उम्र के ओएसिस: आत्मकथा: भाग एक
واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول
शैलियों
أو ميدان رسل، المسمى باسم عائلة الفيلسوف الشهير برتراند رسل، وكان هدفي هو البحث عن سكن دائم عن طريق مكتب خدمات الطلبة، قابلت الموظفة فأعطتني بعض العناوين وبعض النصائح، ثم خرجت إلى نادي الجامعة الذي يسمونه اختصارا «يولو»؛ أي اتحاد «طلبة» جامعة لندن، فقابلت بعض المصريين ، وبعضهم يشغل الآن مناصب مرموقة في الحياة الأكاديمية والعامة، ثم أطلعتهم على أحوالي، فاقترح بعضهم على سامي أبو طالب (الدكتور الآن) أن يستضيفني مؤقتا، قائلين إن لديه الآن غرفة خالية، بعد عودة زوجته وابنه إلى مصر، وأن بإمكانه أن يؤجر لي الغرفة. ووافق سامي على الفور، وكان أجر الغرفة جنيهين وربع جنيه في الأسبوع، وهو مبلغ معقول؛ لأن أجر الشقة الكاملة ستة جنيهات. وفي غضون ساعات كنت قد انتقلت من بيت الشباب إلى الشقة، وكانت تقع في شمال لندن في منطقة تسمى «فنزبري بارك»
Finsbury Park ، وكان اسم الشارع هو «ولبرفورس رود»
Wilberforce Road ، وقد أطلق عليه اسم هذا المصلح الاجتماعي، ابن القرن التاسع عشر؛ لأنه كان فيما يقال أول من بنى به مسكنا سمح للزنوج بالإقامة فيه، والمعروف أن ولبرفورس هو صاحب الجهود التي أدت إلى تحرير العبيد. وبعد أن وضعت حقيبتي في الغرفة الصغيرة، ذهبت أنا وسامي لمقابلة صاحب المنزل وهو تركي من قبرص له شارب طويل مبروم، وعينان براقتان، فاستقبلنا بالترحاب، وقد وضع على الجدار صورة السلطان عبد الحميد، وقال لنا إنه لا يؤجر المسكن أو أي بيت من البيوت التي يملكها إلا للمسلمين، وكان ذلك البيت مقاما على مساحة صغيرة من الأرض ويتكون من ثلاثة طوابق، وباعتباره مسكنا لأسرة واحدة (في الأصل) مثل سائر البيوت التقليدية في إنجلترا، كان الطابق الأعلى يتكون من غرفتين فقط، وبعد درج صغير يوجد مطبخ صغير، وبجواره مرحاض، ثم بعد درج آخر يوجد الطابق الثاني حيث غرفتان ومطبخ، أما الطابق الأرضي فبه غرفتان ومطبخ وحمام ويطل على حديقة المنزل الخلفية. وكان صاحب المنزل يقيم بالطابق الأرضي مع أسرته، ويؤجر الطابق الأوسط لأسرة باكستانية، وعلى نحو ما هو متبع في البيوت الإنجليزية يوجد مفتاح واحد لباب البيت الخارجي، أما الغرف فلا مفاتيح لها، ولا يغلقها أحد بالمفتاح، ولو كان مستأجرا. وكان الإحساس بالأمان هو القاعدة التي لا استثناء لها (في تلك الأيام) وكان الإنجليز يتفاخرون بأن أي إنسان إذا أراد أن يدخل أي بيت يستطيع ذلك دون إثارة الشك، ولقد تعلمت فيما تعلمت آنذاك المثل الذي يعتبر البيت المثل الأعلى في الأمان وهو “as safe as houses” .
