آثاره الأدبية
لقد كان ولي الدين يكن مشغولا بالمسائل السياسية والاجتماعية أكثر من انشغاله بمسائل الأدب والفن في ذاتهما، بحيث يعتبر أدبه أبعد ما يكون عما يسمى بالفن للفن، أي: الفن لمجرد الجمال الفني؛ ولهذا تغلب الروح السياسية والاجتماعية على معظم ما كتب من نثر وشعر، وإن تكن شدة انفعاله الفكري قد صبغت كتاباته بصبغة الأدب وأكسبتها قدرة دائمة على الإثارة.
لقد خلف ولي الدين يكن الكتب التالية: (1) «المعلوم والمجهول» في جزأين، صدر الأول منهما سنة 1909، والثاني 1911، وهو يتضمن سلسلة من الفصول تكاد تكون تاريخا كاملا لحركة التحرير التركي، التي قامت بها جماعة تركيا الفتاة، ثم حزب «الإصلاح والترقي»، كما يتضمن تاريخ الويلات التي تعرض لها ولي الدين، من سجن ونفي واضطهاد وذكريات عن مدة نفيه في سيواس، وعرض للكثير من آرائه السياسية والاجتماعية خلال حديثه عن التاريخ، أو قصصه لذكرياته الخاصة. (2) «الصحائف السود» وهو مقالات جمعها في سنة 1910 بعد نشرها في جريدة المقطم، وقد قدمها للقراء هو نفسه بقوله: «الصحائف السود مقالات نشرت في جريدة المقطم الشهيرة، متتابعة، أردت أن أنتقد بها بعض ما يقع في معترك الحياة، واخترت حين بدأت نشرها اتخاذ توقيع «زهير» تكتما لكيلا يمنع رجال الأدب من نقدها حق الود، ولكن عرفني إخواني فرجعت عن الاختفاء وعدت إلى توقيعي الأصلي، واستهللت بعض المقالات من صحائفي السود بأبيات ومقطعات نظمتها على ما يناسب المقام، وكنت أود أن أستمر في كتابة هذه الفصول حتى أبلغها المائة أو الأكثر، غير أني خفت ملل القراء فاكتفيت بالقلائل، وسأعود إلى مثلها بعد أن أختار اسما جديدا.» (3) «التجاريب» وهي مجموعة مقالات اجتماعية لولي الدين، وقد عني بطبعها فؤاد مغبغب في سنة 1913، وقدمها المؤلف بمقدمة خطية مصورة، قال فيها: «كل ما يتعلم المرء من حوادث الأيام تجربة، وما يستفيد التجربة مستفيدها إلا وقد امتلكها بشيء يخسره من الأمل، ولو كنا نعنى بتقييد العظات وهي أغلى ما بقي لفاضت عن الكتب الضخمة وسالت، ولكن ما يسلم من النسيان قليل، وفي ذاك القليل ذكرى إذا استعادها المرء وجد راحة في استعادتها، هذه آلام مصورة وشكاوى متجسدة، هذه هدية الفؤاد المقروح إلى الأفئدة المقروحة، إن للأفئدة لنجيا تتعارف به وتتآلف إذا لم ينفع اليوم ينفع غدا.» وهو يسير في هذه المقالات على نفس النهج الذي سار عليه في «الصحائف السود»؛ ولذلك كثيرا ما نراه يبدأ كل مقال بمقطوعة من الشعر ثم يواصل الحديث نثرا. (4) «دكران ورائف» وهي شيء يشبه القصة، ولكنها في الواقع عدة فصول تعرض أنواعا من الظلم الذي كان ينزل بالرعايا العثمانيين في عهد عبد الحميد؛ فدكران شاب أرمني جاهد هو وذووه حتى حصل على دبلوم الطب، وإن لم يمنعه اجتهاده من أن يقدم رشوة لكي يحصل عليه، ورائف تركي صديق وزميل لدكران، ولم يكد الشابان يتخرجان حتى اعتقلا وسجنا بتهمة التآمر مع الأحرار. وفي هذا الكتاب صفحات من الوصف والتصوير، غارقة في جو شعري حار، وإن لم تكون تلك الفصول وحدة قصصية، بل ظلت أشبه ما تكون بقطعة من قلم استعراضي، يقدم لوحات من عصر الاستبداد والظلم، وما ينزل بالناس من محن وأحزان. (5)
ترجم من التركية إلى العربية كتاب «خواطر نيازي أو صحيفة من تاريخ الانقلاب العثماني الكبير»، وقد طبع في سنة 1909، كما ترجم في أخريات أيامه من الفرنسية إلى العربية رواية «الطلاق» لبول بورجيه. (6)
وفي سنة 1924 - أي: بعد وفاته بثلاث سنوات - جمع أخوه يوسف حمدي يكن ما استطاع أن يجمعه من قصائد أخيه، ونشرها في «ديوان ولي الدين يكن»، وهو ديوان صغير يقع في 127 صفحة، وقد قسمه جامعه إلى سبعة أقسام: أولها شعره السياسي وهو أكبر الأقسام، وثانيها الرثاء والعزاء، وثالثها التهنئة والمديح، ورابعها الدهريات، وخامسها الهجاء وهو أربعة أبيات، وسادسها الغراميات، وسابعها المتنوعات.
