مقدمة
1 - علم الأخلاق
2 - المذاهب
3 - الشعور
4 - الشعور
5 - الفضيلة الأدبية والقانون
6 - الضمير أو الوجدان
7 - الواجب
8 - النظر في الفضائل بالتفصيل
9 - تكوين الفضائل النفسية أو التربية الأدبية
10 - العادات وتكوينها
11 - نظام المدرسة
مقدمة
1 - علم الأخلاق
2 - المذاهب
3 - الشعور
4 - الشعور
5 - الفضيلة الأدبية والقانون
6 - الضمير أو الوجدان
7 - الواجب
8 - النظر في الفضائل بالتفصيل
9 - تكوين الفضائل النفسية أو التربية الأدبية
10 - العادات وتكوينها
11 - نظام المدرسة
أصول الأخلاق
أصول الأخلاق
تأليف
ي. دني
ترجمة
إبراهيم رمزي
مقدمة
لا أظن أن في عالم الأدب العربي المصري كتابا في علم الأخلاق الحقيقي. نعم إن هناك أشياء كثيرة في هذا المنحى وضعها أصحابها في علوم السلوك والواجبات وفي النصائح، ولكنها ليست - في الواقع - من باب العلم الذي هو المعرفة المبوبة المقسمة تبعا للطريقة العلمية. ولذا اضطررت أن أترجم عن الإنكليزية هذا الكتاب على صغره بشيء ضئيل من التصرف ليكون بمثابة الكتاب الأول في علم الأخلاق، حتى إذا عن لفاضل من كتابنا أن يكتب، كان كتابه أشمل من موضوع مترجمي هذا لهذا العلم الذي هو في الواقع أساس علم الاجتماع والقانون.
على أني أريد أن أنبه هنا إلى أن مؤلف الكتاب الأستاذ دني
Denney
إنما أراد بوضعه أن يكون هاديا للمعلم إلى ما يجب عليه حيال صغار الطلبة الذين يعهد إليه أمر تعليمهم، وهو - على ما أعتقد - أهم ما تعنى به اليوم وزارة المعارف وما يجب أن يعنى به زعماء النهضة المصرية المباركة.
فإن كان هذا الكتاب مؤديا إلى شيء صحيح من هذا الغرض وتناوله القراء واستفادوا منه في هذا المنحى، فهذا كل ما أرجو من نقله إلى لغتنا العربية.
1
إبراهيم رمزي
الفصل الأول
علم الأخلاق
علم الأخلاق
1
هو علم السلوك بل علم المثل الأعلى منه.
2
ويبحث في أفعال الإنسان من حيث صوابها وخطأها، وتأديتها إلى الخير أو إلى الشر.
والخلق لغة: العادة والاعتياد، والسجية والطبع والدين.
فعلم الأخلاق إذن يبحث في عادات الناس واعتياداتهم، أو بعبارة أخرى في سجاياهم وأخلاقهم، وفي المبادئ التي اعتادوا العمل عليها، والأسباب التي تجعل هذه المبادئ حقا أو باطلا خيرا أو شرا.
والحق ما كان وفاق شرائع العدل؛ ولشرائع العدل هذه علاقة بأمر معني بها ومقصود منها هو الخير، فما هو الخير؟
كل ما كان صالحا لغاية أو غرض أو كان في ذاته قيما أو مرغوبا فيه للبلوغ إلى تلك الغاية يسمى خيرا.
ولكن للإنسان غايات شتى وأغراضا لا حد لها كالثروة أو العظمة، أو العلم، أو ترقية الأمة، أو تحقيق استقلالها وهلم جرا ولكن هذه الأغراض ليست نهائية في ذاتها وإنما هي في الحقيقة وسائل لغايات أخرى؛ أي أنك إذا سألت أربابها عما يدعوهم إلى إيثارها على غيرها من الأغراض لذكروا لك ما ينجم عنها من الفوائد، وإن في ذكر هذه الفوائد لدليلا على أنهم يرمون إلى أمور أخرى تتلوها غيرها حتى تنتهي إلى غرض أخير ليس وراءه غرض آخر هو الذي يسمى «الخير الأسمى».
ولما كان علم الأخلاق هو علم السلوك مطلقا فليس موضوعه إذن البحث في نوع خاص من السلوك ولا غاية بعينها من تلك الغايات، وإنما يبحث عن الغاية القصوى التي تتجه إليها كل حياتنا تلك هي «الخير الأسمى» السالف الذكر.
أما طبيعة هذا الخير الأسمى فموضوع اختلاف كبير بين فلاسفة الأخلاق؛ فمنهم من يراه في اتباع وحي الفطرة، ومنهم من يراه في تحصيل اللذة ومنهم من يراه في تكميل النفس بل إنهم لا يزالون مختلفين في تعريف الخير مطلقا والشر من الأفعال والصواب والخطأ من المناهج، ولكن الذي يعنينا هنا أن في الحياة مثلا أعلى ودستورا يمكننا بالقياس عليه أن نحكم عند تعارض ضروب السلوك أن هذا الضرب منه خير من ذاك.
هذا الدستور يسمى دستور الأحكام الأدبية. (1) موضوع الحكم الأدبي
تبنى الأحكام الأدبية على السلوك، والمراد بالسلوك الأفعال الاختيارية كافة، وعلى ذلك فلا يدخل في حد السلوك ما يصدر عن النفس من الأفعال التي ليس للإرادة دخل فيها كالتنفس ورمش العين حين تأثرها فجأة بضوء شديد، أو كالتفزع لصوت فجائي، أو ألم، بل الأفعال التي يصحبها جهد الإرادة؛ أي التي يفعلها الإنسان بتدبر والتي يقصد بها غرض خاص محدود. رب معترض يقول: إن الأفعال التي اعتادها الإنسان لا يفعلها بوعي وتدبر؛ لأنها لم تعد تحت سلطة إرادته؛ فهي في الواقع بالرغم منه. والجواب عن ذلك أن العادة شكل من أشكال الإرادة، فإن لم تكن الإرادة قد سببتها اليوم فقد كانت سببا في تكوينها من قبل؛ لأن العادة لم تنشأ إلا عن تكرار فعل اختياري.
فصح إذن أن يقال: إن الأحكام الأدبية تبنى على كل فعل مرسوم مقصود.
ليس للأفعال في ذاتها صفة أدبية وإنما ينظر إليها من حيث الغرض المقصود بها لا بما يترتب عليها في الواقع؛ فإنك إذا رأيت طفلا يتناول قلما من مكتب لم تدر إن كان عمله هذا خيرا أو شرا؛ إذ إن هذا يتوقف على السبب الذي حدا الطفل على إتيانه هذا الفعل، على كون هذا القلم ملكا له أو لغيره؛ فقد يكون مكلفا بتناوله أو يكون بفعله هذا يسرق القلم، أو يريد نفع رفيق له، أو يعمل على أذيته وهلم جرا.
فإذا كانت نيته أن يفعل خيرا فالفعل خير في ذاته ولو أدى إلى شر، وإن كانت النية شرا فالفعل شر ولو أدى إلى خير، ومن ثم قيل: «كل ما يستحق الفعل، جدير أن يفعل على وجه الكمال.» وعليه فكل إنسان لا يبذل آخر جهده في أي شيء يتولاه، لا يمكن أن يسمى رجلا طيبا. وهذا ما دعا كارليل إلى أن يقول عن نجار - كان يشتغل في منزله: «إنه كان يخالف جميع الوصايا العشر في كل دقة من دقات قدومه.» ويقول أرسطو لا يكون الإنسان على شيء من الخير حتى تلذه الأعمال النبيلة ولا ينعت أحد بالعدل إذا هو لم تلذه الأعمال العادلة ولا بالكرم من لم تلذه المكارم وهلم جرا. ويقول ماثيو أرنولد: «إن السلوك ثلاثة أرباع الحياة.» ولكن لما كان السلوك يشمل كل الأفعال الاختيارية أو المرسومة فظاهر أنه يشمل الحياة كلها لا ثلاثة أرباعها فقط. (2) الخلق
الأفعال إذن تنتج خلقا؛ لأن: (1)
الأفعال التي يغلب تكرارها تصبح عادات . (2)
حاصل كثير من العادات يكون سلوكا. (3)
ميل الإنسان العاقل إلى نوع من أنواع السلوك يسمى خلقا.
وقال سمايلز: «يتجلى الخلق في السلوك، وإذا تأصل استطاع الناظر أن يتنبأ بما سيحدث من الأفعال. وبما أن الخلق إنما يكون من الأفعال الاختيارية فقد سمي «عادة الإرادة» وقد سماه استيوارت مل «إرادة مكيفة تكييفا تاما.» بما أنه الطريقة المعتادة التي تصرف بها الإرادة ميول الإنسان طبيعيها وموروثها.»
الفصل الثاني
المذاهب
المذاهب الأخلاقية الثلاثة الأساسية هي كالآتي: (1)
الافتطاري: يرى به أن الأفعال تكون حقا إذا هي طابقت قواعد مفروضا أنها واجبة حتما وبصرف النظر عن عقبى هذه الأفعال، وتكون باطلة إذا لم توافق هذه القواعد. (2)
اللذي أو الهدوني: يرى به أن الفعل يكون حقا إذا هو أدى إلى اللذة وباطلا إذا لم يؤد إليها، ويشمل: (أ)
اللذي الذاتي: وغرضه لذة الفرد أي لذة الذات. (ب)
اللذي العام أو الغيري أو النفعي. (3)
النشوئي أو الكمالي: وبه يرى أن الفضيلة الأدبية كلها سياق تدريجي من النشوء، يرمي إلى البلوغ إلى الذات المثلية العليا، وسنلم بكل من هذه المذاهب فيما يلي بإيجاز. (1) الافتطاري
Intuitionism
يذهب أهل هذا الرأي إلى أن كل الأفعال ضرورية في ذاتها بلا نظر إلى عواقبها أو الغاية المراد الوصول إليها أو تحقيقها.
فقول الصدق يعد واجبا لا؛ لأنه ضروري للحياة أو لأي سبب آخر؛ بل لأنه حق في ذاته.
وكل مذهب أخلاقي ينظر إلى الأفعال من هذه الوجهة يقال له مذهب «مستقل» أو «افتطاري» وسمي افتطاريا؛ لأن الذاهبين إليه يرون أن الإنسان قادر أن يميز بضميره صواب الأمر وصلاحيته مباشرة بلا ملاحظة ولا خبرة ولا تعليم، بل بالفطرة، ويعتقدون أن هناك قواعد للسلوك ظاهرة الصدق والصواب ظهورا مباشرا، وأن من العمل على هذه القواعد الكلية يتكون دستور أخلاقنا؛ أي دستور الفضيلة الأدبية.
ولكن الافتطاريين لا يزالون إلى يومنا هذا مختلفين في ماهية هذا المدرك بالافتطار أهو صواب الفعل؟ أم هو صواب المبدأ الخلقي؟ يقول بعضهم بالأول وبعضهم يقول بالثاني وفريق يقول: إن القانون الأدبي هو عبارة عن الخير الأسمى، فكأنه يقال إن هناك مبدأ أساسيا واحدا تتفرع منه سائر المبادئ وبه يمكننا فحصها.
والفريق الأول يرى أن في مقدرة الإنسان معرفة كون الفعل حقا أو باطلا بالضمير مباشرة، كما يمكننا أن نعرف - لأول نظرة - كون لون أي منظور أحمر أو أصفر (اللهم إلا إذا كان بالباصرة ذلك المرض الذي لا تفرق معه بين الألوان).
والفريق الثاني يرى أن الذي ندركه بالبداهة هو صدق المبادئ الأدبية الكلية، وأننا إذا نظرنا إلى فعل بعينه من الأفعال للحكم عليه فإنما يكون بتطبيق تلك القواعد العامة.
وعلى ذلك فإذا حكمنا أن طفلا في مدرسة غاش أو سارق؛ فإننا إنما ننظر إلى الفعل في كلتا الحالتين ونحكم عليه بمبدأ: أن الخيانة باطلة.
وعلى ذلك فالحكم الأدبي هو المقارنة العقلية، مقارنة فعل بعينه بأمر مفتطر أدبي، أعني: تطبيق مبدأ كلي شائع.
فالافتطاريون على هذا الاعتبار يعتمدون في إثبات صحة مذهبهم على وحي الضمير، ويدفعون بأن هذه الأمور المفتطرة؛ أي المبادئ الكلية معروفة مدركة لأول وهلة لدى الجنس البشري جميعه على اختلاف العصور وتباين المراتب بين أحط المتبربرين وأرقى المتحضرين، وأن الضمير أو الشعور الأدبي (كما يسميه بعضهم) هو غريزي في الإنسان كما هو شأن الحواس الطبيعية كالبصر والسمع وغيرهما وكما أنه قد لا تكون هذه الحواس في الإنسان تامة النمو فقد يكون الشعور الأدبي غير مستكمل النمو أيضا.
أما أشد ما يعترض به على الافتطارية فذاك أن الناس مختلفون في الحق والأمر الأدبي اختلافا كبيرا، لا فرق أن يكونوا في زمننا هذا أو غيره، ولا أن يكونوا من المتحضرين أو سواهم ولكن الافتطاريين يدفعون هذا الاعتراض بأن اختلاف الرأي لم ينشأ إلا عن الاختلاف في تطبيق القواعد الكلية على أحوال خاصة، وأن الضمير وإن لم يكن يدلنا على كل ما يدخل في نطاق الفضيلة الأدبية يدلنا على المبادئ الثابتة التي تتأسس عليها هذه الفضيلة، وأننا نوسع مشمول هذه المبادئ الثابتة بقدر ملاحظاتنا وتربيتنا وخبرتنا.
وقد حصر الدكتور كالدروود مبادئ الافتطارية فيما يلي: (1)
مفتطرات الحياة الفردية الخاصة بأنفسنا: الكد، الطهر، تنشئة النفس، كبح جماح النفس. (2)
مفتطرات الحياة الاجتماعية الخاصة بالغير: الإحسان، الإخلاص، العدالة، الصدق. (3)
مفتطرات الحياة العليا الخاصة بالله تعالى: المحبة، الطاعة، التقديس.
ولهذه المبادئ الخصائص الآتية: (1)
أنها عامة؛ أي أنها صحيحة مهما اختلفت الظروف والأزمنة والأمكنة. (2)
أنها ضرورية؛ أي أنها تصدر بحكم الضرورة من طبيعة الإنسان ذاته؛ إذ بغيرها لا يمكننا أن ندرك أي نتيجة أدبية مطلقا. (3)
أنها ظاهرة من تلقاء نفسها؛ أي لا تحتاج إلى البرهان على صحتها؛ لأنها مقبولة بمجرد فهمها، ولاختصار القول نقول إنها بديهية. (4)
أنها غير قابلة للشك فيها؛ أي يستحيل معها تصور الإنسان صدق عكسها.
