والاعتياد هذا أمره غريب؛ فقد كان الغوغاء المتصارعون الذين يتناحرون فيما بينهم بصورة متوحشة من أجل الحصول على أماكن لهم في عربات القطار معتادين على وصول القطارات ومغادرتها بحيث بدا من الواضح أن أحدا منهم لم يفكر أن عامل القطار كان بشرا مثلهم وأنه كان يتعرض للأحوال الجوية نفسها التي يتعرضون هم لها. وضعت قطعة الفم بين شفتيه الأرجوانيتين، وبينما كنت أحبس أنفاسي مثل غواص، نجحت في إنعاشه. وقال الرجل بأنني إذا ما أعطيته الآلة فإنه سيأخذ القطار إلى أبعد نقطة يمكن أن يحمله إليها البخار الموجود في المحرك بالفعل. ورفضت فعل ذلك، لكنني دخلت إلى غرفة المحرك معه وقلت بأن الآلة ستحافظ على حياتنا معا حتى نصل إلى مكان يكون الهواء فيه أفضل. وافق على مضض وشغل محرك القطار، لكنه لم يكن نزيها. فقد كان في كل مرة يرفض أن يعطيني الآلة حتى أوشكت على الإغماء من شدة حبسي لأنفاسي، وفي النهاية أوقعني على أرضية العربة. ويتراءى لي أن الآلة تدحرجت وسقطت إلى خارج العربة حين وقعت على الأرض وأنه قفز خلفها. واللافت للنظر هنا أن كلينا لم يكن في حاجة إلى الآلة؛ ذلك أنني أذكر بعد أن بدأنا نتحرك بالقطار أنني رأيت نار المحرك تستعر من جديد من خلال باب حديدي مفتوح، رغم أنني في ذلك الوقت كنت في حالة شديدة من الحيرة والرعب بحيث لم أتمكن من فهم ما يعنيه ذلك. ثم هبت نسمة هواء غربية، وكانت متأخرة في توقيتها بمقدار ساعة من الزمن. وحتى قبل أن نغادر شارع كانون كان الناجون لا يزالون آمنين نسبيا، ذلك أن مائة وسبعة وستين شخصا أنقذوا من بين جثث الموتى المتراكمة على الرصيف، وإن كان الكثير منهم قد ماتوا في غضون يوم أو يومين بعد ذلك، ولم يستعد آخرون رشدهم قط. وحين استعدت وعيي بعد الضربة التي وجهها إلي العامل، وجدت نفسي وحيدا والقطار ينطلق سريعا عبر نهر التيمز بالقرب من كيو. حاولت أن أوقف المحرك لكنني لم أنجح في ذلك. لكن أثناء محاولاتي، تمكنت من تشغيل المكابح الهوائية، الأمر الذي أبطأ من سرعة القطار بدرجة ما، وخفف من حدة التصادم في محطة ريتشموند الأخيرة. قفزت من العربة على الرصيف قبل أن يصل المحرك إلى مخففات الاصطدام بالمحطة النهائية، ورأيت فيما يشبه الكابوس قطارا من الموتى يمر أمامي. كانت معظم الأبواب متأرجحة مفتوحة على مصراعيها، وكانت كل عربة تعج بالبشر، رغم ما عرفته لاحقا عن أن الجثث كانت تتطاير على طول الطريق مع كل منحنى يتخذه القطار أو تمايل يصيبه. ولم يكن التصادم الذي وقع في ريتشموند قد أثر على الركاب. ولم يخرج من ذلك القطار أحد على قيد الحياة إلا أنا واثنان آخران، وكان أحدهما قد تمزقت ملابسه من جهة ظهره أثناء العراك وقد أخذ إلى إحدى المصحات حيث لم يستطع قط أن يعرف من يكون؛ وعلى حد علمي، لم يكن يزعم أحد معرفته به.
