سلام على تلك الأغاريد إنها
أغاريد من وحي الصبابة والوجد
الفصل الثالث
بغداد : كما تصورتها وكما رأيتها
قبل الرحيل إلى بغداد بأيام أوصاني صديق عزيز لعله الدكتور طه حسين فقال: ستقدم بغداد وأنت كاتب معروف؛ فيقبل عليك الصحفيون، فيسألونك كيف رأيت بغداد؟ فإن فعلوا فاحذر يا دكتور زكي أن تصرح بشيء، لأنك موظف في حكومتين، ومركزك دقيق.
وقد صح ما توقع ذلك الصديق، وكنت عند نصحه الثمين، فلم يظفر مني الصحفيون العراقيون بشيء غير التلطف المقبول، ولكن محرر الهلال سيظفر بما لم يظفر به الصحفيون العراقيون؛ لأن بعد الدار لم يصرفه عني، فكتب يسألني كيف تصورت بغداد؟ وكيف رأيت بغداد؟ وللهلال على قلمي حقوق، فلأتوكل على الله، ولأخرج مرة واحدة على ذلك المركز الدقيق.
على أنني لا أتوقع أن يغضب العراقيون من بعض ما سيقع في هذا الحديث، لأن الصدق لا يغضب عقلاء الرجال، وإنما يغضبون من التحامل البغيض الذي تمليه الضغائن أو الأهواء.
وليس من الإسراف أن أصرح بأنني لست من الغرباء في بغداد، فأنا أغار عليها كما أغار على القاهرة أو الإسكندرية أو سنتريس، لأنها في قلبي وفي نفسي من الحواضر العربية التي يغار عليها العرب والمسلمون في جميع الممالك والشعوب، وفي نيتي - وأنا صادق - أن أجاهد في سبيل بغداد حتى تبلغ ما هي أهل له من الحضارة والعمران، وتحمل مصابيح الثقافة كما كانت في عهود الخلفاء، ولن أترك هذه المدينة حتى أضع في صدور تلاميذي وأصدقائي بذور الشوق إلى الحياة العالية - حياة المدنية الصحيحة التي تعشق الأنوار وتبغض الظلمات - فلا يبقى في بغداد شارع ولا بيت إلا وحوله ملائكة أطهار يسمون به إلى مناط الجوزاء، والله بالتوفيق كفيل. •••
أما بعد، فقد كنت أفهم جيدا أن بغداد أدت واجبها بعنف يوم شاء لها الطالع السعيد أن تسيطر على المشرقين والمغربين، وكنت أفهم جيدا أنها في غفوة الراحة بعد ذلك النضال العنيف، فلم يكن يخطر ببالي أن أراها كالقاهرة أو باريس، ولكني مع ذلك كنت أنتظر أن أجد آثار المدينة التي أقامها العباسيون، وهنا أصرح والأسى ملء الفؤاد أن آثار الغطاريف من بني العباس لم يبق منها إلا رسوم ضئيلة هي في مغازيها ظنون في ظنون، وكذلك قضت المقادير بأن لا يبقى شيء من قصور الخلفاء والوزراء والأمراء الذين سيطروا على العالم نحو ثلاثة قرون، وكانت أيامهم مواسم الدنيا وأعياد الزمان.
وقد سألت عن السبب في ضياع تلك الآثار فحدثوني أن نهر دجلة الغادر الصوال كان يطغى من حين إلى حين فيطمس ما يشاء من القصور والبساتين، وقد شاء له عدوانه أن ينقل بغداد من مكان إلى مكان، فهي اليوم في بقعة غير البقعة التي اختارها المنصور على أيامه السلام، فإن شئتم وصف بغداد القديمة فارجعوا إليها في الكتب، فقد كان المؤلفون القدماء يدركون بغير وعي صريح أن مدينتهم سيأتي عليها يوم لا يعرفها فيه غير قراء الأخبار والأساطير.
अज्ञात पृष्ठ