وجعل مكان " أبا المسك " أبا الفضل وسار به إلى خراسان وحمل القصيدة عن المتنبي إلى أبي الفضل وزعم أنه رسوله فوصله أبو الفضل بألفي درهم واتصل هذا الخبر بالمتنبي ببغداد فقال: رجل يعطي لحامل شعري هذا فما تكون صلته لي. وكان أبو الفضل ابن العميد يخرج في السنة من الري خرجتين إلى أرَّجان يجبي بها أربع عشرة مرة ألف ألف درهم فنمى حديثه إلى المتنبي بحصوله بأرَّجان فلما حصل المتنبي ببغداد نزل ربض حميد فركب إلى المهلبي فأذن له فدخل وجلس إلى جنبه وصاعد خليفته دونه وأبو الفرج الأصفهاني صاحب كتاب الأغاني فأنشدوا هذا البيت:
سَقَى اللهُ أمْواهًا عَرَفْتُ مَكَانَهَا ... جُرامًا وَبَلْكومًا وَبَذَّرَ فَالغَمْرا
وقال المتنبي هوه جرابأً وهذه أمكنة قتلتها علمًا وإنما الخطأ وقع من النقلة فأنكره أبو الفرج الأصفهاني. قال الشيخ هذا البيت أنشده أبو الحسن الأخفش صاحب سيبويه كتابه جراما بالميم وهو الصحيح وعليه علماء اللغة. وأخبرنا أبو سعيد السيرافي عن أبي بكر بن دريد في الجمهرة أن الأسماء التي جاءت على فَعَّلَ أربعة بذار وهو اسم ماء، وخضّم اسم لعنبر ابن تميم، وبقَّم اسم لخشب الصبغ، وعثَّر اسم مأسدة وتفرق المجلس عن هذه الجملة. ثم عاوده اليوم الثاني وانتظر المهلبي إنشاده فلم يفعل، وإنما صده ما سمعه من تماديه في السخف واستهتاره بالهزل واستيلاء أهل الخلاعة والسخافة عليه، وكان المتنبي مرّ النفس صعب الشكيمة حادًا مُجدًّا فخرج. فلما كان اليوم الثالث أغروا به ابن الحجاج حتى علق لجام دابته في صينية الكرخ وقد تكابس الناس عليه من الجوانب وابتدأ ينشده:
يا شيخَ أهلِ العِلم فينا وَمَن ... يلزم أهلَ العلم توقيرُهُ
فصبر عليه المتنبي ساكتًا ساكنًا إلى أن أنجزها ثم خلى عنان دابته، وانصرف المتنبي إلى منزله وقد تيقن استقرار أبي الفضل ابن العميد بأرجان وانتظاره له فاستعد للمسير.
وحدثنا أبو الفتح عثمان بن جني عن علي بن حمزة البصري قال: كنت مع المتنبي لما ورد أرجان فلما أشرف عليها وجدها ضيقة البقعة والدور والمساكن، فضرب بيده على صدره وقال: تركت ملوك الأرض وهم يتعبدون لي وقصدت رب هذه المدرة فما يكون منه. ثم وقف بظاهر المدينة وأرسل غلامًا على راحلته إلى أبي الفضل ابن العميد فدخل عليه وقال: مولاي أبو الطيب المتنبي خارج البلاد، وكان وقت القيلولة وهو مضطجع في دسته فثار من مضجعه أبو الفضل واستثبته ثم أمر حاجبه كيارووين في استقباله فركب واستركب من لقيه في الطريق ففصل عن البلد بجمع كثير فتلقوه وقضوا حقه وأدخلوه البلد فدخل على أبي الفضل فقام له من الدست قيامًا مستويًا وطرح له كرسي عليه مخدة ديباج وقال أبو الفضل مشتاقًا إليك يا أبا الطيب ثم أفاض المتنبي في حديث سفره وأن غلامًا له احتمل سيفًا وشذّ عنه. وأخرج من كمه عقيب هذه المفاوضة درجًا فيه قصيدته: بَادٍ هَوَاكَ صَبَرْتَ أمْ لم تَصْبِرا فوحى أبو الفضل إلى حاجبه فجاء بقرطاس فيه مائتا دينار وسيف غشاؤه فضة وقال: هذا عوض عن السيف المأخوذ، وأفرد له دارًا نزلها. فلما استراح من تعب السفر كان يغشى أبو الفضل كل يوم ويقول: ما أزورك إكبابًا إلا لشهوة النظر إليك، ويؤاكله. وكان أبو الفضل يقرأ عليه ديوان اللغة الذي جمعه ويتعجب من حفظه وغزارة علمه فأظلهم النيروز فأرسل أبو الفضل بعض ندمائه إلى المتنبي: كان يبلغني شعرك بالشام والمغرب ومن سمعت دونه، فلم يحر جوابًا إلى أن حضره النيروز وأنشده مهنئًا ومعتذرًا فقال:
هَلْ لِعُذْري إلى الهمام أبي الفضْ ... لِ قبولٌ سَوادُ عيني مِسْدادُهْ
ما كَفاني تقصيرُ ما قلتُ فيه ... عن علاهُ حتَّى ثَنَاهُ انْتِقادُهْ
إنَّني أصيدُ البُزاةِ وَلَكِ ... نَّ أجَلَّ النُّجوم لا أصْطادُهْ
ما تعودت أن أرى كأبي الفَتْ ... حِ وَهَذا الذي أتَاهُ اعتِيادُهْ
فأخبرني البديهي سنة ثلاثمائة وسبعين أن المتنبي قال بأرجان: الملوك قرود يشبه بعضهم بعضًا لا على الجودة يعطون. وكان حمل إليه أبو الفضل خمسين ألف دينار سوى توابعها وهو أجاود زمان الديلم.
وكذلك أبو المطرف وزير مرداويج قصده شاعر من قزوين فأنشده وأملَّه مادة نفقة يرجع بها إلى بلده فكتب إليه أبياتًا أولها:
1 / 4