उम्र के ओएसिस: आत्मकथा: भाग एक
واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول
शैलियों
وأثناء مناقشة الزيارة في غرفة الأساتذة اتضح أن المفتش كان يوما ما زميلا لأبو التسهيل في مراحل الدراسة الابتدائية والثانوية، وأن الأمل معقود عليه هذه المرة في أن يمنح أبو التسهيل تقدير أداء جيدا حتى يمكن ترشيحه لوظيفة مدرس أول للغة العربية، وهو على مشارف «التقاعد»، مما ييسر له أن يكتب على شقته «مدرس أول اللغة العربية سابقا»، وعندما دخل أبو التسهيل غرفة الأساتذة بشره الزملاء، وبثوا الطمأنينة في قلبه، ولكنه كان ساهما واجما، فسألوه عن السبب فقال: «كان قاعد جنبي في الفصل .. كنا بنقسم السندويتش ونقسم البرتقالة .. وكنا بنمشي للبيت كل يوم.» وهلل الحاضرون قائلين : «يبقى فرجت يا عم! لازم بقى يعرف قدرتك في النحو!» ورد أبو التسهيل: «كنا بنقرا ابن عقيل (شرح ألفية مالك في النحو) مرة كل سنة في الصيف، وكانت مشكلته الشواهد!» وقال الأساتذة «إنت ملك الشواهد!»: «دانت لو استعصى الشاهد تؤلف شاهد!» وكان يرمي من ذلك إلى أن أبو التسهيل كان شاعرا، وكان يمكنه تأليف بيت أو بيتين من الشعر ارتجالا ونسبتهما إلى أحد القدماء تأكيدا لوجهة نظره في أي مسألة من مسائل النحو، خصوصا أنه كان يحب الفراء والكسائي والمدرسة الكوفية التي تجيز ما لا يجيزه البصريون بصفة عامة!
وقال صلاح إن أبو التسهيل كان «راجل بتاع ربنا»، فكان يحب الناس ويقبل عليهم، وكان يولم لهم الولائم في منزله بالمعادي، وكانت تنتابه نوبات استغراق في «الملكوت» فيغيب عن الدنيا؛ شأن المتصوفة القدامى، وقد تكون النوبة نوبة «إشراق» روحاني (
epiphany ) يخرج منها مرهقا يتصبب جبينه عرقا، وقد تكون لحظة شفافية يبدو فيها كأنما يرى كائنات علوية تملؤه بالسعادة والهناء! ولما كان يعتبر بحق مرجع الأساتذة في النحو اقترح بعضهم عليه أن يجعل درس «التفتيش» في النحو لا في النصوص أو في أي موضوع آخر قد لا يكون متمكنا منه. وقبل الانصراف ذلك اليوم همس أبو التسهيل لصلاح عبد الصبور «مراتي بتسألني اشمعنى إنت اللي اتأخرت عن زملائك؟ وموش عارف أقول لها إيه» وأكد له صلاح أن النتيجة سوف تكون إيجابية هذه المرة.
وحالما وصل المفتش، اجتمع به الناظر (الذي كان يتعاطف مع أبو التسهيل) ثم اجتمع به كبار الأساتذة، فوعدهم خيرا، واتجه إلى قاعة الدرس حيث كان أبو التسهيل قد اختار موضوعا خلافيا هو الاستثناء، والمستثنى قد يكون بحرف «إلا» أو بعدا أو خلا أو حاشا، وبعضها، وفقا لابن عقيل، من حروف الجر، ولكنه كان واثقا من علمه وإحكامه للمادة. وابتدأ الدرس بداية طيبة، وبدا أن الطلبة متجاوبون، ثم سأله أحد الخبثاء: ماذا تقول في أغنية نجاة الصغيرة «إلا إنت»؟ ولم يكن أبو التسهيل قد سمعها، ولو كان سمعها لاستطاع «التقدير»، وعندما ضحك الطلبة، رد أحدهم: بس ده بالعامي! ثم ساد الصمت، إذ اعترت أبو التسهيل نوبة إشراق، وبدأ العرق يتصبب من جبينه، وسرح بصره من النافذة في السحب التي كانت تتجمع في السماء، وانقضت فترة لا يعرف أحد كم طالت، وعندما أفاق سمع جرس الحصة، ولم يجد المفتش.