وقد أورد الأستاذ توماس ريد (1710-1796) المبادئ الافتطارية في قائمة أطول من سابقتها، وأطلق عليها اسم مبادئ الآداب الأولى، وإنا نقتطف من هذه القائمة ما يلي: (1)
قال فيما يختص بالفضيلة على وجه عام: (أ)
إن في سلوك الإنسان أمورا جديرة بالثناء والرضاء وأخرى حقيقة باللوم والعقاب. وإن اختلاف الدرجات في الرضاء أو اللوم راجع إلى تباين الأفعال. (ب)
كل فعل لا اختيار لفاعليه فيه لا يستحق رضاء أدبيا ولا لوما. (ج)
كل ما كان فعله طوعا للضرورة التي لا مناص منها فإما أن يكون حسنا أو غير حسن، نافعا أو ضارا، ولكنه لا يمكن أن يكون موضوع اللوم أو الرضا الأدبي. (د)
قد يجرم المرء أكبر الإجرام بإهماله ما كان ينبغي له أن يفعله كما يجرم بفعله ما لا يصح أن يفعل. (ه)
أنه يجب علينا أن لا ندخر وسعا في الحصول على ما به نعرف الواجب.
1
وإنه يجب أن يكون أقصى ما نعنى به أن نؤدي ما علينا من الواجب بقدر ما نعرف منه وأن نحمي قلوبنا من غواية تحدونا على مخالفته. (2)
ما يختص ببعض فروع الفضيلة: (أ)
يجب علينا أن نؤثر أرجح الخيرين - وإن بعد - على الأقل وإن دنا، وأصغر الضر على أكبره. (ب)
يجب علينا أن نعمل وفاق ما أرادته الطبيعة بقدر ظهوره في تركيب الإنسان، وأن يكون عملنا ملائما لذلك. (ج)
لم يولد المرء لنفسه وحدها. (د)
يجب علينا - في كل حال - أن نعمل للناس ما نوجبه عليهم إذا نحن اكتنفتنا ظروفهم واكتنفتهم ظروفنا. (ه)
يجب على كل من يعتقد بوجود الله وكماله وعنايته أن يقدسه ويطيعه. (3)
فيما يختص بالقيمة النسبية لأنواع مختلفة من السلوك: (أ)
الشكر للمحسن مفضل على الكرم الذي يوضع في غير محله ويفضلهما حب العدل. (ب)
يفضل الإحسان إلى ذوي البؤس خلة الإحسان إلى ذوي الرغد، ونفضل أفعال الرحمة الدفينة على أعمال التقى الظاهرة.
على أن من ارتضى من الفلاسفة بمثل ما تقدم بيانا للمبادئ الأولى قليل بل عمد أكثرهم إلى نقص عدد هذه المبادئ إلى حدها الأدنى المستطاع وحاول أن يجد من بينها مبدأ أو اثنين يتفرع منها الباقي، فقال لوتز
Lotz
إن هناك مبدأ واحدا مفتطرا هو الإحسان الذي هو في الحقيقة أساس مذهب النفعية.
ويرى كانت
Kant
الفيلسوف الألماني أن أساس الفضيلة بأسرها هو «الرشد» وأنه يجب علينا أن نفعل ما نحب أن يفعله كل إنسان. قال لا حاجة بك أن تستخلص قاعدة لسلوكك من ملاحظاتك وتجاريبك ولا من غيرك أثناء تلقيك عنهم، فإن حجاك يبصرك ويهديك إلى ما يجدر بك فعله. وقد جمع «كانت» مبادئه جميعها في قاعدة واحدة هي «ليكن فعلك على المبدأ الذي تستطيع أن تريد صيرورته قانونا عاما.»
وقد بناها لوق
Locke
الفيلسوف الإنجليزي على فكرتين لاهوتيتين أولاهما أن هناك كائنا أعلى، لا حد لقدرته ولا لخبرته ولا حكمته، إلها نحن صنعه وعليه نعتمد وثانيهما أن الناس كائنات عاقلة مفكرة، فهو لذلك يرى أن الفضيلة الأدبية مبنية على حقيقة الله والعلاقة التي بين الناس وبينه تعالى لا على أساس الاقتضاء. (2) الهدوني أو اللذي
Hedonism
قد ينظر إلى الأفعال من حيث إنها ضرورية مؤدية أو تابعة لغرض إليه نرمي، أو هو نصب أعيننا.
وكل مذهب أخلاقي ينظر إلى الأفعال من هذه الوجهة يقال له طريقة «غير مستقلة»؛ لأنها مؤسسة على الغرض الخاص الذي نرمي إليه.
كل مذهب يرى أن اللذة هي الخير الأسمى أو الغرض الأقصى من الحياة يقال له لذي (وقد يسمى هدونيا نسبة إلى كلمة «هدون» اليونانية ومعناها اللذة أيضا).
يرى أهل هذا المذهب أن خيرية أي فعل من الأفعال هي فيما يجلبه هذا الفعل من اللذة: (1)
للفاعل أو الفرد ذاته: ويقال له اللذي الذاتي أو الفردي. (2)
أو للغير: ويقال له اللذي العام أو الغيري أو النفعي.
وهنا يجب أن نذكر أن المقصود باللذة أقصاها لا اللذة مطلقا وإلا لم نجد دستورا نقيس عليه ونحكم. فقد يوجد سرور مستمد من العمل على طرائق هي أبلغ ما تكون في التناقض.
كان لوق «لذيا» في الحقيقة؛ لأنه كان يرى أن السر في السلوك الأدبي ليس في دستوره بالذات، بل هو في الألم الذي ينشأ من عدم الخضوع لهذا الدستور، ومن اللذة التي تترتب على الإذعان له.
وهنا يمكننا أن نقول إن المتدينين بدين سماوي هم لذيون؛ لأنهم يعتقدون أن أسمى غايات الناس أو الخير الأعظم هو في التماس الجنة وما فيها من نعيم.
اللذي الذاتي أو الفردي
Egoism
يرى أهل هذا المذهب أنه يجب على الإنسان أن يسعى لخير نفسه الأعظم، وأن يفعل ما في وسعه لتحصيله، وعلى ذلك فكل فعل يكون حقا إذا هو أدى إلى ذلك وكل ما لم يؤد إليه يكون باطلا. وعليه فالمصدر الأصلي الوحيد والمنبع الأساسي الذي ينبعث منه الفعل هو حب الذات.
والسيرينيون
Cyrenaics (370ق.م) أول من رأى هذا الرأي فهم يقولون إن اللذة القصوى هي في إرضاء الشهوة، وإمتاع النفس وفي أنه يجب على الإنسان أن ينتهز سرور اللحظة الحاضرة في مرورها.
والأبيقوريون (270ق.م) ذهبوا إلى أرقى من ذلك درجة، وقالوا إن السعي وراء السعادة هو الفضيلة بعينها على أنهم أدخلوا التمتع الأعلى الاجتماعي والعقلي في ذلك ورأوا أن كل إنسان يجب أن يبحث عن سعادة حياته بأسرها وهو متمتع بسرور اللحظة الحاضرة.
وحاول هوبز (1580-1678) وأتباعه أن يفسروا كل الإحساسات الأدبية ودواعي الإحسان بأنها أشكال من رغبة الذات في اللذة. وقد قال إنه يجب أن ينظر إلى الأفعال ويحكم عليها من وجهة ما يمكن أن يستمد منها من المسرة، وإليك قوله:
كل ما كان محل الشوق من إنسان يسميه خيرا وكل ما كان محل الكره والمقت يسميه شرا، أو سيئا.
وعلى هذا القول، فكل ما يجب أن نعنى به هو البحث عن مصلحتنا الذاتية وخيرنا الخاص. ولكن مبادئ الأديان العالية تلك المبادئ التي تشرب النفوس خلة الإحسان وإنكار الذات جاءت بأرقى من ذلك مثلا وأشرف غاية، حتى أصبح هذا المذهب هملا لا اعتبار به؛ إذ لا شك أن جلال الحياة والأخلاق لا يتفق مع الأثرة ولا يجاريها.
ولا بأس أن نورد لك هنا ما يعترض به على مذهب اللذية الذاتية: (1)
إذا كانت كل الأفعال تصدر عن الأنانية فإن من الصعب - بل من المحال - أن نعرف الداعي لفعل أي نوع من الأفعال التي لا مصلحة للذات فيها، كالإحسان إذ الإحسان هو نقيض الأثرة. (2)
لا يمكن أن يستقيم للفضيلة ظل حتى يكون الفرد منظورا إليه من وجهة علاقته بالغير؛ أي من حيث إنه عضو من المجتمع، له من أجل ذلك حقوق وعليه واجبات. (3)
يترتب على اللذية الذاتية تخطئة أولئك الذين ينزلون عن لذائذهم أو يجودون بحياتهم أحيانا لمصلحة غيرهم، ورضاها عن أولئك الذين يضحون بسعادة غيرهم وحياتهم تحقيقا لمآربهم الذاتية.
اللذي النفعي، أو الغيري العام
Utilitarianism
أهل هذا المذهب يرون أن الفعل لا يكون حقا أو صالحا حتى يكون المقصود منه إعطاء أقصى ما يمكن البلوغ إليه من اللذة، أو السعادة لأكبر عدد من بني الإنسان، والعكس بالعكس.
وقد سمي بالنفعي؛ لأنه كان يرى أن الطبيعة الأدبية لأي فعل إنما تدرك بمنفعة هذا الفعل وفائدته في تحصيل اللذة أو السعادة، وقد كانت النفعية تعتبر مؤسسة على اللذية الذاتية؛ لأنهم قالوا إنه لما كان كل فرد يبحث عن لذته أو سعادته فسعادة الكل تصبح غرضا مشتركا بين الجميع ولكن لا يستلزم سعي الفرد للذته تحصيل لذة غيره. فقد يسعى أحدهم لتحصيل سعادة نفسه وليس له رغبة في سعادة غيره مطلقا .
وقد رأى بعض النفعيين في زماننا هذا فساد مبدئهم فعمدوا إلى القول بأن لذة الفرد ليست بالأمر الجوهري الذي يبحث عنه أو يرغب فيه، ولكن أصل مذهبهم وجوب السعي لتحصيل سعادة الناس جميعا؛ لأن العقل يأمر بذلك. ولكنهم لا يقولون لنا لماذا كانت أوامر العقل واجبة الاتباع، وعلى ذلك لا نزال نرى أن المبدأ العام الأساسي لكل من اللذي الفردي واللذي الغيري هو أن كل ما أحدث لذة حق.
وعلى هذا القول اعتراضات فقد قيل إنه إن صح هذا المبدأ: (1)
صح أنه لا يترك مجالا لأي فعل لا أثر فيه للمصلحة الذاتية ولا للغرائز الأصلية. (2)
وصح أن الأفعال الصادرة بدواعي المصلحة الذاتية أحق من الأفعال اللامصلحية، إذ ما دمنا نستمد لذة من الثناء والجزاء فخير لنا أن نفعل ما نفعل حبا في الثناء وفي الجزاء لا رغبة في أن نفعل ما نراه حقا؛ لأننا في الحالة الأولى نحصل لذة الجزاء وهذه اللذة إضافية. (3)
وصح أن دستور الحق والباطل لا يكون ثابتا؛ لأنه يختلف بالضرورة إذ ذاك باختلاف الأشخاص تبعا لنوع الأفعال متى يرون فيها أكثر اللذة لأنفسهم.
تلك هي جل الاعتراضات التي يقيمونها على المذهبين السابقين، ولكن أربابهما يدفعونها بقولهم: (1)
إذا ما عرف الإنسان أن يؤلف بين نتيجة طاعة غرائزه الأصلية وبين الغرائز ذاتها؛ فإنه لا مندوحة له من قصد هذه النتيجة إذا هو بعد ذلك أطاع هذه الغرائز. (2)
والأمر كذلك في الأفعال اللامصلحية؛ فإننا نتعلم أن ندرك جمال مثل هذه الأفعال، وإن في التفكير في هذا الجمال للذة. كما أننا في الوقت ذاته نعطف، وللعطف من إحداث سرور للغير لذة لازبة. (3)
إذا تعارض الحق واللذة، آثرنا الحق على اللذة بما أن الحق جزء من اللذة بل هو الجزء الأبقى.
هذا المذهب يرى أن السعادة يمكن أن تقاس بمقدار اللذائذ والآلام. ولكن جد الصعوبة هي في معرفة المدى والحد الذي إليه يمكن أن تقدر أو تقاس هذه السعادة؛ أي هي في اختيار وحدة ثابتة للقياس.
يرى بنتام «1748-1832» أن كل اللذائذ في صفتها سواء، ولكنها تختلف في شدتها، ومدة بقائها، وأمد اقترابها ومقدار التأكد من حدوثها ولكن ستيوارت ميل يخالفه في ذلك، ويرى أن اللذائذ تختلف في صفتها كما تختلف في شدتها ومقدارها، وهذا هو الرأي السائد.
ولكنا إذا اتخذنا من صفة اللذة وشدتها ومدى بقائها وغير ذلك مقياسا؛ فلا يزال يستحيل علينا معرفة حقيقة مقدار أي سعادة؛ وذلك أنه لما كان الناس - لاختلافهم - يجدون السعادة في أمور مختلفة فكل منهم لا يمكن أن يحكم إلا بما يصيب من اللذة لا بما يؤدي إلى سعادة الغير.
زد على ذلك أنه لا يمكن أن يعبر عن أي لذة بمقدار ثابت؛ لأننا إذا عمدنا إلى تحصيل شيء بعينه من اللذة لم يكن في تحصيله من اللذة ما يداني لذة تتأتى من مجيئه عفوا غير متعمل له. على أن القليل من اللذة قد يكون أدعى إلى التلذذ من كثيرها، وذلك لحصول التنوع فيه فضلا عن أن الأمر مرتبط بالظروف التي قد تحيط بنا وبحالتنا الجسمانية أي الصحية فما يخفى أن اللذة التي نشعر بها في أقصاها ونحن أصحاء تفقد بعض مقدارها إن لم تفقدها كلها إذا جاءتنا ونحن مرضى.
قد ينكر النفعيون المبدأ القائل بأن لذة الفرد الذاتية هي الغرض الأقصى من أفعالهم، دفعا بأن في رغبة المرء في الفضيلة والتماسها تطوعا كبيرا وسعيا عظيما إلى تحقيق سعادة الغير وإن لم يترتب على تلك الرغبة والسعي سعادة للمرء ذاته، وبأن أخص صفات الأفعال اللا مصلحية أنها تفعل كلها للذة الغير وحده وسعادته.
على أنه مهما أقيم من الاعتراضات على النفعية فإنه لا إنكار أن انتشار تعاليمها كان ذا أثر قوي فعال ثابت في تقرير الخير في العالم.
قال توماس جرين (1836-1882) في سياق الكلام عن النفعية: «إنها لم تشرب الناس شعورا أكبر بالواجب نحو الغير من سواها، على أنه ليس في المذاهب الأخرى ما يستطيع ذلك. وإنما هي تدعو أولئك الذين تنبهت قلوبهم إلى هذا الشعور أن يكونوا أكثر نزاهة في تقرير من هم «الغير » وأن يعتبروا بني آدم أجمعين هم هذا «الغير». على أن النفعية تدعو فوق ذلك إلى تقرير التساوي السياسي بين الناس وترقية مستواهم الاجتماعي، على مبدأ أن لكل فرد من الناس حقا في التماس نصيب من السعادة يعادل نصيب غيره.»
