إهداء
تصدير
1 - شذرات في تفسير الطبيعة وفي مملكة الإنسان1
2 - شذرات في تفسير الطبيعة أو في مملكة الإنسان
إهداء
تصدير
1 - شذرات في تفسير الطبيعة وفي مملكة الإنسان1
2 - شذرات في تفسير الطبيعة أو في مملكة الإنسان
الأورجانون الجديد
الأورجانون الجديد
إرشادات
صادقة في تفسير الطبيعة
تأليف
فرانسيس بيكون
ترجمة
عادل مصطفى
إهداء
إلى شباب الثورة المصرية
ثمة لحظات في تاريخ الأمم كأن الزمن فيها يقفز ولا يمشي.
لحظات انتقال بين قديم استنفد نفسه وجديد يريد أن يولد وأن يتملص من الوأد.
لحظات «بيكونية» تهيب بالعقول الشريفة أن تنفض عنها أوهام الماضي، وألا تتمادى في تجريب المجرب، وألا تعرف للفكر الميت إلا كرامة واحدة، الدفن.
التقدم البشري كله يمكن أن يرد إلى هذه اللحظات الفذة التي تطفر فيها العقول الجسورة؛ لكي تخرج من كهفها الآسن، وتتلقى إبر النور، ولا تجعل بينها وبين الطبيعة وسطاء يدعون وصلا بليلى، ولا بينها وبين الواقع حجبا من الكتب المغبرة التي تنقل السل ولا تنقل الحقيقة.
فإلى هذه العقول الفتية الباسلة أقدم لهم إمامهم فرنسيس بيكون في هذا النص الشهير من عيون الفكر الغربي.
عادل مصطفى
17 / 3 / 2012
تصدير
أولئك الذين تصدوا للإفتاء في شأن الطبيعة وكأن أمرها محسوم ومفروغ منه - سواء كان ذلك عن ثقة ساذجة بالنفس أو عن تقعر أكاديمي - أولئك قد ألحقوا بالفلسفة وبالعلوم أشد الضرر، لقد نجحوا في خنق البحث وإغلاق باب التساؤل بقدر نجاحهم في نشر رأيهم وكسب الآخرين إليه، ولم تؤت جهودهم ذاتها من شيء يعوض ما جنت أيديهم بإخماد جهود غيرهم وإفسادها، أما أولئك الذين اتخذوا اتجاها معاكسا وقالوا باستحالة معرفة أي شيء، سواء عقدوا هذا الرأي من جراء بغضهم لقدامى السوفسطائيين أو من جراء تردد العقل أو حتى من فرط المعرفة، فمن المؤكد أنهم قدموا لذلك أسبابا لا يستهان بها، إلا أنهم لم يصدروا في رأيهم من مقدمات صحيحة، ولم ينتهوا إلى استنتاجات منصفة، فقد جرفهم الحماس والتكلف بعيدا عن كل حدود الاعتدال والقصد. أما اليونانيون الأقدم (الذين ضاعت كتاباتهم) فقد اتخذوا موقفا أكثر حصافة بين هذين الطرفين - بين التوقح الدوجماطيقي واليأس الارتيابي ... بين التجرؤ بالإفتاء في كل شيء واليأس من معرفة أي شيء - وبرغم شكواهم الكثيرة المريرة من مصاعب البحث وغموض الأشياء فقد ظلوا قابضين على الجمر
1
مواصلين مسعاهم ومشتبكين مع الطبيعة، وقد ارتأوا، فيما يبدو، أن أفضل طريقة لحسم هذه المسألة ذاتها - مسألة إمكان المعرفة - هي المحاولة لا المجادلة، غير أنهم هم أيضا اتكئوا على قوة أفهامهم وحدها، فلم يبتنوا قواعد محددة، وعولوا في كل شيء على حدة الذهن وعلى النشاط العقلي الدائب والمتصل.
إن منهجي، على الرغم من صعوبته في التطبيق، سهل في الشرح، منهجي هو أن نرسي درجات متزايدة من اليقين ... أن نستمر في الأخذ بشهادة الحواس، ونساعدها ونحصنها بنوع من التصويب، ولكن نرفض، بصفة عامة، العملية العقلية التي تتلو الإحساس، بل نفتح مسارا جديدا للعقل أكثر وثوقا يبدأ مباشرة من الإدراكات الحقيقية الأولى للحواس نفسها. كانت هذه بدون شك وجهة أولئك الذين أولوا المنطق دورا كبيرا، فمن الواضح أنهم كانوا يبحثون عن نوع من الدعم للعقل، ولا يأمنون لعملياته الطبيعية التلقائية، غير أن هذا العلاج يأتي متأخرا جدا بعد أن استفحل الداء وضاع كل شيء، وأصبح العقل من خلال عادات الحياة اليومية ومداولاتها محشوا بمذاهب فاسدة وأوهام فارغة، هنالك يسهم فن المنطق، الذي وصل للإنقاذ متأخرا وسقط في يده، يسهم في تثبيت الأخطاء لا في كشف الحقيقة،
2
ولا يبقى ثمة إلا أمل واحد للخلاص: وهو أن نبدأ العمل العقلي كله من جديد، ولا نترك العقل لحاله وطبيعته منذ البداية، بل نرشده في كل خطوة، وننفذ العمل كما لو كان يتم بمساعدة آليات ميكانيكية، فلو أن الناس في الأمور الميكانيكية شرعوا في العمل بأيديهم وحدها دون قوة الأدوات وعونها، مثلما يفعلون بلا تردد في الأمور الفكرية؛ إذ يركنون إلى أفهامهم وحدها، لما استطاعوا أن ينجزوا شيئا مهما بذلوا من جهد ومهما تآزروا فيه، وأود أن نتوقف لحظة عند هذا المثال لنتأمل كما لو أننا ننظر في مرآة، ولنسأل : لو أن هناك مسلة هائلة الجرم دعت الحاجة إلى نقلها (لتزيين احتفال نصر أو أي أبهة من هذا القبيل)، وأن على الناس أن تشرع في العمل بأيديها العارية، ألن يراهم أي مشاهد واع مجرد مجانين؟ ولو أنهم لجئوا إلى استدعاء مزيد من الأفراد عساهم أن يقدروا على ذلك، ألن يراهم المشاهد أكثر جنونا؟ فإذا ما راحوا عندئذ ينتقون فيستغنون عن الأيدي الأضعف ويقصرون العمل على الأقوياء الأشداء، ألن يراهم المشاهد غارقين في الجنون؟ وأخيرا، إذا لم يقنعوا بذلك فقرروا الاستعانة بفن الرياضة، واشترطوا أن يأتي كل رجالهم بأيد وأذرع وعضلات مدهونة بالزيت ومدلكة وفقا لأصول فن الرياضة، ألن يصيح المشاهد متعجبا مما يتجشمونه من أجل أن يضفوا رشدا ومنهجا على الجنون؟ غير أن هذا بالضبط هو حال الذين يمضون في أمر الفكر - بنفس الصنف من الجهد المجنون والتآزر العابث - حين يأملون خيرا من العدد ومن الإجماع أو من نبوغ الأفراد وحدة ذكائهم، وحين يحاولون باستخدام المنطق (الذي هو بمثابة نوع من الفن الرياضي) تقوية عضلات الفهم، ولكن بالرغم من كل هذه الدراسة وكل هذا الجهد، فمن البين لكل ذي نظر أنهم لا يستخدمون إلا الذهن الغفل طوال الوقت، غير أن كل عمل يدوي عظيم يستحيل أداؤه بدون أدوات ومعدات، سواء لزيادة قوة كل فرد أو لتوحيد قوى الأفراد.
بعد هذه المقدمات الضافية أخلص إلى نقطتين أود أن أوجه إليهما عناية الناس فلا يغفل عنهما أحد؛ الأولى: إنه من حسن الطالع فيما أرى، والذي يزيل النقمة والامتعاض، أنني لا أمس الوقار الواجب للقدماء ولا أنتقص منه، فيما أبسط تصوراتي وفيما يسعني في الوقت نفسه أن أحصد ثمار تواضعي؛ ذلك أنني إذا قلت إن لدي شيئا أفضل مما يقدمه القدماء بينما أنا أتخذ نفس الطريق الذي اتخذوه، فمعنى ذلك أن هناك مجالا للمقارنة والمنافسة بيننا، لا مفر بأي تفنن لفظي من الإقرار به، من حيث النبوغ والذكاء، ورغم أن هذا ليس أمرا جديدا أو غير جائز (إذ لو كان ثمة أي شيء أساءوا فهمه أو أخطئوا وضعه، فما الذي يمنعني، إذ أستخدم الحرية المتاحة للجميع، من أن أنتقدهم وأبين خطأهم؟) إلا أن المنافسة، على عدالتها وجوازها، ستكون غير متكافئة نظرا لقدراتي المحدودة، ولكن ما دام هدفي هو فتح طريق جديد للفهم لم يطرقوه ولم يعرفوه، فإن الأمر يختلف: فلا تحزب في الأمر ولا منافسة، وما أنا إلا دليل يشير إلى الطريق، وهو مركز ضئيل النفوذ ويعتمد على نوع من الحظ أكثر مما يعتمد على القدرة أو النبوغ، هذه النقطة تتعلق بالأشخاص، أما النقطة الأخرى التي أود أن أذكر الناس بها فتتعلق بالموضوع نفسه.
فليكن هناك إذن مصدران للمعرفة وسبيلان لنشرها (ربما لمصلحة الاثنين)، وليكن هناك بنفس الطريقة عشيرتان أو فصيلان من طلاب الفلسفة - فصيلان غير متعاديين أو مغتربين الواحد عن الآخر، بل مرتبطان بروابط التعاون المتبادل - ليكن هناك باختصار منهج لتنمية المعرفة وآخر لاكتشافها، أما بالنسبة لأولئك الذين يفضلون المنهج الأول، سواء بدافع العجلة أو لدواعي العيش، أو بسبب قصور قدرتهم العقلية عن استيعاب المنهج الآخر والتمكن منه (وهو بالضرورة حال الأغلبية العظمى)، فأنا أتمنى لهم النجاح فيما يصبون إليه. أما إذا كان هناك من لا يقنع بالركون إلى استخدام المعرفة التي تم اكتشافها بالفعل، ويأملون في مزيد من الاختراق لكي يقهروا خصما في جدل، بل لكي يقهروا الطبيعة في عمل، وباختصار لا لكي يقدموا آراء مدبجة وجيهة، بل لكي يعرفوا معرفة يقينية برهانية، فلينضموا إلي كأبناء حقيقيين للمعرفة، حتى نعبر الأفنية الخارجية للطبيعة، تلك التي وطئتها الحشود، فنفتح منفذا في النهاية إلى غرفها الداخلية، ولكي أوضح ما أعنيه وأقربه إلى الأفهام بإعطائه اسما، فقد رأيت أن أسمي أحدهما «استباق العقل»
anticipation of the mind ، والآخر «تفسير الطبيعة»
interpretation of nature .
يبقى لدي طلب ينبغي أن أتقدم به، لقد حرصت من جانبي كل الحرص على أن تأتي اقتراحاتي التي سوف أعرضها لا صائبة فحسب بل واضحة سهلة الولوج إلى عقول الناس (تلك التي تم استهواؤها وتعويقها على نحو عجيب)، غير أني لا أشق على الناس (وبخاصة في مثل هذا التجديد الكبير للمعرفة والعلوم) إذ أسألهم فضلا من جانبهم في المقابل: أن من يرغب في إبداء رأي أو إصدار حكم بخصوص أفكاري في هذا العمل، سواء من خلال ملاحظاته الخاصة، أو من خلال حشد من الثقات، أو خلال صور البرهان (التي اكتسبت اليوم سلطة القوانين القضائية)، فلا يحسبن أن بوسعه أن يفعل ذلك بلا تدقيق، أو وهو بصدد شيء آخر، إنما عليه أن ينظر في الأمر مليا، عليه هو نفسه أن يجرب الطريق الذي أصفه وأعبده، عليه أن يتمرس بدقة الطبيعة التي تبينها الخبرة، عليه أخيرا أن يصحح، بتؤدة ومهل، العادات الفاسدة والمتجذرة للعقل، وعندئذ فقط فليستخدم (إذا شاء) حكمه الخاص، وقد شرع في أن يكون سيد نفسه.
فرنسيس بيكون
الكتاب الأول
شذرات في تفسير الطبيعة وفي مملكة الإنسان1
(1) الإنسان هو الموكل بالطبيعة والمفسر لها، وهو بهذه الصفة لا يملك أن يفعل أو يفهم إلا بالقدر الذي تتيحه له ملاحظته التي قام بها لنظام الطبيعة، سواء كان ذلك في الواقع أو في الفكر، وليس بوسعه أن يعرف أو يعمل أكثر من ذلك. ••• (2) ليس لليد وحدها ولا للعقل وحده أية قدرة تذكر، إنما يجري العمل بالأدوات والعدد، تلك التي يحتاجها الفكر بقدر ما تحتاجها اليد، ومثلما تقوم أدوات اليد بحفز حركتها وترشيدها، كذلك تقوم أدوات العقل بحفز الفهم أو وقايته. ••• (3) المعرفة البشرية والقدرة البشرية صنوان؛ لأن الجهل بالعلة يمنع المعلول، ذلك أن الطبيعة لا يمكن قهرها إلا بإطاعتها، وما يعد علة في مجال الفكر النظري يعد قاعدة في مجال التطبيق. ••• (4) كل ما يستطيع الإنسان أن يعمله لكي يحقق نتائج
2
هو أن يضم أجساما طبيعية معا أو يفرقها، والطبيعة تتولى الباقي داخليا. ••• (5) يتمرس بالطبيعة من أجل نتائج عملية كل من الميكانيكي والرياضي والفيزيائي والخيميائي
3
والساحر؛
4
ولكن جميعهم - كما يشي الحال - لا يظفر إلا بنتاج هزيل ونجاح قليل. ••• (6) إنه لمن الخطل والتناقض الذاتي أن نتوقع أن الأشياء التي لم تنجز حتى الآن على الإطلاق يمكن أن تنجز، ما لم يكن ذلك بوسائل لم تجرب حتى الآن قط. ••• (7) تبدو نواتج العقل واليد وفيرة جدا إذا قدرت بعدد الكتب والسلع، غير أن كل هذا النتاج المتنوع لا يعدو أن يكون تنقيحا مفرطا واستنباطات من عدد قليل مما تمت معرفته، ولا يعبر عن عدد المبادئ
5 (المكتشفة). ••• (8) وحتى النواتج التي اكتشفت بالفعل إنما تم اكتشافها بطريق المصادفة والخبرة أكثر مما هو بطريق العلوم؛ ذلك أن علومنا الراهنة لا تعدو أن تكون تنظيمات لائقة لأشياء سبق اكتشافها، وليست طرائق للكشف أو موجهات لعمليات جديدة. ••• (9) سبب وأصل كل خلل تقريبا في العلوم هو هذا وحده: أننا في غمرة إعجابنا الخاطئ وإطرائنا لقوى العقل البشري لا نبحث عن دعائم حقيقية له. ••• (10) الطبيعة تفوق دقة الحواس والفكر أضعافا، بحيث إن جميع تلك التأملات والتنظيرات والشروح المنمقة التي ينغمس فيها الناس هي محض جنون، كل ما في الأمر أنه لا أحد هنالك ليلحظها. ••• (11) مثلما أن العلوم في وضعها الحالي لا تجدي نفعا في اكتشاف نتائج جديدة، كذلك المنطق الذي بحوزتنا لا جدوى منه في اكتشاف العلوم. ••• (12) نسق المنطق الحالي يفيد في تثبيت وترسيخ الأخطاء (القائمة على الأفكار السائدة) أكثر مما يفيد في البحث عن الحقيقة، ومن ثم فإن ضرره أكبر من نفعه. ••• (13) لا ينطبق القياس
syllogism
على مبادئ العلوم، ولا جدوى من تطبيقه في المبادئ الوسطى، إذ إنه لا يجاري الطبيعة في دقتها، وهو من ثم يفرض الموافقة على القضية دون أن يمسك بالأشياء. ••• (14) يتكون القياس من قضايا، والقضايا من كلمات، والكلمات هي مقابلات رمزية لأفكار، وعليه فإذا كانت الأفكار نفسها (وهذا هو جذر المسألة) مختلطة ومنتزعة برعونة من الوقائع، فلن يكون هناك ثبات فيما يبنى فوقها، لذا فلا أمل لنا إلا في الاستقراء
induction
الصحيح. ••• (15) لا شيء صحيح في أفكارنا سواء في المنطق أو في الفيزياء، فلا «الجوهر» ولا «الكيف» ولا «الفعل» ولا «العاطفة» ولا «الوجود» نفسه أفكار واضحة، وأقل منها وضوحا بكثير فكرة «ثقيل»، «خفيف»، «كثيف»، «رقيق»، «رطب»، «يابس»، «كون»، «فساد»، «جذب»، «طرد»، «عنصر»، «مادة»، «صورة»، وما إلى ذلك، كأنها أفكار وهمية وغير محددة. ••• (16) إن أفكارنا عن الأنواع الأقل عمومية - مثل: «الإنسان»، «الكلب»، «الحمام»، وعن الإدراكات المباشرة للحواس، مثل: «الحار»، «البارد»، «الأسود»، «الأبيض» - لا تخدعنا كثيرا، ولكن حتى هذه قد تضطرب في بعض الأحيان من جراء تدفق المادة وتغيرها وامتزاج الأشياء بعضها ببعض، وكل ما عدا ذلك مما استخدمه البشر إنما هو زيغ وضلال، وغير مستمد ولا مستخلص من الأشياء على نحو قويم. ••• (17) وليس تشييد «المبادئ»
axioms
بأقل تهافتا وزيغا من تكوين الأفكار، ولا حتى تلك المبادئ نفسها التي تعتمد على الاستقراء المعتاد،
6
غير أن التهافت والزيغ يبلغ مبلغا أعظم من كل ذلك في حالة المبادئ والقضايا الدنيا المستقاة من الأقيسة. ••• (18) إن كل ما اكتشف حتى الآن في العلوم ينسجم على قدر الأفكار الشائعة، ولكي نحقق اختراقا إلى الأعماق الباطنة والقصية من الطبيعة يتعين أن نستخلص الأفكار والمبادئ من الأشياء بطريقة أكثر وثوقا وحذرا، ويتعين اتخاذ إجراء فكري أكثر وثوقا وصحة. ••• (19) ليس هناك - ولا يمكن أن يكون - سوى طريقتين اثنتين للبحث عن الحقيقة وكشفها: الأولى تقفز من الحواس والجزئيات إلى أكثر المبادئ عمومية، ثم تنطلق من هذه المبادئ - وقد سلمت تسليما بصدقها - لكي تقرر المبادئ الوسطى وتكشفها، وهذه هي الطريقة الراهنة، أما الثانية فتستمد المبادئ من الحواس والجزئيات، ثم ترتقي في صعود تدريجي غير منقطع حتى تصل في النهاية إلى أكثر المبادئ عمومية، وهذه هي الطريقة الصحيحة وإن لم يجربها أحد حتى الآن. ••• (20) إذا ترك الفكر لحاله فإنه يمضي في نفس الطريق الذي يتخذه عندما يسترشد بالمنطق (أي يتخذ أولى الطريقتين السابقتين)، فالعقل مغرم بالقفز إلى العموميات لكي يتجنب العناء؛ ولذا فإنه سرعان ما يضيق ذرعا بالتجربة، غير أن هذه الآثام تتفاقم بالمنطق؛ لأنه يغري بالمماحكة والمراء. ••• (21) حين يترك الفكر لحاله لدى عقل يقظ وحصيف وجاد (وبخاصة إذا كان غير معوق بمذاهب سائدة)، فإنه يبذل محاولة ما في الطريق الصحيح، لكن دون جدوى؛ ذلك أن الفكر بغير توجيه ومساعدة لا حول له على الإطلاق، ولا قدرة على فض لغز الأشياء. ••• (22) إن كلتا الطريقتين تبدأ من الحواس والجزئيات وتخلص إلى أعلى العموميات، غير أنهما مختلفتان اختلافا بعيدا: فالأولى تمر على التجربة والجزئيات مرور الكرام، أما الثانية فتتمعن فيها كما يجب وتوليها كل اهتمامها. الأولى تضع منذ البداية تعميمات معينة مجردة وعقمية، أما الثانية فتصعد درجة درجة إلى تلك المبادئ التي هي أعم حقا في نظام الطبيعة. ••• (23) إن البون لبعيد بين أوهام العقل البشري وأفكار العقل الإلهي، أي بين ما هو مجرد آراء فارغة وما هو السمة أو البصمة الحقيقية المطبوعة على المخلوقات كما نجدها في الطبيعة. ••• (24) هيهات لمبادئ تم استخلاصها بالجدل أن تعين أحدا في كشف نتائج جديدة؛ لأن الطبيعة أدق وأحذق من الجدل أضعافا مضاعفة، أما المبادئ التي تستخلص من الجزئيات بطريقة وافية قويمة فإنها تشير وتومئ بسهولة إلى جزئيات جديدة، وهذا ما يضفي الفاعلية على العلوم. ••• (25) المبادئ المستخدمة في الوقت الحالي هي مبادئ مستمدة من حفنة من الخبرة ونزر يسير من الجزئيات الشائعة الحدوث، وكثيرا ما توسع وتمط لكي تنطبق عليها، ومن ثم فلا عجب إذا كانت هذه المبادئ لا تقودنا إلى جزئيات جديدة، فإذا ما صادفنا مثال مضاد لم نلحظه من قبل ولم نعرفه، فإننا ننقذ المبدأ ونبقي عليه بواسطة تمييز عبثي حيث يكون التصرف الأقوم هو أن نصوب المبدأ نفسه.