وعندما هبط إلى غرفة الأساتذة كان الصمت سائدا، وأقبل عليه الجميع يطلبون له الشاي والليمون، واصطحبه صلاح إلى مقعد بجوار النافذة، وطفق يحادثه في كل شيء وهو شبه غائب عن الوعي، ولا شك أنه شعر بما حدث لأنه - على الأقل - لم يسمع كلمة «مبروك» - وعندما جاء الشاي ولحظ بداية انصراف الأساتذة إلى «حصصهم» نظر في عيني صلاح ثم انخرط في بكاء صامت.
هذه هي القصة التي وقعت أحداثها فعلا كما رواها لي صلاح. لم يكن المفتش قادرا على المجاملة، ولم يستطع أن يخالف ضميره فيقول إن المدرس جدير بتقدير جيد، وخرج أبو التسهيل إلى التقاعد مدرسا عاديا، وكان عليه أن يواجه تساؤلات زوجته، وأن يلغي فكرة كتابة اللافتة التي كان يحلم بها، وقد رأيت في مأساته مادة لقصة قصيرة وفقا لمعايير القصة الأوروبية والعربية الحديثة، ولكنني وقفت حائرا عند ما نسميه اليوم «بالنغمة». هل يكون موقفي هو التعاطف مع أبو التسهيل وإدانة المفتش الذي رفض الاستجابة للحالة الإنسانية، بحجة الموضوعية، أم تأييد المفتش ومن ثم السخرية من أبو التسهيل؟ كنت أحس أنني باعتباري مصريا وعربيا أضع الاعتبارات الإنسانية قبل الاعتبارات الموضوعية، أتعاطف مع المدرس الذي وصل إلى خط النهاية دون أن يفوز في أي سباق، وأن القراء سوف يشاركونني هذا التعاطف. فإذا كان هذا هو الحال، فلا بد أن أكتب القصة من وجهة نظر أبو التسهيل، وإن لم أستعمل ضمير المتكلم، ويجب أن أتصور كل شيء من وجهة نظره؛ وفقا للقواعد الفنية الحديثة، ولكنني لم أعرف آنذاك كيف أصور كبير المفتشين، وكيف أرسم صورته للقراء.
وحاولت الدخول من هذا المدخل فاستعصى علي؛ فقد وجدت أن الواجب أن أرسم مكان الحدث وزمانه بلغة فصحى راقية، تنم على جو اللغة العربية الذي يسود القصة، وكان أسلوبي يرتفع وينخفض ثم يسقط! وحاولت أن أقصها على الأصدقاء بالعامية المصرية، ونجحت إذ استجابوا لأبو التسهيل ولاموا المفتش على تزمته. لم يكن حديث يتضمن وصفا ولا تحليلا، بل لم يكن يتضمن من الحوار إلا ما اعتدناه في كتب التراث من «أقوال مباشرة»، وتأملت «المطلوب»: هل من اللازم وصف أبو التسهيل حتى يتصوره القارئ؟ الواقع أن صلاح لم يصفه لي، وما دمت لن أمنحه اسمه الحقيقي في القصة فربما يكون من المستحسن أن أصفه وصفا يلائم «المستثنى»، كأن أجعله نحيفا هزيلا غائر العينين، لا شارب له ولا لحية، وربما يكون من المستحسن أن يكون قصيرا، يرتدي حللا واسعة، قد تكون قديمة أو ذات «موضة» عفا عليها الزمن، أما إذا جعلته يضع في صديريته ساعة جيب بسلسلة (كاتينة) أو يمسك منشة، فقد يكون ذلك مدعاة للسخرية.