فمما تقدم يرى أن مذهب النفعية أثبت مذاهب الأخلاق حدودا وأقربها إلى العمل. (3) الكمالي، أو مذهب النشوئيين
وهناك فريق يرى أن الغرض الأسمى الذي ترمي إليه الفضيلة الأدبية هو الكمال؛ أي الصعود بالنفس إلى أعلى مراتب الإنسانية، وعلى ذلك يكون القانون الأدبي والفضيلة الأدبية هما في نظرهم نسق من النماء مطرد.
قال الأستاذ لويد مورجان شرحا لمبدأ الكمال: «إن غرضنا الذي نرمي إليه هو تحصيل المثل الأعلى من أنفسنا بترويضها وضبطها وهديها. والاستعاضة عن ضعيفة النفوس التي لنا بأخرى أصلح وأتم وأغنى وأصدق.» وقال الأستاذ جرين «الإنسان نهاية في ذاته.» فإذا أراد أن يبلغ درجة الرضا والارتياح فعليه أن يكمل نفسه.
الفصل الثالث
الشعور
يشمل الشعور نطاق اللذة والألم بأكمله. وهو عنصر جوهري في كل فعل مدرك. وإلا فإنه إذا لم تحصل لذة من فعل الفعل ولا ألم من تركه، وبعبارة أخرى: إذا لم يكن هناك تأثر متصل بالفعل؛ فلا فعل على الإطلاق.
وعلى ذلك فيمكن أن ينعت الشعور بأنه مصدر الفعل. بما أن كل الأفعال إنما تنشأ من رغبة في سد حاجة الشعور، ومن هنا نتبين خطورة أمر «التأثر» المشار إليه في التربية.
والشعور أهم البواعث على تنبه الإرادة كترقب لذة مثلا أو خشية خوف، وعلى ذلك فالشعور عامل خطير في التربية الأخلاقية؛ إذ لا يخفى أن نشوء العادات واختيار الإنسان منهجا بعينه من مناهج السلوك على اختلافها إنما يكون تبعا للذة أو الألم الذي يصحب الفعل. (1) نمو الشعور
إن سد حاجة نوع بعينه من أنواع الشعور لا يترك العقل على نفس الحالة التي كان عليها بالضبط قبل قيام الشعور بالنفس، بل تبقى من الفعل إثارة يصبح العقل بها مهيأ إلى الميل للفعل مرة ثانية على نحو ما فعل أول مرة، وكلما كانت الفترات بين سد حاجة الشعور مرة وأخرى متداركة كان الميل إلى انتحاء ذلك النحو من الفعل أعظم. مثال ذلك: إذا نحن كنا في ظروف توجه فيها التفاتنا بلا انقطاع إلى المحزنات؛ تملكنا الحزن بل ربما استقر في أنفسنا المرض وكذلك الأمر في الكآبة والغضب والطاعة وغير ذلك. نعم إن كثيرا من أمرها فطري ولكن توفيرها أو استئصالها ممكن بالترويض والمعالجة.
والشعور أو الإحساس يصبح مصاحبا لنوع الجهد الموقظ، فإذا كان الإحساس لذيذا كان الفعل المصاحب له مقبولا، والعكس بالعكس. فإذا أردنا على ذلك أن نحبب المدرسة ومعلميها وعملها إلى طفل من الأطفال؛ فالواجب أن يعمل على إزالة كل ما كان منها غير مقبول، ويترتب على ذلك أن العقوبات - وإن وجب فيها الإيلام - يجب أن توقع بحيث لا يبصرها كل تلاميذ المدرسة إلا إذا كان لضرورة لازبة؛ لأنه ينشأ من شهود توقيع العقاب آلام المدح والثناء، فيصحبهما شعور لذيذ، فيجب إذن أن يكونا علانية. (2) أقسام الشعور
يمكن تقسيم الشعور إلى ما يأتي: (1)
شعور ذاتي ويشمل: (أ)
شعور الحواس؛ «أي الشهوات» منبهات الحاجة العضوية، ويشمل الإحساس بالبرودة، والدفء، والجوع والعطش وأمثال ذلك، وهذه قد تنقلب «ولوعا باللذات». (ب)
الميل إلى الإجهاد العضلي «حب النشاط» الذي قد ينقلب «ولوعا بالقوة». (ج)
الانفعالات النفسية، وهي بواعث النفرة كالخوف والحسد والغضب والمنافسة وغير ذلك، وتسمى هذه الإحساسات أحيانا «بالإحساسات الاجتماعية»؛ لأن من يفرط فيها عرضة لاعتزال الجماعة وهذه الإحساسات قد تكون: (1)
موجهة إلى ما هو ماض كالغضب: وهذا قد ينقلب ضغنا. (2)
موجهة إلى ما هو حاضر كالنفور: وهذا قد ينقلب رغبة في الانتقام. (3)
موجهة الي ما هو مستقبل كالخوف: وهذا قد ينقلب ريبة.
فعلى المعلم أن يعمل على استئصال هذه الإحساسات. (2)
شعور غير ذاتي ويشمل: (أ)
إحساسات اجتماعية، وهي بواعث التجاذب، كالعطف والمحبة والود والشفقة. كل هذه الإحساسات صالحة داعية أهلها إلى التآلف؛ ولذلك يجب على المعلم أن يدعو إليها. (ب)
الإحساسات العامة أو الشعور الحقيقي وهو يشمل: (1)
الشعور العقلي أو التعجب ؛ أي الشعور بالحاجة إلى العلم الداعي إلى البحث عن الحقيقة. (2)
الشعور الحسني، أو الإعجاب والشعور بالجمال. (3)
الشعور الأدبي أو الاحترام والشعور بالواجب وحب الفضيلة، وداعي تقديس الذات الإلهية.
يتدرج الشعور على النسق المتقدم، فالشعور الذاتي أولا؛ لأنه أدنى مراتب الإحساسات، والإحساسات التي يتصل أمرها بالثواب والعقاب.
الملحوظ في الأطفال سرعة الانتقال من عاطفة إلى أخرى. لذلك كان أسهل على المعلم أن يثير في قلوبهم إحساساتهم من أن يحرك إرادتهم. بذلك يستطيع أن يشرب أفئدتهم حب الاستقامة والنبل؛ لأن الأمر الذي يصحبه انفعال نفساني يرسخ في الذاكرة رسوخا تاما، ومن هنا كان الخطيب الذي يهيج على نسق منطقي الشعور أبلغ من سواه.
وإذ كان الأطفال أقرب إلى التأثر من الكبار فهم أقرب إلى إجابة السؤال إذا استصرخ بإحساساتهم الراقية وشعورهم الكريم من الكبار؛ لأنهم لا يكونون إذ ذاك قد حسبوا لنتائج كل فعل حسابه ولا تدبروه كما هو حال الكبار. (3) حب الثناء وخوف التقريع
أمران فطريان في الأطفال جميعا. وهما من أقوى أسباب حسن السلوك.
على أن استعمال هذين الأمرين يحتاج إلى الحذر من جانب الوالد والمعلم، وإلا فإن استعمالها إلى حد بعيد أو مع التحيز وقلة العدل يذهب بحسن أثرهما؛ لذلك ينبغي أن يراعى في استعمالهما الحق والاعتدال، فلا يصح مدح الطفل لمجرد حصوله على حسن اقتدار فطري بل يجب أن يستبقى المدح للتفوق في الأعمال ولنبيل الجهد.
وكذلك لا يصح تعنيفه لمجرد أنه غير حاصل على حسن اقتدار فطري، بل يستبقى ذلك له إذا هو لم يستعمل مواهبه الفطرية كما يجب، على أن فرط المدح والثناء يؤدي بالطفل في الغالب إلى الصلف ولكن مهما يكن من الأمر فإن تجاوز حد الاعتدال في المدح خير من القصور عنه. هذا وإن الجد في البحث عن أخطاء الطفل واكتشافها وتأنيبه عليها لا يلائم خلة العطف التي لا مندوحة من وجودها بين المعلم وتلميذه، ولذلك يجب تجنبها.
الفصل الرابع
الشعور
(1) حب الحركة
الأطفال ذوو نشاط بالطبع، فلا يمكن أن يقلعوا عنه أو يقفوا عن الحركة، بل هم متحركون دائما ولا بد لهم في أوقات التنبه أن يفعلوا شيئا.
ولا يخفى أنه يصعب على الإنسان حتى ولو كان كبير السن أن يظل بلا حراك مدة طويلة، وإلا أدى الأمر إلى اعتقال العضل، فلا يصح - من باب أولى - أن يكلف الأطفال الجمود على وضع واحد مدة طويلة.
ونقول إن لحالة الجسم أثرا في الفؤاد، فإذا أراد المعلم أن يؤدي عقل الطفل عمله أحسن تأدية فليعن بصحة الجسمان، ويتضح مما تقدم أنه لا يصح أن ينتظر من الأطفال جلوسهم بلا حراك لا يعملون شيئا وبناء على ذلك يجب أن يترك لهم في الدرس فرصة يفعلون فيها شيئا علاوة على مجرد الالتفات إلى معلمهم. قال الأستاذ جوزيف بين:
يندر أن يرتاح الأطفال إلى الجلوس بلا عمل؛ فإن القلق والاضطراب اللذين يصادف منهما الأمهات والمعلمون متاعب جمة، هما - في الحقيقة - شيء من محاولة الروح بواسطة الجسم الحصول على عمل لما انطوت عليه من القوى. فإذا أراد المعلم أن يصرف عنه المشقة فما عليه إلا أن يسد حاجة نفوس الأطفال بأن يهيئ لهم أمرا يشتغلون به. بذلك يقف قلق أفكارهم وإضراب ذهنهم؛ إذ تتوجه وتنحصر في العمل الذي بين أيديهم، وبذلك يكون العقل في هدوء وهو في شغل شاغل.
ونقول إنه إذا لم تكن أيدي الأطفال مشتغلة بشيء أثناء الدرس فلا بد أن تكون عالقة بأذى أو مثل ذلك، اللهم إلا إذا كان المعلم لهم في حلاوة الدرس شغل عظيم؛ لذلك ينبغي أن يبتدع شيئا يشغل أيديهم كرفعها إشارة إلى الاستعداد للإجابة على سؤال، وكالتأشير أو الكتابة أو الرسم على السبورة، وغير ذلك. (2) العطف وعلاقته بالثواب والعقاب
العطف مشاركة الغير في شعوره بالتألم أو الفرح له. ويمكننا أن نقول إن إنصاف المرء أخاه هو في الحقيقة مجرد عطف ممثل بالعمل؛ لأن العطف يدفع من قد يكون متهيئا لفعل الشر إلى أن يحل نفسه محل المأذي.
إننا في حالة العطف نتمثل شعور الغير في أنفسنا. ولكن ليس للعطف من سبيل إلى قلوب الأطفال حتى يكونوا قبل ذلك قد عرفوا مدلول كثير من علامات الألم والحزن والسرور وهلم جرا، ولا بد لهم لمعرفة هذه العلامات أن تكون هذه الإحساسات قد قامت في أنفسهم. ومن هنا يرى استحالة قدرة الطفل الصغير على مشاركة رجل كبير في عواطفه؛ لأنه لا يدركها.
هذا وإذا أمكن إغراء الطفل أن يقسم لعبه بينه وبين طفل آخر ففي هذا أول مظاهر العطف الناشئ في الفؤاد.
إذا دخل الطفل المدرسة لأول مرة فإن غرضه من العمل الحصول على ثناء معلمه، وهذا باعث ذاتي أناني، ولكن إذا نشأ العطف بين التلميذ والمعلم فإنما يكون اجتهاده وحفظه دروسه ليرضي معلمه. وهذا شعور لا شخصي فضلا عن أنه شعور أرقى بكثير من مجرد حب الثناء.
فلكي ينشأ العطف بين المعلم وبين الأطفال الذين وكل إليه أمرهم، ولاستبقاء هذا العطف؛ يجدر بالمعلم أن يظهره لهم، وذلك بمشاركتهم في مساءاتهم ومسراتهم على السواء. بذلك يحصل على ما يريد منهم من مشاركتهم إياه في رغباته.
هذا ويجب على المعلم عند المعاقبة والإثابة أن لا ينسى أثر العطف.
نعم إنه يستحيل غض النظر عن الإحساسات الدنيا التي في الأطفال، ولكن يؤثر أن يكون الجزاء في فرق الأطفال الذين هم أكبر من السابقين سنا، بألفاظ المدح والثناء لا بالمكافآت المادية وإلا ظن الطفل أن قيمة المكافآت المادية أعلى من صواب الفعل الذي من أجله منحت هذه المكافأة. ويحسن أن لا يعتاد المعلم منح «درجات» لكل درس من الدروس وإلا اعتاد التلميذ العمل لمجرد الحصول على شيء من الجزاء أو المكافأة، وهناك تنشأ المنافسة والمباراة، وكلتاهما قاضية على خلة العطف.
ولما كان تألم الإنسان لآلام غيره أسهل من سروره لما يناله من السرور؛ فإنه يصعب أن يسر المعلم الغرفة بأجمعها بمنحه واحدا منهم مكافأة. فلا يصح أن يكون منح المكافآت محاباة من المعلم أو سواه، بل يجب أن تمنح من أجل المواظبة ولمن يكون من الأطفال قد آذن بترك المدرسة وكان قد أحسن العمل فيها .
ولهذا السبب أيضا لا تصح معاقبة طفل أمام قرنائه في الفرقة وإلا فإنهم إن انصرفوا لحظة عن التفكير في الذنب الذي من أجله يعاقب قرينهم ضاع أثر العقاب من نفوسهم بعطفهم عليه.
عطف الجماعة
أفعال أي شخص تتأثر بأفكار من يحيطون به وبأفعالهم. والأطفال على وجه التخصيص ميالون إلى التقليد. فالطفل في المدرسة يفعل ما يفعله إخوانه. فإذا كانوا ملتفتين أو مطيعين كان ذلك، والعكس بالعكس. فأما إذا لم يفعل كما يفعلون فإنه يخرج بذلك من حيز مشاركتهم ويعتزلهم ويصبح في نفسه كيانا مستقلا بذاته، وهو أمر لا يخفى عن إخوانه فينبرون من أجل ذلك إلى اضطهاده والسخط عليه.
وقد عبر عن هذا بعطف الجماعة، وهو من أهم العوامل في التربيتين الأدبية والعقلية.
من هنا نرى الحاجة إلى انتشار روح أدبية في المدرسة؛ إذ إن الطاعة والالتفات والاجتهاد أمور لا يبديها الطفل في المبدأ إلا تقليدا ومعاطفة لا حبا منه في القيام بصالح الأعمال. (3) الشعور العقلي
هو الإحساس والميل إلى المعرفة قد يسمى أحيانا غريزة العجب أو غريزة حب التعلم. وبما أن الأطفال مستفسرون بالطبع، ولا ينفكون عن السؤال؛ فإنه يجدر بالمعلم أن ينمي هذا الشعور ويجيب طلبته. وليذكر المعلم أنه يجب أن يعمل على طبع حب العلم لذاته في أذهان الأطفال.
