فيقول الأصهب: وأنا أيضا أريد ذلك. ثم يدخل الرجلان فيسمعان ويسلمان، ويعرف التاريخ أن الأسود الطوال هو عمار بن ياسر، وأن الأصهب الربعة هو صهيب بن سنان، ومنذ ذلك الوقت يذكر التاريخ ياسرا، ذاك الفتى العنسي، ويتتبع خطوات ابنه عمار.
4
أصبح ياسر ذاهلا واجما مشرد اللب، قد أنكر نفسه وأنكرته زوجه سمية؛ فقد تعود أن يفيق من نومه قبل أن تنشر الشمس ضوءها على بطحاء مكة وجبالها، فلا يريح ولا يستريح، وإنما يضطرب في الدار ذاهبا جائيا، كثير الحركة موفور النشاط، يتحدث إلى نفسه بصوت مرتفع حتى يوقظ النائمين من أهله وولده، وهم ينكرون نشاطه وحديثه في أنفسهم، وربما أنكروا حركته ونشاطه بألسنتهم، وطلبوا إليه شيئا من سكون وسكوت، فكان يعبث بهم ويسخر منهم، ويلح عليهم بحديثه وحركته، ويؤنبهم
46
مداعبا لهم حتى يصدهم عن النوم أو يصد عنهم النوم.
وكانت زوجه سمية أشد أهل الدار ضيقا بهذه الحركة وإنكارا لهذا النشاط، فلم يكن شيء أحب إليها من أن تستأخر في نومها ما وسعها ذلك، كأنها كانت تتصور ما ينتظرها في الدار من عمل ستجد فيه من الجهد ما يضنيها ويشق عليها، فكانت تحب أن ترجئ ذلك ما وجدت إلى إرجائه سبيلا. ولكن الشيخ الثرثار المكثار النشيط لم يكن يكره شيئا كما كان يكره أن يستيقظ والناس من حوله نيام، فلم يكن يستقر له قرار ولا يهدأ له بال حتى يثور أهل الدار جميعا من نومهم، ويأخذوا معه في حديثه الذي لا ينقضي، يسمعون له كثيرا ويقولون له قليلا.
وكانت أحاديث ياسر مختلفة أشد الاختلاف، تروع بغرابتها وطرافتها وإثارتها للشوق إلى الاستزادة والرغبة في الاستطلاع؛ فقد كان ياسر لا ينفك يروي غرائب الأخبار وطرائف الأحداث عن موطنه ذلك البعيد في تهامة اليمن، وعن أسفاره تلك الكثيرة في تجارة مخزوم إلى الشام حينا، وإلى العراق حينا، وإلى ما وراء الشام والعراق أحيانا.
ولم يكن أحد أعلم من ياسر بمناقب قريش ومثالبها،
47
ولم يكن أحد أشد منه تعلقا بالتحدث عن سادة قريش وقادتها، يثني عليهم، ولا يعفيهم من نقده اللاذع
अज्ञात पृष्ठ