وقد ضم هذا الديوان المقطوعات أو القصائد التي استهل بها ولي الدين الكثير من مقالاته المنشورة في كتبه النثرية، ويقول أخوه في تصديره للديوان: «إن ولي الدين قد نطق بالشعر قبل أن يبلغ العشرين، وكان له شعر كثير نشر في الصحف، أحرقه برمته منذ ثلاثين سنة، أما هذا الشعر (أي: الديوان) فإنه مما قاله بعد ذلك، وقد كان محا منه بعض القصائد وفقد بعضها، وأراد قبل وفاته بعامين أن يطبع ديوانه، فنقل من ما يربو على سبعمائة بيت، ثم حال مرضه دون استمراره.» ثم يقص أخوه كيف استطاع أن يجمع ما نشره في الديوان من مخلفات أخيه الشعرية.
ولي الدين الشاعر
لقد فطن النقاد في سهولة إلى مكان ولي الدين يكن في تيارات الشعر العربي المعاصر، ووضعوه بين جماعة المجددين، فقال عنه أنطون الجميل: «وقد نقل حريته هذه واستقلاله في حياته إلى أسلوبه الشعري، ففي الشعر كما في السياسة حزبان: حزب استقلالي، وحزب استعبادي، وكان ولي الدين في طليعة الحزب الأول؛ لأنه كان من القائلين بتحرير المخيلة والشعور من نير العبودية للمألوف الراهن، وهذا التحرير أو الاستقلال أصبح من مميزات الشعر العصري، وله روعته وجماله وإن بلغ حد الغلو والتطرف أحيانا؛ لأن للحرية عظمة خاصة بها حتى في تهورها، فالشاعر الحر شغف بحرية الوحي الشعري كالسياسي الحر عبد لحرية الرأي السياسي.»
والواقع أن ولي الدين يكن رغم معرفته الدقيقة الواسعة باللغة العربية وآدابها، لم تستعبده تقاليد الشعر العربي، ولا طغت الذاكرة عنده على القدرة على الخلق وابتكار التعبير أو الصورة أو القالب، وذلك لعدة أسباب منها: تنوع ثقافته الأدبية؛ إذ كان يجيد معرفة الأدبين التركي والفرنسي إلى جوار الأدب العربي، كما كان يلم بالأدب الإنجليزي، مما وسع في أفقه ووقاه خطر استبداد تقاليد الشعر العربي بشعره، وبخاصة وأنه كان نزاعا إلى الحرية، وكان من الطبيعي أن تمتد هذه النزعة إلى وسائل التعبير والتصوير، فتحررها هي الأخرى من التقاليد والقوالب المتحجرة، وربما كان في تحرر مطران من تلك التقاليد والقوالب ما حمل ولي الدين على محبته والإعجاب به، بل والثمل بشعره.
وأخيرا لا يجوز أن ننسى أن طبيعة ولي الدين النفسية قد كانت - كما سبق أن قلنا - من أهم العوامل التي دفعته إلى التجديد والابتكار في أسلوب الشعر والنثر؛ وذلك لأن الانفعال الفكري القوي لا يمكن أن يسكن إلى العبارات أو الصور التقليدية المتوارثة التي أكلها التحات لكثرة الاستعمال والتداول، ولا بد أن يبحث مثل هذا الانفعال الفكري القوي عن عبارة أو صورة جديدة، واضحة المعالم قوية التعبير كالعملة الجديدة السك.
अज्ञात पृष्ठ