الميل إلى الجمال
هو الشعور بالحس، وللأطفال من شهود الأشياء مسرة فهم يبتهجون من رؤية الأزهار والألوان الزاهية والصور، واستماع ألحان الموسيقى وأمثال ذلك. فيمكن - والحالة هذه - الانتفاع به في التربية؛ إذ إن مثل هذه الأشياء يعين على حصول التنبه والالتفات.
الإرادة
هي قدرة العقل على إيضاح آرائه وإحساساته فيما تسميه فعلا، ويمكن تعريفها بأنها جهد موجه إلى غرض محدود أو فاعلية ذاتية تظهر في الإصرار الذاتي والتكيف الذاتي.
فإذا هممنا بفعل لغرض مقصود استلزم ذلك شيئا من جهة الإرادة، ولكن لا يتوقف هذا الفعل على وجود غرض مقصود فحسب، ولكن على اختيار الطرق التي تفضي إلى هذا الغرض أيضا.
وتتضمن الإرادة كل الإدراك والشعور؛ لأنها تشمل كل الأفعال التي يدفعها الشعور أو يحض عليها أو يكون الشعور مرشدا إليها، ويمكن أن يقال إن الإرادة مبنية على: (1)
أننا نرغب في اللاذ وننصرف عن المؤلم. (2)
إذا كانت اللذة أكبر أو الألم أشد كان العقل أشد جهدا. (3)
يتوقف مقدار الجهد على حالة الأعضاء الجسمانية، وعلى ذلك فكل فعل من أفعال الإرادة يشمل: (أ)
الشعور: إما باللذة أو بالألم. (ب)
الرغبة: في الانتقال إلى حالة أو شأن يخالف الحاضر. (ج)
التدبر: في فعل الفعل أو تركه. (د)
التحيز والعزم: على فعل الفعل.
نمو الإرادة
إن لنمو الإرادة ثلاثة أدوار:
الأول:
دور الفعل غير الاختياري أو الغريزي في الطفل، مثل صراخه ورفسه؛ فإنهما ليسا مرسومين من قبل، بل يحدثان من غير إدراك الإرادة الحقيقية ولا موافقتها.
الثاني:
دور الاختيار، وذلك إذا فعلت هذه الأفعال بقصد ولكن من غير تدبر ولا تخير حقيقي. هنا لا يكون للفعل إلا دافع واحد هو إجازة الإرادة بالفعل دون ضبطها له.
الثالث:
دور التدبر، وهنا يكون للفعل دافعان على الأقل، أحدهما لفعل الفعل وثانيهما لتركه، والفعل في هذه الحالة يكون بإجازة الإرادة وضبطها له.
فظاهر مما سبق أنه كلما كان الطفل أحدث سنا كانت قوة إرادته أقل نموا. وظاهر أيضا أن سير النمو يبتدئ من دور الفعل غير الاختياري، وينتهي إلى دور الفعل الاختياري أو المتدبر، وبعبارة أخرى من دور الاندفاع إلى دور الرشد.
الفصل الخامس
الفضيلة الأدبية والقانون
الفضيلة الأدبية هي الخضوع للقانون الأدبي. والقانون الأدبي هو مجموع قواعد السلوك التي يحس الإنسان بأنه ملزم بالعمل عليها. وعلى ذلك فالفضيلة الأدبية تشمل الخيرية في الفعل بصرف النظر عن خيرية النفس.
وأصل هذه القواعد السلوكية فيما فطر الناس عليه من الميل الغريزي إلى ايلاف أنفسهم زمرا وجماعات، فهم من أجل ذلك مرتبطون بعضهم ببعض في العائلة ومرافق الحياة والمجتمع المدني والدين وفي الحكومة.
ومن ثم نشأت الحاجة إلى القوانين مدنيها وأدبيها، وإلا فإذا كان من خليقة الإنسان أن يعيش وحده لما كانت هناك حاجة إلى تلك القوانين لامتناع الجرائم التي يعاقب عليها، وحينئذ لا تقوم فضيلة ولا تتضع.
ولكن لما كان الناس مفطورين - كما قلنا - على الارتباط بعضهم ببعض بروابط، وكان لكل فرد في علاقته بغيره من أعضاء المجتمع أو الزمرة التي يعيش فيها حقوق محدودة وامتيازات معروفة؛ فلكي يكفل تمتعه بهذه الحقوق والامتيازات ألقيت عليه إلزامات محدودة وتبعات موضوعة هي القواعد أو الأوامر أو القوانين. (1) القوانين
يمكن استعمال كلمة «قانون» لمعنيين متباينين:
أولا:
قد يفيد اللفظ معنى قاعدة أو أمر يجب الخضوع له. وهذا الأمر وضعته سلطة عليا قادرة على تنفيذه. ومن مجموع هذه الأوامر تتكون قوانين البلد أو الحكومة، وهذه قابلة للتغيير وقد تخالف اختيارا وإن كان مخالفها معرضا للعقاب.
ثانيا:
قد يفيد اللفظ معنى النظام الذي يشعر بوجوده بين مظاهر معينة من مظاهر الطبيعة كما يقال «قانون الطبيعة»، وتلك قوانين لا تتغير ولا تخالف.
فالقوانين التي قد تتغير أو تخالف إذا تغيرت الأحوال التي تقتضيها تسمى «فرضية»، ومعنى ذلك أنها صحيحة على فرض أو زعم أن هذه المقتضيات لا تتغير.
أما القانون الأدبي فهو غير متغير وإن أمكن أن يخالف اختيارا. وهو سار على الناس جميعهم في كل زمان ومكان وكل ظرف وحال. وليس فرضيا؛ لأنه لا يتغير بحالة ولا فرض بل هو حتمي لا استثناء فيه، وهو في الحقيقة أمر أو إلزام لا مفر منه.
وقد نعت العالم «كانت» هذا القانون الأدبي بقوله: إنه إلزام حتمي؛ أي أنه قطعي أو أمر ليس له استثناء.
الفرق بين القانون الأدبي والمدني
الفرق بين القانونين هو: (1)
القانون المدني أو قانون البلد هو فرضي، وهو قابل للتغيير، أما القانون الأدبي فهو حتمي غير قابل للتغيير. (2)
قد يكون القانون المدني فاسدا، ولكن القانون الأدبي بطبيعته لا يمكن أن يكون كذلك. (3)
إذا كان القانون المدني صالحا فهو داخل في القانون الأدبي، ومكون جزءا منه؛ لأن هذا أعلى وأشمل. (4)
لا يعنى القانون المدني إلا بالأفعال، أما القانون الأدبي فبالأفعال وبواعثها أو ما كان له تأثير في هذه الأفعال. (5)
القانون المدني تشرعه وتنفذه سلطة خارجة كالحكومة. ولكن القانون الأدبي تشرعه وتنفذه سلطة باطنية، هي الضمير أو الوجدان. (6)
القانون المدني لا يتطلب من الفرد إلا أن يرعى الواجبات التي هي ضرورية لاستمرار الحياة الاجتماعية؛ أي المجتمع، ولكن القانون الأدبي يتطلب من الفرد أن يكون من الصلاح على ما يستطيع؛ أي أن يعيش به على أرقى مثل في الحياة. (2) الإلزامات الأدبية، أو ما ينبغي
كل ما يربطنا هو إلزام. وفي الاصطلاح القانوني هو رابطة تشمل العقوبة عند التقصير، ففي الإلزام معنى الخضوع والطاعة للقانون، ومنها تتألف سلطة القانون الأدبي. والمراد بالإلزام الأدبي ما يدعونا إلى اعتبار القانون الأدبي ساريا علينا ملزما لنا.
الناس جميعا يسلمون بإلزام القانون الأدبي، فلا مشاحة فيه، وأسباب ذلك: (1)
أن الإلزام يقوم على الصفة الافتطارية للمصدر الذي يكشف عن القانون. (2)
أن الإلزام يقوم على القانون المكتشف افتطاريا، ولا سيما على أنه عام غير خاص. (3)
أن الإلزام يعتمد على الجزاءات التي ينفذ بها القانون الأدبي، والتي بها يعاقب على كل الأفعال التي لا تكون وفاقا لهذا القانون.
الجزاءات
الجزاء يشمل الآلام واللذائذ التي تتعلق بأي قانون، فالآلام هي القصاصات أو العقوبات المترتبة على عدم الطاعة، واللذائذ هي المكافآت على الطاعة.
وبما أن القانون المدني إنما يحاول به منع الفعل السيئ، ولا يعمل على تنشيط الأعمال الصالحة أو المكافأة عليها؛ فالجزاءات القانونية تفيد القصاص فقط، ولكن الجزاءات الأخرى تشمل المكافآت واللذائذ المترتبة على الطاعة للقانون، كما تشمل القصاصات والعقوبات المترتبة على عصيانها.
تقسيم الجزاءات
تنقسم الجزاءات إلى ما يأتي: (1)
جزاءات جسمانية صادرة عن الطبيعة وقصاص هذه نتيجة الإفراط البدني وغيره، مثال ذلك ما يصيب الإنسان من المرض والآلام وأمثالها والصحة أيضا. (2)
جزاءات أدبية وتنقسم قسمين: (أ)
الجزاءات الأدبية الخارجية أو الجزاءات الاجتماعية؛ أي التي تصدر عن رأي الجماعة أو رأي الإخوان مثال ذلك المحبة والكراهة والمودة والاحترام، وأشباه ذلك. (ب)
الجزاءات الأدبية الباطنية؛ أي الآلام التي يسببها الضمير أو الوجدان كارتياحه ووخزه وهلم جرا. (3)
الجزاءات القانونية أو السياسية، وهي العقوبات التي توجبها قوانين البلد. (4)
الجزاءات الدينية؛ أي أنواع الثواب والعقاب التي قسمها الله تعالى، مثال ذلك الجنة والنار.
إن استعمال الجزاءات مفيد من حيث إنه يساعد على إحداث عادات حسنة تفضي إلى حسن السلوك. ولكن يجب على المعلم في المدرسة أن يستفز الراقي من إحساسات الأطفال، فأما استعمال الجزاءات - وهي ضرورية للأطفال الصغار - فيجب أن يتدرج فيه على الرجعى شيئا فشيئا حتى لا يعمد إليها.
الفصل السادس
الضمير أو الوجدان
يرى الافتطاريون أن من قوى العقل قوة أدبية خاصة تميز الحق من الباطل لأول وهلة، تلك هي الضمير. هذا الضمير أو الوجدان هو - في نظرهم - مبدأ الأخلاق الأعلى.
فالضمير إذن هو القوة العقلية التي تشعر وتدرك بالبداهة صفة الثبات من المبدأ الأخلاقي، أو هو قوة الافتطارية للحكم الأدبي الذي نصدره على أفعالنا.
فإذا عرض علينا منهجان من السلوك في آن واحد فإنا نشعر على الفور بأن أحدهما أرقى من الثاني أدبيا أو أحق منه أو أنه أكثر انطباقا على القانون الأدبي من الثاني.
هذا الشعور هو المقصود بقولنا «الضمير أو الوجدان»، وقد يسمى الضمير أو الوجدان بالحاسة الأدبية لاقتداره على التمييز بين القيم الأدبية لأفعال مختلفة.
وقد رأينا مما سبق أن الضمير يكشف عما في أنفسنا من مبادئ القانون الأدبي فلا يمكن والحالة هذه أن يخطئ ولا يمرن ولا يربى ولا يمكن أن يعد مسئولا عن أحكامنا الأدبية أو شعورنا؛ لأنه ليس إلا كشافا، وظيفته الإبانة فإذا أخطأنا في الحكم فما يكون الخطأ من الضمير ولكن من سوء ما فسرنا به المبادئ التي يبين عنها الضمير ومن خطأ في تطبيقها.
فيرى الافتطاريون أن الضمير إذن: (1)
افتطاري؛ أي يحكم مباشرة كما تحكم حاسة البصر والسمع وغيرهما؛ ولذلك فهو لا يحتاج إلى تهذيب بما أن الحق والباطل معروفان بالغريزة. (2)
لا يمكن تحليله إلى أصول أولية. (3)
عام؛ أي أنه موجود في الناس كافة. وأنه خلقي كسائر قوانا العقلية.
ولكن هذا الضمير في نظر الأنانيين والنفعيين هو الشعور بالألم الذي يسببه سوء السلوك؛ أي شعور الإنسان أنه بما أساء جدير باللوم أو العقاب لو تكشف الأمر للناس، وبما أننا نحاول تحصيل اللذة واجتناب الألم فالضمير إنما يتخير اللاذ ويتجنب المؤلم، وأنه ليس إلا شعورا بما يهم الذات.
فضميرنا على هذا هو صدى الرأي العام في نفوسنا أو صورة منبعثة منه عليها.
أهل هذا الرأي يرون أن الناس تحكم علينا قبل أن نحكم نحن على أنفسنا على أن الأمر على النقيض من ذلك؛ لأننا نمدح أو نذم أنفسنا بصرف النظر عن مدح الناس أو ذمهم إيانا، وإننا بشعورنا بصوابنا أو خطأنا نعبر عما يحكم الناس به على أعمالنا.
وعلى هذا الرأي أيضا ينبغي أن نشعر بالأسف والوخز لأي خطأ في سلوكنا ولو كان تافها لا للخطأ الأدبي وحده نظرا إلى أن ضمائرنا قد تتهمنا بالجرم والناس ترضى عنه أو ترتاح لعمل والناس تأباه.
فالضمير على هذا الاعتبار هو دستور أحكامنا الأدبية الثابت، فمبدأه ومنتهاه في ذات الفرد وحده ولكنه يستمد سلطته من تلك المفتطرات الأدبية أو المبادئ التي يكشف لنا عنها.
على أن بعض الناس لا يرى الضمير فطريا كالسمع والبصر، بل يعتقد أنه نتيجة الوراثة والتربية معا.
إنا نتقبض بالفطرة من كل ما هو مؤلم أو غير لاذ كاستهجان الناس، ومن العقاب، ولا شك أن هذا التقبض من الألم موروث عن آبائنا، وإننا نتعلم على التدرج إسناد الألم إلى كثير من الأفعال التي نحذر منها، فتكتسب نفوسنا بذلك كراهية هذه الأفعال وخشيتها؛ لأن نتائجها الألم والشقوة، وقال الأستاذ «بين»
Bain : «إن كل ما يقوم بنفوسنا أو نفهمه من قولنا «سلطة الضمير» أو «الشعور بالإلزام» أو «الإحساس بالحق» والتبكيت، ليس إلا صيغا من التعبير عن هذه الكراهية المكتسبة» فالضمير إذن مركب من جزأين: (1)
شعور باللذة أو الألم مسبب عن الفعل ذاته. (2)
قرار أو حكم على الصفة الأدبية التي للفعل.
من هنا تتضح ضرورة دفع أخطاء الأطفال في حينها.
وهناك عوامل أخرى تعمل على تنمية الضمير في الأدوار التي تلي الطفولة الأولى، غير الخشية من النتائج المؤلمة؛ كالرغبة في إحداث مسرة لمن نحب أو لمن نعنى بأمرهم والرغبة في سعادة الغير واستقامة حاله، والعطف وغير ذلك؛ كل هذا يعمل عمله في تنمية الضمير.