7 ••• (26) آثرت - من باب الإيضاح - أن أطلق على الاستدلال الذي يطبقه الناس عادة على الطبيعة اسم «استباق الطبيعة»
anticipation of nature ؛ لأنه عمل طائش ومبتسر، وأن أطلق على ما هو مستنبط من الأشياء على نحو منهجي صحيح اسم «تفسير الطبيعة»
interpretation of nature . ••• (27) تتمتع الاستباقات
anticipations
بقوة ورسوخ يكفي لانتزاع الإجماع، فحتى إذا أصيب البشر جميعا بالجنون بدرجة متساوية فسيكون بوسعهم الاتفاق فيما بينهم اتفاقا كبيرا. ••• (28) الحق أن «الاستباقات» أقوى بكثير على كسب الإجماع من «التفسيرات»، فلأنها مستقاة من أمثلة قليلة (شائعة مألوفة في الأغلب) فهي تمس الفهم على الفور وتملأ المخيلة، على حين أن التفسيرات - إذ تستجمع وقائع شديدة التنوع والتناثر - لا يمكنها أن تنفذ إلى الفهم للتو، ومن ثم فلا مناص لها من أن تبدو للنظرة الشائعة شيئا صعبا وناشزا وأشبه بأسرار الإيمان. ••• (29) يحق للعلوم القائمة على الآراء والاعتقادات أن تستخدم «الاستباقات» والجدل؛ ذلك أن غايتها أن تفرض القبول (بالقضية) لا السيطرة على الأشياء. ••• (30) حتى لو اجتمعت كل العقول من كل العصور وتآزرت جهودها جميعا فلن يتحقق تقدم كبير في العلم من طريق «الاستباقات»؛ ذلك أن الأغلاط المتجذرة في جبلة العقل الأولى لا سبيل إلى الشفاء منها بأية جهود أو علاجات لاحقة مهما بلغت عبقريتها. ••• (31) من العبث أن نتوقع أي تقدم كبير في العلوم من عملية إضافة وتطعيم
8
أشياء جديدة على القديمة، لا بد لنا من بداية جديدة
9
تتناول الأسس نفسها إذا شئنا ألا نظل ندور إلى الأبد في حلقة لا تفضي إلى أي تقدم يذكر. ••• (32) كرامة المؤلفين القدماء محفوظة، وكذا كرامة الجميع، فنحن لا ندخل في مقارنة من حيث العقول أو الملكات، بل مقارنة في الطرق والمناهج، ونحن لا نضطلع بدور القاضي بل بدور المرشد. ••• (33) فلنقلها صراحة: ليس ثمة حكم صائب يمكن إصداره على منهجنا ولا على الكشوف الناجمة عنه بواسطة تلك «الاستباقات» التي تشكل طريقة التفكير السائدة في الوقت الحالي، فليس ثمة ما يحملنا على أن نتقبل حكم المنهج الذي هو نفسه يحاكم.
10 ••• (34) ولا هو بالأمر السهل أن نشرح أو نفسر ما نحن بصدده؛ ذلك أن كل ما هو جديد سيظل يفهم من خلال الإشارة إلى ما هو قديم. ••• (35) كان بورجيا
11
يقول عن حملة الفرنسيين إلى إيطاليا: إنهم جاءوا بطباشير في أيديهم كي يسموا بها مساكنهم، وليس بأسلحة كي يقتحموا بها طريقهم، وبنفس الطريقة أريد لفلسفتي أن تنفذ بهدوء إلى العقول الممهدة لتلقيها، فلا محل للدحوضات ما دمنا نختلف في المبادئ الأولى وفي الأفكار ذاتها، بل وحتى في صور البرهان. ••• (36) ليس أمامنا سوى طريقة واحدة بسيطة لطرح قضيتنا: هي أن نضع الناس وجها لوجه أمام الجزئيات نفسها وأمام تسلسلها ونظامها المطرد، وعليهم بدورهم أن يتخلوا برهة عن أفكارهم ويبدءوا في التعارف مع الأشياء. ••• (37) يتفق منهجنا في بداية الطريق بعض الشيء مع منهج أولئك الذين أنكروا إمكان الوصول إلى اليقين، غير أنهما يفترقان في النهاية غاية الاختلاف ويتعارضان كل التعارض، فهم يذهبون ببساطة إلى أننا لا يمكننا أن نعرف شيئا، وأنا أيضا أذهب إلى أننا لا يمكننا أن نعرف شيئا يذكر في الطبيعة بواسطة المنهج المستخدم الآن، إلا أنهم يمضون إذاك لكي يدمروا سلطة الحس والفهم، بينما نمضي نحن لكي نبتكر لهما مساعدات ونزودهما بدعائم. ••• (38) تلك الأوهام والتصورات الزائفة - التي استحوذت على الذهن البشري وما زالت متجذرة فيه بعمق - لا ترين فقط على عقول البشر فلا تجد الحقيقة منفذا إليها، بل حتى إذا وجدت الحقيقة منفذا فإن هذه الأوهام سوف تلاحقنا مرة أخرى في عملية تجديد العلوم نفسها، وتضع أمامنا العوائق ما لم يأخذ البشر حذرهم ويحصنوا أنفسهم منها قدر ما يستطيعون. ••• (39) ثمة أربعة أنواع من «الأوهام»
12
تحدق بالعقل البشري، وقد قيضت لكل منها اسما بغرض التمييز بينها، فأطلقت على النوع الأول: «أوهام القبيلة»
idols of the tribe (idola tribus) ، وعلى النوع الثاني: «أوهام الكهف»
idols of the cave (idola specus) ، وعلى الثالث: «أوهام السوق»
idols of the market place (idola fori) ، وعلى الرابع: «أوهام المسرح»
idols of the theatre (idola theatric) . ••• (40) لا شك أن تكوين التصورات والمبادئ بواسطة الاستقراء الصحيح هو العلاج الناجع للتخلص من الأوهام وإزالتها، إلا أن التعرف على الأوهام هو أيضا أداة مفيدة للغاية، فدراسة «الأوهام»
idols
هي بالنسبة إلى «تفسير الطبيعة» مثل دراسة «الدحوضات السوفسطائية»
sophistic refutations
13
بالنسبة للمنطق العادي. ••• (41) «أوهام القبيلة» (أوهام الجنس)
idola tribus
مبيتة في الطبيعة البشرية وفي القبيلة البشرية نفسها أو الجنس البشري نفسه، فالرأي القائل بأن حواس الإنسان هي مقياس الأشياء إنما هو رأي خاطئ، فالإدراكات جميعا، الحسية والعقلية، هي - على العكس - منسوبة إلى الإنسان وليس إلى العالم، والذهن البشري أشبه بمرآة غير مستوية تتلقى الأشعة من الأشياء وتمزج طبيعتها الخاصة بطبيعة الأشياء فتشوهها وتفسدها. ••• (42) أما «أوهام الكهف»
idola specus
فهي الأوهام الخاصة بالإنسان الفرد، إن لكل فرد - بالإضافة إلى أخطاء الطبيعة البشرية بعامة - كهفا أو غارا خاصا به يعترض ضياء الطبيعة ويشوهها، قد يحدث هذا بسبب الطبيعة الفريدة والخاصة لكل إنسان، أو بسبب تربيته وصلاته الخاصة، أو قراءاته ونفوذ أولئك الذين يكن لهم الاحترام والإعجاب، أو لاختلاف الانطباعات التي تتركها الأشياء في أذهان مختلفة: في ذهن قلق متحيز، أو ذهن رصين مطمئن ... إلخ. الروح البشرية إذن (بمختلف ميولها لدى مختلف الأفراد) هي شيء متغير، وغير مطرد على الإطلاق، ورهن للمصادفة العشواء، وقد صدق هيراقليطس حين قال: إن الناس تلتمس المعرفة في عوالمهم الصغرى الخاصة، وليس في العالم الأكبر أو العام. ••• (43) ثمة أيضا أوهام تنشأ عن تواصل الناس واجتماعهم بعضهم ببعض، والتي أسميها «أوهام السوق»
idola fori ، بالنظر إلى ما يجري بين الناس هناك من تبادل واجتماع، فالناس إنما تتحادث عن طريق القول، والكلمات يتم اختيارها بما يلائم فهم العامة، وهكذا تنشأ مدونة من الكلمات سيئة بليدة تعيق العقل إعاقة عجيبة، إعاقة لا تجدي فيها التعريفات والشروح التي دأب المثقفون على التحصن بها أحيانا: فما تزال الألفاظ تنتهك الفهم بشكل واضح، وتوقع الخلط في كل شيء، وتوقع الناس في مجادلات فارغة ومغالطات لا حصر لها. ••• (44) وأخيرا هناك تلك الأوهام التي انسربت إلى عقول البشر من المعتقدات المتعددة للفلسفات المختلفة، وكذلك من القواعد المغلوطة للبرهان، وهذه أسميها «أوهام المسرح»
idola theatric ، ذلك أني أعتبر أن كل الفلسفات التي تعلمها الناس وابتكروها حتى الآن هي أشبه بمسرحيات عديدة جدا تقدم وتؤدى على المسرح، خالقة عوالم من عندها زائفة وهمية، ولا ينسحب حديثي على الفلسفات والمذاهب الرائجة اليوم فحسب، ولا حتى على المذاهب القديمة، فما يزال بالإمكان تأليف الكثير من المسرحيات الأخرى من نفس النمط وتقديمها بنفس الطريقة المصطنعة وإضفاء الاتفاق عليها، ما دامت أسباب أغلاطها الشديدة التعارض هي أسباب مشتركة إلى حد كبير، ولا أنا أقصر حديثي على الفلسفة الكلية، وإنما أشمل أيضا كثيرا من العناصر والمبادئ الخاصة بالعلوم، والتي اكتسبت قوتها الإقناعية من خلال التقليد والتصديق الساذج والقصور الذاتي، غير أننا ينبغي أن نعرض لكل صنف من الأوهام على حدة بتفصيل أكبر؛ كيما نحصن الفهم البشري ضدها. ••• (45) من طبيعة الفهم البشري الخاصة أنه يميل إلى أن يفترض في العالم نظاما واطرادا أكثر مما يجده فيه، ورغم وجود أشياء كثيرة في الطبيعة فريدة في نوعها وعديمة النظير، فإن الذهن البشري يخترع لها أشباها ونظائر وصلات لا وجود لها، ومن هنا يأتي الوهم القائل بأن جميع الأجرام السماوية تتحرك في دوائر مكتملة، بينما تستبعد تماما المسارات اللولبية والمتمعجة (إلا في الاسم)، ومن هنا كذلك إدخال عنصر النار ومداره؛ لكي يكون رباعيا مع العناصر الثلاثة الأخرى التي تدركها الحواس، وكذلك فرض نسبة عشرة إلى واحد على العناصر (كما يطلق عليها) بشكل اعتسافي، والتي هي نسبة كثافاتها على التوالي، وما إلى ذلك من الهراء، ولا تقتصر هذه الحماقة على النظريات، بل تمتد أيضا إلى التصورات البسيطة. ••• (46)
14
من دأب الفهم البشري عندما يتبنى رأيا (سواء لأنه الرأي السائد أو لأنه يروقه ويسره) أن يقسر كل شيء عداه على أن يؤيده ويتفق معه، ورغم أنه قد تكون هناك شواهد أكثر عددا وثقلا تقف على النقيض من هذا الرأي، فإنه إما أن يهمل هذه الشواهد السلبية ويستخف بها، وإما أن يختلق تفرقة تسول له أن يزيحها وينبذها؛
15
لكي يخلص - بواسطة هذا التقدير السبقي المسيطر والموبق - إلى أن استنتاجاته الأولى ما زالت سليمة ونافذة؛ ولذا فقد كان جوابا وجيها ذلك الذي بدر من رجل أطلعوه على صورة معلقة بالمعبد لأناس دفعوا نذورهم ومن ثم نجوا من حطام سفينة؛ عساه أن يعترف الآن بقدرة الآلهة، فما كان جوابه إلا أن قال: «حسنا، ولكن أين صور أولئك الذين غرقوا بعد دفع النذور؟!»
