الفصل الأول
روي أنه حدث في البحيرة التي تفصل ناحية سان مالو عن سان سيرفان بفرنسا فيضان عظيم منذ بضع سنين؛ فغمرت الطريق الموصل بين هاتين الناحيتين حتى اضطر الأهالي إلى استعمال الصنادل والمراكب الصغيرة للمرور بها في الطرق العمومية عوضا عن العربات والعجلات.
ففي مساء أحد الأيام، بينما كان الطقس معتدلا والنسيم معتلا، وقد اختالت الطبيعة في مطارف البهاء والجمال، خرج الناس زرافات ووحدانا لترويح النفس من عناء الأشغال.
وكان في جملة هؤلاء المتنزهين رجل يبلغ الخامسة والثلاثين من عمره، كان يمشي الهوينا قاصدا تلك البقعة الملأى بالصنادل والمراكب حتى إذا دنا منها ركب صندلا صغيرا، وطلب من صاحبه أن يسرع الخطى إلى ناحية سان سيرفان؛ فلم يمض بضع دقائق حتى وصل إلى ذلك المكان، فهم بالنزول بعد أن أنقد المراكبي أجرته وسار توا قاصدا تلك البقعة الجبلية الملأى بالصخور والرمال، وقبل أن يتقدم بضع خطوات لاحت منه التفاتة فرأى في أحد جوانب هذا الخلاء الفسيح امرأة متكئة على إحدى الصخور في هذا المكان المقفر، وسمات الكآبة والحزن تلوح على وجهها.
فسأل السائح المراكبي قائلا: من تكون هذه المرأة؟
أجاب الرجل: يقال يا سيدي: إن هذه امرأة اعتراها داء الجنون وهي تهيم على وجهها في هذه الفيافي والقفار. قال: ولماذا تركوها وشأنها هكذا بلا معالجة؟ وهل تعرف اسمها؟ - تدعى مادلين يا سيدي، وهي تجلس كل مساء في هذا المحل بعينه تتسول الصدقة، ولا تظهر في غير ذلك الوقت؛ لأنها كثيرة الحياء على ما يقال، فلا تستعطي إلا تحت جنح الظلام.
وعند ذلك انقطع الحديث وترك السائح صاحب المركب، ثم سار متقدما إلى الأمام، فدنت منه تلك المرأة المسكينة، ومدت إليه يدها تطلب الصدقة حسب عادتها، فأمعن فيها نظره وأخذته الشفقة عليها، وحدثته نفسه بأن يقف على سبب جنونها واختيارها لهذه العزلة والانفراد.
فدنت منه تلك المرأة المسكينة.
فحينذاك قبض على يدها النحيفة بلطف، وأوعز إليها أن تتبعه إلى أحد جوانب هذه البقعة، فلم تظهر أدنى معارضة في ذلك واقتفت أثره بلا ممانعة، حتى وصلا إلى صخرة عالية في وسط هذا الخلاء فجلسا عليها، ومن ثم نظر السائح إلى تلك المرأة الغريبة الزي ليستطلع أخبارها فرآها تنظر حولها يمنة ويسرة، ثم تحدق بأمواج البحر التي كانت تزداد تلاطما واصطداما، فتهيج فيها عوامل الحزن وتزداد قلقا واضطرابا، كأن هذه المناظر الطبيعية كانت تثير في قلبها تلك العوامل الخفية، وتذكرها بحوادث فظيعة جرت لها في سالف أيامها، فيظهر على وجهها ذلك التهيج والانقباض، فاقترب منها السائح وسألها عن سبب حزنها واكتئابها، فنظرت إليه محملقة وأجابته قائلة: تسألني ماذا اعتراني؟! كأنك لا تعرف حقيقة حالي؛ فانظر إلى هذا البحر المتلاطم بالأمواج؛ فهو ينبئك بما جرى لي؛ فهنا ماتا، بل هنا قتلتهما تلك اليد الظالمة.
أجاب السائح: ومن هذان اللذان تقولين أنهما قتلا هنا؟ - عجبا، وهل تجهل ما جرى لولدي العزيزين في هذه الصحراء المقفرة أمام هذه الأمواج المتلاطمة؟ فهنا، هنا قد جرت تلك المذبحة الهائلة والفظائع الوحشية المنكرة، فأواه يا سيدي، لماذا أتيت بي إلى هذا المكان؟ حتى تثير في قلبي هذا التذكار المؤلم! فهلا كفاني ما أقاسيه من الشقاء والعذاب حتى جئت تزيدني هما وحزنا! فماذا فعلت يا مولاي حتى أستحق كل هذا العقاب؟ ولماذا تناصبني العداء كأنك من ألد أعدائي؟ فوا عجبا! كيف يريد العالم كله أن يكون ضد امرأة مسكينة عاكسها الدهر وخانتها صروف الأيام؟! فقد كنت أظن أن لي عدوا واحدا، وهو ذلك الظالم القاسي القلب الذي هد عزائمي، وأوهن قواي، وغادرني أتقلب على مضض التعاسة والشقاء، ولكن أين هو ذلك العدو الآن، فلا أخاله يستطيع الرجوع إلي بعد أن تخلصت من مظالمه الفظيعة وأعماله الوحشية، وقتلته بيدي شر قتلة.
अज्ञात पृष्ठ