ما ضمير الإنسان إلا مطابقة أعماله لدستور الحق الذي أقامه هو بنفسه لنفسه أو عدم مطابقته، فإذا كان هذا الدستور ناقصا كان الضمير ناقصا، وفي هذا دلالة وبيان لخطورة أمر المنزل والمدرسة في تربية أخلاق الطفل وآدابه على دستور أخلاقي صحيح تغرسه في نفس الطفل يد الأسوة الحسنة، كما يوحى إليهم بالإشعار.
الفصل السابع
الواجب
الواجب لغة من الوجوب؛ أي اللزوم والثبوت، وهو في الاصطلاح ما يتحتم عمله بأي إلزام، أو هو ما ينبغي أن يفعل فواجباتنا إذن تشمل كل ما يتعين علينا أن نفعله، فهي لذلك كل أشكال السلوك الصالح.
على أننا نطلق لفظ «الواجب» على تلك الأفعال التي يقتضي فعلها باعث أدبي، والتي يحتمل ترددنا في فعلها لو لم يكن لها جزاء أدبي متصل بها. (1) تقسيم الواجبات
تقسم الواجبات إلى: (1)
واجبات تتعلق بالفرد، أو الواجبات الذاتية، كالجد والطهر وتنشئة النفس وكبح جماحها. (2)
واجبات تتعلق بالجماعة. أو الواجبات الاجتماعية كالإحسان والأمانة والعدل والصدق. (3)
واجبات قبل الذات الإلهية كالمحبة والطاعة والتقديس. على أن هذا التقسيم غير قطعي، فقد يلتقي قسم بقسم في شيء وقد يمتد نطاق واحد إلى الثاني؛ وذلك لأن كل واجب قد يدخل تحت الأقسام الثلاثة المذكورة تبعا للوجهة التي ننظر منها إلى هذا الواجب.
وقد قسمت أنواع الواجبات باعتبار جزاءاتها إلى قسمين: (1)
الواجبات الحقيقية. أو الواجبات المحدودة. أو الواجبات الإلزامية التامة. وتلك ملزمة دائما، ويجب أداؤها بطريقة معينة وفي زمان معين، وهي بحيث يمكن أو يجب أن تنفذها الجزاءات القانونية، كالأمانة والصدق وهلم جرا وتلك واجبات تتطلبها الفضيلة الأدبية والقانون المدني على حد سواء. (2)
الواجبات المحدودة. أو الواجبات الإلزامية غير التامة، وهذه ملزمة دائما، ويجب أداؤها ولكن الظرف والزمان متروك أمرهما لرأي الفرد، مثال ذلك الشكر والكرم وهلم جرا. هذه الواجبات لا يوجبها القانون المدني ولا ينفذها، ولكن الفضيلة الأدبية توجبها.
فالواجبات الحقيقية إذن هي تلك التي يقضى علينا بحق أن نفعلها؛ رعيا لمصلحة الجماعة، فإذا ترك أداؤها كان الترك نقضا للعهد وقضاء على آمال الغير فطريها وشرعيها.
من ثم قيل إن كل واجب غير محدود هو أرقى من الواجب الحقيقي وأربى عليه كما يفضل الإحسان العدل.
على أن الفضيلة النفسية تشمل نوعي الواجبات كليهما ولا تفرق بين نوعي الإلزام القاضي بأدائها.
ويستعمل لفظ «حق» أحيانا مقابلا للفظة «الواجب» فكل ما علينا للغير هو واجبات، فإذا نحن أدينا هذه الواجبات؛ فإننا نؤدي لهم حقوقهم وعلى ذلك فواجباتنا حقوق للغير علينا، وحقوقنا واجبات على الغير لنا.
وقد تقسم الحقوق إلى ما يأتي: (1)
حقوق طبيعية: مثل حقوق الحياة والحرية، وأمثال ذلك. (2)
حقوق مكتسبة: مثل حقوق الملك والوراثة، وأمثال ذلك. (2) الفضيلة النفسية
الفضيلة النفسية هي الصفة الخلقية التي تجعل الإنسان أهلا لأداء واجبه على أتم ما يكون. وقد تطلق على الرجولة، وتشمل في معناها كل ما كان فاضلا في تركيب الإنسان البدني والأدبي، كالقوة والشجاعة والفضل والكمال، وهكذا.
أما الفضائل النفسية الآن فهي تلك الصفات والميول الخلقية التي يجعلها الاستمرار على صالح الأعمال مألوفة معتادة حتى تبدو مظاهرها في حسن السلوك؛ أي بالائتمار بالقانون الأدبي والانتهاء به ولزيادة الإيضاح نقول إن الرجل الفاضل هو من كان خلقه قد نما وارتقى بحيث يختار العمل على مقتضى القانون الأدبي؛ أي أن يعمل صالحا بطريق الاعتياد والألفة كأنما ليس له إلا هذا السبيل.
يقول «لوق» إن أمتن أساس للفضيلة هو أن ينكر الإنسان على نفسه رغائبها ويتخطى ميوله الذاتية ويتبع ما يوحي الضمير إليه بخيريته ولو مالت الشهوة إلى غير جانب الضمير.
فالفضائل إذن هي عادات اختيار صحيح، وهي قائمة على الإرادة.
فمن هنا يتضح أن الممارسة هي سبيل الكمال في الحياتين الأدبية والعقلية على حد سواء. وما دامت الفضيلة لا تكتسب إلا بالاعتياد فلا غرو إن سميت عادة. وقد جرى العرف بإطلاق لفظ «فضيلة» بصيغة المفرد على كل فعل يتعدى حد الواجب؛ أي على ما كان فائقا ساميا يستوجب الثناء الخاص. وبإطلاق لفظ «فضائل» بصيغة الجمع على الأفعال التي تنطبق على القانون الأدبي وعلى ذلك فهي تشمل الأفعال التي نسميها نحن واجبات.
فيستنتج مما تقدم أن الفضيلة لا توجد إلا إذا وجد فعل؛ لأنها منسوبة إليه ومؤسسة عليه.
كان سقراط يرى الفضيلة اسما آخر للعلم، وأن الرذيلة والشر أمران غير اختياريين بما أنهما إنما ينشآن عن قلة العلم، وهذا القول صحيح من وجه؛ إذ يستحيل على المرء أن يعمل صالحا - أي أن يكون فاضلا - حتى يدرك ويتبين الفرق بين الصالح والطالح والحق والباطل.
ولكن العلم وحده غير كاف؛ إذ ليس المقصود مجرد معرفة الإنسان وتبينه حد الحق من الباطل والصالح من الطالح فيكتفي بذلك، بل تملك الإنسان قوة الإرادة الضرورية لكي يفعله.
عرف أرسطو «الفضيلة» فقال هي عادة اختيار الحد الوسط بين طرفين؛ إذ إن طيب الفعل لا يوجد في الغالب إلا بين شيئين أحدهما زائد والثاني ناقص مثال ذلك الشجاعة؛ فهي وسط بين الجبن والتهور، والإحسان وسط بين الشح والإسراف، وهكذا، ولكن هذه القاعدة لا تستقيم دائما:
أولا:
لأن الفضيلة - في نظرنا - هي أرقى ما يمكن أن يصل إليه جهد جاهد؛ فهي طرف في ذاتها لا وسط، فالقول بأن الفضيلة توفيق بين رذيلتين يكاد يكون من الأحاجي.
ثانيا:
لا يكون الوسط من الطرفين على مسافة واحدة في كل حال، مثال ذلك الشجاعة؛ فإنها عن الجبن أبعد منها عن التهور كما أنه ليس من السهل معرفة ماهية النقص أو الزيادة؛ أي ماهية الطرفين.
ثالثا:
ليس بين أيدينا دستور نعرف به الوسط، زد على ذلك أن أرسطو يتخذ من الرجل ذي الذكاء العادي دستورا، وهذا الاعتبار غير سليم.
يرى الأنانيون أن الحزم هو مصدر الفضيلة، ويرى النفعيون أن الإحسان أساس كل فضيلة، وقسم بعضهم الفضيلة أقساما، وفاقا لما لكل منها من القيمة النسبية، ولكن هذا التقسيم لا يعول عليه؛ لأن قيمة كل فضيلة غير ثابتة لتغيرها بتغير البلاد والأزمنة والأشخاص.
ولكن لا بأس بالتقسيم التالي؛ لأنه يشمل أظهر الفضائل وأشملها لما لم يذكر، وهي على هذا الترتيب: الإحسان، الشجاعة، العدالة، التعفف، كبح جماح النفس، الصدق.
وإليك شرح كل من هذه الفضائل، على وجه الاختصار.
الفصل الثامن
النظر في الفضائل بالتفصيل
(1) الإحسان
المراد بالإحسان ميل الإنسان إلى أن يفعل للناس خيرا، أو يظن بهم خيرا، وهو في حقيقة معناه مراعاة مسرات الآخرين ومساءاتهم والإحسان عند النفعيين هو المبدأ الوحيد الذي يجب أن يكون له أثر في كل فعل من أفعال الإنسان.
يبدو الإحسان بطرق كثيرة، فقد يظهر بل يزاول حيث العلاقة بين المحسن والمحسن إليه علاقة لا اختيار للشخص فيها مثل: (1)
الإحسان إلى الأقارب: كالرحمة البنوية والتعلق بالعائلة، وأمثال ذلك. (2)
الإحسان إلى الجوار الذي نعيش فيه الذي يسمى «بالروح العامة» وغير ذلك. (3)
الإحسان إلى الوطن: كالقومية وحب الوطن. (4)
الإحسان إلى الإنسانية: كعطف الإنسان على البشر وحبه لهم، وقد يظهر ويزاول حيث العلاقة اختيارية مثل: (أ)
إحسان الإنسان في معاملاته بمراعاة الشرف في الوفاء بالديون وغير ذلك. (ب)
الإحسان إلى المجتمع بالتأدب والتكريم، ومعنى هذين الإحسان في صغائر الأمور. (ج)
الإحسان إلى الدين والحزب، بالإخلاص لهما «وهو روح التحزب» ولكنه يشمل خلتي الأناة والتسامح مع من يخالفون في الرأي، فعلى المعلم أن يحث الأطفال على أن يتعاملوا بالشفقة والحلم والمراعاة وحسن اللقاء والكرم، وأن يكونوا رقاق الحواشي ومؤدبين في معاملة الناس طرا بصرف النظر عن اختلاف طبقاتهم وأحوالهم، وعليه أن يقضي على خلال الجشع والأثرة والخشونة بكل ما لديه من قوة.
نعم إن الإحسان لا ينفذه قانون، ولكنه ملزم على كل حال إلزاما أدبيا؛ ولذلك يجب أن يعلم التلاميذ أنه كالعدل والصدق سواء بسواء.
وقال لوق: «علم الطفل الحب وطيب الخلق في طفولته؛ تجعل منه رجلا كاملا في رجولته واعلم أن الظلم ينشأ من تطرف المرء في حب نفسه وتقصيره في حب غيره.»
وقال روسو: «إن مزاولة الفضائل الاجتماعية تغرس حب الإنسانية في أعماق القلوب، وما تكون طيبا حتى تعمل طيبا. تلك حقائق لا شك فيها؛ لذلك يجب أن يعلم الأطفال ويحثوا على مقاسمة الإخوان ضراءهم وينصرفوا عن المزح والأضاحيك التي قد تمس كرامة الغير حتى ولو كانت في ذاتها غير مؤذية ويقلعوا أيضا عن المشاحنات والمغاضبات والمظالمات.»
هذا ويجب أن يغرس المعلم في قلوب الصبية عاطفة الرأفة بالحيوان قال لوق:
إن اعتياد الأطفال تعذيب الحيوانات وقتلها وذبحها يولد القسوة في قلوبهم حتى على إخوانهم. وأولئك الذين يجدون في تعذيب المخلوقات الدنيا وإبادتها لذة لأنفسهم ومسرة هم أبعد الناس عن تمثل خلة الرأفة بالناس والترفق على العباد.
ولأجل غرس الرأفة في القلوب يقول كانون دانيل بوجوب عناية المدرسة بإعطاء التلاميذ دروسا في تراكيب أجسام الحيوانات، وطرق معالجتها ولا سيما ما كان منها أليفا كالبقر والغنم والكلاب والقطاط وهلم جرا، وليعلم المعلم أن في زمان أفراخ الطير فرصة لإعطاء التلاميذ دروسا خاصة في حب الإنسانية، وكذلك الأمر قبيل الشتاء. وليذكر المعلم أيضا أن دروس المشاهدة والملاحظة العرضية خير من دروس تتلى في الفضيلة الأدبية. فلا يفته أن ينتفع بالأولى عند سنوحها ولا يفته أيضا أن يستثير لها كل عال من البواعث وسام من الدواعي؛ فإن حق الحيوان الأعجم علينا كحق الإنسان، وكلاهما من حق الله. (2) الشجاعة
كلمة الشجاعة في الأصل يراد بها استعداد الشخص ورضاه بتحمل الآلام الجسمانية أو المخاطر.
وقد كان يظن فيما مضى أن القلب مستقر الشجاعة حتى أثبت العلم غير ذلك، ولكن لا يزال يجري على الألسنة ما يفيد الرأي القديم، فيقال فلان شجاع القلب قوي الجنان، وغير ذلك.
أما وقد سارت المدنية بالعلم شوطا بعيدا فلم تعد الحاجة إلى القوة البدنية كبيرة، بل أصبح اللفظ يطلق للدلالة على معنى أشمل وأوسع، فيقال - مثلا: فلان شجاع الرأي؛ أي أن له من الشجاعة ما ينطق به عن آرائه بالرغم مما يجره عليه من أذى، ومعنى ذلك أن لفظة الشجاعة لم تصبح تدل على خلة التأهب والرضى بالآلام والمخاطر فحسب، بل آلام الفؤاد أيضا. ثم هي تشمل صفة استعداد المرء لأن يعمل عملا صالحا حقا وأن يخضع لأحكام القانون الأدبي ، بصرف النظر عن مغبة ذلك.
فاللفظ يشمل الصبار والتجلد، وهما في رأي لوق تملك الإنسان نفسه وهو هادئ وقيامه بواجبه غير مروع، بالرغم مما قد يترتب على عمله من الشر، وبالرغم مما قد يعرض له من المخاطر بسببه.
قلنا إن الشجاعة في رأي أرسطو هي وسط بين الجبن والتهور؛ إذ إن فقد الشجاعة يفضي إلى الجبن وهو الخوف من أمر لا ينبغي أن نخاف منه، وفرط الشجاعة يدفع إلى التهور أو الطيش وهو الإقدام على ما لا ينبغي الإقدام عليه، وكلاهما أمران يجب أن يتجنبهما الإنسان، وقال لوق إن التهور وقلة التأبه للخطر كالتفزع والانقباض لقرب كل شر هين، كلاهما غير مبرر. إنه لم يخلق الخوف فينا إلا ليكون باعثا على المسارعة في أعمالنا وعاصما من شر داهم، وعلى ذلك ففقدان الاعتداد بالضر الوشيك وعدم قدر الخطر حق قدره وإلقاء النفس في التهلكة من غير تدبر في عواقبها ولا اعتداد بنتائجها أو فوائدها؛ لا يعد من صحة العزم في مخلوق عاقل، وإنما هي تهور بهمي.
