33
مات النبي ولم يترك ولدا له، ولم يعين خليفة يخلفه، فكانت الساعة غاية في الحرج، وأصبح كيان الإسلام نفسه مهددا نهب الحوادث والظروف، وقد انتشر خبر وفاته بسرعة لا مثيل لها، وكان له وقع شديد على أصدقائه المخلصين، وكأنما أصابتهم صاعقة حين بلغهم هذا النبأ المروع، وكان الناس قسمين، قسما يحسبه خالدا لا يموت، وقسما لا يتوقع موته بهذه السرعة، بل يؤمل له حياة طويلة، وعمرا مديدا، وكان «عمر» - خاصة - ممن يؤمل هذا الأمل.
وبعد أن مات النبي وأسلم آخر أنفاسه بزمن يسير، دخل «عمر» مخدع «عائشة» فرفع الغطاء - الذي كانت جثة النبي مسجاة به - وتأمل محيا سيده مليا وهو في نومته الأبدية - فرأى كل شيء هادئا، ونظر إلى ما حوله فرأى سكونا طبيعيا، فلم يعد يصدق ذلك النبأ المروع، وصاح: «كلا لم يمت النبي بل هو في غيبوبة!»
وكان «المغيرة» حاضرا فحاول عبثا أن يرشده إلى خطئه، فقد صرخ فيه عمر: «كلا بل تكذب، إن رسول الله لم يمت ولكن خبث طويتك، وفساد نفسك الشريرة قد أدخلا في روعك هذا الوهم الخاطئ، ولن يموت النبي قبل أن يقضي على المنافقين ويبيد أهل الشرك.»
ثم ذهب «عمر» - من توه - إلى المسجد فصاح فيمن تجمهر من الناس: «لقد زعم الزاعمون، وأرجف المرجفون أن محمدا قد مات، وبئس ما يتقولون، ألا إن محمدا لم يمت، وإنما ذهب للقاء ربه كما فعل موسى إذ غاب عن قومه أربعين يوما ثم رجع إلى أصحابه - بعد أن يئسوا من عودته - ووالله ليعودن النبي كذلك، ثم ليعاقبن كل من اجترأ على هذا القول!»
ولم يكد يسمع الحاضرون قوله حتى آمنوا عليه، ولا غرو في ذلك؛ فقد كانوا - إلى زمن يسير جدا - يرون محمدا في نفس المكان الذي يخطبهم فيه «عمر»، فلم يكن أحب إليهم من تصديق ما يقوله «عمر».
وجاء «أبو بكر» في هذه اللحظة فاخترق المسجد، وأصغى هنيهة قصيرة إلى كلام «عمر» المتأجج عاطفة وحماسة؛ ثم أسرع إلى مخدع «عائشة» ووقف أمام جثة النبي أيضا، فرفع الغطاء عنها، وقبل وجه صاحبه - وهو مستغرق في نومته الأبدية - ثم صاح قائلا: «طبت حيا وميتا.» ورفع رأس النبي بتؤدة وأناة، وتأمل أسارير ذلك الوجه الذي طالما تملى به من قبل، ثم قال: «نعم لقد مت، فوا أسفا عليك أيها الصديق المحبوب! بأبي أنت وأمي؛ فقد قاسيت من غمرات الحمام ما قاسيت، وتجرعت من غصص الموت ما تجرعت. وإنك لأكرم على الله من أن تتجرع هذه الكأس مرة أخرى!» ثم وضع رأس النبي برفق - على وسادته - وقبل رفيقه مرة أخرى، ثم سجاه بغطائه ورجع - أدراجه - إلى المسجد فوجد «عمر» لا يزال يتأجج حماسة، وهو يخطب الناس ليقنعهم أن الرسول لم يمت، فصاح فيه: «حسبك يا عمر! هدئ من ثائرتك واجلس حيث أنت!»
فلم يصغ إليه عمر وطفق يخطب الناس، فولى أبو بكر وجهه شطر الناس، فأقبلوا عليه وتركوا عمر، فقال لهم أبو بكر: أما قال تعالى - في محكم آياته - لنبيه:
إنك ميت وإنهم ميتون
أما قال تعالى في آية أخرى - بعد موقعة أحد:
अज्ञात पृष्ठ