فوجم رجاء عن الكلام كأن غصة وقفت في حنجرته، وقطرت عيناه دمعتين كأنهما بقية ما بقي من دموعه التي ذرفها في مدة السفر، ثم قال متلجلجا: يلوح لي يا باشا أنك تستلذ الحديث في هذا الموضوع. - الحديث يجر بعضه بعضا يا رجاء أفندي. فهل يسوءك أن أتحرى شكل الذنب الذي ارتكبناه باعتقالك. أود أن أعلم هل كان اعتقالك سبب انتحارها أو مانعا لك من إنقاذها.
فتمهل رجاء وقال: لا ريب يا باشا أنك داهية في التحقيق والاستجواب. سواء كان اعتقالي هذا أو ذاك فهو ذنب في عنقكم؛ لأنه كان سبب انتحار الفتاة ومانعا من إنقاذها معا. ولا أدري كيف أقتص منكم أو كيف تستطيعون أن تكفروا عن هذا الذنب العظيم؟ - دع الاقتصاص والتكفير للأقدار يا رجاء أفندي، وما علينا إلا أن نترحم على تلك الفتاة. - هل كنت تعرف هذه الأميرة يا باشا؟ - كلا. - إن زوجتكم لطيفة هانم تعرفها، ولا بد أن تكونوا قد سمعتم بخبرها.
فاختلج الباشا وبدا في وجهه امتقاع، وقال: هل كان لها خبر يسمع؟ - نعم، كانت مشهورة بجمالها العصبي لا العضلي، أعني أن جمالها لم يكن في شكل جسمانها بل في عواطفها. ومع ذلك فقد كانت في نظر البعض جميلة الصورة جدا. ولكن هذا لا يهمني أبدا. وإنما كان يعجبني فيها توقدها: توقد عينيها وقلبها ولبها وعصبها. فعيناها تتواثبان دائما من محجريهما، وقلبها يندفع مع لسانها في كلامها، ورشاقة جوارحها تتبارى مع نباهتها ويقظتها ونشاطها. يقولون: إنها خفيفة؛ أي قليلة الرزانة، وهذا ما أستحبه أنا في المرأة، حتى لو قالوا: إنها متهورة، بل مجنونة، لزادوها قيمة في عيني؛ لأن التهور والجنون هو الطرف الأخير من النشاط. لقد أسفت على نميقة عظيم الأسف يا باشا. - عزاك الله يا رجاء أفندي. وما زلت أنتظر خدمك الصالحة. - لا تشك بخدمي الصالحة يا باشا؛ لأن غرضي متوقف مع غرضكم. الآن أرجو الإيذان لي بالخروج حتى لا يطول انتظار السفير.
ثم ودع رجاء الدين الغازي مصطفى باشا وخرج، وفي نفس كل منهما عواطف وأفكار لا تظهر إلا لعالم الخفيات والأسرار.
ثم أمر الغازي في الحال بإطلاق سراح المتهمين الآخرين، وبإطلاق سراح المقبوض عليهم في الآستانة جميعا من غير تحقيق، بزعم أن القبض عليهم كان بناء على سعاية كاذبة.
الفصل السابع
ويل أهون من ويلين
بعد حين كان دولة الغازي مصطفى باشا كمال في أزمير، بلد عقيلته لطيفة هانم. وفي ذات يوم كان راكبا أوتوموبيله من المنزل إلى دار الحكومة. وفي أثناء الطريق رماه شخص مجهول بقنبلة، فوقعت على مقربة من الأتوموبيل ولكنها لم تنفجر. فأمر بإيقاف الأوتوموبيل في الحال. واتفق لسوء حظ هذ الجاني أن رآه بعض الناس يفعل فعلته فقبضوا عليه. ثم أمر الغازي بالقنبلة أن توضع في الأتومبيل وأخذ الجاني معه توا إلى دار الحكومة، واختلى به.
وكان الشخص متوسط الجسم والعمر حسن البزة، تدل ملامحه وحركاته على أنه عصبى المزاج، يعد ممن يتهوسون لما يعتقدون. ولما أصبح مع الغازي وحدهما في مكتبه الخاص قل إكفهراره، وصار يحاول أن يبتسم كمن لم يرتكب وزرا.
أما الغازي فكان متجهما مقطب الجبين حداق العينين، فسأله : من أنت يا هذا؟ - أنا أحد الناس العامة الذين لا تعرف عنهم شيئا ولا تفيدك المعرفة عنهم شيئا. - ما اسمك؟ - لا يهمك اسمي، بل يهمك جسمي، وها هو تحت سلطانك. - بل يجب أن تقول. - ليس الامتناع عن قول اسمي أعظم فرية مما حدث. فاقض ما أنت به قاض.
अज्ञात पृष्ठ