وقال أيضا إن مقت الشر فطري لا يخلو منه إنسان؛ إذ ليس الخوف إلا قلقا ناشئا من تصور مكروه مقبل، وعلى ذلك فإذا ألقى امرؤ نفسه في خطر فلا غرو إن قيل إنه سلك هذا المسلك مدفوعا بدافع الجهل أو مؤتمرا بعاطفة أرفع منه؛ إذ ليس في الأرض إنسان من العداوة لنفسه بحيث يغشى مواقع السوء بملكه ويتقبل التهلكة حبا فيها.
الخوف غريزي فإذا استعمل بحكمة (كالخوف من عاقبة الإساءة إلى المعلم أو كخشية العقاب) فهو نافع بل ضروري للنظام ولأمر الاحتفاظ بالنفس، أما الإفراط في الخوف فهو أذى يجب دفعه، وإلا أفضى بصاحبه إلى الجبن، وظاهر أن الإفراط في الخوف يشل الإرادة، وينجم عن ذلك فقدان الإنسان ثقته بنفسه وموت شعوره بمقدرتها.
قال لوق: «إنه لمنع الجبن من غشيان القلوب يجب:
أولا:
أن تبعد الأطفال في طفولتهم عن صنوف المفزعات كافة، فلا يصح أن يتلى عليهم ما يشيع الخوف في قلوبهم، ولا أن يطلعوا على مشاهد تلقي الرعب في نفوسهم؛ لئلا ينطفئ سراجها وتخمد جذوتها خمودا لا سطوع بعده؛ إذ المشاهد أن الطفل إذا أشرب الخوف والفزع في صغره شب حتى إذا صادف مفزعا في مقتبل أيامه توزعت نفسه وارتبك في أمره، ففقد قوة التدبر بفقدان رشده.
ثانيا:
يجب أن يروض الأطفال شيئا فشيئا على أن يألفوا ما اعتادوا الخوف منه حتى يتغلبوا على مخاوفهم. وإن في مثل ذلك لعونا للمعلم على أن يوقر في نفوس الأطفال أن السوء ليس من الحقيقة والعظم بمقدار ما يصوره الخوف، وأن طريقة تجنبه ليست في الفرار منه أو في خور العزيمة والاستسلام والقنوط حيث يجب الإقدام.
وعلى المعلم أن يقي فؤاد الطفل من تصورات العفاريت والمردة ومن مخاوف الظلام؛ فإنها ما علقت بأفئدة وفارقتها بعد ذلك؛ ذلك بأنها لما يصحبها من الفزع تتغلغل في فؤاد الطفل وتتمكن أصولها من نفسه حتى لا يسهل اجتثاثها بعد ذلك. فإذا استقرت غشيته منها خيالات غريبة تجعل من الطفل في وحدته خبا وتملك عليه مشاعره حتى ليخاف من ظله ومن كل ظلمة تحدق به ما دام حيا.»
ويقول كانون دانيل: «الشجاعة أمر من أمور التربية في الغالب؛ فمن يكون شجاعا في ظروف يكون في الغالب متهيبا في ظروف أخرى لم يكن قد ألفها، فيستنتج من ذلك أن شجاعة الإنسان متوقفة على إلفه المخاطر وعلى إحساس الإنسان بقدرته على مغالبتها؛ ولذلك فإن خير ما يعالج به الجبن في الصبي إيلافه المخاطر وتشجيعه على مواجهة المصاعب الكبرى بتغلبه على المصاعب الصغرى، ولما كان هذا العمل من أشق الأعمال على المربي فالواجب أن يصبر له وليعلم من يعنى بتربية الطفل أن شدة الخوف تفقد الرشد وتقضي على ملكة التفكير.
والغالب أن تكون حاجة الأطفال والرجال إلى الشجاعة الأدبية أشد منها إلى الشجاعة البدنية؛ لذلك يجب أن يعنى بتربيتها. وعليه فإذا جاء طفل من تلقاء نفسه واعترف بذنب اجترمه فإنه يجب أن يخفف العقاب الذي يترتب على الذنب في مقابلة هذا الاعتراف إن لم يصلح العفو عنه بما اعترف وإذا وجد أن طفلا عاصى في نفسه بواعث الإذناب وكانت قوية فيجب أن يثنى عليه من أجل ذلك. ولن تقتصر الحاجة إلى الشجاعة الأدبية على الشعور بضرورة معاصاة بواعث الهوى، بل إنما الحاجة إلى المجاهرة بآرائنا إذا هي ناقضت آراء الغير أشد وأكبر؛ فلذلك يجب أن يحث الأطفال على الجهر بآرائهم صراحة في كل ما يستطيعون إبداء الرأي فيه. هذا ومن جهة أخرى لما كان تلاميذ المدارس أشد الناس تشبثا وتعصبا لرأيهم فإنه يقتضي لنزول الطفل عن رأيه والإذعان لرأي غيره وتصريحه به شجاعة أدبية لا تقل عن تلك؛ ولذلك يجب على المعلم أن يوقر في نفس الطفل وجوب الإذعان للحجة الناصعة والبرهان السليم، وأن يعتقد أن في ذلك فضلا كبيرا. (3) العدالة
يمكن تعريف العدالة بأنها معرفة ما يجب للغير والرغبة في إعطائه. فيجب أن يبصر الأطفال بأن لغيرهم من الناس مثل ما لهم من الحقوق؛ ولذلك يجب أن يربوا على تقدير راحة الناس وهناءتهم، وعلى مراعاة إحساسهم، وأن يعملوا في كل حال على أن يعطوا كل ذي حق حقه، وعليه فكل عمل من أعمال الظلم والبغي على غيرهم وكل فعل ليس من أفعال الأمانة والنزاهة يجب أن يقضى عليه قضاء مبرما، ويجب أن يغرس في نفوسهم أن يحب الطفل لأخيه ما يحب لنفسه.
والعدل في نظر الأستاذ سيد جويك يشمل ما يأتي: (1)
عدم التحيز: وهو مراعاة المساواة في تنفيذ قواعد توزيع اللذائذ والآلام. (2)
التوفية: وهي التعويض عن الضرر. (3)
العدل الاحتفاظي: وهو مراعاة القوانين التي تمس علاقاتنا بالغير وتنفيذها.
وهذه تشمل: (أ)
الخضوع للقوانين والقيام بالعهود المعقودة والاتفاقات المحدودة. (ب)
القيام بكل ما يكون ارتقابه أمرا عاديا طبيعيا. (ج)
العدل المثلي الأعلى، وهو توزيع اللذائذ والآلام وفاق أصفى شرعة نعتقد بصحتها وصوابها. (4) الحزم
الحزم اعتياد العمل بعد التبصر في العواقب وطول التفكير والتروي، وعلى ذلك فإذا نحن فعلنا أمرا بحزم فإنما نكون قد تدبرنا نتائجه المستقبلة لا المباشرة وحدها.
والحزم في معناه العام: الحكمة العملية مطلقا ، وفي معناه المجمل: الحكمة العملية في تدبير الشخص مصلحة نفسه.
وبما أن أهل مذهب الأنانية أو الذاتية يرون لذة الذات مقدمة على ما سواها فالحزم في نظرهم أساس الفضيلة، وأهم مقومات الحزم قبل الشروع في الفعل هي: (1)
سعة من الوقت للتروي؛ إذ العجلة تقضي على الصواب في الفعل، على أن الإغراق في التروي قاض على الفعل بتة. (2)
توافر العرفان والتجاريب في النفس؛ فإنه لا رأي بغير مدد منهما. (3)
توافر الفطنة؛ إذ لا سبيل إلى صحة الفكر بغيرها. (4)
توافر الثبات أو كبح النفس؛ لتستطيع بهما تنفيذ العزمة على أن الإغراق فيهما ينقلب تشبثا، وكثيرا ما يفضي إلى الخطل. فمما تقدم يتبين أن الحوائل دون الحزم هي: (أ)
العجلة في الفعل. (ب)
الإغراق في التروي. (ج)
قلة التجربة والعرفان. (د)
سقم الفكر أو خطأه. (ه)
التشبث.
ويقول كومينيوس: «يجب تمثيل الحزم في النفس بتعليم الأطفال حقائق ما بين الأمور من الفروق إذ إن صواب الحكم هو أساس كل فضيلة ولكي يفرق الإنسان بين خير الأمور وشرها ويميز بين حقها وباطلها ويعرف اللائق من ضده؛ يجب أن يعرف طبيعة كل أمر على حقيقته.»
ويقول لوق: «إن أليق ما يهيئ الطفل للحكمة تعويده طلب كنه الأمر، وأن لا يهدأ حتى يصل إليه، وأن يرقي فؤاده إلى حيث لا يشغل إلا بعظيم الرأي وأن يبعد به عن المين والخبث اللذين هما - في رأيه - مسببان عن نقص الإدراك.» (5) التعفف أو ضبط النفس
يمكن تعريف التعفف بأنه تعديل الرغبة في اللذة؛ فهو يفيد الاعتدال. قد نمضي في الفراش زمنا أطول مما تستدعيه الحاجة، وقد تقطع من الليل فوق ما تجيزه الضرورة فلا ننام مثلا إلا غرارا وقد نرهق أنفسنا في العمل أو لا نلم به إلا قليلا. وقد لا يهدأ لنا لسان أو قد نكم أفواهنا. كل تلك أشكال من الإغراق والتطرف فهي لذلك أشكال من قلة الاعتدال أو قلة الاقتصاد وعليه يجب الإقلاع عنها، وعلى ذلك فالتعفف اسم آخر لضبط النفس، وهو القدرة على الكف أو القدرة على كبح جماح الهوى.
هذه القدرة لا يوقظها الإحساس بل العقل والروية والاختبار، وليس للطفل في أول أمره من القدرة على ضبط نفسه إلا قليل فرقيه في ذلك الطور منحصر في إخماد الإحساسات السفلى وإحلال إحساسات عالية محلها، وذلك مشاهد في سلوكه؛ إذ الطفل مغرى بالمرح والجري في كل مكان واللعب فوق ما أجيز له، ولكن يمنعه عن الاسترسال في ذلك خشية استياء معلمه.
الأفعال مظاهر الشعور، فإذا أمكن إبطال الفعل فقد يمكن إبطال الشعور، وكذلك أفكارنا؛ فإنها مرتبطة بشعورنا، وعلى ذلك فإذا أمكن إخماد أفكارنا أمكننا إخماد شعورنا.
ولما كان المعروف عن الطفل أنه لا يتعلم ضبط النفس إلا ببطء؛ فالواجب على المعلم أن يسعى لاستئصال بواعث الهوى من نفس الطفل ما استطاع. لا يصح له مثلا أن يترك الأطفال في ظروف قد تجمح بهم كأن يترك الغرفة مدة من الزمان بلا مراقبة، وعليه فالواجب على المعلم - في أول الأمر - أن يزيل بنفسه كل ما يعين على الجموح، فأما ما وراء ذلك فإن الطفل يتعلم إزالته بنفسه.
وبما أن ضبط النفس عادة فيجب على المعلم أن يترك للتلاميذ قليلا من الحرية والاستقلال في العمل لينموا بذلك خلة ضبط النفس، وفي هذا سبب من أسباب ضرورة إعطاء التلاميذ دروسا منزلية. (6) نمو ضبط النفس
لنمو ضبط النفس درجات:
أولا:
يتعلم الطفل أن ينزل عن شيء من اللذة الحاضرة إما: (1)
لتحصيل لذة أكبر منها في المستقبل كأن يوفر الصبي اليوم قرشا لينفقه غدا. (2)
لدفع ألم أشد في المستقبل؛ كأن يقلع التلميذ عن اللعب في المدرسة تجنبا للعقاب.
ثانيا: (شكل أرقى) يتعلم الطفل أن هناك أغراضا أخرى أدوم حالا من اللذة الحاضرة أو الألم الحاضر، كحسن السمعة والعرفان وهلم جرا، مثل أن يقلع الطفل عن اللعب في المدرسة؛ لا تجنبا للعقاب ولكن للحلول من معلمه محلا عاليا.
ثالثا: (شكل أرقى من سابقه) يتعلم الطفل المقارنة بين قيم لذائذ مختلفة واختيار أرقاها مثل أن يقلع الطفل عن اللعب في المدرسة، لا تجنبا للعقاب ولا للحلول من معلمه محلا عاليا، ولكن لاعتقاده أن من الصواب أن يفعل ذلك.
رابعا: (أرق الأشكال) يتعلم الطفل أن ينزل عن لذته من أجل لذة غيره وسعادته، كأن ينصرف الطفل من تلقاء نفسه عن أن يلعب لعبا مبررا إذا هو وجد أنه ربما آذى به من كان أصغر منه سنا. من هنا كان كبح النفس شاملا خلة إنكار الذات، وهذه أما أن تكون: (1)
إنكارا للذات من أجل منفعة الذات، مثل أن ينزل رجل عن لذة من أجل أن يوفر مالا. (2)
إنكارا للذات من أجل الغير، مثل أن ينزل رجل عن لذة لا يأباها على نفسه لولا أنه يرعى بذلك حق زوجته أو بنيه أو رجال قومه أو نسائهم أو إخوانه في الوطن أو الدين أو المرفق. كذلك يشمل كبح النفس الشجاعة. قال الأستاذ مويرهد: «يقتضي للإنسان إذا هو أراد أن يتقي خادعات اللذة أن يتحمل ألم المقاومة الذي يترتب على ذلك.» (7) الصدق
هو الفضيلة التي تجعل ظاهر أقوالنا وكل أفعالنا وفاق الباطن والحقيقة، وهذه الفضيلة هي أساس كل تعامل اجتماعي وكل ارتقاء. وهي جوهرية لأداء الواجبات في مختلف العلاقات الحيوية، وإلا لم يستقم للثقة بين الناس ظل. أجل؛ فإنه يستحيل مع الكذب أن يستقيم للجماعات حال؛ إذ هو يقضي على ما للصدق من الإجلال في النفوس ذلك الإجلال الذي لا بد أن يشعر به كل فرد باعتبار أنه عضو في المجتمع.
من هنا كان الصدق ضروريا لولاة الأمر المديرين للحكومة ورجال الحياة العملية والاجتماعات وللأصدقاء وكل من لهم علاقة خاصة بالناس وللوالدين أو المعلمين والأطفال.
لذلك يجب على المعلم أن يغرس في نفوس الأطفال ضرورة هذه الفضيلة؛ إذ لا يكفي أن تكون لأقوالهم مظاهر الصدق وحدها.
