उम्र के ओएसिस: आत्मकथा: भाग एक
واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول
शैलियों
قال لويس: «أيوه كويس .. بس عاملة زي: كل الأحبة اتنين اتنين، وانت يا قلبي حبيبك فين!» فضحك الموجودون وأذكر منهم «هدى» حبيشة (الدكتورة)، ومديحة كمال (زوجة علي حمدي الجمال)، وديزي روفائيل (زوجة أحمد بهاء الدين) وحلمي شعراوي (الذي تخصص في إفريقيا فيما بعد). وفي تلك الجلسة نوقش الشعر العامي، ونوقش صلاح جاهين، وكان لويس مغرما مثل الناقد الإنجليزي ف. ر. ليفيز بالأحكام، وتحديد «طبقات الشعراء» ومراكزهم، فلم يوافق الدكتور لويس على ما ذكرته هدى حبيشة من أن جاهين «أعظم» شعراء العامية، وإن كان «أفضل الموجودين». كانت رنة الثقة في حديث لويس توحي بالثقة والاطمئنان، وإن كنت أستمتع بقراءاته للشعر الإنجليزي أكثر من استمتاعي بهذه المناقشات.
واستمر بنا المجلس ذات مساء حتى الحادية عشرة ونحن نقرأ شلي، حين جاء زائل لم أره من قبل، وهو نظمي خليل الذي كان يعمل مفتشا للغة الإنجليزية آنذاك في وزارة التربية، وعندما تحول النقاش إلى فلسفة الثورة وأزمة الديمقراطية وضرورة الاشتراكية، استأذنت وغادرت المجلس. وسرت وحدي ذلك المساء وقد بدأت في ذهني مساجلات بين الدعاوي السياسية التي لا شأن لي بها، والطموحات الأدبية التي تتملكني. كانت أحلام الأدب أكبر من خيالي المحدود؛ إذ كان الفن الأدبي الشائع في تلك الأثناء هو فن القصة القصيرة وكان «الكتاب الذهبي» الذي تصدره دار روز اليوسف قد بدأ يقدم عددا من الكتاب الذين سرعان ما احتلوا مراكز مرموقة في الحياة الأدبية؛ مثل يوسف إدريس، ومحمد عبد الحليم عبد الله، ويوسف السباعي، وأمين يوسف غراب، وإحسان عبد القدوس، وعبد الحميد جودة السحار، وغيرهم ممن خرج من «معطف» محمود تيمور. ولم يكن من السهل علي أن أحاكي أيا منهم، وكانت مكتبة الأنجلو المصرية تصدر سلاسل أدبية إنجليزية ندرسها في الجامعة، بعد أن توقف استيراد الكتب في أعقاب العدوان الثلاثي من إنجلترا، وكان الذي يتولى اختيار القصص والمسرحيات د. رشاد رشدي ود. لويس مرقص، الذي أصبح رئيسا للقسم الإنجليزي في كلية الآداب الجديدة بجامعة عين شمس التي أنشأها المرحوم د. مهدي علام (وكانت كلية تربية حتى عام 1953م). وكنت أقرأ هذه القصص وتلك المسرحيات فيزداد يأسي من القدرة على محاكاتها.
وفي الفصل الدراسي الثاني بدأت ملامح أحلامي تتضح. كان الذي يعلمنا مادة الترجمة شابا من قسم اللغة العربية اسمه الدكتور شكري عياد، وكان يكتب قصصا ينشرها في مجلة «صباح الخير» ويسمح لنفسه باستخدام بعض الألفاظ العامية فيها، وكان في أوائل الثلاثينيات من عمره أو في منتصفها، وكان، على تخصصه في اللغة العربية وحبه الشديد لها، يكره ميلي إلى التأنق في الأسلوب، ودائما ما ينبهني إلى أن الغاية هي الوضوح وقوة التعبير و«صلابته» على حد قوله، وكان يعني بذلك دقة الألفاظ وإفصاحها عن المعنى مباشرة. ولذلك فإن دروس الترجمة معه كانت في الواقع دروسا في علم دلالة الألفاظ، وعلى يديه أحببت الغوص في المعاجم بحثا عن الدقة، وهربا من الغموض والالتواء.
وفي ربيع عام 1958م، وكنا في رمضان، أحسست بما للجوع من أثر على صفاء الذهن ورقة المشاعر! أو هذا هو ما قلته بعد أعوام معدودة للدكتور شفيق مجلي عندما عاد بالدكتوراه من إنجلترا وبدأ يدعو للإقلال من الطعام! كان إقبالي على الطعام يشبه إقبالي على اللغة وعلى الأدب، ولكن دروس الترجمة التي كانت دائما بعد الظهر أو العصر كانت تنسيني حاجتي إلى الطعام، وكنا نجد في تفتح الزهور ولون الخضرة الذي عاد يكسو الأشجار مصدر بهجة غامرة، سرعان ما تحولت إلى مشاعر حب دفاقة بين الصغار (كنا جميعا دون العشرين)، فتصور كل منا أنه عاشق واله، وكانت النظرات مثقلة بمشاعر لا يدري أحد كنهها، وقد علمت فيما بعد أن هذه المشاعر التي يمكن إرجاعها إلى أسباب مادية، في طبيعة البشر وطبيعة الكون، تميز الإنسان عن الحيوان؛ لأنها وليدة عقل الإنسان، ووثيقة الصلة بذهنه، وباللغة التي تميزه عن الكائنات الأخرى!
