उम्र के ओएसिस: आत्मकथा: भाग एक
واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول
शैलियों
لم أكن أخاف الجن في تلك الأيام، وكان والدي يسمح لي بصلاة الفجر في المسجد وأنا بعد صغير، وكان يتحدى من يقولون إنهم شاهدوا العفاريت قائلا: «أروني إياها!» وشاع في البلد أننا أسرة لا تستطيع رؤية العفاريت لأن دمها «زفر»، ولم أفهم أبدا معنى «زفارة» الدم وكيف يمكن أن تحول دون رؤية الجان. ولكنني كنت أخاف من الجمل ، ومن منظر النعش. وأذكر أنني ذات يوم كنت في السوق «البحري» وتطلعت فوقي فجأة فشاهدت بطن جمل، وربما كان ذلك سبب خوفي بسبب ما سمعته من أنه يبرك أو ينوخ على عدوه فيقتله، أما النعش فكنت أخافه بسبب الضجيج الذي كان يصاحبه، ولأن العادة كانت تقضي بوضع جثمان المتوفى في صندوق ينتهي بقامة عليها طربوش إذا كان ذكرا، وأن يحمله الناس ويسيروا خلفه في شارع السوق من المسجد الكبير - جامع المحلي، وهو شيخ اسمه «علي المحلي» (نسبة إلى المحلة الكبرى) - حتى المقابر في جنوب البلد، وكانت تسمى «الجبابين» لا الجبانات، ويتقدم الموكب شيوخ ينشدون كلاما دينيا له رنة غريبة، كنت أتبين نغمتها والألفاظ البارزة فيها، وهي «مولاي صل وسلم دائما أبدا» وبينهم شيخ أعرفه جيدا؛ لأنه يقفز أو يتواثب على عكازين بسبب ضمور ساقيه وهو الشيخ «حلمي الحداد» رحمه الله. وكانت الجنازة أحيانا تسمى «المشهد»، وقد لازمني الخوف من النعش حتى دخلت المدرسة الابتدائية.
2
كان والدي واحدا من تسعة إخوة وأخوات أنجبهم جدي الحاج محمد عناني الكبير، وكان لم ينجب من زوجته الأولى، وبعد أن توفيت تزوج أختها «رشيدة» فأنجب إبراهيم، ومحمد (والدي) وعبد المحسن، ومن الإناث زينب وفاطمة وسعاد، وعندما توفيت تزوج أختها الصغرى «فاطمة» وأنجب منها جميعة وصلوحة وأحمد. ثم توفي هو. وكان عصاميا وأميا، واشتغل بالتجارة أولا ثم عمل على إنشاء مصنع لضرب الأرز؛ أي لفصل القشر عن الحب، وبالأسلوب القديم الآلي، وكانوا يسمونه أسلوب «اللاط» أي الضرب بمطرقة خشبية تصعد وتهبط بمحرك يدار بالبخار. وكان أي محرك يعمل بالبخار يسمى «الوابور» ثم حرفت إلى «بابور»، وكان البخار الصاعد يستغل في إصدار صوت صفير كصفير القاطرة البخارية أو الباخرة (وابور البحر)، وذلك في مناسبات معينة، أهمها تحديد ساعة الإفطار، ولما كان البلد حافلا بمضارب الأرز، كنت تسمع عندما تغرب شمس نهار رمضان صفيرا عاليا يسمعه القاصي والداني؛ ولذلك كانت الإشارة إلى موعد الإفطار لا يشار إليها بالمدفع بل بالصفارة أو الزمارة (من المزمار). وكان ضرب الأرز حرفة أو صناعة متشعبة؛ فبعد الضرب تفصل الحبوب المكسورة بالغربلة وتسمى «الدشيش»، وتباع لخلطها بدقيق القمح للانتفاع بها في خبز «العيش البيتي» بنسبة كيلة دشيش إلى كيلتين من القمح المطحون، أما القشر الخارج من الضرب فكان يسمى «السرس» وكان يستعمل وقودا في الأفران البلدية، وكانت الصناعة تستلزم صناعات فرعية مساندة مثل صناعة الأجولة (جمع جوال من جوالق، والتي تحولت فيها الجيم المعطشة إلى شين). وصناعة الحبال، وعربات الجر، وكذلك تجارة الملح الذي يستخرج من ملاحات إدكو، وهي بلدة قريبة من رشيد، تجفف مساحات من بحيرتها ويصدر منها الملح الذي يستخدم في تجفيف الأرز قبل التعبئة بمقادير طفيفة.
