزارهما أبو الشمقمق، فأحسن إليه أبو دهمان، ولم يلتفت إليه جميل، فقال:
1 / 15
رأيتُ جميلَ الأزدِ قد عقَّ أمهُ ... فناك أبو دُهمانَ أمَّ جميلِ
فحمل يحيى بن خالد بعد ذلك إلى الديوان بمدينة السلام عمال فارس وفيهم أبو دهمان وجميل، فرفعوا حسابهم ونُوظروا بحضرة يحيى فرد أمر أبي دهمان إلى جميل فألزمه مالًا في حسابه، فقال أبو دهمان: احفظ الصهر، فغضب، وسمعها يحيى فسأله عن معنى الصهر، فأنشده بيت أبي الشمقمق. فضحك وأمر بإبراء أبي دهمان مما لزمه من المال.
حدث أحمد بن أبي طاهر وغيره قال: قال إسحاق الموصلي: وفد أبو دهمان على سعيد بن سلم بأرمينية، فأطال حجابه ثم أذن للناس إذنًا عامًا فدخل في غمارهم فقال: إني والله لأعرف أقوامًا لو علموا أن سفَّ التراب يقيم من أود أصلابهم لجعلوه مُسكةً لأرماقهم، إيثارًا للتنزه عن عيشٍ رقيق الحواشي، إني والله لبعيد الوثبة، بطيء العطفة، وما يثنيني عليك إلا مثل ما يصرفني عنك، ولأنْ أكون مُملقًا مقربًا أحب إلى من أن أكون مكثرًا مبعدا، والله ما نسأل عملا إلا نضبطه، ولا مالًا إلا ونحن أكثر منه، وإن هذا الذي صار في يدك قد كان في يد غيرك فأمسوا - والله - حديثًا إن خيرًا فخيرا، وإن شرًا فشرا فتحبب إلى عباد الله بحسن البشر ولين الجانب فإن حبهم موصول بحب الله وهم شهداؤه على خلقه وأمناؤه من اعوج عن سبيله ثم قال:
وأنزلني ذُلُّ النوى دار غربةٍ ... إذا شئتُ لاقيتُ الذي لا أُشاكِلُهْ
فحامقتهُ حتى يُقالَ سجيةٌ ... ولو كان ذا عقل لكنتُ أُعْاقِلُهْ
وأنشد محمد بن القاسم قال: أنشدتُ لأبي دهمان:
من دونِ حبك قد أحببتُ حُماكا ... أظُنها دونَ خلقِ الله تهواكا
حُماك جماشةٌ حُماكَ عاشقةٌ ... لو لم تكن هكذا ما قبلتْ فاكا
أبو البيداء الرياحي
شاعر مجيد أعرابي نزل البصرة وأقام بها عمره أخبرني أحمد بن يحيى عن محمد بن سلام أنه كان فصيحًا راويةً يؤخذ عنه العلم، قال الجاحظ عن بعض رجاله، قلت لأبي البيداء أنشدني بيتًا من قولك، فأنشدني:
قال فيها البليغُ ما قال ذو الع ... ي فكلُّ بوصفها مِنطيقُ
وكذاكَ العدوُّ لم يعد أن ق ... لَ جميلًا كما يقولُ الصديقُ
قال: فقلت: من هذه التي وهبت لها لبك؟ قال: أمي والله وسمعي وبصري.أنشد حماد بن إسحاق الموصلي لأبي البيداء وحدثني محمد بن القاسم قال: أنشدنيها دماذ قال: أنشدني أبو البيداء:
إذا ما أبو البيداء رمتْ عظامه ... فسرك أن يحيا فهاتِ نبيذا
نبيذًا إذا مرَّ الذبابُ بدنهِ ... تقطعَ أواخرَّ الذبابُ وقيذا
حدثني محمد بن القاسم قال: حدثني دماذ قال: كان لأبي البيداء ابن يقال له ديسمٌ فمات، فرأيته قائمًا على قبره وهو يدفن وهو يقول:
احثُوا على ديسمَ منْ جعدِ الثرى ... أبي قضاءُ الله إلا ما ترىِ