16
وهكذا سبيل الخرافة، سواء في التنجيم أو في تفسير الأحلام أو الفأل أو ما شابه، حيث تجد الناس - وقد استهوتهم هذه الضلالات - يلتفتون إلى الأحداث التي تتفق معها، أما الأحداث التي لا تتفق - رغم أنها الأكثر والأغلب - فيغفلونها ويغضون عنها الطرف، على أن هذا الأذى يتسلل بطريقة أشد خفاء ودقة إلى داخل الفلسفة والعلوم، حيث يفرض الحكم الأول لونه على ما يأتي بعده، ويحمله على الإذعان له والانسجام معه، ولو كان الجديد أفضل وأصوب بما لا يقاس، وفضلا عن ذلك - وبغض النظر عن ذلك الهوى والضلال الذي ذكرت - فإن من الأخطاء التي تسم الفكر الإنساني في كل زمان أنه مغرم ومولع بالشواهد الموجبة أكثر من الشواهد السالبة،
17
حيث ينبغي أن يقف من الاثنين على حياد. والحق أنه في عملية البرهنة على أي مبدأ صحيح يكون المثال السلبي هو أقوى المثالين وأكثرهما وجاهة وفعالية. ••• (47) إن أكثر ما يشغف الفهم البشري هو تلك الأشياء التي تلفت العقل وتنفذ إليه فورا وفجأة، فتجعل المخيلة تمتلئ للتو وتتمدد، ثم يتراءى له (أي الفهم) ويفترض أن كل شيء آخر هو بطريقة ما - وإن تكن خفية غير مدركة - شبيه بتلك الأشياء القليلة التي استحوذت على العقل، أما في الترحال إلى أمثلة بعيدة وغير متجانسة تختبر المبادئ اختبار النار فإن الفكر بطيء جدا وغير مؤهل ما لم تحمله على ذلك قواعد قاسية وسلطة نافذة. ••• (48) إن الفهم البشري في نشاط دائب، ولا يمكنه أن يتوقف أو يستكن، وما يزال يبتغي المضي قدما وإن كان ذلك بغير جدوى؛ ولذا فمن غير المتصور أن يكون هناك حد ما للعالم أو نقطة نهاية؛ إذ يبدو لنا دائما - بما يشبه الضرورة - أن هناك شيئا ما وراء ذلك الحد أو النهاية، ولا هو من المتصور أيضا كيف تدفقت الأبدية نزلا إلى يومنا هذا؛ لأن هذا التحديد المتفق عليه للانهاية في الماضي واللانهاية في المستقبل لا يمكن أن يصمد، إذ سيترتب أن هناك لا نهاية أكبر من لا نهاية أخرى، وأن اللانهائية تتآكل وتؤول إلى نهائية، وثمة نفس الصعوبة فيما يتعلق بقابلية الخطوط للانقسام إلى ما لا نهاية، والناجمة عن انفلات فكرنا وعجزه عن التوقف،
18
على أن هذا الانفلات من جانب العقل يكون أكثر إيذاء في عملية اكتشاف العلل، فعلى الرغم من أن المبادئ الأكثر عمومية في الطبيعة ينبغي أن تكون وقائع خاما هي كما وجدت عليه ولا يمكن أن تحال حقا إلى علة، إلا أن الفهم البشري في عجزه عن التوقف ما يزال يتلمس شيئا ما سابقا في نظام الطبيعة، ثم هو في غمرة جهاده في المضي إلى ما هو أبعد إذا به يرتد إلى ما هو أقرب مأخذا، أعني إلى العلل الغائية،
19
تلك التي تمت بالصلة إلى طبيعة الإنسان أكثر مما تمت إلى طبيعة العالم، وهي من جراء هذا المنشأ قد أفسدت الفلسفة على نحو عجيب، على أن الفيلسوف الذي يلتمس العلل في العموميات القصوى ليس أقل خرقا وسطحية من ذلك الذي يتوانى عن التماسها في الأشياء التابعة والفرعية. ••• (49) الفهم الإنساني ليس مجبولا من ضياء صرف،
20
وإنما هو مشرب بالإرادة والعواطف،
21
من هنا تأتي المعرفة التي يمكن أن تسمى «معرفة حسب الطلب»، فالإنسان أميل دائما إلى تصديق ما يفضله، ولذا فهو ينبذ الأمور الصعبة؛ لأنها تجشمه الصبر في البحث، وينبذ الاعتدال لأنه يضيق حدود أمله، وينبذ التعمق في الطبيعة؛ لأنه - أي الإنسان - مرتهن للخرافة، ويرفض نور التجربة؛ لأنه متغطرس مكابر يظن أن العقل لا يليق به أن يهدر وقته في أشياء مبذولة متغيرة، ويرفض كل ما هو غير تقليدي خوفا من رأي العامة، صفوة القول: إن العاطفة تدمغ العقل وتصبغه بطرائق لا حصر لها، وطرائق خفية تند عن الإدراك في بعض الأحيان. ••• (50) غير أن أكبر عائق للفهم البشري على الإطلاق وأكبر زيغ إنما يأتي من بلادة الحواس وقصورها وخداعها، فالأشياء التي تمس الحواس لها الأرجحية على الأشياء التي لا تمسها مباشرة مهما علا شأنها، هذا ما يجعل التأمل يتوقف في أغلب الأحوال حيثما يتوقف البصر، بحيث لا يؤبه للأشياء غير المرئية، وبذلك يبقى كل فعل الأرواح المكنونة في الأجسام الملموسة
22
خفيا غير ملحوظ من الناس، وخفية بالمثل تلك التغيرات البنيوية
23
الأدق في أجزاء الأشياء الكثيفة (والتي تشيع تسميتها بالتغير ولكنها في حقيقة الأمر حركة جسيمات دقيقة)، ولكن ما لم يتم بحث هذين الأمرين المذكورين وإخراجهما إلى واضحة النهار فلن يمكن تحقيق نتائج ذات قيمة في الطبيعة، وكذلك الطبيعة الجوهرية للهواء المشاع ولجميع الأجسام الأقل كثافة من الهواء (وهي كثيرة جدا) فهي أيضا مجهولة تقريبا؛ ذلك أن الإحساس بحد ذاته كليل وعرضة للخطأ، ولا تفيده كثيرا الأدوات المستخدمة لتوسيعه وشحذه، أما التفسير الأصدق للطبيعة فإنما يتحقق بواسطة الشواهد وبواسطة التجارب المناسبة وذات الصلة، حيث يحكم الحس على التجربة وحدها، بينما تحكم التجربة على الطبيعة والشيء ذاته. ••• (51) الفهم البشري يميل بطبيعته الخاصة إلى التجريد، ويفترض جوهرا (ثابتا) وواقعا فيما هو عابر ومتغير، غير أنه أفضل لنا أن نشرح الطبيعة إلى أجزاء من أن نجردها، وهذا ما فعلته مدرسة ديمقريطس التي حققت تقدما أكبر من غيرها في اختراق الطبيعة، إن المادة - وليست الصور - هي ما ينبغي الالتفات إليه: المادة وبنيتها وتغيرات هذه البنية والفعل المحض
24
وقانون هذا الفعل، أما الصور فما هي إلا وهم العقل البشري، إلا إذا أطلقنا اسم «الصور» على قوانين الفعل. ••• (52) هكذا هي أوهام القبيلة، التي تنشأ إما عن اطراد جبلة الروح البشرية أو عن تحيزاتها أو قصور ملكاتها أو حركتها الدائبة أو عن تأثير الانفعالات أو عن عجز الحواس أو عن شكل انطباعاتها. ••• (53) أما «أوهام الكهف»
idola specus
فتصدر عن الطبيعة الخاصة لعقل كل فرد وجسمه، وعن ثقافته أيضا وعاداته وظروفه، ورغم أن هذه الفئة متنوعة ومركبة إلا أننا سنتناول منها تلك الجوانب الأكبر خطرا وأشد إفسادا لصفاء الفهم. ••• (54) يقع الناس في غرام قطاعات معينة من المعرفة والأفكار، إما لأنهم يظنون أنفسهم مؤلفيها ومبتكريها، وإما لأنهم أنفقوا فيها جهدا كبيرا وصاروا على إلف كبير بها، إذا عمد مثل هؤلاء الناس إلى الفلسفة والتأملات ذات الصبغة الكلية فإنهم يلوون بها ويفسدونها لكي تلائم خيالاتهم المسبقة، ولدينا من أرسطو نموذج واضح لهؤلاء: لقد أخضع فلسفة الطبيعة تماما لمنطقه، فجعل منها شيئا خلافيا ولا خير فيه، ولدينا أيضا جماعة الخيميائيين، فقد شيدوا فلسفة خيالية ضيقة النطاق للغاية، قوامها بضع تجارب في الأتون، وكذلك جلبرت
Gilbert
25
فبعد أن كرس جهدا كبيرا في دراسة الحجر المغناطيسي وملاحظته توجه للتو إلى تلفيق فلسفة كاملة أخضعها لموضوعه الأثير. ••• (55) أما أكبر الفروق بين العقول وأكثرها جذرية في مجال الفلسفة والعلوم، فهو أن بعض العقول أقدر وأميل إلى ملاحظة الفروق بين الأشياء، وبعضها الآخر إلى ملاحظة التشابهات بينها، فالعقول المدققة الدءوبة بوسعها تثبيت الانتباه وتركيزه فترات طويلة على كل فارق طفيف، أما العقول الرصينة الاستدلالية فبوسعها التفطن إلى أخف التشابهات وأعمها والمضاهاة بينها، وكلا الصنفين من العقول عرضة للشطط، سواء بالتشبث بالفروق التافهة أو بخيالات التشابه. ••• (56) ثمة عقول أشربت بإعجاب لا حدود له بالقديم، وعقول أخرى مغرمة بالجديد، وقلما نجد من يقف موقفا متوازنا فلا يبخس القدماء إنجازاتهم الصائبة ولا يزدري الإسهامات الوجيهة للمحدثين، وهذا خسران مبين للعلوم والفلسفة، فهذه ليست أحكاما مستبصرة بل مجرد ولوع بالقديم أو بالجديد، أما الحقيقة فينبغي ألا تلتمس في حظوة زمن بعينه، فهذا أمر غير مضمون، بل في ضوء الطبيعة والتجربة، وهو شيء أزلي، علينا إذن أن نجتنب مثل هذه الأهواء ونعيذ فكرنا أن ينساق إليها. ••• (57) إن ملاحظة الطبيعة والأجسام في أجزائها البسيطة من شأنها أن تكسر الفهم وتشتته، في حين أن ملاحظة الطبيعة والأجسام في تكوينها الكلي وبنيتها المركبة من شأنه أن يذهل الفهم ويوهنه، وهذا التمييز نراه في أوضح صورة عند مقارنة مدرسة ليوسيبوس وديمقريطس
26
بغيرها من الفلسفات، فهذه المدرسة مشغولة بالجزئيات بحيث أغفلت البنية إلى حد كبير، بينما المدارس الأخرى منبهرة بمشاهدة البنية فلا تكاد تنفذ إلى بساطة الطبيعة. ينبغي إذن أن نتناوب هذين الصنفين من الملاحظة، بحيث نجعل الفهم ثاقبا وشاملا في الوقت نفسه، ونتلافى العيوب المذكورة لكل من الطريقتين والأوهام التي تنجم عنها. ••• (58) كذا فليكن الحذر في الملاحظة، الكفيل بنفي أوهام الكهف، تلك الأوهام التي تنشأ في معظمها من غلو في التركيب أو شطط في التقسيم، ومن التحيز لعصور تاريخية بعينها، ومن كبر موضوعات الملاحظة أو صغرها،
27
وبصفة عامة: فعلى كل دارس للطبيعة أن ينظر بارتياب إلى كل ما يفتن عقله ويأخذ بلبه، وأن يجعل ذلك همه الأكبر في هذا الصنف من البحث؛ كيما يحفظ ذهنه صافيا ومتوازنا. ••• (59) غير أن «أوهام السوق»
idola fori
28
هي أكثر الأوهام إزعاجا، تلك الأوهام التي انسربت إلى الذهن من خلال تداعيات الألفاظ والأسماء؛ ذلك أن الناس يظنون أن عقلهم يتحكم في الألفاظ، بينما الحقيقة أيضا أن الألفاظ تعود وتشن هجوما مضادا على الفهم، وهذا ما جعل الفلسفة والعلوم مغالطة وعقيمة؛ لأن الألفاظ تكونت في معظمها لكي تلائم قدرة العامة من الناس، وهي تحدد الأشياء بخطوط تقسيم تسهل على الذهن العامي، وحالما أراد ذهن أكثر حدة أو ملاحظة أكثر تدقيقا أن تغير هذه الخطوط لتلائم التقسيمات الأصوب للطبيعة فإن الألفاظ تعترض الطريق وتقاوم التغيير، ومن ثم تنتهي الحوارات الرفيعة والجليلة - في كثير من الأحيان - إلى خلافات حول ألفاظ وأسماء؛ ولذا فمن الأسلم (اقتداء بحذر علماء الرياضيات) أن نبدأ منها ونضفي عليها النظام باستخدام التعريفات، إلا أن مثل هذه التعريفات لا يمكنها أن تعالج هذا الخلل إذا كان موضوع الدراسة هو الطبيعة والمادة؛ لأن التعريفات نفسها تتكون من ألفاظ والألفاظ تولد ألفاظا؛ ولذا فإن علينا أن نلجأ إلى شواهد محددة وإلى تسلسلها المطرد ونظامها، كما سنذكر حالا عندما نعرض للمنهج والطريقة فيما يتصل بتكوين التصورات والمبادئ. ••• (60) هناك نوعان من الأوهام تفرضهما اللغة على الفهم، وهما إما أسماء لأشياء لا وجود لها (فإلى جانب الأشياء التي تفتقر إلى أسماء؛ لأنها لم تلاحظ بعد، هناك أيضا أسماء تفتقر إلى أشياء؛ لأنها وليدة افتراضات خيالية لا تناظرها أشياء في الواقع)، وإما أسماء لأشياء موجودة ولكنها مختلطة وغير محددة؛ لأنها انتزعت من الأشياء على عجل ودون تدقيق، من الصنف الأول لفظ
fortune
29
و«المحرك الأول» و«الأفلاك الكوكبية»
30
وعنصر «النار»، إلى غير ذلك من الخيالات التي تعود في نشأتها إلى النظريات الزائفة العقيمة، هذا الصنف من الأوهام يسهل التخلص منه، إذ من الممكن استئصالها بواسطة التفنيد المستمر أو التخلي عن النظريات نفسها، أما الصنف الثاني من الأوهام فهو معقد ومتجذر؛ لأنه ناتج من تجريد مغلوط وأخرق، ولنأخذ كمثال كلمة «رطب»، وننظر إلى أي حد تتسق الأشياء المشار إليها بهذه اللفظة، وسنجد أن كلمة «رطب» لا تعدو أن تكون علامة تستخدم بتسيب وخلط لتدل على أفعال متباينة لا يجمعها أي اطراد أو قاسم مشترك، فهي تشير إلى ذلك الذي ينشر نفسه حول شيء آخر، وذلك الذي لا تخوم له ولا ثبات، وذلك الذي يستسلم في كل اتجاه، وذلك الذي يسهل انقسامه وتناثره، وذلك الذي يسهل تدفقه وتحريكه، وذلك الذي يسهل التصاقه بجسم آخر وترطيبه، وذلك الذي يرد بسهولة إلى الحالة السائلة، أو هو صلب يسهل انصهاره، ومن ثم فإذا أتيت إلى استعمال هذا اللفظ فستجد من جهة أن اللهب رطب، ومن جهة أخرى أن الهواء رطب، ومن أخرى أن التراب الدقيق رطب، ومن أخرى أن الزجاج رطب،
31
هكذا يتبين بسهولة أن هذا التصور قد انتزع على عجل من الماء والسوائل الشائعة والعادية فحسب بدون أي تمحيص واجب.
ثمة درجات من القصور والخطأ في الألفاظ، فأقل فئات الألفاظ خطأ أسماء المواد وبخاصة النوع الأقل تجريدا وأكثر تحديدا (تصور الطباشير والطين حسن، وتصور التراب سيئ)، تليها أسماء الأفعال مثل «يولد» «يفسد» «يغير»، أما أكثر الفئات خطأ فأسماء الكيفيات (باستثناء الموضوعات المباشرة للإحساس)، مثل: «ثقيل» «خفيف» «مخلخل» «كثيف» ... إلخ، على أنه في جميع الفئات تكون بعض التصورات بالضرورة أفضل قليلا من البعض الآخر، وفقا لكثرة أو قلة الأشياء التي تقع في نطاق الحواس. ••• (61) أما «أوهام المسرح»
idola theatric
فليست فطرية ولا هي تسترق إلى الذهن سرا، وإنما يتم إدخالها علنا وتقبلها عن طريق النظريات الخرافية والقواعد المغلوطة للبرهان، ولكن ليس بما يتفق مع ما أعلنته آنفا أن أحاول أو أضطلع بتفنيدها، فما دمنا لا نتفق حول المبادئ ولا حول البراهين فلا محل للجدل، وهذا من حسن الحظ بقدر ما يحفظ للقدماء كرامتهم، فأنا لا أنتقص من قدرهم، إذ لا يعنيني في مذهبي كله إلا الطريق الذي يتبع، وكما يقول المثل: «الأعرج على الطريق الصحيح يسبق العداء على الطريق الخطأ.» بل إن الذي يتخذ الطريق الخطأ يزداد ضلالا وبعدا عن المقصد كلما كان أمهر وأسرع.
إن منهجي في الكشف مصمم بحيث لا يعول على حدة الموهبة الفردية وقوتها، بل إنه يكاد يسوي بين الملكات والأفهام، فمثلما أن رسم خط مستقيم أو دائرة دقيقة يعتمد كثيرا على ثبات اليد ودربتها بينما لا حاجة لأي ثبات ودربة إذا ما استخدمت مسطرة أو فرجار، كذلك الأمر بالضبط في منهجي المقترح، ولكن رغم أني لا أعرض لتفنيدات بعينها، إلا أن شيئا ما ينبغي أن يقال، أولا عن مذاهب هذه النظريات وأنواعها، ثم عن وجود دلائل خارجية على ضعفها، وأخيرا عن أسباب مثل هذا الفشل ومثل هذا التشبث الطويل بالخطأ والإجماع عليه، أتغيا من ذلك أن أجعل المسلك إلى الحقيقة أقل عثارا، والفهم البشري أكثر نزوعا إلى التطهر ونبذ الأوهام. ••• (62) هناك الكثير من «أوهام المسرح» أو أوهام النظريات، ويمكن أن تكون هناك وربما ستجد فيما بعد أوهام أخرى كثيرة، إذ لولا أن عقول الناس قد انشغلت أحقابا طويلة بالمسائل الدينية واللاهوتية، والحكومات المدنية (وبخاصة الملكيات) قد أبغضت مثل هذه التجديدات حتى في الفكر (بحيث لا يمكن لأحد أن ينخرط فيها دون خطر وضرر، ولا يعدم الثواب فحسب بل يلحقه الازدراء والحسد)، لولا ذلك لكانت أدخلت - بلا شك - مذاهب فلسفية ونظرية أخرى كثيرة مثل تلك التي ازدهرت مرة بوفرة وتنوع كبير عند اليونان، فمثلما يمكن تشييد نظريات خيالية كثيرة من ظواهر السماء، فمن الممكن - بل والأيسر - تشييد اعتقادات متنوعة كثيرة من ظواهر الفلسفة، وفي مسرحيات هذا المسرح الفلسفي قد تلاحظ نفس الشيء الموجود في مسرح الشعراء: أن القصص المؤلفة للمسرح أكثر تماسكا ووجاهة وإمتاعا من القصص الحقيقية من التاريخ، وأقرب لرغبات الناس.