كما تعلمت في تلك الأيام الأولى من إقامتي في إنجلترا مدى تقدير الإنجليزي للصدق والأمانة. وكان بعض الكتاب يعزون ذلك إلى تقاليد الحركة الدينية البيوريتانية (التي ترجمها بعضهم بتعبير «التطهيرية» وإن كانت أقرب في معناها إلى التزمت أو إلى الأصولية) ولكن خبرتي بالحياة البريطانية نقضت هذا التفسير فيما بعد؛ إذ إنني أميل إلى اعتبار نزعة الصدق واحترام الصادق وأداء الأمانة من سمات المجتمع التجاري الذي يعتمد على الثقة؛ فالثقة لازمة لإبرام الصفقات بسرعة وتسيير حركة الأعمال التجارية. وأذكر أنني كنت أدهش في تلك الأيام الأولى؛ لأن أحدا لم يكن يطالبني قط بإبراز ما يثبت شخصيتي (كبطاقة الهوية أو جواز السفر) عند صرف شيك أو الدفع بشيك، بل إن الكلية لم تطالبني بأية أوراق رسمية عند التسجيل للبحث العلمي! ويؤكد ذلك إطلاق الإنجليز - دون شعوب الأرض - على المحتال (النصاب) لفظ «خائن الثقة» “con” man - وهي اختصار
confidence trickster - كما أذكر أنني عندما انتقلت من مسكني إلى مسكن آخر، ذهبت إلى بائع الصحف الذي كان يرسل لي الصحيفة اليومية في الصباح لتسوية الحساب قبل الرحيل، وعندما شرحت له الموضوع قال: «لا بأس! اعتبر صحف الأيام السابقة هدية! تكفيك متاعب الانتقال!» فكأنما كان يكافئني على الأمانة، مدركا أنني كنت أستطيع الرحيل دون سداد الدين.
الدكتورة هدى حبيشة ومحمد السوري أمام حجر رشيد بالمتحف البريطاني عام 1966م.
وفي تلك الأيام الأولى شهدت حادثة ما تزال محفورة بتفاصيلها الدقيقة في ذاكرتي، وكنا ما نزال في شهر مايو؛ إذ خرجت مع سامي أبو طالب للتريض في المنطقة في المساء، وكان الطريق شبه خال من السابلة، وفي الهواء لذعة برد خفيفة، وما كدنا نغادر الشارع الذي نقيم فيه إلى الطريق الرئيسي الواسع حتى شد انتباهنا صراخ قادم من الجانب الآخر للطريق، وكان مصدره حانة إنجليزية يسمونها
pub
وهي اختصار لتعبير (
public house )؛ حيث يحتسي الرواد الجعة الإنجليزية بصفة أساسية، ويتناولون بعض الوجبات الخفيفة، وجميع تلك الحانات تغلق أبوابها عادة في الحادية عشرة مساء. وقفنا نرقب مصدر الصراخ فإذا بامرأة إنجليزية تخرج من الباب وهي تصيح بلهجة أبناء لندن «إنه زوجي، إنه زوجي!» لم تكن ملامحها واضحة ولكنها كانت في منتصف العمر تقريبا، تميل إلى السمنة، ولم يلبث «الزوج» أن خرج، فإذا هو هندي قصير ربعة القوام داكن اللون وخط الشيب شعره، ومن خلفه شابان إنجليزيان يبادلانه السباب، وفجأة ازدحم الرصيف المتسع بالشبان الإنجليز الذين خرجوا من الحانة ثم علا صياحهم في وجه الهندي، وانقضوا عليه، فأخرج مدية من ملابسه وجعل يلوح بها في وجوههم، وصراخ المرأة يعلو ويشتد، وأحاط الرجال بالهندي وهو يحاورهم حتى نجح أحدهم في إسقاطه من الخلف على الأرض، وإذا بالجميع ينهالون عليه ضربا وركلا حتى خلنا أنه قد قتل، ثم انفض الجميع فجأة وانطلقوا يجرون هاربين حين نبههم أحدهم إلى قدوم الشرطة. جلست المرأة على الرصيف تلطم خديها وتبكي، وحين وصلت الشرطة لم يجدوا سواها وزوجها فنقلوهما في السيارة وانطلقوا مسرعين.
अज्ञात पृष्ठ