حدثني أحمد بن عمار قال: حدثني الفضل بن الحسن المصري قال: لما مات أبو البيداء رثاه أبو نواس فقال:
هل مُخطئٌ يومه عُفرٌ بشاهقةٍ ... يرى بأخيافها شثًاّ وطُباقَا
مُسورٌ منْ حِباءِ الله أسورةً ... يركبنَ منه فويقَ القينِ والساقَا
أو لقوةٌ أمُّ إنهيمينْ في لجفٍ ... شبيهتيها شفا خطمٍ وآماقَا
مُهبل ذئبها يومًا إذا قلبتْ ... إليه من مُستكف الجو حِملاقَا
فات النعاةُ أبا البيداءِ مُخترمًا ... ولم يُغادرْ له في الناس مِطراقَا
ويلُ أمهِ صلُّ أصلال إذا جعلوا ... يفشونَ دونَ معاني القولِ أغلاقَا
فليسَ للعلمِ في الأقوام باقيةُ ... عاقَ العواقي أبا البيداءِ فانعَاقا
عاصم بن محمد المديني
المبرسم، مولى العمريين، وهو ينتمي إلى لخم، وكنيته: أبو صالح شاعر مجيد، ذكر دعبل أنه ابن أبي عاصم الأسلمي. وكلاهما قد مدح الحسن عاصم المبرسم يصحب الحسن وينقطع إليه، وكان خبيث اللسان كثير الهجاء. ومن قوله في بني العباس:
ودت قريشُ على البغضاءِ أنكمُ ... كنتمْ لهمْ صمغةً بالأسرِ تقتلعُ
1 / 16
حتى إذا نلتموها بعد زعمهمُ ... متوا إليكمْ بالأرحامِ التي قطعوا
إياكمُ أن يقولَ الناسُ قد ظفروا ... بهم جميعًا وما ضروا ولا نفعوا
ومن قوله أنشده حماد بن إسحاق، يهجو رجلا:
أظنُّ وبعضُ الظنِّ كالأخذِ باليدِ ... وذلكَ ظنٌّ نابني عن محمد
أظنُّ له ربينِ: ربًاّ لدينه ... وآخرَ للأيمانِ في كُلِّ مشهدِ
وما منْ إلهيه: الذي ليمينهِ ... ولا دينه إلا لحنثٍ بمرصدِ
ومن قوله في سلطان، عشيقته، ولها معه أخبارٌ ملاح، وله فيها قول جيد:
إيذني للرسولِ يأتيكِ مني ... بكتابٍ ولا تردي جوابي
فلعمري ما حسرتي منكِ أن قا ... سيتُ فيكِ العذابَ فوقَ العذاب
فاعلميه ولا تثيبي عليه ... أنا راضٍ بالعلمِ دُونَ الثوابِ
أنشدت عن إبراهيم بن محمد الطلحي القاضي قال: أنشدني عاصم المبرسم لنفسه:
للهِ درُّ أبيكَ أيُّ زمانِ ... أصبحتُ فيه وأيُّ أهل زمان؟
كلُّ يُعاطيكَ المودةَ دائبًا ... يُعطي ويأخذُ منكَ بالميزانِ
فإذا رأى رُجحانَ حبةِ خردلٍ ... مالتْ مودتهُ معَ الرجحان
وقال بعض المدنيين: جاءت امرأة عاصم المبرسم إلى الحسن ابن زيد - وهو والي المدينة - فقالت: يا سيدي إن عاصمًا قد تركني وأقبل على سوداء فهي وهو في زرنوق بني فلان. فقال الحسن لأبي السائب المخزومي: يا أبا السائب، قم فإن كان حقًا فجئني به مجنوبًا، وإلا يكنْ فجئني به على حاله. فقام أبو السائب، فإذا به معها، وبينهما قطعة تمرٍ فقال: ويلكَ، مثلُ هذه السوداء على تمرٍ؟ فقال:
زَبيبُ والتمرُ على وجهها ... أحلى من التمرِ بلا زبيبْ
فخلع أبو السائب عليه جبته، وانصرف إلى الحسن فأخبره الخبر فقال الحسن: أحييتَ شهد الله الظرفَ، وأعتق ما أملكُ إن لبستَ إلا خِلعتي. فخلع عليه ثيابه، ودعا بغيرها فلبِسها.
