मसीह का दूसरा चेहरा
الوجه الآخر للمسيح: موقف يسوع من اليهودية – مقدمة في الغنوصية
शैलियों
ونعرف الآن، وعلى وجه التأكيد، أن المناطق الهضبية الفلسطينية لم تشهد خلال القرن العاشر قبل الميلاد قيام مملكة موحدة حكمها على التوالي شاءول وداود وسليمان، لمت شمل القبائل العبرانية في كيان سياسي قوي، ثم ضمت إليها معظم المناطق الفلسطينية وجزءا كبيرا من شرقي الأردن وسورية الجنوبية، ذلك أن نتائج المسح الأركيولوجي الشامل لمناطق الهضاب الفلسطينية، تقول لنا بأن قيام مثل هذه المملكة لم يكن مستبعدا فقط، بل كان مستحيلا، فالمناطق الهضبية الشمالية (مرتفعات السامرة) لم تكن تحتوي في أواخر القرن الحادي عشر ق.م. وهي الفترة المفترضة لحكم الملك شاءول، إلا على 200 مستوطنة زراعية صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها مجتمعة بضعة آلاف نسمة، أما منطقة الهضاب الجنوبية (مرتفعات يهوذا) فلم تحتو حتى نهاية القرن العاشر، أي إلى الفترة المفترضة لموت الملك سليمان وانحلال المملكة الموحدة، إلا على بضع عشرات من المستوطنات الزراعية لا يتجاوز عدد سكانها الألفي نسمة، وأما مدينة أورشليم العاصمة المفترضة لهذه المملكة، فقد كانت خلال كامل القرن العاشر مدينة مهجورة ولا أثر فيها لحياة سكنية، إن ما يقوله لنا علم الآثار هو أن المملكة الموحدة لكل إسرائيل لم تقم لها قائمة؛ لأن القاعدة الاقتصادية والسكانية لم تتوفر فيها، ولم يكن هنالك عاصمة أو مراكز حضارية ذات شأن.
2
أما بخصوص المملكتين التوأمين إسرائيل (= السامرة) ويهوذا اللتين نشأتا عن المملكة الموحدة عقب موت الملك سليمان عام 931ق.م. فإن علم الآثار يقول لنا بأن مملكة إسرائيل قد ظهرت كدولة مكتملة النمو في منطقة الهضاب الشمالية قبل قرن ونصف تقريبا من ظهور مملكة يهوذا في الجنوب، وإن الدولتين لم تتعاصرا إلا لفترة قصيرة جدا، إن المسح الأركيولوجي الميداني الشامل لمناطق الهضاب الفلسطينية، قد رسم لنا الصورة الأكثر قربا إلى الحقيقة، بخصوص تشكل مملكة إسرائيل التاريخية ومملكة يهوذا، فهاتان الدولتان قد نشأتا على الخلفية العامة لثقافة عصر الحديد، وفي حقبتين متباعدتين، وشروط متباينة، وقد جاء سكان هاتين الدولتين من مناطق فلسطينية متعددة، ومن المناطق الرعوية في البلدان المجاورة؛ لأن الطابع الثقافي المحلي الكنعاني هو الطابع السائد في جميع المواقع، من هنا، فإن الروابط التي يمكن أن تكون قد جمعت بين هاتين المملكتين، ليست أكثر قوة من الروابط التي جمعت أي دولتين في منطقة فلسطين والجنوب السوري، والقاعدة المشتركة بينهما ليست إلا من ابتكار قصة الأصول التوراتية، أما قصة الأسباط الاثني عشر من بني إسرائيل، فلم تعد اليوم سوى رواية لاهوتية لا تحمل أي مصداقية تاريخية.
هذا وتبين لنا الدراسة النقدية المدققة للأسفار التوراتية، ولنصوص الحملات الآشورية على فلسطين خلال النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد، أن المساحة التي شغلها كل من إسرائيل ويهوذا لم تتعد المناطق الهضبية إلا على شكل مد استعماري قصير الأجل ومتقطع، لم يتوصل إلى استيعاب سكان المناطق المستعمرة وضم أراضيها بشكل كامل، وبشكل خاص فقد كانت منطقة الجليل منذ القرن العاشر تحت السيطرة غير المباشرة لكل من مملكتي صور ودمشق، بحيث بسطت دمشق نفوذها السياسي على الجليل الشرقي، وبسطت صور نفوذها على الجليل الغربي، أما بخصوص وادي يزرعيل (مرج ابن عامر) الذي يفصل مرتفعات السامرة عن مرتفعات الجليل، فقد تحكمت صور بمدينة يزرعيل الواقعة عند مدخل الوادي غربا، والتي يمر بها الطريق التجاري الساحلي قبل صعوده إلى فينيقيا، وتحكمت دمشق ببقية المدن وصولا إلى بيت شان عند مخرج الوادي شرقا. وعندما شعر ملوك السامرة بالقوة توسعوا شمالا باتجاه وادي يزرعيل والجليل، ولكن بقاءهم في هذه المناطق لم يدم طويلا؛ لأن الحملات الآشورية المتوالية التي قادت أخيرا إلى سقوط السامرة، قد حرمتها من جميع ممتلكاتها الشمالية قبل أن تجهز عليها.
