الغَيد العَنَق، إنما أراد هاهنا اللون بقوله حمراء خضراء ووجه ذلك أنه أراد شيئًا وكنى عنه بما صحبه لأن حمرة الخد إنما تكون مع اللين والنعمة لا مع الجفاف والغلظة وقد قالت العرب كذلك:
كأنَّ أيديهنّ بالمَوماة ... أيدي جَوارٍ بِتْنَ ناعِمات
فذكر النعمة هاهنا لأن معها ما يكون الخضاب وحمرة اليد يعني أن أيدي الإبل قد دميت بملاقاة المرو. وعليه قول الآخر:
كأنَّ أيديهُنَّ بالقاعِ الفَرَقْ ... أيدي جَوارٍ يَتَعاطَيْنَ الوَرَقْ
قال أبو القاسم: معنى بيت المتنبي أقرب من هذا التفصيل والتطويل وإنما يريد به تربة البستان مخضرة محمرة بأنواع الأعشاب وألوان النبات. وقول الراجز: كأن أيديهن بالقاع الفرق أنشده الأصمعي في كتاب الأبيات وذكر في تفسيره أنه شبه شدة بسط يدي الناقة وقبضها بأيدي الجواري متعاطيات الورق، ومثله قول الشماخ:
كأنَّ ذِراعيها ذِراعًا مُدِلَّةٍ ... بُعَيْدَ السِّبابِ حاوَلَتْ أن تَعَذَّرا
وكقول المسيب:
مَرِحَتْ يَداها للنَّجاء كأنَّما ... تَكرو بِكَفَّيْ لاعِبٍ في صاعِ
وكقول الآخر:
كأنَّ يَدَيْها وَقَدْ أرقَلَتْ ... وقد جُرْنَ ثُمَّ اهتَدَينَ السَّبيلا
يَدا عائِمٍ خَرَّ في هُوَّةٍ ... قَدْ أدْرَكَهُ الموتُ إلا قَليلا
قال أبو الفتح: يحتمل هذا قولين: أحدهما أن الوادي بقي لرحيلهم عاطلًا متوحشًا كالجيد إذا سقط عقده. وقوله ما بالقلوب أي قتله الوجد لبعدهم عنه فيصير إذًا كقوله:
لا تَحْسِبوا رَبْعَكُمْ ولا طَلَلَهْ ... أوّل حيّ فِراقكم قَتَلَهْ
والآخر أنه شبّه تفرّق الحمول والظعن بدُرّ قد تناثر فيكون هذا كقول بشار:
تَتابَعَ نَحْوَ دَاعيها سِراعًا ... كَما نُثِرَ الفَريدُ من النَّظامِ
قال أبو القاسم: ليس لبيت بشار متعلق ببيت المتنبي ومعناه إن الظعائن كن حلية الدار وزينتها وكانت الدار مبتهجة بهن ومشرقة لمحاسهن فلما ارتحلن بقيت عاطلًا كالجيد فارقه الحلي. وقال أبو تمام:
وطُلولِهنّ المشرقاتِ بِخُرَّدِ ... بيضٍ كواعِبَ غامضاتِ الأكْعُبِ
وقال البحتري:
يَقينَ الغَواني باللَّوى فكأنَّما ... لَقينَ الغَواني الآنِساتِ عَواطِلا
وقول المتنبي به ما بالقلوب أي غلته غلة قلب المحب كما قال المحدث:
مَنازِلُ تشكو غَليلَ المُحِبِّ ... وَتَنْدُبُ أحبابُهُنّ العُقودا
وقال المتنبي:
قالت وقد رأت اصفِراري مَنْ بِهِ ... وَتَنَهَّدَتْ فأجَبْتُها المُتَنَهِّدُ
قال أبو الفتح التنهد التنفس بغلواء وشدة.
قال أبو القاسم: هذا لا يعرف في العربية وإنما يقال نهد ثدي المرأة إذا خرج فهو ناهد ومنه نهد الرجل بزحفه إذا خرج للحرب، ومنه ثدي نواهد ونهد لخروجهن، قال عمر بن أبي ربيعة:
وَنَاهدة الثَّدْيَينِ قلت لها ابْرُكي ... على الرَّمل في دَيمومة لم تُؤسَّدِ
قال أبو العباس:
حال الوشاح على قَضيبٍ زَانَه ... رُمَّانُ صدرٍ ليس يُقْطَفُ ناهِدُ
وذم بعض العرب امرأة فقال ما فوها ببارد، ولا شعرها بوارد، ولا ثديها بناهد.
وأما قول المتنبي تنهدت أي تكلفت إخراج صدرها وثديها افتتانًا له واختبالًا لقلبه كما قال الآخر:
قَامَتْ تُريكَ خَشْيَةً أنْ تُصْرَما ... سَاقا بخَندَاه وَكَعْبًا أدْرَما
وقال المتنبي:
فَرَسْتَنا سَوابِقَ كُنَّ فيهِ ... فَارَقَتْ لِبْدَهُ وَفيها طِرادُهْ
قال أبو الفتح أي في جملة ما حبانا به يعني خيلًا أي جعلتنا فرسانًا وفارقت لبده أي انتقلت إلي وكانت له، وفيها طراده أي صرت من صحبته وفي جملته فإذا سار إلى موضع سرت معه وطاردت بين يديه فكأنه هو المطارد عليها إذ كان ذلك له ومن أجله. وقوله فيها أي عليها كقول الله تعالى جده:) وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ في جُذوعِ النَّخْلِ (أي على جذوع النخل.
قال أبو القاسم: معنى البيت أن هذه الخيل التي قادها إليّ ابن العميد فارقت ما كان يجللها من آلات الركوب لانتقالها إلى ملكي، وطراده إلهاء لابن العميد يعني ما عودها من الطراد ملاقاة الفرسان باق فيها وليس المتنبي ممن طارد بين يدي ابن العميد أو انحاز إلى جملته.
قال المتنبي:
1 / 12