أخبرني ابن أبي خيثمة، عن مصعب الزُبيري قال: عاصمٌ المُبرسم الشاعر من ولد رافعٍ مولى عمر بن الخطاب، قال: وأخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن: أنه خاصم ولدَ رافعٍ حتى ثبتَ عليهم ولاءُ عمرَ بن الخطاب.
قال: وأخبرني مصعب قال: في رافع يقول عمر:
ألا اخْدُمِ الأقوامَ حتى تُخدما ... وكُنْ شريكَ رافعٍ وأسلما
خارجة بن فُليح المَللي
مولى أسلم، حجازيٌّ شاعر مجيد كثير الشعر.
أخبرني أحمد بن يحيى النحوي قال: أخبرني عبد الله بن شبيب قال: حدثني محمد بن إسماعيل قال: جئت عبد العزيز بن عمران الرهوي يومًا، فلما كنت عند خوخته سمعته يقول: على أيمانُ البيعة إن لم يكن أشعرَ الناس، فدخلت عليه، فقلت: من هذا؟ فقال خارجةُ المللي، قلت: حين يقول ماذا؟ قال حين يقول:
تخايلها طرفُ السموِّ لعاشقٍ ... هفا هفوةً ثمّ استفاقَ فأكذبا
ومن قوله:
فهمَّ نياطُ القلبِ إذْ نشزتْ بهِ ... بناتُ الهوى في الصدرِ أن يتقضبا
ومن قوله:
ما تدلك الشمسُ إلا حذوَ منكبهِ ... في غايةٍ تحتها الهاماتُ والقصرُ
آلُ الزُّبيرِ نُجومٌ يُستضاءُ بهمْ ... إذا دجى الليلُ من ظلمائها زهرواُ
قومٌ إذا شومسوا جد الشماسُ بهمْ ... ذات العِنادِ وإن يا سرتهم يسروا
خُصَّ المديحَ أبا بكر ووالدهُ ... وعمهمْ مِنكَ إن غابوا وإن حضروا
ومن قول خارجة أنشدنيه ابن أبي خيثمة عن مصعب والزبير ابن بكار:
ثنتْ طرفها نحوَ المطي صبابةً ... إلىَّ فكادَ القلبُ أن يتصدعا
أقامتْ فطابتْ تربةُ الخيفِ إذثوتْ ... بهِ بعدَ تعريفِ المُعرف أربعَا
وطابَ حجابُ المروتينِ بِنشرِها ... ومتنُ الصفا الشرقي حتى تضوَّعَا
وما نلتُ منْ ليلىَ وفاءً بعهدها ... وما نلتُ منها العهدَ إلا تضرُّعَا
ومن قوله:
فقدْ خلعتْ دواوينُ الغوانيِ ... سِوىَ دِيوانِ ليلىَ يمحِينَا
يونس بن عبد الله
بن سالم الخياط المدني شاعرٌ مليحُ الشعر جيده:
1 / 17
أنشدني أبو بكر بن أبي خَيثمة قال: أنشدني الزبير بن بكار قال: أنشدني يونس بن الخياط لنفسه:
كساني قميصًا إذا انتشى ... وينزعُه مني إذا كانَ صاحيَا
فلي فرحةٌ في سُكرهِ بقميصه ... وروعاتُه في الصحو حصتْ شواتيا
فياليتَ حظي من سروي وكأبتي ... ومنْ ثوبهِ أن لا على ولاليَا
وأخبرني أحمد بن أبي خيثمة عن الزبير بن بكار قال: عُدتُ يُونسَ ابن الخياط وهو في مرضه الذي مات فيه، فأنشدني لنفسه:
والله لو عادتْ بني مُصعبٍ ... حليلتي قُلتُ لها: بينيِ
أو ولدي عنْ حُبهمْ قصروا ... ضغطتهمْ بالرغم والهون
أو نظرتْ عينيِ خِلافًا لهم ... فقأتُ من إجلالهمْ عينيِ
أخبرني أحمد بن أبي خيثمة قال: قال الزبير: أخذ أبي ابن الخياط بالصلوات الخمس في المسجد فجاءني مع محمد بن الضحاك وجعفر ابن حسين اللهبي، فوقف بين يدي فأنشدني:
قُل للأمير: يا كريم الجنسِ ... وخيرَ من بالغورِ أو بالجلسِ
وعصمتي لوالدي ونفسي ... شغلتني بالصواتِ الخمسِ
أخبرني أحمد بن أبي خيثمة عن الزبير قال: قال ابن الخياط. في ابن أبي قُتيلة وجاريتهِ، وكان يعشقها، وأخذه السلطانُ بدين عليه، فلما أراد بيعها أعتقها وقال: قوموها عليّ. قال الزبير قال مصعب بن عثمان: ما رأيت بريق صلعِ الأشرافِ في سُوقِ الرقيق أكثر منها في ذلك اليوم، قال: فقُومتْ عليه بخمسمائة دينار، وسُلمت إليه، فقال ابن الخياط:
يا معشرَ العُشاقِ منْ لم يكنْ ... مثلَ القُتيلي فلا يعشقِ
لما رأى السُوامَ قد أحدقوا ... وصيحَ في المغرب والمشرقِ
واجتمع الناسُ إلى شذرةٍ ... نظيرها في الناس لم يُخلقِ
وأبدتِ الأموالُ أعناقها ... وطاحتِ العُسرةُ لِلمُملقِ
قلبَ فيها الرأي في نفسه ... بدين ما يأتي وما يتقي
أعتقها والنفسُ في شدقه ... للمُعتقينِ المَنُّ على المُعتقِ
وقال للحاكمِ في أمرِها ... إن فارقتني فمتى نلتقِي
عمرو بن مُسلم الرياحي السلمي
من بني الشريد، يكنى أبا المسلمِ، حجازي شاعر مجيد حدثني محمد بن الحسن الزرقي قال: حدثني إسماعيل ابن أبي الجليد قال: حدثني أبو المسلم الرياحي وحدثنيه جماعة. قالوا: حدثنا عبد الله بن شبيب قال: حدثني محمد ابن عبد الله بن عتيق قال: حدثني أبو المسلم الرياحي قال: أتيت الحسن بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب أخا صاحب فخِّ، وكان جوادًا وهو بينبُعَ، وقد امتدحته فقال لي: منْ أنتَ؟ فقلت عمرو بن مسلم قال: الرياحي؟ قلت: الرياحي. قال: لا حياك الله، يا عاض كذا وكذا، ألست الذي تقول في محمد بن خالد العثماني:
أيا ابن الذي حنَّ الحَصَا في يمينه ... وأكرم منْ وافي جِمارَ المُحصبِ
وخيرْ إمامٍ كانَ بعدَ ثلاثةٍ ... مضوا سلفًا أرواحهمُ لم تُشعبِ
هو الثالثُ الهادي بهديِ محمدٍ ... على رغمِ أنفِ الساخطِ المُتعتبِ
فقلت: أنا القائل ذا، ووالله لئن احتملت.
؟؟ حبيب بن شوذب
شاعر راوية، له أبيات جياد.