وبصفة عامة فإن الناس يأخذون كأساس لفلسفتهم: إما أشياء كثيرة جدا من موضوعات قليلة، وإما أشياء قليلة جدا من موضوعات كثيرة، وفي كلتا الحالتين تتأسس الفلسفة على أساس ضيق جدا من التجربة والتاريخ الطبيعي، وتقرر الأحكام بناء على شواهد أقل مما يجب، فالفلاسفة العقليون يلتقطون من التجربة تنويعة من الأمثلة العامة لم يتم فهمها بدقة ولا فحصها ووزنها بعناية، ويعتمدون فيما تبقى على التأمل والنشاط الفكري.
وهناك أيضا فئة أخرى من الفلاسفة ما يكادون يعكفون بعناية وصدق على بضع تجارب حتى يسارعوا باستنباط فلسفاتهم منها ويشيدوها تشييدا، ويلوون كل الوقائع الأخرى بطرق عجيبة لكي تنسجم مع هذه الفلسفات.
وهناك بعد صنف ثالث من الفلاسفة يحملهم إيمانهم ووقارهم على أن يخالطوا فلسفتهم باللاهوت والتعاليم، من هؤلاء من بلغ بهم الغرور مبلغا جعلهم يحاولون اشتقاق العلوم من الأرواح والعفاريت. ثمة إذن ثلاثة مصادر للخطأ وثلاثة أنواع من الفلسفة الزائفة: السوفسطائية
32
والتجريبية العشوائية والخرافية. ••• (63) وأوضح مثل على الصنف الأول من الفلاسفة هو أرسطو، الذي أفسد الفلسفة الطبيعية بمنطقه، وشيد العالم بمقولاته، ونسب إلى الروح البشرية - أنبل الجواهر جميعا - جنسا يقوم على كلمات من المقصد الثاني،
33
وحول التفاعل بين الكثيف والمخلخل (الذي به تشغل الأجسام محلا أكبر أو أصغر) إلى تلك التفرقة الباردة بين القوة والفعل، وأكد أن لكل جسم حركة فريدة خاصة به، فإذا شارك في حركة أخرى فإن هذه الحركة تعود إلى علة خارجية، وفرض على الطبيعة أشياء أخرى لا حصر لها وفقا لهواه، فقد كانت تعنيه دائما التعريفات والدقة في صياغة قضاياه أكثر مما تعنيه الحقيقة الداخلية للأشياء، يتجلى هذا في أوضح صورة إذا ما قارنا فلسفته بغيرها من الفلسفات الذائعة بين اليونان: فال «هومويوميرا»
34 (الأجزاء المتماثلة) عند أنكساجوراس، والذرات عند ليوسيبوس وديمقريطس، والسماء والأرض عند بارمنيدس، والتنافر والانسجام عند أمبدوقليس، وتلاشي الأجسام في الطبيعة غير المتمايزة للنار ثم عودتها إلى الصلابة مرة أخرى عند هيراقليطس، كل أولئك يحمل داخله شيئا من الفلسفة الطبيعية ومن حس الطبيعة والتجربة والأجسام، في حين لا تكاد تسمع في فيزيقا أرسطو أي شيء عدا مصطلحات المنطق، والتي أعاد تدويرها مرة أخرى في ميتافيزيقاه تحت تسمية أكثر جلالا، زاعما أنه واقعي
realist
أكثر منه اسميا
nominalist ، ولا يخدعن أحدا كثرة التجائه إلى التجربة في كتبه «عن الحيوان» و«مشكلات» ورسائل أخرى، فحقيقة الأمر أنه قد حسم أمره مسبقا ولم يستشر التجربة حق المشورة كأساس لأحكامه ومبادئه. إنه يعتسف أحكامه اعتسافا ثم يلوي بالتجربة حتى تلائم أفكاره، ويجرها كما يجر أسير في موكب، ومن ثم فهو أفدح ذنبا من تابعيه المحدثين (الأسكولائيين) الذين هجروا التجربة تماما ونفضوا أيديهم منها.
35 ••• (64) تتولد عن المدرسة التجريبية معتقدات أكثر تشوها ومسخا مما تنتجه المدرسة السوفسطائية أو العقلية؛ ذلك لأن هذه المعتقدات لا تتأسس في ضوء التصورات العامة (التي رغم ضعفها وسطحيتها فهي بشكل ما عمومية وتشير إلى أشياء كثيرة)، بل تقوم على أساس ضيق ومعتم من حفنة تجارب، مثل هذه الفلسفة تبدو محتملة وشبه يقينية عند أولئك الذين ينخرطون كل يوم في مثل هذا الصنف من التجارب فأفسدوا مخيلتهم بها، أما لغيرهم فتبدو بعيدة عن التصديق وغير ذات جدوى، ولدينا عليها مثال صارخ في أهل الخيمياء ومعتقداتهم، وهي عدا ذلك نادرة الوجود في زمننا هذا، ربما باستثناء فلسفة جلبرت، ويبقى علينا رغم ذلك أن نحذر من مثل هذه الفلسفات؛ ذلك أننا ندرك ونتوقع أنه إذا أصغى الناس لنصيحتنا وكرسوا أنفسهم حقا للتجربة (بعد أن ودعوا المذاهب السفسطائية) فإن هذه الفلسفة ستكون مصدر خطر حقيقي على أقل تقدير، وذلك بسبب تسرع العقل وتهوره، وقفزه أو طيرانه إلى العموميات وإلى مبادئ الأشياء، ذلك الخطر الذي ينبغي من ثم أن نكون متأهبين - حتى في هذه اللحظة - لمواجهته. ••• (65) على أن الفساد الذي يأتي الفلسفة من الامتزاج بالخرافة والثيولوجيا هو أوسع انتشارا وأشد ضررا عليها، سواء على منظوماتها الكلية أو على أجزائها، فتأثر العقل البشري بالخيال لا يقل عن تأثره بالأفكار الشائعة. إن الصنف الجدلي والسوفسطائي من الفلسفة يوقع العقل في شرك، أما الصنف الآخر أي الفلسفة الخيالية الطنانة شبه الشعرية فتغويه. إن بالإنسان ضربا من طموح الفكر لا يقل عن طموح الإرادة، وبخاصة لدى الشخصيات الشامخة النبيلة.
وهناك مثال لافت على هذا بين اليونان نجده في فيثاغوراس، وإن كانت الخرافة لديه فظة ثقيلة، ومثال آخر في أفلاطون ومدرسته حيث الخرافة أخطر وأرقى، وهذا الإثم نجده أيضا في جوانب من الفلسفات الأخرى، متمثلا في القول بالصور المجردة والعلل الغائية والأولى،
36
مع إغفال كثير للعلل الوسطى وما إليها. إن علينا أن نتخذ أشد الحذر هنا، فليس ثمة ما هو أسوأ من تمجيد الخطأ، فحين تؤله الحماقة فذلكم بلاء يحيق بالفكر، في هذه الحماقة انغمس بعض المحدثين، وبغفلة متناهية حاولوا أن يؤسسوا فلسفة طبيعية على الفصل الأول من سفر التكوين
Genesis
وسفر أبواب وأجزاء أخرى من الكتاب المقدس، باحثين - هكذا - عن الموتى بين الأحياء،
37
ومثل هذه الحماقة يجب أن توقف وتقمع بكل قوة، فمن هذا المزج غير الصحي بين البشري والإلهي لا تنبثق فقط فلسفة وهمية، بل ودين هرطقي، ومن ثم فإن رأس الحكمة والاتزان أن نعطي للإيمان ما هو للإيمان ولا نتزيد. ••• (66) بحسبنا هذا عن السلطة الخبيثة للفلسفات القائمة على تصورات عامة أو تجارب قليلة أو على الخرافة، ويبقى أن نتحدث عن الموضوعات الخاطئة للتأمل العقلي، وبخاصة في الفلسفة العقلية، إن العقل يضل السبيل إذ ينظر إلى ما يجري في الفنون الميكانيكية، حيث الأجسام تتغير تماما عن طريق التركيب والتفريق، فيفترض أن شيئا شبيها بذلك يحدث في الطبيعة الكلية للأشياء، وهذا هو مصدر الوهم القائل ب «العناصر»
elements
واحتشادها لتكوين الأجسام الطبيعية، كذلك عندما يتأمل الإنسان في الطبيعة وهي تعمل بحرية، فإنه يلتقي بأجناس شتى من الأشياء: حيوانات، نباتات، معادن، ومن هنا ينزلق بسهولة إلى تصور أن في الطبيعة صورا أولية للأشياء تريد أن تنتجها، وأن ما عدا ذلك من تنويعات إنما يأتي من جراء عوائق وأخطاء للطبيعة في إنجاز مهمتها، أو من صراع بين الأجناس المختلفة، أنتجت الفرضية الأولى مذهب الخواص الأولية، والثانية أنتجت مذهب الخواص الخفية والقوى النوعية، وكلا التصورين ينتميان إلى تلك الفئة من المختصرات الفكرية الفارغة التي فيها يسترخي العقل وينصرف عن موضوعات أكثر أهمية، وحسنا يفعل الأطباء حين يكبون على الخواص الثانوية للمادة وعمليات الجذب والطرد والتكثيف والبسط والقبض والتشتيت والنضج وما إلى ذلك،
38
ولقد كانوا حريين بتحقيق تقدم أكبر لو لم يعمدوا إلى التصورات المبسوطة التي تحدثت عنها (أي الخواص الأولية والقوى النوعية) فيفسدوا بها هذه الملاحظات القويمة باختزالها إلى خواص أولية وأخلاط دقيقة غير قابلة للمقايسة، أو بعدم تتبعها بملاحظات أكثر قوة ودقة إلى خواص ثالثة ورابعة، والتوقف فجأة عن الملاحظة قبل الأوان، مثل هذه القوى (أو ما شابهها) لا ينبغي أن نبحث عنها بين أدوية الجسم البشري فحسب، بل أيضا في العوامل التي تغير الأجسام الطبيعية الأخرى.
وأشد خطرا من ذلك أنهم يبحثون ويتقصون المبادئ الساكنة للأشياء التي «منها» أتت الأشياء نفسها إلى الوجود وليس المبادئ المتحركة التي «بواسطتها» أتت،
39
فالأولى تتعلق بالحديث، والثانية بالعمل، وليس ثمة أي قيمة في التمييزات الشائعة للحركة والتي نلحظها في الفلسفة الطبيعية التقليدية، مثل: الكون والفساد والزيادة والنقصان والتغير والحركة الموضعية، فكل ما تعنيه هو أنه إذا ما تحرك جسم - هو على ما هو عليه فيما عدا ذلك - من مكانه، فهذه هي الحركة الموضعية (النقل)، فإذا تغير في الكيف بينما بقي المكان والنوع على حاله فهذا هو «التغير»
alteration ، أما إذا نتج من هذا التغير أن الكتلة نفسها وكم الجسم لم يظلا كما هي فهذه هي حركة «الزيادة»
augmentation
و«النقصان»
diminution ، فإذا استمر التغير إلى أن تبدل النوع نفسه والجوهر ذاته، فهذا هو «الكون»
generation
و«الفساد»
corruption ، ولكن كل هذه أمور معلومة ومبتذلة، ولا تنفذ إلى عمق الطبيعة على الإطلاق؛ لأنها تشكل مقاييس الحركة وحدودها وليس الأنواع المختلفة للحركة، فهي تشير إلى «كم» (إلى أي درجة) وليس إلى «كيف» (بأية وسيلة) أو «من أين» (من أي مصدر)، ولا تخبرنا بأي شيء عن نزوع الأجسام أو عن صيرورة أجزائها، بل تحدس فحسب بتقسيم للحركة عندما تظهر هذه الحركة للحواس بطريقة واضحة أن شيئا ما لم يعد كما كان من قبل، وحتى عندما يريدون تفسير شيء ما عن علل الحركات وأن يؤسسوا تقسيما لهذه العلل، فإنهم يضعون تمييزا بين الحركة الطبيعية والحركة العنيفة، وهي نقلة غاية في العقم؛ لأن هذا التمييز هو نفسه مستمد تماما من تصور عامي، حيث إن الحركة العنيفة هي أيضا في الحقيقة حركة طبيعية، أي علة خارجية تجعل الطبيعة تعمل بطريقة مختلفة عما كانت عليه من قبل.
ولكن لنضرب صفحا عن كل هذا، فإذا ما لاحظ أي شخص - على سبيل المثال - أن في الأجسام نزوعا إلى الاتصال المتبادل، بحيث لا تسمح لوحدة الطبيعة أن تنفصم أو تنحطم تماما وللفراغ بالتالي أن يتكون، أو إذا لاحظ أي شخص أن في الأجسام نزوعا إلى استعادة أبعادها أو ضغطها الطبيعي، بحيث إذا ضغطت أو مطت أكثر من ذلك أو أقل جهدت على الفور لاستعادة واسترداد حجمها وامتدادها السابق، أو إذا لاحظ أي شخص أن في الأجسام نزوعا إلى التجمع مع كتل الأشياء التي من صنفها، أي نزوع الأجسام الثقيلة إلى الأرض، والأشياء الهزيلة والخفيفة إلى محيط السماء؛ فكل هذه الأشياء وأمثالها هي في الحقيقة أنواع فيزيقية من الحركة، أما تلك الأشياء الأخرى فهي نظرية ومدرسية قلبا وقالبا كما هو واضح جلي من هذه المقارنة فيما بينها.
وليس أهون من ذلك أنهم في فلسفاتهم وملاحظاتهم يهدرون جهودهم في بحث وتناول المبادئ الأولى للأشياء والعلل القصوى للطبيعة
ultimatibus naturae ، رغم أن كل الجدوى وفرص التطبيق تكمن في العلل الوسطى
in mediis ؛ لذا لا يكف الناس عن تجريد الطبيعة إلى أن يصلوا إلى مادة ممكنة وغير مشكلة، ولا هم من الجهة الأخرى يكفون عن تشريح الطبيعة إلى أن يصلوا إلى الذرة، وهي أشياء - حتى لو صدقت - قلما تجدي نفعا في تحسين حالة الجنس البشري.
40 ••• (67) على الذهن أيضا أن يأخذ حذره من الإفراط الذي تبديه المذاهب الفلسفية في إبداء الموافقة أو الامتناع عنها، ويبدو أن هذا الإفراط يرسخ الأوهام وأنه بطريقة ما يطيل عمرها، غير تارك أي منفذ للوصول إليها والتخلص منها.
ثمة نوعان من هذا الإفراط: الأول هو الذي يأتيه أولئك الذين يتسرعون في إصدار الأحكام، فيجعلون العلوم جازمة تسلطية، والثاني يأتيه أولئك الذين ينكرون أن بإمكاننا أن نعرف أي شيء (
acatalepsia )، فيفتحون المجال لنوع هائم من البحث لا يهدف إلى شيء ولا ينتهي إلى شيء، من شأن النوع الأول أن يقمع الذهن، أما الثاني فيوهنه، فبعد أن فرغت الفلسفة الأرسطية من تدمير الفلسفات الأخرى (على طريقة العثمانيين تجاه إخوتهم)
41
بتفنيدات عدائية، أخذ أرسطو يؤسس أحكاما في كل شيء، ثم أخذ هو نفسه يطرح اعتراضات من عنده؛ كيلا يلبث أن يتصدى لها، بحيث لا يترك أمرا إلا وهو يقيني محسوم، وهي طريقة ما زالت قائمة اليوم بين أتباعه.
أما مدرسة أفلاطون فأدخلت مذهب الشك، بدأ ذلك هزلا وتهكما من جراء استيائها من قدامى السوفسطائيين - بروتاجوراس وهيبياس وغيرهما - الذين كانوا يستخذون من الظهور بمظهر من يتردد بإزاء أي شيء، غير أن الأكاديمية الجديدة تصلبت في الشك واتخذته عقيدة، إنه لمنهج أكثر صدقا من الترخص في سك الأحكام؛ لأنهم قالوا بأنهم لا يقوضون كل بحث بأي حال مثلما كان يفعل فيرون و«المتوقفون عن الحكم»
Ephectici ، بل يسمحون باستقصاء بعض الأمور على أنها احتمالية، وإن لم يسمحوا بأي شيء أن يؤخذ كحقيقة، غير أن العقل البشري ما إن ييأس من العثور على الحقيقة حتى يأخذ شغفه بكل الأشياء في الخمود، وينتهي الأمر بأن ينصرف الناس إلى مناقشات وأحاديث لطيفة، وإلى نوع من التطواف حول الأشياء دون المثابرة على البحث الجاد، ولكن - كما أسلفنا في البداية وكما نؤكد على الدوام - فإن علينا ألا ننتقص من سلطة الحواس البشرية والفهم البشري - على قصورهما - بل علينا أن نزودهما بما يساعد ويعين. ••• (68) انتهينا الآن من عرض لمختلف ضروب «الأوهام»
idola
وخصائصها، وكلها أوهام ينبغي التخلي عنها وشجبها، وتطهير العقل وتحريره منها، حتى لا يبقى ثمة إلا مدخل واحد إلى مملكة الإنسان، المدخل القائم على العلوم، مثلما أنه «لا مدخل إلى مملكة السماء إلا عبر طهارة الطفولة».