مأزق دي بلونفيل
تختلف هذه القصة عن الأخريات في أنها تحوي مجموعة متنوعة من الدروس الأخلاقية. ولمعظم القصص درس أخلاقي واحد، أما هنا فهناك العديد منها. ويظهر الدرس الأخلاقي عادة في نهاية القصة، ولكن في هذه القصة تذكر بضعة دروس في البداية، حتى نوليها اهتماما أكبر بينما نتقدم في قراءة القصة. أولا: حري بالمرء - لا سيما إذا كان شابا - أن يولي اهتماما كبيرا بعمله. ثانيا: عندما يقدم المرء على التخطيط لحياته في المستقبل القريب، فسيكون من الخطأ ألا يخصص نسبة عشرة في المائة على الأقل لذلك الجزء المجهول، وهو المرأة. ثالثا: من المفيد أن نتذكر أن من النادر أن يعرف امرؤ واحد كل شيء. ولا شك أن المزيد من الدروس الأخلاقية ستظهر فيما بعد، وفي نهاية القصة قد يتفكر الشخص الميال نحو التهكم والسخرية في القول المأثور الذي يتحدث عن المطرقة والسندان أو الرمضاء والنار.
كان الشاب الباريسي إم دي بلونفيل يتمتع بوضع يحسد عليه. كان لديه كل ما يحتاج من المال، وشتان بين ذلك وبين القول بأنه كان لديه كل ما يريد من المال. كان على مستوى جيد من التعليم، ويتحدث ثلاث لغات، بمعنى أنه كان يتحدث لغته الأم بطلاقة واللغتان الأخريان يتحدثهما على نحو رديء، ولكن لكونه رجلا يفخر بنفسه لما يستطيع القيام به ولو بأدنى الدرجات، كان دي بلونفيل يتخيل نفسه عالم لغة يتقن لغات عديدة. وكانت شجاعته في التحدث بالإنجليزية أمام الإنجليز وبالألمانية أمام الألمان تظهر على أقل تقدير أنه رجل يتسم بالشجاعة. كان دي بلونفيل يتمتع بالكثير من الخير، بل ومن الموهبة أيضا. وقد ذكرت هذه الجملة في البداية لأن كل من يعرف دي بلونفيل سيعارضها في الحال ومن دون تردد. كان من يعرفونه يرون أنه من أكثر الشخصيات البغيضة والمكروهة في باريس، وكان ضباط البحرية عادة ما يتلفظون بألفاظ نابية لا مبرر لها حين يذكر اسمه. وكان هذا كله بسبب ما يتمتع به دي بلونفيل من مكانة، الأمر الذي كان له مساوئه رغم كونه مدعاة للحسد.
كانت رتبته في البحرية لا يمكن أن تعطيه أي ثقل أو اعتبار أيما كان، لكن لسوء الحظ، كان لدى بلونفيل بحكم شعبيته وشهرته أسلوبه في فرض مقترحاته. كان والده رجلا مهما للغاية في الحكومة الفرنسية. وكان من الأهمية بمكان بحيث يمكن له أن يرسل توبيخا إلى قائد سرب في البحرية ولا يجرؤ القائد على الرد عليه. يتطلب هذا الأمر رجلا يتمتع بأهمية كبيرة حقا، وهذا ما كان يتمتع به دي بلونفيل الأب من قدر ومكانة. لكن كان من المعروف آنذاك أن دي بلونفيل الأب رجل هادئ يحب الراحة، ولم يكن يكترث بأن يزعج نفسه كثيرا بأمر البحرية الموضوعة تحت سلطته وتصرفه؛ ومن ثم عندما كانت تظهر مشكلة، يكون دي بلونفيل الابن هو المتسبب فيها؛ ومن ثم، لم يكن الضباط في البحرية يكنون له الحب.
وغالبا ما كانت تصرفات دي بلونفيل الابن الطائشة والغبية تضفي مصداقية على تلك الشكوك. على سبيل المثال، هناك حادثة تولون الشهيرة . ففي خضم جدال محتدم، زعم دي بلونفيل الابن أن نيران المدرعات الفرنسية كانت رديئة، وأن الأسطول الفرنسي بأكمله لم يكن ليصمد أمام مدفعية عشرة من البحرية الإنجليزية. وبعد ذلك بفترة ما، عرف الضباط البحريون أن الحكومة في باريس غير راضية تماما عن تدريبات البحرية غير الدقيقة على السلاح، كما أعربت الحكومة عن آمالها في أن ينظر قائد البحرية في أمر تحسين ذلك. لم يستطع الضباط بالطبع فعل أي شيء سوى الكز على أسنانهم، ومحاولة إطلاق النار على نحو أفضل، آملين في أن يحين الوقت الذي تخرج فيه الحكومة الحالية من نطاق السلطة، وأن يجدوا حجة ملموسة لكي يشنقوا دي بلونفيل الابن على عارضة الصاري.