لقد اختلفت مصائر إسرائيل-السامرة ويهوذا، مثلما اختفت وتباينت أصولهما وتباينت نشأتهما، فقد دمر الآشوريون السامرة عاصمة إسرائيل في عام 721ق.م. وسبوا قسما كبيرا من السامريين إلى آشور وأحلوا محلهم سكانا جددا من المناطق المقهورة الأخرى، واختفت مملكة السامرة إلى الأبد من التاريخ، وحلت محلها مقاطعة السامرة التابعة لآشور، أما يهوذا فقد عاشت بعد دمار إسرائيل قرابة قرن ونصف من الزمان، بسبب سياسة العمالة لملوك آشور، ثم انتهت بعد فترة قصيرة من زوال سلطان آشور وصعود المملكة البابلية الجديدة، وعندما قام نبوخذ نصر الكلداني بتدمير أورشليم نحو عام 587ق.م. سبى قسما كبيرا من أهلها إلى مناطق بابل، وبقوا هناك حتى سقوط العاصمة بابل بيد قورش الفارسي عام 539ق.م.
إضافة إلى تباين أصول يهوذا وإسرائيل، واختلاف مصائرهما التاريخية، فإن القاعدة الدينية التي جمعت بينهما لم تكن أكثر تجانسا من القاعدة الدينية التي جمعت أي مملكتين في فلسطين خلال تلك الفترة من حياتهما، إن المسح الآثاري الشامل لمنطقتي إسرائيل ويهوذا، من أكبر المدن إلى أصغر القرى، لم يساعدنا على تلمس أي أثر للمعتقدات والطقوس التوراتية، كما رسمها لنا محررو التوراة، وذلك خلال كامل الفترة السابقة على العودة من السبي وإعادة بناء هيكل أورشليم، فجميع المعابد والمقامات الدينية والتماثيل وشارات الألوهة، تشير إلى استمرارية دينية منذ عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد (أي من العصر الكنعاني إلى العصر المدعو بالإسرائيلي)، والديانة التي سادت هنا هي ديانة كنعانية تقليدية، أما الإله يهوه، الذي تركز حوله المعتقد التوراتي فيما بعد، فلم يكن العثور على كتابات تذكره بالطريقة التي صورته بها أسفار التوراة، ولا على هياكل ومقامات ومذابح مكرسة له، لقد كان هنالك إله اسمه يهوه، ولكنه غير يهوه المعروف في التوراة، فهو يذكر في عدد قليل من النقوش التي اكتشفت قرب مدينة حبرون (الخليل)، وبعض المناطق الواقعة إلى الجنوب من يهوذا، إلى جانب عدد آخر من الآلهة الفلسطينية، وتذكر معه زوجته عشيرة، وهي الإلهة الكنعانية المعروفة لنا جيدا من نصوص أوغاريت والنصوص الفينيقية.
إن الدين اليهودي لم يتشكل في سياق تاريخ شعب إسرائيل كما ترويه الأسفار التوراتية؛ لأن مثل هذا التاريخ لم يكن إلا أخيولة أدبية من ابتكار المحررين التوراتيين، الذين ابتدءوا منذ مطلع العصر الفارسي (أواخر القرن السادس ومطلع القرن الخامس ق.م.) بابتكار قصة أصول للمجتمع الجديد الذي تشكل في مقاطعة «يهود» الفارسية، التي قامت على جزء من أراضي مملكة يهوذا البائدة، ودعيت في العصر الهيلنستي بمقاطعة «اليهودية»، ومع ابتكارهم لقصة الأصول هذه، فقد نسج المحررون إليها قصة أصول أخرى للمعتقد التوراتي المتأخر، فجعلوا هذا المعتقد يظهر لأول مرة في عصر الأب الأول إبراهيم، ويتطور عبر بقية الرواية التوراتية، ولكننا نعلم الآن على وجه اليقين أن الديانة اليهودية قد بدأت بالتشكل والتطور خلال العصر الفارسي، وقسم لا بأس به من العصر الهيلينستي، أي خلال القرون الثلاثة الواقعة بين أواخر القرن السادس وأوائل القرن الثاني قبل الميلاد، وهي الفترة التي تمت خلالها الصياغة التدريجية للأسفار التوراتية، كما شهدت هذه الفترة تشكل الإثنية اليهودية التي عبرت عن نفسها بالتمرد على الحكم السلوقي نحو عام 170ق.م. ومع ذلك فإننا جاهلون بحقيقة ما جرى خلال هذه الفترة؛ لأن الرواية التاريخية في التوراة تنتهي مع سفر نحميا، نحو عام 440ق.م. أما المصادر الخارجية فصامتة تماما عما كان يجري في مقاطعة اليهودية حتى مطلع القرن الثاني الميلادي.