42 ••• (69) غير أن البراهين الزائفة هي حصون «الأوهام» ودفاعاتها، والبراهين التي لدينا في المنطق لا تعدو أن تخضع العالم وتسخره للأفكار البشرية، وتخضع الأفكار للألفاظ، ولكن البراهين هي نفسها - بمعنى ما - فلسفات وعلوم، فكيفما تكن البراهين سديدة أو واهية تكن الفلسفات والتأملات المترتبة عليها، غير أن البراهين التي نستخدمها في العملية بأكملها التي تمضي من الحواس والأشياء إلى المبادئ والاستنتاجات هي براهين مغلوطة وواهية؛
43
فأولا: انطباعات هذه الحواس نفسها خاطئة؛ لأن الحواس تخذلنا وتخدعنا، ولا بد من أن نعالج الثغرات ونصحح الأخطاء، وثانيا: التصورات تستمد من انطباعات الحواس بطريقة غير قويمة، وهي ملتبسة ومشوشة حيث ينبغي أن تكون محكمة ومحددة المعالم ، وثالثا: الاستقراء الذي نستخدمه خاطئ؛ لأنه يقرر مبادئ العلم بناء على التعداد البسيط، ودون استخدام الاستبعاد والفصل أو التحليل الصحيح للطبيعة، وأخيرا: فإن طريقة الكشف والبرهان التي تبدأ بوضع المبادئ الأعم ثم تجعل منها محكا للمبادئ الوسطى فتختبر المبادئ الوسطى بمضاهاتها بالمبادئ العامة، هذه الطريقة هي أم الأخطاء، وهي كارثة كل العلوم، وإذا كنا الآن نمر على هذه الأشياء مرورا عابرا فسوف نعرض لها باستفاضة حين نتناول الطريقة الصحيحة لتفسير الطبيعة، بعد أن ننتهي من عملية تنقية العقل وتطهيره. ••• (70) ولكن أفضل برهان على الإطلاق هو التجربة، شريطة أن يبقى ذلك لصيقا بالتجربة الفعلية، فمن المغالطة الامتداد بها إلى أشياء أخرى شبيهة في الظاهر ما لم يكن يتم هذا الاستدلال بطريقة منهجية حذرة، أما الطريقة التي يجري بها الناس التجارب
44
في الوقت الحالي فهي طريقة عمياء بلهاء، ومن ثم فإنهم يهيمون ويتخبطون دون أي مسار واضح، مرتهنين للمصادفات يتأدون منها هنا وهناك دون أن يحرزوا تقدما يذكر، وهم - بين رجاء حينا وتشتت حينا آخر - يجدون دائما بارقا جديدا يسعون نحوه؛ ذلك أن الناس في الأغلب يجرون تجاربهم بغير اكتراث ولا جدية، واضعين تنويعات ضئيلة على التجارب المعروفة بالفعل، فإذا لم تجبهم التجربة بشيء تبرموا بها وأقلعوا عن المحاولة، وحتى عندما يكبون على عملهم بجد وكد ومثابرة فإنهم يهدرون وقتهم في سبر موضوع واحد معين، كشأن جلبرت مع المغناطيس، وشأن الخيميائيين مع الذهب. مثل هذا المسلك لا ينم فحسب على غياب المهارة بل أيضا على غياب الرؤية: فما كان لأحد أن ينجح في كشف طبيعة شيء ما بالنظر إلى الشيء وحده، بل لا بد للبحث من أن يكون نطاقه أوسع ومجال رؤيته أعم.
وحتى عندما يشيد الناس نوعا ما من العلم والنظرية على التجارب، فإنهم - في الأغلب - يهرعون بحماس أهوج إلى التطبيق العملي، لا لكي يجنوا منها ثمارا مرتقبة فحسب، بل لكي يجدوا توكيدا في شكل نتاج جديد بأن سعيهم جدير بالمواصلة ولن يكون مضيعة للوقت، بالإضافة إلى توطيد شهرتهم واكتساب صيت جيد لمجال عملهم، هم إذن أشبه بأتالانتا
Atalanta
يتركون طريقهم لكي يلتقطوا التفاحة الذهبية فيقطعون العدو ويفوتهم الفوز. إنما علينا - في دأبنا على الطريق الصحيح للتجربة ومواصلته لبلوغ نتائج جديدة - أن نقتدي بالحكمة والتدبير الإلهيين: ففي اليوم الأول للخلق اكتفى الرب بخلق النور وكرس يوما كاملا لهذا العمل، ولم يخلق أي شيء مادي في ذلك اليوم، نحن أيضا علينا أولا أن نحاول - بشتى ضروب التجارب - أن نكتشف العلل والمبادئ (القوانين) الحقيقية، وأن نلتمس التجارب التي تقدم النور لا الأثمار، فما إن يتم اكتشاف المبادئ وصياغتها على نحو صحيح حتى تقدم للممارسة عونا هائلا لا محدودا، وتجر وراءها أرتالا غفيرة من النتائج، وسوف نعرض لاحقا لطرق التجربة التي سدت وقطعت مثلما سدت طرق الحكم، فأنا لم أقل حتى الآن إلا أن البحث التجريبي المعتاد هو نوع رديء من البرهان، غير أن المقام يقتضيني أن أضيف شيئا ما عن العلامات التي سبق ذكرها والتي تشير إلى أن الفلسفات والملاحظات المستخدمة الآن عاجزة، وعن أسباب ما يبدو للوهلة الأولى عجيبا لا يصدق، فمعرفة هذه العلامات الخارجية تمهد للتصديق، وتفسير الأسباب يزيل العجب، وهذان الشيئان مفيدان غاية الفائدة في تطهير الذهن من الأوهام بسهولة ويسر. ••• (71) تأتي العلوم التي لدينا - في معظمها - من اليونان؛ إذ إن ما أضافه الرومان والعرب أو الكتاب الأحدث هو شيء قليل ومحدود الأهمية، ومبني كيفما كان على أساس من كشوف اليونان،
45
إلا أن حكمة اليونان كانت احترافية وميالة إلى الجدل، وذاك لون من الحكمة معاكس للبحث عن الحقيقة، وهكذا فإن اسم «السوفسطائيين» الذي رفضه بازدراء أولئك الذين ودوا أن يعتبروا فلاسفة وأطلقوه على الخطباء: جورجياس، بروتاجوراس، هيبياس، بولس
، هذا الاسم يمكن أن ينطبق على العشيرة بأكملها: أفلاطون وأرسطو وزينون وأبيقور وثيوفراسطس، وخلفهم كريسبوس وكارنيادس والبقية، والفارق الوحيد بين أولئك وهؤلاء هو أن الأولين كانوا مرتزقة جوالين يطوفون بين البلدان المختلفة ويعرضون حكمتهم ويطلبون أجرا عليها، في حين أن الآخرين كانوا أكثر تبجيلا وسعة، إذ كانت لهم مقارهم الثابتة ومدارسهم المفتوحة، وكانوا يعلمون الفلسفة دون مقابل، إلا أن كلتا المجموعتين (رغم اختلافهما في الجوانب الأخرى) كانت احترافية، وتحول كل موضوع إلى مجادلات، وتؤسس مذاهب وعقائد فلسفية وتنافح عنها، ومن ثم كانت مذاهبهم في معظمها (مثلما قال ديونيزيوس - بحق - عن أفلاطون): «حديث عجائز متبطلين إلى شبان جاهلين.»
46
على أن اليونانيين الأقدم مثل أنبدوقليس وأنكساجوراس وليوسيبوس وديمقريطس وبارمنيدس وهيراقليطس وزينوفان وفيلولاس والآخرين (وأنا أستثني فيثاغوراس باعتباره مشعوذا) لم يفتحوا مدارس على حد علمي، بل نذروا أنفسهم للبحث عن الحقيقة في صمت وجدية وبساطة أكثر: أي بادعاء واستعراض أقل؛ لذا فقد كانوا - في رأيي - أكثر نجاحا، لولا أن أعمالهم قد غشت عليها بمرور الزمن تلك الأعمال الأقل وزنا التي راقت أفهام السوقة وأذواقهم، فالزمن (كالنهر) يجلب لنا ما هو خفيف منتفخ ويغرق ما هو ثقيل صلب،
47
وحتى هؤلاء الأقدمون لم يبرءوا تماما من عيوب قومهم، فقد كانوا مأخوذين بغرور وطموح لتأسيس مذهب وانتزاع إعجاب عامة الناس، ولا تؤمل خيرا في البحث عن الحقيقة إذا تدنى إلى مثل هذه التفاهات، ولا ننس في هذا المقام ذلك الحكم بل النبوءة التي تفوه بها أحد الكهنة المصريين عن اليونانيين بأنهم «دائما أطفال، يعوزهم قدم المعرفة ومعرفة القدم.»
48
فهم بالتأكيد يشتركون مع الأطفال في الميل إلى الكلام والعجز عن الإنجاب، فحكمتهم لفظية لا تثمر نتائج، وعليه فإن العلامات التي نتلقاها من منبع الفلسفة السائدة ومسقط رأسها هي علامات غير مبشرة. ••• (72) ولا العلامات المستفادة من طبيعة الزمن والعصر بأفضل حالا من تلك المستفادة من المكان والشعب، فقد كانت المعرفة في ذلك العصر معرفة محدودة هزيلة، سواء المعرفة عن الزمن أو عن العالم، وهذا حقا شيء غير محمود على الإطلاق وخاصة بالنسبة لأولئك الذين يعتمدون على التجربة في كل أمر؛ لأنهم ليسوا بإزاء ألف عام من التاريخ تستحق اسم التاريخ، بل بإزاء قصص خيالي وتقاليد عتيقة، لم يكن أهل ذلك العصر يعلمون سوى جزء صغير من أصقاع العالم وبلدانه، فقد كانوا يسمون كل شعوب الشمال
Scythians
وكل شعوب الغرب
Celts
دون تمييز، ولا يعرفون عن أفريقيا أي شيء يتجاوز الجزء الأقرب من إثيوبيا، ولا من آسيا ما يتجاوز ال
Gangs ، وأقل من ذلك كثيرا عن أقاليم «العالم الجديد» ولو من طريق الروايات أو الشائعات المقبولة. الحق أن معظم الأقاليم المناخية والأصقاع التي تعيش وتتنفس فيها أمم لا تحصى كانت تعد عندهم غير قابلة للسكنى، بل كانوا يكبرون رحلات ديمقريطس وأفلاطون وفيثاغوراس التي كانت أقرب إلى نزهات الضواحي، بينا في أزمنتنا صارت كثير من أجزاء العالم الجديد وكل أطراف العالم القديم معروفة جيدا، وزادت ذخيرتنا من الخبرات زيادة لا متناهية، وعليه فإذا كان لنا - شأن الفلكيين - أن نستقي علامات من ميقات مولدهم أو ظهورهم فليس لدينا ما ينبئ بشأن عظيم لهذه المنظومات الفلسفية المبكرة. ••• (73) ليس بين العلامات جميعا ما هو أوثق وأوجه من الثمار، فاكتشاف الثمار والنتائج بمثابة كفالة أو ضمانة لصدق أي فلسفة من الفلسفات، فانظر الآن إلى كل هذه الفلسفات اليونانية، وعلى العلوم الجزئية المتشعبة منها، ليس بوسعك أن تورد بعد انقضاء كل هذه السنين تجربة واحدة تفضي إلى التخفيف عن الإنسان وتحسين حاله، ويمكن أن ترجع الفضل فيها - بحق - إلى تنظيرات تلك الفلسفات ومذاهبها، يعترف سيلسوس
Celsus
49
بصراحة وحكمة أن خبرات الطب تم اكتشافها أولا، ثم بنى الناس عليها فلسفاتهم بعد ذلك وسعوا في التماس العلل وتحديدها، ولم يحدث الأمر في الاتجاه العكسي: أي لم تكتشف الخبرات بواسطة الفلسفة وتستمد منها ومن معرفة العلل، لا عجب إذن في أن المصريين (الذين أسبغوا قداسة وألوهة على أصحاب الابتكارات الجديدة) كانت لديهم صور للحيوانات أكثر مما للبشر، وتفسير ذلك أن الحيوانات اجترحت الكثير من الكشوف بغريزتها الطبيعية، في حين لم يقدم البشر شيئا يذكر من خلال الجدل والاستنباط العقلي.
صحيح أن صناعة الخيميائيين قد أثمرت بضع نتائج، ولكن ذلك حدث بالمصادفة وبشكل عابر، أو من خلال تنويع تجاربهم (كما يفعل الميكانيكيون أيضا)، وليس على أساس فن مقرر أو نظرية، فالنظريات التي تخيلوها تربك التجارب أكثر مما تعينها. كذلك حال أولئك الذين انشغلوا بالسحر الطبيعي كما يسمونه، فلم يقدموا إلا نتاجا هزيلا وأقرب إلى الدجل؛ لذا فمثلما نتعلم في الدين أن نظهر إيماننا في أعمالنا فإن المبدأ نفسه ينسحب على الفلسفة، فنحكم عليها من خلال ثمارها، فإذا كانت الفلسفة عقيمة بلا نتاج فهي عبث لا نفع فيه، وهي بعد أكثر عبثا إذا كانت بدلا من ثمار العنب والزيتون تثمر قتادا وأشواكا من الجدل والمماحكة. ••• (74) ثمة علامات أخرى ينبغي أن تستفاد من تنامي وتقدم فلسفات وعلوم معينة، فتلك التي تتأسس على الطبيعة تنمو وتزداد، أما التي تقوم على الرأي فتتغير ولكنها لا تنمو؛ ولذا فلو أن هذه الفلسفات التي ذكرناها بعيدة الشبه عن نبات مقتلع من جذوره، بل متصلة دوما برحم الطبيعة آخذة غذاءها منه لما كان بالإمكان أن يحدث ما رأيناه الآن لألفين من السنوات: لألفين من السنوات والعلوم واقفة حيث هي وباقية كما هي دون تقدم ملحوظ، بل إنها بالعكس تعيش ذروة ازدهارها في ظل مؤسسها الأول ثم لا تلبث أن تنحط من بعده، بينما نرى أن العكس هو ما يحدث في حالة الفنون الميكانيكية التي تتأسس على الطبيعة وفي ضوء التجربة، فهي ما دامت رائجة فهي في ازدهار ونمو مستمر كأنها ممتلئة بنفس الحياة، تبدأ فجة ثم تصير ملائمة ثم فاخرة، وعلى الدوام في تقدم. ••• (75) ثمة - بعد - علامة أخرى يجب أن نلحظها (إن جاز تسميتها علامة، إذ إنها بالأحرى شهادة، بل هي حقا أقوى شهادة): وهي الاعتراف الفعلي للكتاب أنفسهم الذين يتبعهم الناس اليوم، فحتى هؤلاء الذين يفرضون حكمهم على الأشياء بثقة كبيرة، ما يزالون من وقت لآخر عندما يردون إلى القصد، يعمدون إلى الشكوى من ألغاز الطبيعة وغموض الأشياء وضعف الفهم البشري، فلو أنهم اقتصروا على هذا فقد يكون رادعا لغيرهم من ذوي المزاج الهياب عن المضي في البحث، وحافزا لذوي العقول الأكثر حدة وثقة إلى مزيد من التقدم، غير أنهم لا يكتفون بمناجاة أنفسهم، بل يعتبرون كل شيء لم يعرفوه ولم يلمسوه بأنفسهم - هم أو معلموهم - كشيء وراء حدود الإمكان، ويعلنون - من موقع السلطة في فنهم - أنه من المحال أن يعرف أو يعمل، ومن ثم فإنهم بكل غطرسة يحولون ضعف كشوفهم إلى افتراء على الطبيعة وتثبيط لغيرهم من الخلق. هكذا نشأت الأكاديمية الجديدة التي اعتنقت مذهب الشك وحكمت على البشر بالظلام الأبدي، وهكذا نشأ الرأي القائل بأن «الصور»
forms
أو الفروق الحقيقية بين الأشياء (التي هي في الحقيقة قوانين الفعل الخالص) مستحيلة الكشف ودون منال الإنسان، وهكذا نشأت الآراء الخاصة بالجانب النشط والعملي من العلم: أن حرارة الشمس وحرارة النار هما صنفان من الحرارة مختلفان تماما، فلا يطمعن أحد في أن يستخلص أو يكون - من خلال إعمال النار - شيئا ما شبيها بالأشياء الموجودة في الطبيعة، وهكذا نشأ الرأي القائل بأن التركيب
composition
فقط بوسع الإنسان، أما المزج
mixture
فهو فعل الطبيعة وحدها، فلا يطمعن أحد من طريق الفن أن يخلق أو يحول أجساما طبيعية، هكذا سوف يتسنى للناس أن يروا في هذه العلامة ما يزعهم أن يرهنوا مصائرهم وجهودهم بعقائد ليست يائسة فحسب، بل مكرسة لليأس. ••• (76) وهاك علامة أخرى لا ينبغي إغفالها: أنه كان هناك خلافات كثيرة جدا بين الفلاسفة وتباين بين المدارس، الأمر الذي يظهر - بوضوح - أن الطريق من الحواس إلى الفكر لم يكن ممهدا بشكل جيد ما دام الأساس الفلسفي الواحد (أي طبيعة الأشياء) قد تمزق وتشظى إلى أخطاء شديدة الاختلاف والتشعب، ورغم أن الاختلافات والتباينات حول المبادئ الأولى والمنظومات الفلسفية الكلية قد انتهت تقريبا في زمننا الحالي،
50
فما زالت هناك أسئلة وخلافات لا تحصى حول الأجزاء الفرعية للفلسفة، مما يدل على أنه لا يوجد أي شيء مؤكد أو صحيح لا في المنظومات نفسها ولا في طرائق البرهان. ••• (77) نعرض الآن للرأي الشائع القائل بأن هناك شبه إجماع على فلسفة أرسطو، حيث إنه عقب ذيوعها توارت الفلسفات الأقدم وطواها النسيان، ثم لم يكتشف في الأزمنة اللاحقة شيء أفضل منها، ومن ثم بات مؤكدا ومقررا أنها بسطت ظلها على العصرين معا، ردا على ذلك أقول: أولا: إن القول بأن الفلسفات القديمة انتهت عقب صدور فلسفة أرسطو هو قول خاطئ، فقد عاشت أعمال الفلاسفة القديمة طويلا بعد ذلك، وظلت قائمة حتى زمن شيشرون والقرون التالية له، الخطب أنه في زمن لاحق، عندما تحطمت سفينة المعرفة البشرية - إن صح التعبير - إثر طوفان البرابرة الذي غمر الإمبراطورية الرومانية، هنالك كانت فلسفة أرسطو وأفلاطون أشبه بألواح أخف وزنا وأقل صلابة، فظلت طافية فوق أمواج الزمن وكتبت لها النجاة، ثانيا: مسألة الإجماع هي أيضا خادعة ولا تصمد للتمحيص، فالإجماع الحقيقي هو ذلك الذي ينطلق من أحكام حرة تلتقي جميعا - بعد فحص المسألة - في نقطة واحدة، ولكن الغالبية العظمى من الذين قبلوا فلسفة أرسطو قد ارتهنوا أنفسهم لها من خلال الحكم المسبق وسلطة الآخرين، الأمر إذن أقرب إلى الاتباع والتحزب منه إلى الاتفاق، وحتى لو كان اتفاقا حقيقيا وعريضا فمن الخطأ الذريع أن نعده تأييدا صادقا وصلبا، ذلك الاتفاق الذي يتضمن قرينة قوية إلى العكس، فبئس الدليل الإجماع في المسائل الفكرية (باستثناء الأمور الإلهية والسياسية حيث يحق للاقتراع أن يقرر)، فلا شيء أثلج لصدور الطغام من ذلك الذي يفتن الخيال ويوثق العقل في أغلال الآراء الشائعة كما لاحظنا آنفا، وما أجدرنا إذن أن نستعير قول فوشيون
51
من مجال الأخلاقيات إلى مجال الفكر: «إذا ما غمرك الدهماء بالتأييد والإعجاب فتحسس أخطاءك!» هذه العلامة إذن من أخطر العلامات. ها قد فرغنا الآن من عرض فكرتنا: أن كل ما يتخذ دليلا على صدق الفلسفات والعلوم وصحتها هو دليل غير صحيح، سواء كان مستمدا من منشئها أو من نتاجها أو من تقدمها أو من اعترافات واضعيها أو من الإجماع (عليها). ••• (78) نأتي الآن إلى أسباب هذه الأخطاء، والأسباب التي جعلت الناس تتعثر بها طيلة هذه القرون، هذه الأسباب هي من الكثرة والقوة بحيث يزول معها أي عجب من أن تخفى هذه الاعتبارات التي طرحتها عن ملاحظة الناس حتى يومنا هذا، العجب الوحيد هو أن تطرأ اليوم أخيرا في ذهن واحد من الناس وتصبح موضوعا لفكره، أنا شخصيا أعتبر ذلك حقا نتاج مصادفة سعيدة وليس فضل موهبة استثنائية عندي، هي بنت الزمن وليست بنت الذكاء.