أخبرني أحمد بن يحيى النحوي قال: حدثني عبد الله ابن شبيب قال: حدثني محمد بن الوليد الزبيري، عن عمه سعيد ابن عمرو قال: أنشدني أبو الرُميح حبيب بن شوذب في السري بن عبد الله الهاشمي يمدحه:
فكَّ السريُّ عن الندى أغلالهُ ... فجرى وكانَ مُكبلًا مغلولاَ
وتعاقدا العقدَ الوثيق وأشهدا ... منْ كُلِّ قومٍ مُسلمينَ عُدُولاَ
ووفى الندى لكَ بالذي عاقدته ... ووفىَ السريُّ فما يُريدُ بديلاَ
أنشدني أحمد بن زهير قال: أنشدنا حبيب بن شوذب مولى بني أسد يمدح الحكم بن المطلب بن عبد الله بن حَنْطب المخزومي وكان من الأجواد المتجاوزين الحد في السخاء:
أنتَ أنفُ الجُودِ إن فارقته ... عطسَ الجودُ بأنفٍ مُصطلمْ
أنت أنفُ الجودِ تنمى صاعدًا ... للمعالي وابن عرنينِ الكرمْ
1 / 18
بعضُ ما يبذلُ من نائلهِ ... مثلُ تيارِ الفُراتِ المُقتسمْ
أخبرنا ابن أبي خيثمة قال: أخبرنا مصعب قال: قال ابن شوذب: وكان موالي أهل المدينة، وكان يأتي مجلس الأويسيين فقال لهم:
وإني لآتيكمْ وأعلمُ أنما ... بيوتُ الندى في غيركمْ والمكارمِ
وإني لمُجدِيكم جديَّة مِثلكم ... لكُمْ ظالمًا وهكذا غيْر ظَالم
وقال المدائني: دخل حبيب بن شوذب على جعفر بن سليمان بالمدينة فقال: أصلح الله الأمير حبيب بن شوذب وادُّ الصدر حسن الثناء يكره الزيارة المملة، والقعدة المنسية. فأمر له بصلة.
حدثني أحمد بن أبي خيثمة قال: قال الزبير بن بكار: حدثني سعيد بن عمرو الزبيري قال: كان أبو الرميح حبيب بن شوذب الأسدي يفضل الفرزدق على جرير، ويتعصب له عليه - وقد كان أدركهما - فسألته عن صفتهما. فقال: أما جرير " فكان طويلًا مضطربًا أغنّ - فنعته فجعل يوهن خلقه حتى كان يخنثه - وأما الفرزدق: فكان غضنفرًا، عظيم الهامة، رحب الصدر، عظيم القصرة كأنه أسد.
؟ ميمون الحضري
محاربي حجازي، ظريف مليح الشعر. حدثنا أحمد بن أبي خيثمة قال: أخبرنا الزبير بن بكار قال: حدثنا ميمون الحضري قال: أردت الحج، فقالت لي امرأة كنت أتحدث إليها: قم فطف ببيتي سبع طوفات كما تطوفون بالبيت، واركض بعيرك كما يركضون إبلهم، واحلق رأسك كما يحلقون رءوسهم، وارم جارتنا التي تسعى بنا كما يرمون الجمار، وقبلني كما يقبلون الركن قال: فعلت وقلت في ذلك:
قد كنتُ أجمعتُ حجَّ البيت أطلبهُ ... والقلب عن حجِّ ذاك البيتِ مُشتجِرُ
أرى خلافًا ذهاب البيت أطلبه ... وها هنا بيتُ جُمل مالهُ سفرُ