وكان شكري عياد صبورا. يقرأ شعري وينقده دون برم. ويناقشني في شعر «شلي» مناقشات تشبه مناقشات لويس عوض، وكنا نخرج معا من الجامعة فنسير الهوينى حتى محطة الأتوبيس، فنستقله حتى المنزل، وكان يقيم في العجوزة (في «المحطة» التالية) وأحيانا كنت أغادر المركبة معه ثم أقفل عائدا، وأحيانا كان يغادرها معي ثم نسير «المحطة» الباقية إلى منزله. وأذكر مرة طال بنا النقاش فظللنا نتردد بين المحطتين حتى حان موعد الإفطار فافترقنا.
وفي ذلك العام الدراسي كان رشاد رشدي قد انقض على شوقي السكري فأغلق مجلة الحائط، وبدأ يناوئه في ألوان النشاط الأخرى فبدأ رشدي نشاطا مقابلا يتمثل في ندوات أسبوعية للقصة القصيرة والشعر بين الطلبة، كما كثف من خروجه إلى الحياة العامة بعد نجاح مجموعة قصصية كتبها قبل ثلاثة أعوام عنوانها «عربة الحريم»، فكتب مسرحية اسمها «الفراشة» قدمتها له فرقة المسرح الحر، وكان يعد العدة لتقديم مسرحية أخرى هي «لعبة الحب»، كما بدأ يلقي الأحاديث في الإذاعة عن النقد الحديث ويهاجم دعاة تسخير الأدب والفن لأغراض الدعاية السياسية باسم الأيديولوجيا، وكان تحليل أحد النقاد للمناخ الأدبي حينذاك هو أن دفاع الاتحاد السوفيتي عن مصر ووقوفه بجانبها منذ صفقة الأسلحة «التشيكية» قبل ثلاثة أعوام، يعتبر بداية لصداقة مع الدول العظمى تمتاز بعدم الانحياز إلى أي من الجانبين، كما أعلن ذلك أقطاب الحركة التي اجتمع قادتها في باندونج بإندونيسيا، وعلى رأسهم جواهر لال نهرو الرئيس الهندي وجوزيف بروز تيتو الرئيس اليوغوسلافي، وسوكارنو الرئيس الإندونيسي وجمال عبد الناصر الزعيم العربي، باعتباره رئيس الجمهورية العربية المتحدة التي تضم سوريا ومصر. ومن ثم فلم يعد من المقبول أن يظل الشرق الأوسط كما كان منطقة نفوذ للغرب، بل كان لا بد أن ينحسر هذا النفوذ، بل وأن يتلاشى، وأن يسود مبدأ الاستقلال الفكري في الكتابة والأدب؛ تبعا لسيادته في السياسة والاقتصاد.
ولكن مبدأ الاستقلال كان يعني وضع موازنات دقيقة بين الكتلتين، وإذا كان ذلك ممكنا في السياسة، فهو عسير في الأدب، فكانت القيادة السياسية تشجع فريق مناصرة الشرق (الشيوعي)، وفريق مناصرة الغرب (الرأسمالي) في الوقت نفسه، وتفرض عليهم القيود في الوقت نفسه، وتضرب بعضهم بالبعض في الوقت نفسه! ومن ثم نشأ حال من الاستقطاب الزائف؛ إذ إن الدولة ذات رقابة صارمة، لا تسمح بالشيوعية (طبعا) ولا تسمح بالرأسمالية؛ لارتباطها بما ثارت عليه حركة الضباط الأحرار في مصر الملكية، ولا تسمح بالحركات الدينية طبعا بعد أن اتضح أن الإخوان كانوا يعدون العدة للاستيلاء على السلطة! وكانت «معسكرات» الكتاب تعكس، أي تجسد، هذا الاستقطاب الزائف، وهو زائف (والتعبير هو تعبير لويس عوض) لأن دعاة كل مذهب كانوا في الواقع يؤمنون بما يؤمن به الفريق الآخر في أعماقهم، ولكنهم يتحزبون ويتخذون اتجاهاتهم «المتغيرة» من باب رد الفعل الوقتي، باستثناء عدد من الشيوخ الذين لم يناقشوا هذه المذاهب أصلا، بل وجدوا أنفسهم في خضمها يصارعون الموج، وعدد من الشبان الذين آمنوا بها (ومعظمهم من اليسار) وأخلصوا لها حتى بلغت مبلغ العقيدة!