ووجدت أن الصعاب تتزايد حين شرعت في وصف المدرس ووصف المدرسين ووصف المفتش. وهمس لي الصوت الداخلي: ألا تنبع هذه الصعاب من استمساكك بالقصة الحقيقية التي رواها لك صلاح عبد الصبور؟ لماذا لا تتحرر منها وتكتب ما تشاء! أنت كاتب خيالي ولك مطلق الحرية في أن تسمي البطل أي اسم تراه ثم تصفه أي وصف تراه! ولكنني كنت مأخوذا بالقصة الحقيقية لا أستطيع منها فكاكا، تماما مثلما حدث لي قبل عامين وأنا أنتظر سميراميس (الحبشية) عند أول كوبري أبو العلا من ناحية الزمالك.
كان موعدي في الثالثة ظهرا، وكان المفروض أن أقابلها هناك عند انتهائها من العمل، ثم أصطحبها إلى مقهى حتى يحين موعد العمل في وزارة الثقافة في الرابعة، وكنت قد سهرت الليلة السابقة حتى الصباح أقرأ كتاب محمد مندور «النقد المنهجي عند العرب»، وأستقي منه المعلومات اللازمة لاقتباس ما يلزمني من كتب التراث، وكان أمامي كتابان هما المختار من «الصناعتين» لأبي هلال العسكري، و«العمدة» لابن رشيق (الذي حببه إلي عبد الرءوف مخلوف)، ونمت من الفجر حتى الظهيرة ثم ذهبت إلى الجامعة، ومنها إلى موعد اللقاء. وكنت تعلمت من التجربة أنني إذا وصلت فلم أجد الفتاة في انتظاري فالأرجح ألا تأتي مطلقا، والأفضل أن أنصرف. ولذلك عندما وصلت ولم أجدها، تجولت في المكان نحو دقيقتين، وكنت على وشك عبور الطريق لركوب الأتوبيس العائد إلى العجوزة، ولكن بصري وقع على رجل هرم لا بد أنه تخطى السبعين، ومعه طفل لم يتجاوز عامين أو ثلاثة على الأكثر، يحاول ركوب أتوبيس رقم 13 التابع لشركة مقار. كنت أعرف مسارات معظم خطوط النقل، وكنت أعرف أن هذا الخط ينتهي في روض الفرج، في منتصف شبرا. وكان الأتوبيس مزدحما فركب الرجل ولكنه فشل في حمل «حفيده؟» معه فنزل، وسرعان ما أتى أتوبيس آخر، وكان الرجل هذه المرة يحمل الصغير في يديه فأعطاه لأحد الركاب وقبل أن يتمكن من الركوب تحرك الأتوبيس فجرى خلفه حتى استعاد الطفل، وشغلت بموضوع الرجل والطفل بعض الوقت وهو يحاول الركوب عبثا، ثم قررت مساعدته فحملت له الطفل، وصرخت في الركاب، ولكن المحاولات لم تنجح، فوضعت الطفل على الأرض، وإذ بيد تمسني برفق ووجه سميراميس يطالعني ضاحكا فدهشت إذ كنت نسيت الموعد تقريبا! واصطحبتها ومضينا سيرا على الأقدام، وبدلا من التوجه إلى وسط البلد سرنا على الكورنيش في اتجاه روض الفرج، ورغم جمال جو الشتاء، ودفء الشمس، قررنا شراء بعض المرطبات بعد إلغاء فكرة المقهى، ووقفنا عند بائع المياه الغازية، وإذا بي ألمح العجوز وهو قادم نحونا يسير الهوينى على الكورنيش مع الصغير.
كان فشل العجوز في ركوب الأتوبيس أمرا عاديا في الواقع، ولكنني حملته بمعان رمزية ربما لم يكن يتضمنها، وكان التناقض بين حالي الذي كنت أعتبره حال خالي الذهن اللاهي، وحال ذلك الرجل الغامض الذي قرر المسير بعد أن أعيته محاولات الركوب، باعثا على تأملات ربما لا تكون لها علاقة مباشرة بالحدث نفسه، وقررت تصوير الموقف في قصة قصيرة من لون ما، ولكنني فشلت وكانت جميع الدلائل تشير إلى استحالة كتابة القصة.
अज्ञात पृष्ठ