لله سبعةُ أطواف أطوفُ بهِ ... كما يطوفونَ سدَّ البيتِ أقتصرُ
ورمي جاراتها جهدي كرميهمُ ... روسَ الجمارَ التي ترمي وتبتدرُ
فسوفَ أحلق رأسي مثل حلقهمُ ... حتى يكروا ورأسي مالهُ شعرُ
وسوف أركضُ نضوي مثل ركضهمُ ... حتى دبرُ
كانتْ مناسكهمُ تقبيلهمْ حجرأ ... ومن يقبلكِ لا يعرض له الحجرُ
لو كان أدركها عثمانُ أو عُمرٌ ... ما حجَّ غيركِ عُثمانُ ولا عُمرُ
قال: فلقيني أبو بكر محمد بن موسى بن عمران البكري فقال لي: ما حملك - رحمك الله - على أن أخرجت أبا بكر مما أدخلت فيه الشيخين؟ فقلت: يرحمك الله، لم أخرجه مما يتنافسُ الناس فيه. وقد قال راشد بن إسحاق أبو حكيمة في هذا المعنى وذكر لي علي بن محمد بن نصر أنها لأبي مسلم الخلق ولم يصنع شيئًا لأن هذا ليس من نمط أبي مسلم:
ولما رأيتُ الحجّ قدْ آن وقته ... وأبصرتُ بزل العيس بالركبِ تعسفُ
رحلتُ مع العشاقِ في طاعة الهوى ... وعرفتُ من حيثُ المحبون عرَفُّوا
وقد زعموا رمي الجمار فريضةً ... وتاركَ مفروضِ الجمارِ يعنفُ
فهيأتُ تفاحًا ثلاثًا وأربعًا ... فنقشَ لي بعضٌ، وبعضٌ مغلفُ
فقمتُ حيال القصْرِ ثمَّ رميته ... فظلتْ له أيدي الجواري تلقفُ
وإني لأرجو أن تقبلَ حجتي ... وما ضمني للحج سعيٌ وموقفُ
وللثرواني في هذا المعنى:
فإن أحرموا من ذاتِ عرقٍ وهللوا ... فموضعُ إحرامي وإنْ لم يكن حرما
من القائمِ السقاءِ صيرتُ حجتي ... إلى الحيرة البيضاء مندفعًا قدما
المستهل بن الكميت
ابن زيد الأسدي الشاعر الكوفي وله أشعار كثيرة. أنشد له ابن أبي خيثمة عن دعبل:
يعدونَ لي مالًا يحسدونني ... وذو المالِ قد يغري به كلُ معدمِ
ولو حسبوا مالي طريفي وتالدي ... وقرضي وفرحني لم يكن نصفَ درهمِ
وأنشد دعبل له أيضًا في بني العباس.
إذا نحنُ خفنا في زمانِ عدوكمْ ... وخفناكمُ إنَّ البلاءَ لراكدُ
ويروى أن أبا جعفرٍ المنصورَ طلبه حتى ظفر به، فقال له: أبوك الذي يقول:
الآن صرتُ إلى أميَّ ... ةَ والأمورُ لها مصائر؟
فقال: يا أمير المؤمنين وأبي الذي يقول:
1 / 19
فما لي إلا آل أحمدَ شيعةٌ ... ومالي إلا مشعب الحقِّ مشعبُ
قال محمد بن القاسم بن مهرويه: لما دخل المسودةُ الكوفةَ سخر رجلٌ منهم المستهل بن كميتٍ فحمله شيئًا فمر بمجلس قومه فقال: أيفعلُ بي هذا؟ فقال له رجل منهم أبوك الذي يقول: والمصيبون باب ما أخطأ النا - سُ ومرسو قواعد الإسلام هذا من صواب فعلهم فادلَح بحملك.