ولذلك لم تكن «الدايرة» مضربا وحسب بل منطقة صناعية تجارية، لكنني لا أذكر أني شاهدت مديرا (ناهيك بمجلس إدارة) أو محاسبين أو مراجعين؛ إذ كان النظام ريفيا في جوهره يعتمد على «كلمة» البائع و«كلمة» المشتري، وكانت مناطق زراعة الأرز في شمال الدلتا قريبة من رشيد؛ مما كان ييسر نقل المحصول وتخزينه وضربه وتسويقه؛ إما بقطار البضائع (في السكك الحديدية) أو بالشاحنات الكبيرة إلى شتى البلدان المجاورة، وإلى الإسكندرية والقاهرة بطبيعة الحال. ونادرا ما كان النقل النهري من الوسائل الرئيسية؛ إما لصعوبة الإبحار ضد التيار، رغم توافر الرياح الشمالية المواتية، وإما بسبب وجود «سد إدفينا»، وهو سد ترابي كان يقام كل عام عند بلدة إدفينا القريبة لمنع مياه البحر المالحة من الدخول جنوبا في مجرى النيل؛ ولذلك كنت أسمع وأنا صغير إشارات إلى أسماك قبلي السد وبحري السد، أي النيلية والبحرية. وقد أقيمت في عام 1950م تقريبا قناطر إدفينا مكان هذا السد، وربما كان ذلك في عهد وزارة الوفد، لأنني أذكر أن مصطفى النحاس باشا رئيس الوزراء هو الذي افتتحها، ويقابلها على الفرع الآخر من النيل (فرع دمياط) سد فارسكور ثم قناطر فارسكور.
وكان والدي يصحبني أحيانا إلى «الدايرة» لمتابعة العمل، ولكن الواضح أنه لم يكن يشغل باله بشئون التجارة، بل كان يقضي الوقت في القراءة، وفي تأمل الطيور الزائرة لمصر، وفي إعداد «الأرض» التي اشتراها واستصلحها لتكون حديقة غناء تأتي إليها طيور أوروبا. وكانت «الأرض» فدانين لا أكثر من الرمال في المدخل الجنوبي للمدينة، تولى تمهيدها وتزويدها بالمياه العذبة، وزراعة النخيل (البلح الزغلول أساسا) وأشجار المانجو (الأنبج) والقشدة الخضراء، وشجرة برقوق واحدة، وشجرتين للتفاح. وبنى في وسطها منزلا صغيرا سرعان ما أزال سقفه وأحاله مشتلا، وأحاط الحديقة بأشجار الكازورينا سريعة النمو، حتى بدأت الحديقة تزهر وتثمر، وأذكر أنها كانت تشبه جنة خضراء وارفة الظلال، في وسطها حوض البطيخ الذي أكله الذئب!
كان والدي قد ورث مالا كثيرا عن أبيه، إلى جانب الشقة التي يسكنها ونصيبه في مضرب الأرز، ولكنه كان ينفق بلا حساب على الأرض وعلى الكتب، ولا يكاد يلقي بالا إلى شئون «الدائرة». وقد علمت فيما بعد أنه كان قد التحق بكلية الآداب، جامعة القاهرة، بعد حصوله على البكالوريا من الفريدية الثانوية (حيث كان يجلس إلى جوار المرحوم الدكتور عبد العزيز كامل، وزير الأوقاف الأسبق) ثم أقنعه أخوه الأكبر بترك الجامعة والتفرغ للتجارة والعودة إلى رشيد، وكان ذلك بعد مولدي بفترة قصيرة. لا أعرف تماما ظروف هجر الدراسة المنتظمة، ولكن الثلاثينيات لم تكن بالفترة التي يأمل الصغار فيها تأمين مستقبلهم عن طريق الوظائف، ولا شك أن والدي كان لكثرة ما قرأ من كتب العرب يرى أنه يعيش في عصر سابق لهذا العصر؛ فهو لم يسمع أن أحدا ممن قرأ لهم في تلك العصور الخوالي كان موظفا في «الحكومة» أو يتقيد بساعات وظيفية محددة، وكان يحب الحرية التي أتاحها له المال، وربما كان ذلك دافعا على العودة إلى رشيد.