فأنت أولا إذا نظرت إلى الأمر على حقيقته لوجدت أن هذه القرون الطويلة تختزل في نطاق صغير جدا، ففي هذه القرون الخمسة والعشرين - التي تحيط بها الذاكرة والمعرفة البشريتان - لن تستطيع أن تفرد أكثر من ستة قرون كانت خصبة في العلوم ومواتية لتقدمها. إن للزمن فيافيه وقفاره مثلما لأصقاع الأرض، ونحن لا نستطيع أن نعد عن حق إلا ثلاث ثورات وفترات ذروة في الفلسفة: الأولى بين اليونان، والثانية بين الرومان، والثالثة بيننا نحن أمم أوروبا الغربية، ولن تزيد الفترة المقيضة لكل واحدة منها عن قرنين من الزمن، أما العصور الوسطى للعالم فلم تكن خصبة في إنتاج محصول وفير وغني من العلوم، وليس ثمة ما يدعو إلى ذكر العرب والأسكولائيين الذين محقوا العلوم برسائلهم العديدة في الزمن الوسيط أكثر مما أضافوا إلى وزنها، جملة القول: إن السبب الأول لهذا التقدم الهزيل في العلوم يعود إلى ضآلة الفترات الزمنية التي كانت مواتية للعلم. ••• (79) في المقام الثاني هناك سبب يطرح نفسه، وهو بالتأكيد على أعلى درجة من الأهمية، وهو أنه في تلك العصور نفسها - التي ازدهر فيها الذكاء البشري والمعرفة ازدهارا كبيرا أو حتى ازدهارا متوسطا - لم يكن الناس يولون الفلسفة الطبيعية إلا جزءا ضئيلا من جهدهم، غير أن هذه نفسها هي التي ينبغي أن تعد الأم العليا للعلوم، فكل فن أو علم ينبت عن هذا الجذر، قد يصقل ويعدل للاستخدام العملي، ولكنه لن ينمو على الإطلاق، ومن المعلوم أنه بعد أن انتشرت المسيحية واشتد عودها، فإن أغلب العقول النابغة اشتغلت باللاهوت، حيث كانت تقدم أعلى المنح وتبذل بسخاء كل ضروب الإعانات، هذا التكريس للاهوت احتل ذلك الجزء الثالث أو الفترة الثالثة بيننا نحن الأوروبيين الغربيين، لا سيما أنه في الوقت نفسه بدأ الأدب في الازدهار والخلافات الدينية في الاندلاع، أما في العصر السابق - أي طوال الفترة الثانية بين الرومان - فكانت تأملات الفلاسفة وجهودهم منصرفة بالدرجة الأساس إلى الفلسفة الخلقية التي كانت عند الوثنيين بمثابة اللاهوت عندنا، إلى جانب ذلك انشغلت العقول النابغة بالشأن العام (السياسة)؛ نظرا لضخامة الإمبراطورية الرومانية وما تتطلبه من خدمات عدد كبير من الأشخاص، أما العصر الذي بدا فيه أعلى ازدهار للفلسفة الطبيعية بين اليونان فلم يمتد طويلا، ففي الفترة المبكرة كرس الفلاسفة المعروفون ب «الحكام السبعة» (باستثناء طاليس) أنفسهم للفلسفة الخلقية والسياسة، وفي الفترة المتأخرة - بعد أن أنزل سقراط الفلسفة من السماء إلى الأرض - ازداد رواج الفلسفة الخلقية وصرفت عقول الناس عن فلسفة الطبيعة.
بل إن الفترة نفسها التي ازدهر فيها البحث في الطبيعة قد أفسدتها الخلافات اللفظية، والمنافسة في وضع آراء جديدة، وجعلتها عديمة الجدوى، وهكذا خلال هذه الفترات الثلاثة أهملت الفلسفة الطبيعية أو أعيقت، فلا عجب ألا يحقق الناس غير تقدم يسير في هذا المجال؛ إذ كان اهتمامهم منصرفا إلى شيء مختلف تماما. ••• (80) أضف إلى ذلك أن الفلسفة الطبيعية قلما وجدت - حتى بين أولئك الذين مارسوها - من يكرس لها كل وقته، وخاصة في الأزمنة الحديثة (إلا إذا عثر المرء ربما على نموذج أو اثنين في راهب في صومعته أو نبيل في بيته الريفي)،
52
فقد عوملت الفلسفة الطبيعية كمجرد معبر أو جسر إلى مطالب أخرى.
هكذا أكرهت هذه الأم العليا للعلوم - بجور غريب - على أن تؤدي مهام خادمة، فتلبي حاجات الطب أو الرياضيات، أو تغسل الأذهان غير الناضجة للشباب وتنقعها في نوع من الصبغة الأولى حتى يتسنى لها لاحقا أن تمتص صبغة أخرى وتثبتها، كذلك لا يتوقعن أحد أي تقدم كبير في العلوم (وبخاصة في جانبها العملي) ما لم توصل الفلسفة الطبيعية بالعلوم الخاصة، وترد العلوم الخاصة ثانية إلى الفلسفة الطبيعية، وبسبب افتقارها إلى هذا نجد علوم الفلك والبصريات والموسيقى وعددا من الفنون الميكانيكية والطب نفسه (ويا للعجب) والفلسفة الأخلاقية والسياسة وعلوم المنطق؛ نجدها جميعا تفتقر إلى العمق، ولا تمس الأشياء إلا مسا سطحيا عابرا؛ ذلك أنها بعد أن انفصلت وتأسست كعلوم خاصة لم تعد تتغذى بالفلسفة الطبيعية التي كانت كفيلة بأن تمدها بقوة جديدة ونماء من خلال التأمل الأصيل للحركة والأشعة والأصوات وبنية الأجسام وهيئتها وللانفعالات والعمليات الذهنية، ومن ثم فلا عجب ألا تنمو العلوم إذا ما انفصلت عن جذورها. ••• (81) ثمة سبب آخر مهم وقوي لعدم إحراز العلوم إلا تقدما قليلا: فليس بالإمكان أن تتقدم في المضمار كما ينبغي إذا كان الهدف نفسه لم يوضع على نحو صحيح، فالهدف الحقيقي والمشروع للعلوم هو أن تزود الحياة الإنسانية باكتشافات وموارد جديدة، والكثرة الكاثرة من الناس لا يعرفون شيئا عن هذا، إن هم إلا مأجورون ومحترفون، ربما يتصادف أن صانعا ما ذا عبقرية حادة وطموح للشهرة يكرس نفسه لعمل اختراع جديد، والذي يكون دائما على نفقته الخاصة، غير أن الغالبية من الناس لا يحدثون أنفسهم بأن يزيدوا حصيلة العلوم والفنون، فهم لا يأخذون من الحصيلة المتوافرة لديهم ولا يلتمسون منها إلا ما يمكنهم أن يحولوه إلى استعمال حرفي أو ربح أو صيت أو ما شابه ذلك من المزايا، وإذا كان في هذا الحشد واحد يسعى إلى المعرفة بحب صادق ولأجل المعرفة فحسب، فحتى هذا سنجد أن هدفه هو التأملات والمذاهب المتنوعة وليس البحث الصارم الجاد عن الحقيقة، وحتى إذا كان هناك من هو باحث أكثر كدا عن الحقيقة فهو أيضا سوف يضع أمامه وصفا للحقيقة من شأنه أن يرضي عقله وفهمه في تقديم علل للأشياء معلومة أصلا، لا وصفا يقود إلى نتائج جديدة ونور جديد من المبادئ،
53
وهكذا إذا كانت «غاية» العلوم لم توضع بعد على نحو صحيح، فلا عجب أن يكون الناس قد أخطئوا في أمر «الوسائل». ••• (82) ومثلما أن الناس لم تحدد غاية العلوم وهدفها كما ينبغي، فإنهم حتى لو حددوا ذلك تحديدا جيدا، إنما يتخذون إليه طريقا خاطئا ومسدودا تماما، وإنه لمن أعجب العجب لمن يتأمل الأمر أن لا يعنى أحد ولا يهتم بفتح طريق ممهد ومعبد للفهم الإنساني ينطلق من الحواس عبر التجربة المنظمة المحكمة، بل يترك كل شيء نهبا لغيوم التقاليد ودوامة الجدل، أو لتقلبات الصدفة ومتاهاتها والخبرة العارضة غير المنظمة، فليتأمل أي منا بتيقظ وعناية في نوعية الطريق الذي اعتاد البشر اتخاذه في بحث أي شيء واكتشافه، فإنه - بدون شك - سيلحظ أولا منهجا بسيطا غير علمي للكشف مألوفا جدا للبشر، وهو لا يعدو أن يكون كالتالي: عندما يعد أي شخص نفسه للكشف فإنه يستعلم عن كل ما سبق أن قيل في الموضوع ويلم به، ثم يضيف تأملاته الخاصة، ويقلب الأمر في ذهنه ويستنطق روحه الخاصة ويهيب بها أن توحي إليه، هذا منهج يفتقر إلى أي أساس، وتذهب به الآراء كل مذهب.
وآخر قد يستدعي المنطق لكي يعينه في الكشف، والمنطق لا صلة له بهذا الغرض سوى صلة اسمية، فالمنطق لا يكتشف المبادئ والقضايا الرئيسية التي تتألف منها الفنون، بل يكتشف فحسب تلك القضايا التي تبدو متسقة معها،
54
فإذا ما أخذك الفضول وألححت عليه في السؤال عن براهينه على المبادئ أو القضايا الأولى فلن تجد من المنطق سوى رد واحد معروف جيدا، وهو أن يحيلك ثانية إلى الإيمان وقسم الولاء الذي ينبغي أن يؤدى لمبادئ كل فن على حدة.
لا تبقى هناك إلا الخبرة المحضة، والتي إذا جاءت بنفسها سميت مصادفة، وإذا جيء بها سميت تجربة، ولكن هذا النوع من الخبرة ليس أكثر من مكنسة بدون رباط (كما يقولون) مجرد تحسس، شأن أناس في الظلام يتحسسون حولهم عساهم أن يجدوا طريقهم الصحيح، بينما الأفضل لهم جدا أن ينتظروا ضوء النهار أو ضوء شمعة ثم يتقدموا، على النقيض من ذلك يبدأ النظام الصحيح للخبرة بإيقاد ضوء، ثم بكشف الطريق في هذا الضوء، منطلقا من التجربة الممنهجة المنظمة لا التجربة الملفقة العشوائية، ومنها يستنبط المبادئ، وعلى هذه المبادئ يؤسس تجارب جديدة، ذلك أنه حتى «كلمة الرب» لا تؤتي فعلها في الخليقة إلا بمنهج.
لذا فلا عجب للناس إذا كانت العلوم قد تعثرت عن إكمال الطريق، فلقد ضلت سبيلها إذا تركت التجربة وهجرتها تماما، أو أوقعت نفسها في شرك متاهاتها وجعلت تتخبط في حلقات مفرغة، في حين أن المنهج المنظم القويم يتخذ جادة آمنة خلال غابة الخبرة تفضي إلى رحبة المبادئ. ••• (83) ولقد زاد في تعقيد المشكلة بدرجة عجيبة اعتقاد أو تصور عميق الجذور على أنه متغطرس ومؤذ، مفاده أن مما يحط من قدر الذهن البشري أن يظل عاكفا ومكبا على التجارب وعلى الأشياء الجزئية التي هي موضوعات للحس ومقصورة على المادة، لا سيما وأن هذه الأمور تقتضي في العادة جهدا في البحث، وأنها لا تليق بالتأمل ولا بالحديث ولا بالممارسة، وأنها مفرطة في الدقة، وهكذا لم يعد الطريق الحق مهجورا فحسب بل معترضا ومغلقا، لم يقتصر الأمر على تجاهل التجربة وإساءة تطبيقها، بل تم نبذ التجربة وازدراؤها. ••• (84) إن توقير العصور القديمة ونفوذ الرجال الذين حظوا بمكانة كبيرة في الفلسفة والإجماع العام، كل أولئك أمور عاقت الناس عن التقدم في العلم، وأسرتهم إلى حد كبير، أما عن الإجماع فقد تناولته فيما سبق، «وأما عن الرأي الذي يرفع به الناس من قيمة القدم فهو رأي عقيم تماما ولا يكاد يتفق مع اللفظة؛ ذلك لأن كبر العالم وتقدمه في العمر هو ما ينبغي أن يعتبر «قدما» في حقيقة الأمر، وهذه هي الصفة المميزة لزمننا نحن لا للعمر المبكر للعالم في أزمنة القدماء، فإذا كان هؤلاء الأخيرون بالنسبة لنا قدماء مسنين فإنهم بالنسبة للعالم محدثون صغار، ولما كنا نتوقع من الشخص الأكبر معرفة أكبر بالشئون البشرية وحكما أنضج مما نتوقعه من الصغير - بفضل خبرة الكبير وبفضل كثرة وتنوع ما رآه وسمعه وتأمل فيه - فإن لنا أن نتوقع من عصرنا أمورا أعظم مما نتوقعه من العصور القديمة، ما دام العالم قد تقدم في العمر وازدادت ذخيرته واكتنزت بما لا نهاية له من التجارب والملاحظات، وينبغي أيضا أن نأخذ في اعتبارنا أن كثيرا من الأشياء الجديرة بأن تلقي الضوء على الفلسفة قد اكتشفت وأميط عنها اللثام بفضل الرحلات والأسفار الطويلة التي زخرت بها أيامنا، إنه ليكون مخزيا حقا للجنس البشري أن تستكشف أصقاع العالم المادي - الأرض والبحر والنجوم - وتستظهر على هذا النحو المذهل، بينما تبقى حدود العالم الفكري محصورة في الكشوف الضيقة للقدماء.»