ويجب أن نحرص على أن تكون أقوالنا معبرة عما نعتقد صدقه أو عما في نيتنا عمله، تعبيرا بينا قاطعا، فإذا تم ذلك فإنه يجب علينا أن نجعل أفعالنا التالية لها وفاقا لتلك الأقوال بقدر ما نستطيع. ولنذكر أن منشأ الكذب «نية الخداع» فكل مواربة يمكن أن تكون الألفاظ فيها صدقا بمعنى من المعاني وكاذبة بالنسبة للمعنى المراد؛ يجب تجنبها، وكذلك الأمر في المبالغة التي يعمد إليها للتأثير، فإنه يجب التحذير منها؛ لأنها وإن كانت مما يسر لها السامعون قد تضلهم وتخلط عليهم سبيل الفهم، ولكي يتم صدقنا يجب أن نعنى بكل ما أحدثنا في قلوبهم من أمل، سواء كان ذلك مباشرة أو بواسطة، كما يجب أن نعنى بكل وعد وعدنا به.
إن مبدأ الصدق هو أوضح المبادئ وأحدها، كما أنه لازم لزوما تاما، ولكن من الناس من يرى أنه قد يجوز في أحوال استثنائية أن يلجأ إلى الكذب اعتمادا على أن الغاية تشفع للوسيلة؛ أي رعيا للمصلحة، فيقولون إنه لا بأس بكذبة تنجي الإنسان من الموت وبإخلاف وعد قهر الإنسان على أن يعد به. احتجاجا بأنه ليس للسائل في الأولى حق أن يتطلب من المسئول النطق بالصدق أو ينتظره منه أو أن السائل في الثاني بما فعل قد أخرج نفسه من دائرة القانون الأدبي.
ولكن ليس لدينا مقياس يمكننا أن نقيس به مقدار المنفعة التي يقتضي توافرها في الكذبة لنغفرها اعتمادا على أي الحجتين. وعلى ذلك فلا مندوحة لنا من القول بأنه خير وأقل إغراء على المجارم أن «نقول الصدق وكل الصدق ولا شيء غير الصدق.»
1
في كل حادث بصرف النظر عما يترتب على ذلك.
ويجب أن لا يعلم الناس - ولا سيما الأطفال - أو أن يترك لهم سبيل إلى الظن بأنه يمكن أو يجوز الميل عن جادة الصدق في أي حال من الأحوال. يقول «لوق» إنه يجب أن تملأ قلوب الأطفال ذعرا من الكذب وأن يحموا منه بإظهار الدهشة والاستفظاع وبالتأنيب، وبتوقيع العقوبة البدنية إذا اقتضى الأمر.
إن الأكاذيب التي يفتريها بعض الأطفال ليس منشؤها إلا خروج الآباء أو المعلمين عن الحد اللائق في الجزاء وشدتهم. ولا عجب في ذلك؛ فإنه إذا أخطأ طفل كان له من فعله باعث شديد على أن يكذب تخلصا من العقاب، ولا سيما إذا أصم الوالد أو المعلم أذنه عن استماع معاذيره أو كان كثير التسامح والغض؛ ولذلك يرى «لوق» أن اعتراف الطفل بذنبه من تلقاء نفسه أمر يجب أن يقابل بالمدح وإعفائه من العقاب.
هذا ولا يصح أن يتهم الطفل بقول الكذب من غير سبب صحيح؛ لأنه إن عوقب على جرم لم يجترمه قام في نفسه أثر الفعل لو كان فعله. وإذا شعر الطفل أنه فقد حسن سمعته بالنسبة لفضيلة بعينها لم يرغب بعد ذلك في الحصول عليها؛ لأنه يرى أنه لا فائدة من محاولة تحصيلها بعد إذ ثبت عليه ضدها، وعلى ذلك يفقد الطفل باعثا من أقوى البواعث على التحلي بهذه الفضيلة.
من ثم كان واجبا على المعلمين أن يناجوا شعور الأطفال بشرفهم. فقد وجد بالتجربة أن هذا من أنجح الوسائل لتربية الطفل.
قيل إن الدكتور أرنولد لم يكن يتهم تلميذا من تلاميذه بقول الكذب، بل كان يصدقهم في كل ما يقولون، ولقد بلغ من أمر هذا السلوك أن أحد تلاميذه قال في هذا الصدد: «إن من العار أن نكذب على أستاذنا مرة ما دام أستاذنا يصدقنا في كل ما نقول.»
الفصل التاسع
تكوين الفضائل النفسية أو التربية الأدبية
المقصد الأول من التربية هو تربية قوة العزيمة في النفس وثباتها، ثم تنمية إرادة حية طاهرة قادرة على خدمة الإنسانية العالية. وعلى ذلك فكل تربية حقيقية هي تربية أدبية ويمكن أن يقال إن الفضيلة الأدبية هي الخيرية في الفعل لا في القلب، وهو ما كان يرمي إليه فريبول الألماني؛ فقد كان يسعى لتنمية قوى ضبط النفس في الطفل؛ لكي لا يكون في حالة الطفولة والرجولة في حاجة إلى معونة الغير.
من ثم كان جديرا بنا أن نميز بين التربية الأدبية وبين تحصيل معلومات عن الأخلاقيات؛ فإن هذه تنتهي في الغالب بما يسمونه «التحذلق».
إن الفرق بينهما كالفرق بين العلم والعمل سواء بسواء، على أن مسألة تربية العادات الأدبية في الطفل على يد المعلم لا تكون مباشرة بل غير مباشرة؛ فبعض العادات التي اكتسبت من قبل يحتاج الأمر فيها إلى العمل على دوامها بالحث عليها، وبعضها يحتاج إلى الاستئصال بأن يصرف صاحبها عنها. وبما أن لكل ميل خواص فلا بد للمعلم من استكناه طبيعة كل ميل من ميول الطفل ويقدم العلاج المناسب له وعلى ذلك فللتربية الأدبية يقتضي: (1)
معرفة طبيعة الميل الذي نحن في صدده ومقدار شدته. (2)
إخماد الغرائز المكروهة وتكوين عادات العمل النافعة.
ويجدر بنا في هذا المقام أن ندل على أن الغرائز ليست إلا عادات ورثناها عن أسلافنا، فلا يصح أن تخلط بما سميناه مفتطرات؛ إذ الأمر المفتطر هو المعرفة التي لم تحصل بالتجربة مطلقا. أما الغرائز فهي نتائج تجارب أسلافنا، وهذه يجوز الحث على إبطالها أو تغييرها تغييرا كليا أو تقويتها بتكوين العادات. (1) الميل
يمكن تفسير ميل الطفل بأنه مجموع الانعطافات الوجدانية والأدبية التي ورثها عن أسلافه مثل غرائزه ومزاجه.
ولذلك فميول الأطفال مختلفة اختلافا كبيرا، فلا غرو إذا اختلفت طرق التربية الأخلاقية أيضا.
وأهم أنواع الميول الظاهرة هي الخمسة الآتية: (1)
سريع التهيج: فمن كان في الأطفال كذلك؛ كان سريع التأثر والانفعال، ولا يكون ثابت السلوك؛ نظرا لفقدان غرائز الحزم منه، فلا يمكن - والحالة هذه - أن يعتمد عليه.
العلاج: يجب على المعلم أن يرعى عواطف الطفل ويستخدم تطلعها إلى الحق في سبيل إصلاحه. (2)
اليرع والعصبي: من كان يرعا؛ أي مشوبا بالجبانة، أو كان عصبيا كان حييا قمعا لا ثقة له بنفسه ولا اعتزاز.
العلاج: مثل هذا الطفل يحتاج إلى كثير من التشجيع، ولا يصح - بأي حال من الأحوال - أن يسخر منه أو يهزأ به، ولا ينبغي أن يكلف بأداء عمل يرى فيه المعلم أدنى سبب للإخفاق. (3)
النشيط: من كان من الأطفال ميالا إلى النشاط كانت غرائزه مستكملة النمو، وكان شديد الرغبة في العمل؛ أي أن ميله في الجملة سليم، ولكن يعوزه التمحيص والتدبير.
العلاج: يجب استخدام حب الطفل للعمل؛ كما يجب أن يبصر بضرورة مراعاة راحة الغير وشعوره. (4)
المتصلب: من كان من الأطفال كذلك كان غبيا ناقص العطف. ومثل هذا لا يحب الخير إلا لنفسه ، ثم هو لا ينجع فيه تعليم.
العلاج: يجب على المعلم أن يحاول تحريك إحساس الطفل تحريكا شديدا حتى يمكن توجيه صلابته وخشونته إلى الخير بدلا من توجيهها إلى الشر. (5)
الكسلان: من كان من الأطفال كذلك كان طيب القلب في الغالب، سهل القياد، ولكن تعوزه الغرائز الأدبية. لا يدرك لضبط النفس معنى ولا يعرف النظام ولا النظافة.
العلاج: هذا الميل أصعب الميول وأشدها معالجة؛ فلا بد للمعلم أن يعنى بتربية العادات الصالحة فيه، وذلك بالتدريب والتربية والتشدد فيهما.
قال كومينيوس: «إن تكوين كل الفضائل النفسية يجب أن يكون في رخص الطفولية قبل أن تتبوأ الرذائل مستقرها.» ويقول أيضا: «إن تعلم الفضائل لا يكون إلا بدوام الإتيان بشريف الأعمال.» ويقول أيضا: «الأمور التي يراد معرفتها تحصل بالمعرفة، والأمور التي يراد عملها تحصل بالعمل، فتحصيل خلة الطاعة يكون بأن نطيع، والتعفف بأن نعف والصدق بأن نصدق والثبات بأن نثبت وهلم جرا.» وقال أيضا: «يجب أن يكون أمام وجه الأطفال مصباح منير من حسن الأسوة وجلال المثل. فالوالدان والمربون والمعلمون وإخوان المدرسة؛ كل منهم يجب أن يكون ما يصدر عنه جميلا صالحا؛ لأن ملكة الملاحظة في الأطفال حادة دقيقة، وهم منذ الحداثة سراع إلى تقليد من يحيطون بهم. (2) المعلم
لا مشاحة أن للمنزل تأثيرا كبيرا في أخلاق الطفل، ولكن لخلال المعلم وسلطته العالية أثرا أشد وأفعل. إن أكثر التعليم الديني المباشر الذي يتلقاه الأطفال مستمد من المعلم الذي هو منوط بتربيتهم الأدبية والعقلية. ومن ثم يتوقف على المعلم تربية الضمير تربية تامة لا تداينها تربية المنزل، ومنها تتضح ضرورة تحلي المعلم بجليل الأخلاق. قال مونتاني: «إن سلوكنا في الحياة هو المرآة الحقيقية لمبادئنا.» ولا شك أن التربية لا تكون ذات قيمة أدبية إلا إذا تبين الأطفال في خلالها الإخلاص من معلمهم، ورأوه يزاوله ويحض عليه، واعتقدوا أن المبادئ التي يريد توطينهم عليها مبادئ مغروسة في فؤاده مؤثرة في حياته. وخير المعلمين من كان مثالا لتلاميذه؛ فهو بذلك يستطيع أن يكون أخلاقهم ويوطنهم على الفضيلة النفسية أكثر مما يستطيع بتعليمه وقوانينه كلها، وعلى ذلك فيجب على المعلم: (1)
أن يتمسك بأهداب الأمانة في كل الأمور التي لها علاقة بأعمال المدرسة، وتلك كثيرة جدا، وقد تبدو للعين هينة تافهة وهي في الحقيقة من جلائل الأمور. (2)
أن يكون أنيقا مرتبا نظيفا في نفسه وفي عاداته. (3)
أن يراعي المواعيد مراعاة تامة، فيجب أن يكون انتهاؤه في الدرس كابتدائه فيه في ميعاده، لا يتقدم عنه ولا يتأخر. (4)
أن يكون صبورا مع الغبي شفيقا مراعيا ومشجعا مع الضعيف أو المشجون والحيي واليرع ولطيفا مع الجميع. (5)
أن يكون مع الآباء صديقا، وإذا جاءته منهم رسائل شديدة اللهجة اصطبر لها، ثم آساهم. (6)
أن يتجنب أدنى مظهر من مظاهر التحيز والمحاباة وقلة القسط أو عدم الثبات، وبعبارة أخرى يجب عليه أن يكون عادلا لا يعرض نفسه للتأثر بداع إلا مصلحة الأطفال، ولا أن يجنح به الهوى أو الحقد أو الكسل أو حب تهوين الأمور. (7)
وإذا عاقب راعى الأفيد من العقاب قبل المستحق، وأخذ بالتشجيع والحث والتحذير والنصح، لا التعنيف أو التهديد أو العقاب. (8)
وإذا طلب إلى الأطفال شيئا أو كلفهم بأمر كان طلبه مقبولا وأداؤه مستطاعا وإلا استاقهم إلى العصيان وترك الطاعة بطريقة عملية، ولا يصح أن يكون فظا في استعمال سلطته.
فيتضح مما سبق أن التربية الأدبية مختلفة الأسلوب، وأن تأثير المنزل والمدرسة بحسن الأسوة وجمال المثال من الآباء والمعلمين؛ هي أهم العوامل في التربية.
التعليم الأدبي المباشر (التاريخ)
في المدارس تعليم أدبي، ولكنه ليس له - على كل حال - إلا درجة ثانوية في تكوين خلال الطفل الأدبية.
فالحكايات التي يسمونها بالقصص الأدبي التي تنطوي على مغزى ظاهر هي في الحقيقة لا تفيده مطلقا؛ لأن الأطفال لا يستطيعون إدراك جلال المغزى، ولكن التاريخ بما فيه من الحكايات الحقيقية عمن سلف من الأخيار والنبلاء والشجعان والجبناء والصادقين والكاذبين؛ يوقظ في النفوس كل شعور نبيل. ولا بد للمعلم أن يوحي إلى القلوب حب الحق وبغض الباطل، فالتاريخ لذلك تعليم أدبي يفيد فائدة مباشرة - وإن كان هذا التعليم غير مباشر.
ساحة اللعب
يرى بعضهم أن ساحة اللعب خير مكان وأليق محل لتدريب الأطفال تدريبا أدبيا؛ إذ فيها تبدو مظاهر خلال العطف والإشفاق والإكرام والصبر وغير ذلك أكثر مما تبدو في قاعات الدروس، كما أنه يباح لما يقابل ذلك من الأخطاء والأهواء أن تنمو وتستقر.
وعلى ذلك فالواجب أن تكون ساحة اللعب تحت إشراف المعلم؛ إذ هو لحضوره واشتراكه معهم في ألاعيبهم إنما يقرن القول بالعمل ويقرن الحكمة بالمثل، وكلاهما دافع إلى عمل الخير ناه عن الشر، صارف عن الأذى صغيره وكبيره.
قال روسو: «إن الدروس يتلقاها التلاميذ بعضهم عن بعض في ساحة اللعب أمكن في نفوسهم أثرا مما يتلقونه في قاعة الدرس مائة مرة.»
الفصل العاشر
العادات وتكوينها
العادة نتيجة إعادة فعل وتكراره، فينجم عن ذلك ميل إلى فعل ذلك الفعل بذاته وما كان في المبدأ صعبا يصبح هينا.
ولدينا في المدرسة على هذا أمثلة كثيرة، فإذا ذهب الطفل لها أول مرة كان توجهه إلى الجد ضئيلا، وكان الجهد شاقا، ولكنه بالحث يجتهد فإذا تكرر الجهد ازدادت حركته قوة حتى يصبح توجهه ميلا ثابتا دائما. وكذلك الأمر في الطاعة والصدق والإحسان أو التراخي في العمل وإيثار الذات وغير ذلك؛ فإنها بالتكرار تصبح اعتيادية وتستقر في النفس.