اعتدت أن أراه منذ نعومة أظفاري يقظا في الصباح الباكر؛ إما في الفجر أو قبل أن تشرق الشمس، وكان يصلي ويخرج للعمل في «الأرض» حتى يبدأ حر النهار فيعود إلى «البلد» ويشتري لوازم البيت ويرسلها إلى المنزل، ثم يصلي الظهر في مسجد المحلي ويعود لتناول الغداء ثم ينام ساعة أو بعض ساعة، وينهض ليتوضأ ويصلي العصر، ويبدأ القراءة والكتابة. فإذا اقترب موعد الغروب خرج ثانية إلى المسجد وأحيانا كان يلتف حوله بعض أهل البلدة ليطرحوا أسئلة دينية كان يجيب عليها، وكثيرا ما كنت أصحبه أثناء العطلات في جولاته اليومية؛ إذ كنت أستمتع بالقصص التي يقصها عن العرب القدماء، ويروي ما فيها من شعر صحيحا معربا، فأكاد أتصور نفسي وقد عدت القهقرى في الزمن إلى عصر هؤلاء الأجداد، وكان يساعدني على تصور الحياة البدوية ما يحيط برشيد من رمال شاسعة، بحار لا نهاية لها من الرمال تنمو فيها آلاف النخيل، بل آلاف الآلاف لأنك حين تركب القطار المتجه من رشيد إلى الإسكندرية ترى النخيل ممتدة حتى الأفق على الجانبين لعشرات الكيلومترات، وكانت الترعة التي تخرج من النيل «قبلي السد» تمتد وسطها، وعلى الجانبين توجد حقول واسعة يمتلكها بعض أبناء البلد، ويسمى كل منها «غيط فلان»، وكانت هذه الغيطان «مسقاوية» أي تعتمد على الري وتزرع فيها المحاصيل، في حين كانت النخيل، بطبيعة الحال، «بعلية» أي تروى بماء المطر.
كنت أحب قصص القدماء، وأحب اللغة التي تدر علي دخلا لا بأس به، قرشا أو قرشين لاستكمال «مصروفي» وشراء ما يلذ لي من اللب (بذور البطيخ) والفول السوداني والحمص من مقلى شهير في شارع السوق اسمه مقلى إمام، وكان الشائع نطقها بإضافة هاء؛ أي «مقلاة»، وذلك قبل أن تتحول الكلمة في القاهرة إلى كائن غريب اسمه «المقلة» بفتح الميم لا بضمها. وكنت أغافل والدي أحيانا فلا أنبهه إلى أنه سبق أن سألني نفس السؤال؛ إذ كان كثيرا ما ينسى، فأفوز بالقرش دون وجه حق! واكتشفت ذات يوم وسيلة «للتنبؤ» بما سوف يطرحه علي من الأسئلة، إذ كان يترك كتبه مفتوحة عند الصفحات التي يريد نقل اقتباسات منها في مجلد ضخم يسجل فيها ما يعجبه من الشعر والنثر، وكان يسميه «الموسوعة الأدبية أو بيت الحكمة». ولن أنسى المأزق الذي وقعت فيه حين قرأت ذات يوم بيتا من الشعر لم أفهمه، ولم أكن أعرف كيف أفهمه، ولا كنت قادرا على فتح دولاب الكتب (فهو يغلقه بالمفتاح) الذي يوجد فيه القاموس المحيط للفيروزابادي. وكنت أخشى أن يسألني عن معناه في وقت قريب، وكان لي بعض الأصدقاء الذين يدرسون في المعهد الأزهري في الإسكندرية من زملائي السابقين في الكتاب، فسألت أحدهم في عصر ذلك اليوم ونحن نسير على شاطئ النيل عن معناه وهو:
لو بغير الماء حلقي شرق
كنت كالغصان بالماء اعتصاري
अज्ञात पृष्ठ