قال ياسر - وقد هم ثغره أن يبتسم ووجهه أن يشرق ولكن الروع لم يلبث أن رده إلى الجد والصرامة - قال: ويحك يا سمية! إنها رؤيا ليست كالرؤى، وما أرى إلا أن لها شأنا! فما أكثر ما عرضت لي الأحلام! وما أكثر ما انصرفت عني حين أفيق! ولكن هذه الرؤيا قد تركت في قلبي وعقلي وأمام عيني صورة ملحة لا تريد أن تريم.
51
قالت: فقص رؤياك، لعل حديثك عنها أن يريحك منها.
قال ياسر: هيهات! ثم استوى جالسا في بطء، وأخذ يقص رؤياه مستأنيا، ولم يكد يمضي في حديثه قليلا حتى روعت زوجه، وهمت أن تكفه عن الحديث لولا بقية من شجاعة وفضل من حياء.
قال ياسر: لن أقص عليك رؤيا، ولكني سأصف لك صورة رأيتها نائما وما زلت أراها يقظان: واد ليس بالمسرف في السعة ولا بالمسرف في الضيق، وإنما هو وسط بين ذلك، يأخذ جانبيه جبلان عظيمان يرقى إليهما الطرف ولكنه لا يبلغ أعلاهما، وقد تشقق الجبلان عن فجوات عميقة أراها ولا أحصيها، والنار من هذه الفجوات يسعى بعضها إلى بعض، حتى تلتقي وحتى يسيل بها الوادي كما يسيل بالماء، وفي أقصى هذا الوادي من أمامي مروج خضر تجري فيها مياه عذاب لا تبلغها هذه النار، وإنما تقف قبل أن تنتهي إليها، وأنت قائمة في هذه المروج الخضر قد رد عليك شبابك وأشرق وجهك حتى كأنه الشمس، وأنت تبتسمين لي وتدعينني باللحظ واللفظ، وتشيرين إلي بالبنان، ومن ورائي عمار يحثني على أن أقتحم النار، ويقول في صوت يشيع فيه الحنان: أقدم يا أبت، فليس عليك بأس، إنما هي لفحة أو لفحات
52
ومن ورائها هذه الرياض الخضر! وسمية قد رد عليها شبابها، وشبابك ينتظرك إلى جانبها ليرد عليك. وأنا أسمع دعاءك، فأهم أن أقتحم النار، ولكن لفحها يوقظني، ثم يضرب الشيخ جبهته بيده صائحا: ويلاه! إني لأجد مس النار.
قالت سمية، وقد أقبلت عليه مرتاعة ملتاعة: ويحك! لا بأس عليك، قم فأصب شيئا من طعام، ثم اخرج فاقصص رؤياك هذه المروعة على بعض كهاننا، لعلهم أن يجدوا لها تأويلا.
ولم يقبل المساء من ذلك اليوم حتى كانت رؤيا ياسر قد عبرت نفسها، وحتى وجد ياسر مس النار.
5
अज्ञात पृष्ठ