وللاعتياد قانون يسمى قانون العادة، ومنطوقه أن كل فعل يترك وراءه ميلا إلى فعله ثانيا.
وفي العادات أقوال مأثورة وأمثال مذكورة، منها: «العادة طبيعة ثانية»، ومنها: المزاولة تهدي إلى الكمال، ولا شيء أصدق من ذلك؛ فإن قوة الاعتياد لا تقاس؛ إذ الأفعال التي تكون في أول أمرها ممقوتة تنقلب بالاعتياد مقبولة، وكذلك يصبح العمل هينا والمخاطر مألوفة. وعليه: فالعادات هي ميول إلى الفعل على خطط معينة من غير اضطرار إلى تخطيطها من جديد؛ إذ تصبح هذه العادات آلية. فلولا العادات للازمنا التردد ولانصرفنا عن العمل انصرافا كليا.
لأن تقدم القول بأن الأخلاق تتكون من تكون العادات.
أولا:
الأفعال التي يغلب تكرارها تصبح عادات.
ثانيا:
حاصل كثير من العادات يسمى سلوكا.
ثالثا :
ميل الإنسان إلى نوع بعينه من أنواع السلوك يسمى خلقا. وأرقى خلق أدبي هو ذلك الذي يكون فيه صفة «الخيرية الدائمة» عادة ولا يخفى أن جل العادات ينشأ في الطفولة فإذا لم تكن نشأتها بعناية الوالدين والمعلمين وهديهم كانت تلك العادات شرورا ومساوئ وتمثلت في النفس قبائح الخلال. فإذا استقرت فيها استعصى على الطبيب استئصالها. فيجب - والحالة هذه - أن يبدأ بتكوين العادات الصالحة في حداثة السن فما نحن إلا بما اعتدنا، ومن شب على شيء شاب عليه. أما من كان ضعيفا مستهينا من الآباء أو المعلمين فلن يستطيع تربية الأطفال على عادات صحيحة ثابتة. (1) ملاحظات على العادات الصحيحة
بما أن الغرض الأقصى من التدريب أن يكون سلوك الإنسان مستقلا قائما بذاته لذلك نرى ذكر الملاحظات الآتية:
أولا:
يجب أن يكون الباعث متناسبا مع الجهد المطلوب.
ثانيا:
لا يصح أن يلقى بالأطفال إلى عمل فيه مظنة الإخفاق؛ إذ إن كل إخفاق يدعو إلى ضعف الخلق أما إذا انتهى الجهد بالنجاح في المراد منه بالتكرار؛ استفاد الطفل من ذلك، فلا يصح - والحالة هذه - أن يكلف الطفل أن ينزل عن لعبه جميعها لآخر إنما يجوز أن تكون قسمة بينهما.
ثالثا:
يجب التبكير في الأمر، ويجب أن يكون على خطة مرسومة وعلى المعلم أن لا يدخر وسعا في تشجيع الطفل، ولكن إذا لم يمل الطفل مع المعلم فيما أراد فالواجب على المعلم أن يثابر على خطته؛ فإنه لا محالة بالغ غرضه.
رابعا:
لا يصح للمعلم أن يتجاوز عن أمر مطلقا ولا سيما في بدئه؛ فإنه إذا استهان مرة واحدة أفسد على نفسه شيئا كثيرا. وكل شذوذ له أثره فإما أن يضيف إلى الشر المنطوية عليها العادة شرا، وأما أن يزيد خيرها خيرا. أما الانتظام التام ففيه النجاح المؤكد.
خامسا:
يجب على المعلم أن يروض تلاميذه على العمل في حينة، فإن التسويف عادة سيئة، وقد تؤدي إلى حبوط كان في وسعه تجنبه.
سادسا:
يقول المثل إن المزاولة تؤدي إلى الكمال في تربية العادات كما هو الحال في سواها؛ ولذلك يجب أن تبقى قوة تكون العادات في الطفل في حركة دائمة حتى يصل إلى الكمال فلا ييأس المعلم من إصلاح الطفل؛ لأن التكرار يؤدي بالضرورة إلى تكون العادات من حيث إنها مصادر صعوبة.
قد تكون العادات مصدر مشقة وصعوبة بسبب تكونها في الطفل قبل دخوله المدرسة: (1)
أما أن يكون الطفل قد أشربت نفسه عادات سيئة فهذه يمكن استئصالها بسهولة؛ لأنها لا تكون يومئذ قد رسخت رسوخا تاما. (2)
وأما أن تكون العادات الحسنة قد تكونت نصف تكون. وهذا من شأنه أن يؤدي بالطفل إلى التراخي والتسويف والاستهانة بالأمور؛ ولذلك يجب أن يحمل الطفل على أداء الأمر في حينه، وأن يكون متهيئا للعمل في كل حين ويصر على ذلك إصرارا تاما، ولا يجوز التجاوز مطلقا. (3)
قد لا تكون عادات الطفل تحت تصرفه، فهي في هذه الحالة آلة؛ أي أنه لا يملك منها ما يجب للحوادث العارضة من القدرة على معالجتها بالتصرف، فينبغي للمعلم - والحالة هذه - أن يحاول ترويضهم على الأمر بالتدريج بأن يعرض عليهم مسائل حادثة جديدة وبعبارة أخرى يجب على المعلم أن يروضهم على استعمال قوى التفكير والتدبر وتمرينها على النظام باعتبار أنه عون على تربية صالح العادات.
حسن النظام في المدرسة كفيل بتكوين صالح العادات: (1)
النظام والتمرينات البدنية والألعاب الرياضية وسير الدروس وفاق جدول المواعيد والأوامر المدرسية وغير ذلك؛ لها ما لها من الأثر وإن كان غير مباشر في تربية عادة السير على خطة الانتظام والترتيب واعتياد العمل. (2)
والمعلم بتحتيمه على الأطفال أن يكون عملهم مرتبا منتظما إنما يربي في نفوسهم عادات ذلك بالتدريج وذلك يؤدي إلى اعتياد التفكير على الطريقة المنطقية السليمة واعتياد الدرس وتحصيل المعلم. وهو بما له من السلطة وما يقدم لهم من نفسه من المثال وحسن الأسوة يستطيع أن يعينهم على تمكين عادات النظافة والأناقة والترتيب والأدب وحسن الملاقاة في أنفسهم. (3)
وكذلك الأطفال؛ فإنهم أثناء مقامهم في المدرسة يعتادون ضبط النفس والصبر وغير ذلك بتفويضهم إرادتهم لإرادة المعلم. (4)
دوام شغل العقل والبدن مع الاعتدال يؤدي إلى توفر عادات الجد والتنشط وحب العمل، قال سنيكا الروماني: «الكد يربي عقولا نبيلة ويغذيها.» فينبغي - والحالة هذه - أن لا يترك الأطفال بلا عمل يعملونه سواء كان درسا أو لعبا.
الفصل الحادي عشر
نظام المدرسة
غرضه وموضوعه: المكافآت والعقوبات
المقصود من كل نظام مدرسي والغرض الذي يرمى به إليه؛ إبطال العادات والميول السيئة واستئصالها، وغرس خيارها مكانها، وجعل السلوك مستقلا بذاته؛ أي لا اعتماد لصاحبه معه على غيره. قال «لوق» لا بد للإنسان من يوم يتعهد فيه أمر نفسه وأن يكون مستقلا بسلوكه عن إرشاد الغير؛ إذ لا يكون الإنسان فاضلا صالحا قادرا إلا بقوة نفسه.
وللوصول إلى هذا الغرض يجب الاستفادة من أمر المكافآت والعقوبات: الغرض من الإثابة التشجيع على تمثل العادات الطيبة والغرض من العقاب القمع عن سيئاتها ولكن يجدر بالمعلم أن يكون مقتصدا في الحالين؛ لأن كثرة الإثابة تحدو الطفل على النظر إلى قيمة الجزاء وغض طرفه عن صواب الفعل في ذاته، هذا ولما كان الطفل في حداثته ينطوي على إحساسات سفلى أو حيوانية؛ فإنه لا يصح غض الطرف عنها مرة واحدة؛ ولذلك فإن مكافأة الأطفال باعتدال تؤدي إلى خير النتائج، أما فيما بعد ذلك من سني الدراسة فيجب أن يقلل من استعمال المكافآت ويقتصد فيها اقتصادا، وعلى المعلم أن يناجي مشاعرهم العليا ما استطاع إلى ذلك سبيلا. (1) تنبيهات
يجب مراعاة التنبيهات الآتية فيما يتعلق بالمكافآت: (1)
لا يصح منحها إلا جزاء على الجدارة أو على عمل صالح، ولا يجوز - بأي حال من الأحوال - أن تمنح جزاء على الذكاء والفطانة وحدهما؛ فإنهما تبع لقواه الفكرية لا نتيجة جهد مبذول فيستحق عليه مكافأة. (2)
لا يصح أن يعمد إلى المكافآت بكثرة وإلا فإن الأطفال يجعلون مجرد الرغبة فيما يفرحهم داعيهم الوحيد إلى تأدية واجبهم، وفي هذه الحالة تكون المكافآت أدعى إلى إفساد أخلاقهم من العقاب. (3)
لا يصح أن تكون المكافآت بمثابة رشى على تأدية واجبهم، فلا يصح وعد الأطفال مطلقا بالمكافأة ليقولوا الصدق؛ فإن لمعاقبتهم على عدم قول الصدق أثرا أدبيا أعظم. (4)
يجب أن تكون المكافآت معادلة لما يستحقه الفعل. (5)
لا يصح التشجيع على التباري في سبيل نيل المكافآت بل يجب تجنبها ما أمكن ذلك؛ إذ لا مشاحة أن التباري يؤدي إلى الغيرة والحسد، وكلاهما قاض على ما يكون بين التلاميذ من العطف. هذا وإن كثرة استعمال العقاب مضرة؛ وذلك لأنه إذا كان الطفل لا يحكمه شيء غير الخوف كان ذلك قاضيا على إرادته ومضعفا لروحه، فيفقد الطفل على التوالي والتدريج كل ثقته بنفسه، وعلى ذلك لا يتم الغرض من النظام الذي هو كما ذكرنا في أول الفصل جعل سلوك الإنسان وسيرته ومنهاجه في الحياة مستقلا عن الغير قائما بذاته. (2) التأديب بالعواقب
موضوع العقاب والغرض منه
يرى بعضهم - ومنهم روسو وهربرت سبنسر - أنه لا ينبغي للوالدين أو المعلمين أن يعاقبوا الأطفال مباشرة على الخطأ في الفعل بل يجب أن يتركوهم للعواقب الطبيعية المترتبة على الخطأ، كأن يترك الطفل يجرح نفسه من لعبه بسكين أو بأن يحرق أصابعه من لعبه بالنار، وغير ذلك.
على أن هذا ليس في حقيقته عقابا؛ إذ العقاب في معناه الحقيقي هو الإيلام المراد أو الإيذاء المقصود الذي يوقعه شخص له سلطة، على اعتبار أنه الأمر المترتب على معصية، ويمكن أن يقال إن له غرضين: (1)
نفع الفرد المجرم. (2)
نفع الغير.
فأما من وجهة التربية والإصلاح؛ أي من حيث نفع المجرم ذاته؛ فأنه يجب أن يكون: (1)
مصلحا؛ بقمعه العادات السيئة والميول الخبيثة وإبطالها واستئصالها. (2)
مرشدا؛ بأن يدعو إلى حب الحق والفضيلة، ونماء هذا الحب. (3)
منشئا؛ بأن يدعو إلى تربية العادات الصالحة. (4)
أما من حيث نفع الغير فيجب أن يكون رادعا عن المجارم مانعا لتكرارها. (3) خصائص العقاب النافع
ولكي يمكن إصابة الأغراض المذكورة يجب أن يكون في العقاب الخصائص الآتية:
أولا:
يجب أن يكون طبيعيا وعادلا يتبين الأطفال أنفسهم عدالته.
ثانيا:
مطردا؛ أي لا استثناء فيه، فحصول الذنب يستدعي حصول العقاب لا محالة.
ثالثا:
يجب أن يكون توقيعه على عجل؛ لأن تأخيره يذهب بكثير من أثره .
رابعا:
يجب أن يكون موثوقا به؛ أي لا يصح أن يكون غير محقق أو يكون منشأه حنق الوالد أو المعلم.
خامسا:
يجب أن يزيد على كل فائدة يحتمل اكتسابها من الأخطاء، وإلا أدى الأمر بالأطفال إلى الموازنة بين السرور الذي ينالونه من الأخطاء وبين الألم الذي يصيبهم من العقاب، فحكموا في مصلحة الراجح.
سادسا:
أن يكون على قدر الذنب؛ فقد تكون نظرة التأنيب في كثير من الأحوال أوقع من الضرب بالعصا.
سابعا:
يجب أن تزداد العقوبة إذا عمل المذنب على إخفائها.
ثامنا:
يجب أن يكون نادرا؛ وإلا فإنه إذا تكرر أدى بالأطفال إلى اعتباره أمرا عاديا، فيفقد العقاب بذلك كثيرا من قوة الردع. (4) تنبيهات على استعمال العقوبات
يجب عند قصد العقاب أن لا ينسى التنبيهات الآتية:
أولا:
يجب ألا توقع في ثورة غضب؛ وإلا حسبها أثرا من آثار الجموح، ولم يتقبلها بوصف أنها نتيجة الشذوذ عن القانون.
ثانيا:
لا يصح توقيعها إلا إذا تبين أن الطفل كان قد تعمد الأخطاء، فلا يجوز مثلا معاقبة الأطفال على الزلات التي يقترفونها عن إهمال صبياني.
ثالثا:
لا يصح توقيعها على العجز عن القيام بشيء إذا كان الطفل تحت تأثير انفعال شديد فالطفل الذي يملكه الخوف أو الذي يغشاه الحزن لا يصح معاقبته على عدم استطاعته على الفور دفع خوفه أو وقف زفراته أو أمثال ذلك.
رابعا:
لا يصح استعمال العقوبات البدنية (وإن كانت ضرورية في بعض الأحوال ومفيدة أحيانا) إلا إذا نفدت كل وسائل الإصلاح الأخرى. (5) تنبيهات
يجب مراعاة المسائل الآتية في توقيع العقاب:
أولا:
إن العقوبات جميعا تؤلم وتؤذي، سواء كان ألمها جسمانيا أو عقليا، وعلى ذلك فهي لا تتفق مع دواعي التربية اللطيفة المرقية.
ثانيا:
إنها لا تدعو إلى نشوء التعاطف بين المعلم والتلميذ - وهو أمر ضروري.
ثالثا:
بما أن أثرها متوقف على مقدار الخوف الغريزي من الألم؛ فأن مفعولها محدود بذلك.
هذا ومن أشكال العقاب ما قد يؤدي إلى فساد أخلاق الأطفال بما يصحبها من المذلة والهوان. فليتنبه المعلم إلى ذلك وليعمل على ما من شأنه أن يرفع نفس الطفل إلى ما يشاء لها من الرفعة والجلال.
अज्ञात पृष्ठ