كل هذا لا يؤثر كثيرا على هذه القصة، لكننا نأتي الآن على ذكر أمر سيحدد مصير القصة من نجاح أو فشل. كان لدى بلونفيل سر، ولم يكن سرا كتلك الأسرار الشائعة في الحياة الباريسية، وإنما كان سرا جديرا بالتصديق من جانبه. وكان السر يتعلق باختراع يهدف إلى زيادة كفاءة الجيش الفرنسي. تحول اهتمام دي بلونفيل بطبيعة الحال إلى الجيش الذي هو إحدى وسائل الدفاع عن وطنه، والذي لم تكن هناك أي علاقة بين دي بلونفيل وبينه. وقد تحدث عن اختراعه ذلك ذات مرة إلى صديق له، وهو ملازم في الجيش. وكان يتوقع الحصول على بعض المقترحات العملية. لكنه لم يأت على ذكره مرة أخرى لأي أحد.
قال دي بلونفيل لصديقه: «إنه مبني على مبدأ المظلة. بل، في واقع الأمر، المظلة هي ما أوحت إلي بفكرته. وإذا أمكن صناعته ليكون خفيفا بحيث لا يضيف عبئا كبيرا على الجنود الذين يواجهون الكثير من العوائق في الوقت الراهن، فإنني أرى فيما يبدو أنه سيكون مفيدا بدرجة فائقة. وبدلا من أن يكون مستديرا كالمظلة، لا بد أن يكون مستطيلا وذا أطراف حادة مستدقة. ولا بد أن يصمم بحيث يمكن فتحه وغلقه بسهولة، وسيكون القماش المستخدم فيه رقيقا، لكنه سيكون غير نفاذ للماء. وعندما يصل الجيش إلى أحد الأنهار، يمكن لكل جندي أن يفتحه ويضعه في الماء ويدخله ببعض الحذر ثم يجدف بنفسه باستخدام نهاية عقب البندقية أو حتى بمجداف خفيف إن كان حمل المجداف لن يضيف إلى الوزن كثيرا؛ ومن ثم سنوفر عناء بناء الجسور المؤقتة. يبدو لي أن مثل هذا الاختراع سيكون مفيدا للغاية أثناء الزحف المتواصل للجنود. ثم يمكن استخدامه في الليل كخيمة، أو يمكن أن يشكل مأوى مؤقتا أثناء هطول الأمطار الغزيرة. ما رأيك في الفكرة؟» كان صديقه يستمع إليه بعينين شبه مغلقتين، يغالبهما النعاس. فنفث بعض دخان سيجاره من فتحتي أنفه وأجابه: «إنه رائع يا دي بلونفيل.» قالها ببطء وتراخ ثم أضاف: «إمكاناته متعددة، أكثر حتى مما تتخيل. وسيكون مفيدا للغاية أيضا في فيلق جبال الألب.» «يسرني أنك تظن ذلك. لكن لماذا هناك؟» «اسمع، إذا بلغ الجيش قمة عالية تطل على واد سحيق، لا يمكن بلوغه إلا من فوق جرف يتعذر اجتيازه، فكل ما سيكون على الجيش فعله هو نشر اختراعك الرائع واستخدامه كمظلة باراشوت. وسيكون مشهد الجيش الفرنسي وهو يتحرك بسلاسة هابطا نحو الوادي مثيرا للرعب كثيرا في نفوس دول أوروبا، حتى إنني أتصور أن أي عدو لن ينتظر حتى تطلق نيران البندقية. إن اختراعك يا دي بلونفيل سيخلد اسمك واسم الجيش الفرنسي.»
لم ينتظر دي بلونفيل الابن ليسمع المزيد، وإنما استدار وانطلق مبتعدا.
دفعت هذه المحادثة دي بلونفيل الابن إلى اتخاذ قرارين؛ الأول هو ألا يذكر مشروع اختراعه هذا إلى أحد، والثاني أن يدأب على إتمام اختراعه وإتقانه؛ ومن ثم يتسبب في إرباك الساخرين منه وإصابتهم بالحيرة والتخبط. وكان هناك العديد من القرارات الفرعية التي تعتمد على هذين القرارين. لن يدخل إلى ناد أبدا، وسيتجنب التجمعات، ولن يتحدث إلى امرأة، باختصار، سيكون ناسكا حتى يزيح الستار عن اختراعه على مرأى من أنظار العالم المندهش.
अज्ञात पृष्ठ