أما عن السلطة فهي من الجبن بحيث تولي ثقة غير محدودة لمعلمين معينين بينما تغمط الزمن حقه، الزمن هو معلم المعلمين، ومن ثم فهو سلطة كل سلطة، فقد صدق من أطلق على الحقيقة «بنت الزمن» لا بنت السلطة، لا عجب - إذن - إذا كانت قيود القدم والسلطة والإجماع قد كبلت قوى البشر فصاروا عجزة (كما لو كانوا مسحورين) عن مقاربة الأشياء ذاتها. ••• (85) ليس الإعجاب بالقدم والسلطة والإجماع فقط هو ما أجبر جهود الإنسان على أن تقف قانعة بالكشوف التي تم تحقيقها، بل الإعجاب أيضا بالأعمال نفسها التي صارت بحوزة الجنس البشري، فمن يستعرض مختلف الأشياء والأدوات الرائعة التي جمعتها الفنون الميكانيكية وأدخلتها من أجل خدمة البشر، فمن المؤكد أنه سيكون أميل إلى الإعجاب بثراء الإنسان منه إلى الشعور بفقره، غير مدرك أن الملاحظات الأصلية وعمليات الطبيعة (التي هي أشبه بالروح أو المبدأ المحرك لكل تلك الأشياء) ليست بالكثيرة ولا العميقة، وأن بقية الأمر تعزى - ببساطة - إلى الصبر وإلى خفة ودربة حركة اليد والأداة، ولنأخذ صناعة الساعات كمثال: إنها بالتأكيد شيء حساس ودقيق، وتبدو تروسها محاكية للمدارات السماوية ولضربات قلب الحيوانات في حركتها الموصولة المنتظمة، ورغم ذلك فهي تعتمد على مبدأ طبيعي واحد أو مبدأين.
مرة ثانية، إذا تأملت الحذق المتبدي في الفنون الحرة،
55
أو حتى في إعداد الأجسام الطبيعية في الفنون الميكانيكية، وتأملت في أشياء مثل: اكتشاف الحركات السماوية في علم الفلك والهارمونيا في الموسيقى وأحرف الأبجدية (غير مستخدمة حتى الآن في الصين)
56
في النحو، ومنتجات باكوس وسيريس، أي تحضير النبيذ والجعة وعمل الخبز، أو حتى مشتهيات المائدة والتقطير وما إلى ذلك، وإذا تفكرت أيضا كم استغرقت هذه الأشياء من أحقاب (إذ إنها جميعا قديمة باستثناء التقطير) حتى بلغت الدرجة الراهنة من الكمال، وكم هي قليلة (كما في مثال الساعات) تلك الملاحظات والقوانين الطبيعية التي يمكن أن ترد إليها، وكم كانت بسيطة عملية اكتشافها (من خلال فرص مواتية وملاحظات عابرة)، إذا تأملت ذلك فسينقطع إعجابك للتو وسترثي لحال البشر، بالنظر إلى ضآلة المكتشفات خلال هذه الأحقاب الطويلة من الزمن، ولكن حتى المكتشفات التي ذكرناها كانت أقدم من الفلسفة ومن العلوم الفكرية؛ ولذا فإن شئت الحقيقة فمنذ أتت العلوم العقلية والدوجماطيقية إلى الوجود انقطع اكتشاف منتجات نافعة.
وإذا تحول أي شخص عن الورشة إلى المكتبة، وأخذه الإعجاب بالتنوع الهائل للكتب التي يراها هناك، فدعه فقط يعاين ويفحص بدقة موضوعاتها ومحتوياتها، ولسوف يغير رأيه بكل تأكيد، فعندما يكتشف ألا نهاية للتكرار، وكم يعيد الناس الفعل والقول نفسه مرات ومرات، فسينصرف من الإعجاب بالتنوع إلى الاندهاش من فقر وقلة المادة التي شغلت عقول الناس واستحوذت عليها إلى يومنا هذا.
وإذا تنازل الشخص لينظر في تلك الفنون التي تعد أقرب إلى الغرابة منها إلى المعقولية، وتأمل بدقة في أعمال الخيميائيين أو السحرة، فربما يقع في حيرة ولا يدري أينبغي عليه أن يضحك أم يبكي، فالخيميائي يتعلق بأمل أبدي، وعندما تفشل جهوده يلوم نفسه ويعزو الفشل إلى خطأ ما قد ارتكبه، فلعله لم يحسن فهم كلمات فنه أو كلمات معلميه (ومن ثم يرجع إلى التعاليم والهمسات السرية)، أو لعله ارتكب زلة في الأوزان أو في توقيت الإجراء (لذا فإنه يمضي في إعادة المحاولة إلى غير نهاية)، وفي نفس الوقت عندما يقع في تجاربه العابرة على شيء يبدو جديدا أو على درجة ما من النفع، فإنه يغذي روحه بهذه الوعود ويبالغ فيها ويذيعها، معلقا أمله في النتيجة النهائية: «لا يمكن لأحد أن ينكر أن الخيميائيين قد اجترحوا اكتشافات عديدة، وقدموا للجنس البشري اختراعات نافعة، غير أنهم تنطبق عليهم حكاية الرجل العجوز الذي ترك لأبنائه تركة من الذهب مدفونة في حقله، متظاهرا بأنه لا يعرف موقعه بالتحديد، فظل الأبناء يكدون في حفر الحقل، ورغم أنهم لم يجدوا ذهبا فإن الحقل أنتج محصولا أوفر بفضل عملهم.»
57
أما أتباع السحر الطبيعي - الذين يفسرون كل شيء بالتوافق والنفور - فقد عزوا إلى الأشياء قوى زائفة وتأثيرات عجيبة، على أساس تخمينات عقيمة لا مسوغ لها، وإذا هم حققوا نتائج على الإطلاق فهي نتائج أقرب إلى الطرافة والجدة منها إلى النفع والفائدة.
وأما في السحر الخرافي (إذا كان علينا أن نتناوله أيضا) فينبغي أن نلاحظ - بصفة خاصة - أن الموضوعات التي عملت فيها الفنون الغريبة والخرافية، أو بدا أنها عملت، أي شيء - بين جميع الأمم وجميع العصور بل وجميع الأديان - هي موضوعات من صنف محدود وخاص؛ لذا فلنغض عنها الطرف، ولا عجب - في الوقت نفسه - أن اعتقادنا الكاذب بالغنى قد أفضى بنا إلى الفقر. ••• (86) هذا الإعجاب الذي أولاه الناس للفنون والمعارف، والذي هو في حد ذاته فج وشبه طفولي، قد زاده مكر أولئك القائمين بالعلوم وناقليها إلى الأجيال التالية، إنهم يقدمونها إلينا بكثير من الاستعراض والتعمل، ويعرضونها على الخلق في صورة مضللة مقنعة حتى تعطينا انطباعا بأنها تامة مكتملة من كل جانب، فلو تأملت منهجهم
58
وتقسيماتهم لبدا لك أنها قد تضمنت كل ما يتصل بالموضوع واشتملت عليه، ورغم أن هذه التقسيمات أسيء ملؤها وأنها أشبه بالقرب الفارغة فإنها تتخذ - في نظر الذهن السوقي - شكل العلم الكامل ومظهره، أما الباحثون الأوائل والأقدم عن الحقيقة، فقد كانوا أكثر أمانة وسدادا بحيث صاغوا المعرفة التي أرادوا استخلاصها من تأمل الأشياء، وعمدوا إلى حفظها للاستعمال في شكل شذرات
aphorisms
أو عبارات قصيرة ومتناثرة غير موصولة معا بمنهج اصطناعي، دون تظاهر أو ادعاء باشتمالها على أي علم كامل، ولكن وفقا لما صارت إليه الحال الآن فلا عجب إذا كانت الناس لا تبحث عما يتخطى ما قدم إليهم على أنه كامل مكمل. ••• (87) اكتسبت النظريات القديمة أيضا دفعة قوية لسمعتها وصيتها من غرور وخفة دعاة الجديد، وبخاصة في الجانب العملي والتطبيقي من الفلسفة الطبيعية، فلقد ظهر الكثير من المتحدثين السطحيين والحالمين، تدفعهم السذاجة من جانب والادعاء من جانب آخر، فأمطروا الخلق بالوعود معلنين ومتبجحين بإطالة العمر وتأخير الشيخوخة وإزالة الآلام وعلاج العيوب الخلقية وخداع الحواس، وفن كبح الانفعالات وإطلاقها، وتنوير وإعلاء الملكات الذهنية، وتحويل المواد، وتقوية الحركة ومضاعفتها بلا حدود، والطبع في الهواء والتغيير فيه، والتحكم في التأثيرات الفلكية واستشفاف المستقبل وتمثيل الأشياء البعيدة وكشف الأشياء الخفية وما إلى ذلك. إن المرء لا يجانبه الصواب إذا لاحظ - فيما يتصل بهؤلاء الأدعياء - أن هناك فرقا في الفلسفة بين وعودهم الفارغة وبين العلم الحقيقي يضاهي الفرق في التاريخ بين مآثر قيصر
59
والإسكندر ومآثر أماديس ديجول وآرثر أوف بريتين:
60
فنجد أن هذين القائدين العسكريين (قيصر والإسكندر) قد اجترحا بالفعل أشياء أعظم مما يحلم بتحقيقه هذان البطلان الخياليان (أماديس وآرثر)، ومن طريق الفعل الحقيقي لا الفعل الخيالي الغرائبي، ولكن ليس معنى ذلك أن نفقد الثقة بالتاريخ الحقيقي؛ لأنه شوه أحيانا وانتهكته الخرافات، وفي الوقت نفسه فلا عجب إن كان الأدعياء الذين حاولوا مثل هذه الأشياء قد أوغروا الصدور ضد الاجتهادات الجديدة (وبخاصة إذا اقترنت بذكر النتائج العملية المنتظرة)، إذ إن غرورهم المفرط والنفور الذي خلفه - حتى في يومنا هذا - قد دمرا كل اعتقاد في مشاريع من هذا النوع. ••• (88) وأذى أكبر من ذلك بكثير لحق بالعلوم من جراء وهن العزيمة وضآلة المشروعات التي اضطلعت بها الصناعة الإنسانية، والأسوأ من كل ذلك أن يأتي هذا الوهن الروحي مصحوبا بلون معين من الغطرسة والاستعلاء.
هناك أولا مبرر أصبح شائعا في كل فن من الفنون، «وهو أن يحول أصحاب هذا الفن ضعف فنهم نفسه إلى افتراء على الطبيعة، فكلما فشل فنهم في تحقيق شيء ما أعلنوا أن هذا الشيء غير ممكن في الطبيعة، ومن المؤكد أنه لا يمكن أن يدان الفن إذا كان الفن هو قاضي نفسه!» وحتى الفلسفة الرائجة اليوم تطوي جوانحها على مواقف واعتقادات معينة الغرض منها (إذا تأملتها جيدا) إقناع الناس بأن ليس هناك شيء من الأشياء الصعبة أو التي تنطوي على تسخير الطبيعة وإخضاعها يمكن أن نتوقعه من الفن أو الجهد البشري، وقد سبق أن ضربنا مثلا الفرق الكيفي المزعوم بين حرارة الشمس وحرارة النار، وبين المركب
composition
والمزيج
mixture . عند الملاحظة المتمعنة نجد أن كل هذا الميل إلى مثل هذه المواقف مقصود منه تقييد القدرة البشرية وبث اليأس من وسائل الابتكار والاختراع، ومن شأن ذلك ألا يفضي فقط إلى قص أجنحة الأمل، بل إلى قطع أطناب الصناعة ومحفزاتها، بل إهدار فرص الخبرة ذاتها، كل ذلك من أجل أن يظهروا فنهم الخاص بمظهر الكمال، ومن أجل الادعاء المتغطرس الموبق بأن كل ما لم يكتشف بعد ويفهم فلا ينبغي أن ننتظر أن يكتشف أو يفهم في المستقبل، وحتى إذا حاول أي شخص أن يكرس نفسه للأشياء ويكتشف شيئا ما جديدا فلن يزيد على أن يبحث بدقة وتفصيل اكتشاف شخص آخر، فيبحث في أشياء من قبيل طبيعة المغناطيس أو الجزر والمد أو النظام الفلكي وما إلى ذلك، والتي تبدو خفية إلى حد ما، وما زالت تبحت حتى الآن دون تقدم يذكر: «إنه لمن الخرق والرعونة أن تجهد في دراسة الشيء الواحد على حدة، فالطبيعة التي تبدو كامنة وخفية في بعض الأشياء تكون ظاهرة ومفهومة في أشياء أخرى، والتي تثير الاستغراب في الحالة الأولى لا تكاد تجذب الانتباه في الحالة الثانية.»
61
ذلك هو الحال في طبيعة «القوام»
consistency
الذي لا نقف عنده في حالة الخشب والصخر، بل نشير إليه إشارة عابرة على أنه «صلب» دون مزيد من البحث عن مقاومته للانفصال أو لانهيار متصليته
continuity ، بينما في حالة فقاعات الماء فالشيء نفسه يبدو أكثر دقة ورهافة؛ لأنها تلف نفسها في طبقات رقيقة متشكلة على نحو غريب في هيئة كرة، حتى تتجنب - للحظة - انهيار متصليتها.
62
وبصفة عامة فإن الأشياء التي تظن خفية ملغزة لديها طبيعة مفتوحة مشاع في حالات أخرى، ولن يتسنى لأحد الاطلاع عليها إذا اقتصر بحث الناس على الأشياء بمعزل وعلى حدة، غير أن الناس دأبوا كلما أضاف أحد في الأعمال الميكانيكية لمسة نهائية أكثر رهافة على أشياء مكتشفة منذ زمان، أو يزينها بأناقة أكثر، أو يضم أشياء معا ويدمجها، أو يجعلها أسهل في الاستخدام، أو يعرضها في نماذج أكبر أو أصغر أو أخف ... إلخ، دأبوا على أن يعدوا ذلك اكتشافا جديدا!
ليس عجيبا إذن ألا تظهر إلى النور اكتشافات عظيمة تليق ببني الإنسان، ما دام الناس قد قنعوا ورضوا بهذه المهمات التافهة الصبيانية، بل توهموا أنهم بذلك كانوا يسعون إلى هدف عظيم أو يحققونه. ••• (89) ولا يفوتنا أن نلاحظ أن الفلسفة الطبيعية كان لها خصم مزعج وعنيد في كل عصر ألا وهو الخرافة والحماس الأعمى والمتطرف للدين، فنحن نرى بين اليونان أن أولئك الذين كشفوا العلل الطبيعية للرعد والعواصف - لأول مرة - لأناس لم يسمعوا قط عن هذا الشيء قد أدينوا بالكفر،
63
كما أن معاملة بعض آباء الكنيسة الأوائل لم تكن أفضل حالا مع أولئك الذين أثبتوا بأوثق البراهين (بحيث لا يعترض عاقل عليها الآن) أن الأرض كروية، وبالتالي أكدوا وجود النقاط المتقابلة
antipodes .
64
وحتى في الوضع الحالي فإن الحديث عن الطبيعة قد غدا أصعب وأخطر بسبب الخلاصات ومناهج العرض
65
التي وضعها اللاهوتيون السكولائيون، الذين بعد أن ردوا اللاهوت إلى نظام مطرد قدر استطاعتهم، وصبوه في شكل علم، راحوا يمزجون فلسفة أرسطو الشائكة والخلافية بجوهر الدين أكثر مما ينبغي.
ونفس الميل تبدى - وإن بطريقة مختلفة - في رسائل أولئك الذين لم يتورعوا عن استنباط وتأييد صدق الدين المسيحي من مبادئ الفلاسفة وسلطتهم، وهللوا لزواج الإيمان والعقل كما لو كان شرعيا، وفتنوا عقول الناس بتنويعة سارة من الأشياء، إلا أنهم في الوقت نفسه خلطوا الأشياء الإلهية بالأشياء البشرية وهو اتحاد غير متكافئ، ليس في هذه الأخلاط اللاهوتية الفلسفية مكان إلا لما هو مقبول سائد في الفلسفة، أما المذاهب الجديدة - وإن تكن تغييرات إلى الأفضل - فلا تقابل إلا بالرفض والاستبعاد.
أخيرا سوف تجد أن بعض اللاهوتيين في جهلهم يوصدون تماما كل منفذ إلى الفلسفة مهما نقحت، فبعضهم يحمله ضعفه على التوجس من البحث المتعمق في الطبيعة خشية أن يتجاوز الحدود المسموح بها للفهم الرصين، وهم يسيئون تفسير ما يقوله الكتاب المقدس - في حديثه عن الأسرار الإلهية - ضد التحديق في أسرار الرب، ويطبقونه خطا على أسرار الطبيعة التي هي غير محظورة بأي تحريم، والبعض الآخر - بمكر أكبر - يخمنون ويتخيلون أنه إذا كانت العلل الوسطى غير معلومة فمن الممكن أن تعزى الأحداث المفردة بسهولة أكبر إلى يد الرب وعصاه (وهو في ظنهم شيء في مصلحة الدين بدرجة عظيمة): هذه - ببساطة - محاولة «لإرضاء الرب بكذبة»،
66
والبعض يخشى من مثال سابق أن الحركات والتغيرات في الفلسفة سوف تنتهي إلى غزو الدين، وأخيرا هناك من يبدو متخوفا من أن تفضي دراسة الطبيعة إلى اكتشاف ما يطيح بالدين أو يهز سلطته على الأقل وبخاصة بين الجهلاء، والخوفان الأخيران أتشمم فيهما رائحة حكمة جسدية، وكأن الناس أحست في أعماق عقلها وفي سرائرها شكا في قوة الدين وهيمنة الإيمان على العقل؛ فتملكها الخوف وأحست أنها مهددة من بحث الحقيقة في الطبيعة، ولكن إذا وضعت الأمر في نصابه الصحيح فإن الفلسفة الطبيعية - بعد كلمة الرب - هي أقوى علاج ضد الخرافة، وأسلم غذاء للإيمان؛ لذا فقد استحقت أن تقدم للدين بوصفها أخلص خدمه، إذ إن أحدهما يظهر إرادة الرب، والآخر يظهر قدرته، ولم يجانب الصواب من قال: «تضلون إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة الله.»
