ليستخرجوا منهم أنة أو شكاة، ولكنهم ماضون في الصمت، قد ثبت الله قلوبهم، وصرف عن نفوسهم الجزع والهلع، فإذا مر النبي وصاحبه بهؤلاء الرهط المعذبين سمع المشركون صوت ياسر لأول مرة من يومهم ذاك، سمعوا صوت ياسر لا يتجه إليهم وإنما يتجه إلى النبي، فيقول: الدهر هكذا يا رسول الله، قال رسول الله: «أبشروا آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة.» هنالك يسمع المشركون صوت سمية لأول مرة من يومهم ذاك، يسمعون صوت سمية لا يتجه إليهم وإنما يتجه إلى النبي، فيقول: أشهد أنك رسول الله، وأشهد أن وعدك الحق. وهنالك يسمع المشركون صوت عمار لأول مرة من يومهم ذاك، يسمعونه لا يتجه إلى أبويه، ولا يتجه إلى النبي وصاحبه، وإنما يتجه إليهم هم، فيقول: عذبونا يا أعداء الله ما شئتم؛ فإن موعدنا الجنة وأنوفكم راغمة.
هنالك يخرج المشركون عن أطوارهم
227
ويصبون على أولئك الرهط من العذاب ما ليس إلى وصفه سبيل.
ويمضي أبو بكر في بعض بطحاء مكة فيرى بلالا وقد عذب حتى ملت قريش تعذيبه، عذبوه بالنار والماء، وعذبوه بالحديد والسياط، طرحوه على الأرض في الرمضاء،
228
وأثقلوه بالصخر، يريدونه على أن يذكر آلهتهم بخير فلا يسمعون منه إلا: أحد، أحد. يقول له أمية بن خلف: اذكر آلهتنا يا بلال يرفع عنك العذاب. فيجيب: إن لساني لا يطاوعني. ثم يمضي في ذكره قائلا: أحد، أحد. فيمل أمية بن خلف وأصحابه، فيضعون عنه أثقاله ثم يقيمونه، ثم يضعون الحبال: حبلا في إحدى ذراعيه، وحبلا في ذراعه الأخرى، وحبلا في إحدى ساقيه، وحبلا في ساقه الأخرى، ثم يدعون الصبية ويلقون إليهم الحبال، ويأمرونهم أن يعدوا ببلال حتى يجهدوا أنفسهم ويجهدوه، ويفعل الصبية ما أمروا، فيعدون به إلى اليمين، ويعدون به إلى شمال، ويعدون به إلى أمام، ويعدون به إلى وراء، وهم يتصايحون ويتضاحكون، وأمية بن خلف وأصحابه ينظرون ويتعابثون، وبلال لا يحفل بشيء من ذلك، وإنما هو يتبع العادين به حيث يعدون، لا يقاوم ولا يتمنع ولا ينفك لسانه عما أخذ فيه من ذكر: أحد، أحد، أحد، أحد. وقد بلغ الجهد من الصبية حتى جعلوا يلهثون، ثم تراخت أيديهم وألقوا بحبالهم إلى الأرض، وظل بلال قائما ماضيا في ذكره: أحد ، أحد. حتى يبلغ الغيظ من أمية وأصحابه، فيدفع بعضهم في صدر بلال حتى يلقوه على الأرض إلى ظهره، فيسقط ويسمع لسقوطه صوت مروع، ولكن ذكره متصل: أحد، أحد. ويهم أمية أن يبطش به ليسكت هذا الصوت ويقطع هذا الذكر، ولكن أبا بكر يعرض له قائلا: ويحكم! فيم تعذبون هذا الرجل؟!
قال أمية: وما أنت وذاك يا ابن أبي قحافة؟! عبد لنا، نصنع به ما نشاء.
قال أبو بكر: هو عبد الله قبل أن يكون عبدك يا أمية، إنك إن تأت على نفسه تأثم وتضيع مالك، فهل لك في شيء خير من ذلك؟
قال أمية: وما ذاك؟
अज्ञात पृष्ठ