وكان لويس عوض من أوائل ضحايا هذا الموج العاتي؛ إذ بلغني أنه اعتقل، وكانت زوجته هي التي أجابتني تليفونيا حين سألت عنه، ولم تزد في ردها باللغة الفرنسية عن إبلاغ هذا الخبر الصاعق! وكان معنى ذلك أيضا غروب شمس حلمي الأول، وهو نشر ترجماتي الشعرية، باختفاء كراساتي مع لويس عوض! وبينما أنا حزين لا أدري ما أصنع إذ قابلت وحيد النقاش وكان من زملاء فريق التمثيل، طالبا مجدا في قسم اللغة الفرنسية، ضئيل الجسم جميل الوجه ذا عينين خضراوين وبشرة سمراء ونظرات حالمة وصوت خفيض، وكان يحب الجلوس في بوفيه كلية الآداب تحيط به الحسان، فدعاني لمشاركته المجلس، وقدم لي صديقا له في السنة الأولى بقسم اللغة الإنجليزية اسمه سمير سرحان! وطالت الجلسة، وتناقشنا في كل شيء، فعرفت منهما أسماء رواد قهوة عبد الله في الجيزة، وسمعت عن أنور المعداوي وعبد القادر القط وسعد الدين وهبة وغيرهم. وانتهى عام 1957-1958م بندوة أقامها رشاد رشدي للقصة القصيرة، ألقيت فيها أو قرأت قصة عنوانها «زوجات الآخرين»، وكان التصفيق شديدا والإعجاب مبالغا فيه، حين انبرى رشدي وبين أن القصة ذات بناء «آلي»، ولا تتميز بالبناء «العضوي»، وفوجئت بأن المأمون أبو شوشة قد تحمس للقصة وقام يدافع عنها للأسباب التي دعت رشدي إلى الهجوم! وقد أعدت قراءة هذه القصة بعد تلك السنوات الطويلة فوجدت أن منهج كل منهما فيه نظر، كما يقولون؛ ولذلك سوف ألخص «الموقف» الأساسي للقصة، وأترك الحكم على موقف الاثنين للقارئ.
القصة مكتوبة من وجهة نظر المتكلم، وهو رجل «مريض» بحب الامتلاك، وكان بسبب نشأته يذود عن حمى كل «حريم» ويتصور أنه لا بد أن يستحوذ على نساء الأرض كلهن! فإذا رأى فتاة «لا رجل لها» جهد جهده حتى يبعد عنها الرجال، فإذا كانت متزوجة «تصور» أن رجلا آخر قد اعتدى على حرمه، وتدريجيا بدأ يشغل باله إلى حد الوله الأخرق بزوجات الآخرين، وكان أن جعل حياة زوجته جحيما، وأحال حياته الخاصة إلى حلبة لخيالات وأوهام، وكان ينشد السلوى في حديث صديق له يتردد عليه وجعله موضع ثقته، لكنه لم يكن في أعماقه يطمئن إلى أحد كائنا من كان، حتى كان اليوم الذي وجد زوجته في أحضان هذا الصديق!
وكان رأي رشدي أن النهاية لا تنبع من الموقف، فالمؤلف لم يقدم العوامل التي أدت إلى الخيانة، و«حدث» الخيانة لا يمكن أن يعتبر نتيجة لحالة البطل، فنحن لم نعرف الصديق ولا الزوجة، وهكذا فإن النهاية تشبه العقاب الذي ينزله القدر بالبطل، مثل النهاية المفتعلة في نهاية المسرحية الكلاسيكية اليونانية حين يهبط «إله من آلة» [ديوس إكس ماكينا] ليحل عقدة الحدث! وكان رأي أبو شوشة هو أن هذه النهاية «خبطة» فنية تعيد للبطل صوابه وتعتبر درسا لمن يشغل نفسه بزوجات الآخرين! أما ما أظنه الآن فهو أن النهاية، بغض النظر عن «آليتها» أي طابعها الآلي، ليست العنصر الرئيسي في القصة، بل هي إضافة ربما كان من المستحسن أن تحذف! أما جوهر القصة فيكمن في تصوير حالة البطل، أي في بناء الشخصية الرئيسية التي تقوم بالحدث! فمنهج رشدي مستمد من قواعد النقد الأرسطي الذي يلزم كل قاص أن يبني القصة وفقا لقواعد المسرح القديم أو القائم على «التمثيل» أو المحاكاة، ولكن القصة القصيرة الحديثة قد تعددت أشكالها وصورها وفنونها، وأصبح بعض أنواعها يقترب من الشعر، و«زوجات الآخرين» تشبه «المونولوج الدرامي» الذي أشاعه الشاعر الفكتوري روبرت براوننج، بل إن كثيرا من القصاصين المحدثين منذ القرن التاسع عشر قد تخلوا عن ضرورة الارتباط «العضوي»، الذي يعتبر في نظر الكلاسيكيين من النقاد أساس «الحتمية الفنية»، وكنت مدينا بهذا التعبير للدكتور فخري قسطندي الأستاذ بالقسم، وأعني به الارتباط بين البداية والوسط والنهاية، ولكن النقد الكلاسيكي للقصة القصيرة الذي وصل إلى ذروته في كتاب ه. أ. بيتس عن القصة القصيرة كان مسيطرا آنذاك على تفكير رشاد رشدي.
अज्ञात पृष्ठ