ولكننا نستطيع تقديم بعض التكهنات بهذا الخصوص، فلقد عاد مسبيو يهوذا بعد أن أطلقهم قورش الفارسي، ووجههم لإعادة بناء مدينة أورشليم وهيكلها، وجاءت عودتهم على ثلاث دفعات رئيسية، على ما نفهم من النص التوراتي، كانت الأولى بقيادة أحد أفراد النسل الملكي واسمه شيشبصر نحو عام 539ق.م. في عهد قورش الأول، والثانية نحو عام 522ق.م. في عهد الملك داريوس حفيد قورش، بقيادة زربابل، وهو الذي أعاد بناء هيكل أورشليم، أما الموجة الثالثة والأخيرة فكانت بقيادة عزرا الكاهن نحو عام 458ق.م. وفي عهد عزرا أعيد بناء مدينة أورشليم من قبل نحميا الذي عينه البلاط الفارسي واليا على المقاطعة، ويبدو أن عزرا الكاهن هذا، هو الذي ابتدأ عملية تحرير أسفار التوراة بعد أن طابق بين الإله العالمي الواحد للديانة الزرادشتية، والإله الفلسطيني القديم يهوه، وهو الذي ابتدر نواة الشريعة التوراتية التي قامت في البدء على عدد من بنود الشريعة الزرادشتية، ثم أخذت بالتوسع تدريجيا على عهد خلفائه من كهنة أورشليم.
خلال القرون التالية التي توسعت فيها حلقات القصة التوراتية لم يكن محررو التوراة يبتكرون كل شيء من بنات أفكارهم، وإنما أفادوا من التاريخ السياسي لمملكتي إسرائيل ويهوذا، ومن التراث الديني والأدبي المحلي، ويبدو أن الوحدات الأساسية للقصة التوراتية قد ولدت كل على حدة، وتم إنتاجها من قبل محررين مختلفين، وعلى فترات متباعدة، واستخدم كل محرر أو مجموعة محررين مصادر وموروثات متباينة المنشأ، ثم جاءت عملية التنسيق الأخيرة لتجمع بينها في رواية مطردة، ومن خلال منظور أيديولوجي وكرونولوجي مفروض عليها من خارجها ، وبذلك تم إنجاز كتاب التوراة، وظهرت إسرائيل التوراتية ككيان ذهني وأدبي على أنقاض تاريخ السامرة ويهوذا المطمور تحت ركام الدمار الآشوري والبابلي، ومع تكامل حلقات هذا الكتاب، كانت اليهودية تتشكل تدريجيا وتغدو مصدرا للتلاحم الإثني والاجتماعي في هذه المقاطعة الصغيرة والمنسية، التي قامت على جزء لا يتعدى ربع مساحة مملكة يهوذا الكنعانية القديمة، وقد بقيت اليهودية محصورة في هذه البقعة الضيقة من المناطق الهضبية الفلسطينية حتى ظهور الأسرة المكابية التي حكمت أورشليم في أواسط القرن الثاني الميلادي، وظهر منها ملوك أقوياء استغلوا فترة ضعف السلطة المركزية السلوقية، فتوسعوا شمالا باتجاه السامرة ووادي يزرعيل والجليل، وفرضوا الدين اليهودي بالقوة على السكان. (1) مقاطعة اليهودية في العصر الهيلينستي
آلت فلسطين مع بقية مناطق بلاد الشام إلى الإسكندر المقدوني، بعد انتصاره الحاسم على الفرس في معركة إيسوس عام 33ق.م. وبعد وفاة الإسكندر، تم تقسيم الإمبراطورية الفارسية بين قادته الرئيسيين، فآلت بلاد الشام إلى سلوقس، بينما احتفظ بطليموس بمصر وفلسطين وشرقي الأردن، تلا ذلك فترة صراع بين السلوقيين والبطالمة، دامت قرابة قرن كامل، آلت في نهايته فلسطين وسورية الجنوبية إلى السلوقيين، وعندما دخل الملك السلوقي أنطوخيوس الثالث إلى أورشليم عام 198ق.م. أعطى المدينة امتيازات خاصة، واعترف بنظامها السياسي القائم على السلطة الكهنوتية برئاسة الكاهن الأعلى للهيكل.
अज्ञात पृष्ठ