إسماعيل بن جرير
ابن يزيد بن خالد بن عبد اله القسري البجلي. قال أبو هفان: كان خطيبًا بليغًا، وصحب ذا اليمينين. وفيه يقول بالشام لما تهيأت عليه الهزيمة من نصر بن شبيب:
شمتمْ وما فيها ألمّ نقيصةٍ ... عليه وما للعاقلينَ شماتُ
فهلاَّ خطوتمْ خطوهُ يومَ خيلُهُ ... على الناكثِ المخلوع مقتحماتُ
حدثني ابن أبي بدر قال: كان سبب اتصال إسماعيل القسري بطاهر أنه اعترضه في بعض طرقاته، فقال: إني قد امتدحت أمير المؤمنين، فهل يسمع؟ قال: لا قال: فإني مدحتك، فهل تسمع؟ قال: لا.قال: فقد هجوت نفسي فهل تسمع؟ قال: هات. فأنشده:
ليس منْ بخلك أنىِّ ... لمْ أجدْ عندكَ رزقًا
إنما ذاكَ لشؤْمي ... حيثما أذهبُ أشقى
فجزاني الله شرًا ... ثمَّ بُعدًا لي وسُحقًا
فقال: ويحك. ليس والله يصحبنا غيرك. فتتبعه الشعراء عنده وحسدوه وقالوا: إنه ينتحل أشعار الناس ويمدحك بها فامتحنه أيها الأمير. فقال: له يومًا: اهجني، فقال: أيها الأمير، نعمك وأياديك تمنعني. فقال: لا بد فقال:
رأيتك لا ترى إلا بعينْ ... وعينك لا ترى إلا قليلا
فأما إذْ أُصبتَ بفردِ عينٍ ... فخذْ منْ عينك الأخرى كفيلا
كأني قدْ رأيتك بعد شهرِ ... بظهرِ الكفِّ تلتمسُ السبيلاَ
فخرق طاهر القرطاس وقال: لا تخرجنَّ من فيك وإلا قتلتك قال: قد أبقيتُ عليك فلم تدعني. فأمر له بصلة. وقلد ذو اليمينين أخاه يزيد بن جرير بن يزيد اليمن وأعمالها. ولجرير بن يزيد بن خالد شعر أنشد له دعبل:
أيا ربِّ قدْ نزهتني مذْ خلقتنيِ ... عن اللؤمِ والأَدْناسِ في العسرِ واليسر
وأبليتني الحُسنى قديما وحطتني ... وبصرتني أمري، وعرَّفتني قدْريً
فيا ربِّ ل تجعلْ علىّ لكاشحٍ ... ولا للئيمٍ نعمةَ آخرَ الدهرِ
حدثني محمد بن القاسم قال: حدثني أحمد بن محمد بن جرير بن محمد بن خالد بن عبد الله القسري قال: كان مسلم بن الوليد صديق إسماعيل بن جرير ونديمه وأليفة، وفيه يقول:
وإني وإسماعيلَ بعدَ فِراقهِ ... كالغمدِ يومَ الروعِ فارقه النصلُ
فإن أغشَ قومًا بعده أو أَزُرْهمُ ... فكالوحشِ يُدنيها من الأنسِ المحلُ
محمد بن عبد الله بن كُناسة
الأسدي
ويكنى أبا يحيى، كوفي شاعر، راوية للكميت وغيره من الشعراء، وكان ظريفًا أديبًا حسن الأشعار.
أنشدني له أحمد بن يحيى في ابنه يحيى ومات قبله:
تفاءَلتُ لو يُغنىِ التفاءُلُ باسمهِ ... وما خلت فألًا قبلَ ذاك يَفيلُ
فسميته يحيى لِيحيا ولم يكنْ ... إلى قدرِ الرحمنِ فيه سَبيلُ
ومن قول ابن كناسة في الكوفة ونزهتها:
أي مبدي ومنظرٍ ومزارِ ... واعتبارٍ لِناظريْ ذي اعتبارِ
في محلِّ الخيامِ في النجف المُعْ ... رضِ فوقَ الجنانِ والأنهارِ
فالرحى فالسدير فالحيرة البي ... ضاءِ ذاتِ الحُصون والأحبارِ
فالمحلجات الفراتيات تُهْ ... دى لها الشمالَ الصحارِي
فالفرات المُغير يُحنى على الكُ ... وفةِ ذاتِ الرُّبا وذاتِ القرارِ
مسجدٌ كان من عليٍّ وسعدٍ ... عامرًا بُرهةً ومن عمارِ
ومن قوله، أنشدنيه إبراهيم بن سعيد، عن الهذيل بن محمد قال: أنشدني ابن كناسة:
في انقباضٌ وحِشمةٌ فإذا ... صادفتُ أهلَ الوفاءِ والكرمِ
أرسلتُ نفسي على سجيتها ... قلتُ ما شئتُ غيرَ محتشمِ
وقال ابن كناسة، أنشده دعبل، وذكر أنه مر بِجذعِ مَصلوب عتيق فقال يعرض بامرأتهِ:
1 / 20