67
تمزجون بذلك وتخلطون الوحي المتعلق بإرادته والتأمل المتعلق بقدرته، ولا عجب أن تقدم الفلسفة الطبيعية قد أوقف منذ اختطف الدين - أكبر قوة مؤثرة على عقل البشر - بواسطة جهل البعض وحماستهم الهوجاء، وحمل على أن ينضم إلى جانب العدو. ••• (90) فإذا التفت إلى تقاليد ونظم المدارس والجامعات، وما إليها من مؤسسات قصد بها أن تكون مقاما للعلماء وسببا إلى تقدم المعرفة، وجدت كل شيء مناوئا لتقدم العلوم. ستجد أن المحاضرات والتدريبات مصممة بحيث لا يخطر لأي شخص أن يفكر أو ينظر في أي شيء خارج المضمار الاعتيادي،
68
فإذا ما خطر لأحد أن يستعمل حريته في الحكم فعليه أن يركن إلى نفسه ولن يجد له معينا من زملائه، فإذا تجشم ذلك فسوف يجد اجتهاده واتساع أفقه عبئا عليه في مسعاه العلمي؛ ذلك أن دراسات الناس في هذه الأماكن مقصورة ومحصورة في كتابات مؤلفين بعينهم، وإذا جرؤ أي شخص على مخالفتهم فإنه يهاجم للتو بوصفه ثوريا مثيرا للقلاقل. على أن هناك بالتأكيد فارقا كبيرا بين الأمور المدنية السياسية والأمور الفنية أو العلمية من حيث حجم الخطر الناجم عن التجديد في كل من الحالتين، أما في الأمور السياسية فحتى التغيير إلى الأفضل يعد مقلقا نظرا للاضطراب الذي يثيره؛ ذلك أن السياسة تقوم على السلطة والاتفاق والصيت والرأي، ولا تقوم على البرهان، وأما في الفنون والعلوم - كما في المناجم - فإن كل شيء يجب أن يعج بأعمال جديدة وتقدم جديد، هذا ما يجب أن يكون - وفقا للعقل السليم - وليس ما هو كائن في واقع الحال. إن ما هو قائم في عملية إدارة العلم وتسييره من شأنه أن يعيق تقدم العلم بدرجة خطيرة. ••• (91) وحتى لو توقفت هذه المناوأة الغيورة، فسوف يتكفل بوقف نمو العلم أن تمضي هذه المحاولات والاجتهادات دون إثابة؛ ذلك أن تنمية العلوم وتمويلها ليسا في يد واحدة: نمو العلوم يأتي بالضرورة من عقول كبيرة، أما المنح والاعتمادات فهي في أيدي العامة أو الوجهاء وهم بالكاد (باستثناءات قليلة جدا) متوسطو الثقافة، بل إن هذا النوع من التقدم ليس فقط محروما من التمويل والإغداق من جانب أفراد بل محروما أيضا من التقدير والتمجيد من جانب العامة؛ ذلك أنه فوق فهم الأغلبية من الناس، وعرضة للانسحاق والانطفاء بعواصف الرأي العام، ولا عجب أن ما لا يمجد لا يزدهر. ••• (92) غير أن أكبر عقبة على الإطلاق أمام تقدم العلوم وفتح ارتيادات وآفاق جديدة فيها إنما تكمن في اليأس البشري وانقطاع الرجاء، فأصحاب المزاج الرصين الحذر من الناس يميلون إلى فقدان الثقة تماما بإزاء هذه الأمور، إذ يتأملون في أنفسهم استغلاق الطبيعة وقصر العمر وخداع الحواس وضعف ملكة الحكم وصعوبة التجربة وما إلى ذلك؛ ولذا يفترضون أن هناك نوعا من الجزر والمد في المعرفة عبر انعطافات الزمن وعبر العصور، إذ تنمو المعرفة وتزدهر في فترات معينة، وتنحدر وتذبل في فترات أخرى، ودائما تخضع لهذا القانون: إنها إذا ما وصلت مستوى وحالة معينة فلا يمكنها أن تمضي أبعد من ذلك.
وعليه فإذا اعتقد شخص أو وعد بأكثر من ذلك فإنهم يرون أن هذا علامة على عقل منفلت غير ناضج، وأن مثل هذه المحاولات أولها مبهج وأوسطها مجهد وآخرها خلط، وحيث إن هذه الأفكار سريعة الولوج إلى عقول ذوي الرصانة والحكمة من الناس، فإن واجبنا أن نحذر من أن يأسرنا حبنا لما هو أنبل وأجمل، وأن نتريث ونخفف من غلوائنا! وأن نتمعن أي شعاع من الأمل يتسلل إلينا، ومن أي اتجاه يأتي، وأن نرفض النفحات الأخف من الأمل فيما نحن نحلل ونزن بدقة تلك التي تبدو الأصح والأقوم. علينا أيضا أن نتذرع في نصحنا بحصافة سياسية دأبها التحرز وتوقع الأسوأ في كل الشئون البشرية؛ لذا فإن علي الآن أن أتحدث عن الأمل، وبخاصة أنني لا أنجرف إلى وعود براقة، ولا أريد أن أصادر على أحكام الناس ولا أن أنصب لها الفخاخ، بل أن أقودهم طواعية بملء إرادتهم، ولعل أقوى علاج على الإطلاق لبث الأمل هو أن أقودهم إلى الجزئيات، وبخاصة كما هي ملخصة ومرتبة في قوائمي الكشفية (يدرج هذا الموضوع جزئيا في الجزء الثاني من «الإحياء»
Instauration
ولكنه يندرج بالدرجة الأساس في الجزء الرابع)، فهي ليست مجرد أمل بل الشيء ذاته. على أن واجبي لكي أفعل كل ذلك بتلطف أن أمضي في خطئي لإعداد عقول الناس، وإن نشر الأمل ليس بالجزء الهين من هذا الإعداد، فبدونه يكون كل ما قلته أدعى إلى الأسى منه إلى حفز النشاط وإحياء الهمة إلى التجربة، إذ يخيب ظنهم في الأشياء، ويقوي إدراكهم وشعورهم ببؤس حالهم، ومن ثم فإن علي أن أكشف عن حدوسي التي تبرر الأمل في النجاح، وأن أضع ذلك في الصدارة، تماما كما فعل كولمبس قبل رحلته المدهشة عبر الأطلنطي، إذ أبدى أسباب ثقته بإمكان العثور على أراض وقارات جديدة وراء تلك المعروفة من قبل، وهي أسباب قوبلت بالرفض في البداية، إلا أن التجربة اللاحقة أيدتها، فغدت سببا وبداية لأمور عظيمة. ••• (93) ينبغي أن نبدأ من الرب، إذ إن عملنا - بما يتضمنه ويتصف به من خير عميم - هو بداهة من الرب، الذي هو مصدر الخير وأبو الأنوار، وفي أعمال الرب فإن البدايات مهما كانت ضئيلة تفضي يقينا إلى غايتها ، ومثلما يقال في الأمور الروحية: إن «مملكة الله لا تأتي من الملاحظة.»
69
فإن ذلك يصدق أيضا في كل الأعمال العظيمة للعناية، بحيث يسير كل شيء يسيرا هينا دون خلط أو ضجيج، ويتم الأمر قبل أن يعي الناس أنه بدأ، ولا يفوتنا أن نذكر نبوءة دانيال عن الأيام الأخيرة للعالم: «كثيرون سيروحون ويجيئون والمعرفة ستزداد.»
70
بما يومئ - بوضوح - إلى أن القدر (أي العناية) سيقضي بأن الإحاطة بالعالم (التي تبدو بعد كثير من الرحلات الطويلة أنها اكتملت أو في سبيلها إلى الاكتمال) وازدياد المعرفة سيحدثان في نفس الحقبة. ••• (94) والآن نأتي إلى أهم سبب يدعونا إلى الأمل، وهو مستفاد من أخطاء الماضي، ومن الطرق التي جربت حتى هذه اللحظة، ثمة تأنيب وجيه بدر ذات يوم من شخص ما على الإدارة السيئة لأحد المواقف السياسية إذ يقول: «إن الشيء الأسوأ بالنسبة للماضي ينبغي أن يعتبر الأفضل للمستقبل؛ لأنك إذا كنت قد عملت كل ما يقتضيه واجبك ولم ينصلح أمرك فلا أمل لك في إمكان انصلاحه، أما وقد تعسر حالك، لا بسبب قهر الظروف، بل بسبب أخطائك أنت، فإنه لمن دواعي الأمل أنك إذا تجنبت هذه الأخطاء أو قومتها فإن تغيرا عظيما إلى الأفضل حقيق أن يحدث.» وبنفس الطريقة، فلو أن الناس طوال هذه الأحقاب قد لزموا الطريق الصحيح إلى الكشف وإلى نمو العلوم وعجزوا مع ذلك عن تحقيق تقدم أكثر مما أحرزوه، هنالك يكون من التوقح والطيش أن نقول بأن بالإمكان أن يحرزوا المزيد، أما إذا كانوا قد ضلوا الطريق وبددوا جهدهم فيما لا طائل من ورائه؛ لتبين من ذلك أن مكمن الأزمة ليس في الأشياء ذاتها (وذاك شيء ليس لنا به يد)، بل في الفهم البشري واستخدامه وتطبيقه، وذاك شيء قابل للعلاج والشفاء؛ لذا فإن أفضل شيء هو أن نبين ما هي هذه الأخطاء؛ لأن كل خطأ كان يشكل عقبة في الماضي هو داع من دواعي الأمل في المستقبل، ورغم أننا ألمحنا إلى هذه الأخطاء سابقا، فمن الملائم أيضا أن نفردها هنا بطريقة مختصرة واضحة بسيطة . ••• (95) هناك فصيلان من الذين تناولوا العلوم: أهل التجربة وأهل الاعتقاد،
71
أهل التجربة أشبه بالنمل، يجمعون ويستعملون فحسب، وأهل العقل أشبه بالعناكب، تغزل نسيجها من ذاتها، أما النحلة فتتخذ طريقا وسطا بين الاثنين، تستخلص مادة من أزهار البستان والحقل، غير أنها تحولها وتهضمها بقدرتها الخاصة، وعمل الفلسفة الحقيقي لا يختلف عن هذا، فهي لا تعتمد على قوتها العقلية وحدها، ولا تختزن المادة التي يقدمها التاريخ الطبيعي والتجارب الميكانيكية في ذاكرتها كما هي، بل تغيرها وتعمل فيها الفكر، ومن ثم فإننا نأمل الكثير من خلال اتحاد هاتين الملكتين (التجريبية والعقلية) اتحادا أوثق وأصفى مما تم لهما حتى الآن. ••• (96) ليس لدينا حتى الآن فلسفة في حالة خالصة، بل لدينا فلسفة طبيعية مشوبة ومفسدة: مفسدة في فلسفة أرسطو بالمنطق، وفي فلسفة أفلاطون باللاهوت الطبيعي، وفي المدرسة الأفلاطونية الثانية - عند بروكلوس
72
وغيره - بالرياضيات، التي عليها أن تضع حدودا فحسب للفلسفة الطبيعية، لا أن تنشئها أو تخلقها، إنما الأمل في نتائج أفضل معقود على فلسفة طبيعية خالصة غير مشوبة. ••• (97) لم يوجد أحد حتى الآن هو من صحة العزم وصرامة الفكر بحيث أخذ نفسه بأن ينفض عنه جميع النظريات والأفكار الشائعة، ويستخدم عقله من جديد - مطهرا نزيها - في دراسة الجزئيات، هكذا تأتى أن يكون الفهم البشري الذي لدينا مجرد خليط مضطرب وكتلة فجة مجبولة من كثير من السذاجة والمصادفة والأفكار الطفولية التي تشربنا فيها صغرنا.
ولكن إذا جاء شخص ناضج السن، ذو فهم غير معاق وعقل مبرأ من التحيز، وانكب من جديد على الخبرة والجزئيات، فإن آمالا أكبر ستنعقد عليه، وفي هذه المهمة أبشر نفسي بمصير مماثل للإسكندر الأكبر، ولا يتهمني أحد بالغرور حتى يسمع القصة؛ لأن الشيء الذي أعنيه يهدف إلى محو كل غرور. يتحدث إسكينيز
Aeschines
73
عن الإسكندر ومآثره هكذا: «نحن بالتأكيد لا نعيش حياة الفانين، بل ولدنا لهذا: لأن تتحدث عنا الأجيال القادمة وتشيد بمعجزاتنا.» كما لو أنه يعد بطولات الإسكندر إعجازية، إلا أنه في العصر الذي تلا هذا نظر تيتوس ليفيوس إلى المسألة نظرة أفضل وأعمق، قائلا في الإسكندر ما معناه: «لم يفعل شيئا أكثر من أنه كانت لديه الشجاعة لاحتقار التوافه.» وأحسب أن الحكم نفسه سوف ينسحب علي في العصور القادمة: أنني لم أفعل أشياء عظيمة، بل - ببساطة - أسبغت قيمة أقل على الأشياء التي تعد مهمة، في الوقت نفسه - كما قلت آنفا - لا أمل إلا في ميلاد جديد للعلم، أي تشييده باطراد من الخبرة وبنائه من جديد، الأمر الذي لن يجرؤ أحد (في اعتقادي) على الجزم بأنه قد عمل حتى الآن أو خطر ببال. ••• (98) أما عن أسس الخبرة (إذ ينبغي أن نركز التفكير عليها) فقد ظلت حتى الآن إما لا وجود لها أو ضعيفة جدا، ولم يحاول أحد، أو يتم له، الحصول على مجموعة أو مخزون من الجزئيات حقيق من حيث العدد أو النوع أو الوثوق أن يزود العقل بمعلومات، أو واف على أي نحو من الأنحاء، إذ على العكس من ذلك تقبل أهل العلم (الكسالى الخاملون في الحقيقة) - في بناء فلسفتهم وتأييدها - روايات عن الخبرة أشبه بالإشاعات والأراجيف وأعطوها وزن الأدلة المشروعة، ولك أن تتخيل مملكة أو دولة تسير مستشاريها وشئونها بناء على أقاويل الشارع لا بناء على خطابات وتقارير من السفراء والمراسلين ذوي المصداقية، هذا بالضبط هو نوع الإدارة الذي أدخل في الفلسفة فيما يتعلق بالخبرة، لا يحتوي التاريخ الطبيعي على شيء تم بحثه كما ينبغي، لا شيء محقق، لا شيء محصى، لا شيء موزون، لا شيء مقيس، وكل ما غمض والتبس كملاحظة فهو خادع ومضلل كمعلومة، ومن يستغرب هذا القول ويظنه شكوى غير منصفة (فأرسطو - وهو نفسه رجل عظيم جدا ومدعوم من ملك عظيم جدا - ألف تاريخا دقيقا للحيوان، وغيره ممن يعملون بجد أكثر وصخب أقل قد أضافوا إضافات كثيرة، وسواهم قد ألفوا تواريخ ضافية وملاحظات عن النباتات والمعادن والمتحفرات)، من يقل ذلك فهو لم يفهم ما نحن بصدده على نحو صحيح، فرق بين تاريخ طبيعي مؤلف من أجل ذاته وبين تاريخ طبيعي يحصل لتزويد الذهن بمعلومات من أجل أن يؤسس فلسفة، فهما يختلفان من وجوه عديدة، ولكن أهم وجوه الاختلاف أن الأول يحوي تنويعات الأجناس الطبيعية فحسب بدون تجارب الفنون الميكانيكية، ومثلما أنه في مجال السياسة لا تنكشف شخصية الإنسان الحقيقية وخفايا عقله وطوايا ضميره إلا عندما يكون في أزمة، كذلك الحال مع الطبيعة: إن أسرار الطبيعة تكشف عن نفسها تحت مشاكسات الفن أسرع مما تكشف إذا تركت لحال سبيلها، ومن ثم فنحن لا نؤمل في فلسفة طبيعية إلا بعد أن يجمع التاريخ الطبيعي (الذي هو قاعدتها وأساسها) على نحو أفضل، وليس قبل ذلك. ••• (99) ومع وفرة التجارب الميكانيكية فقليلة جدا هي التجارب التي تضيء الفهم وتعينه على أفضل نحو، فالفني الميكانيكي - الذي لا يعنيه بحال استكشاف الحقيقة - قلما يوجه ذهنه أو يمد يده إلى أي شيء غير ذي نفع له في عمله، غير أن تقدم العلوم لا أمل في أن يتحقق ما لم يكتسب التاريخ الطبيعي ويراكم الكثير من التجارب التي هي غير ذات نفع في ذاتها، ولكنها - ببساطة - تساعد على اكتشاف العلل والمبادئ (القوانين)، وقد أطلقت على هذه التجارب
Experimenta Lucifera (تجارب النور، التجارب المضيئة)؛ لأميزها عن تلك التي أسميها
Expermenta Fructifera (تجارب الثمار، تجارب المنفعة والنتائج)، لمثل هذا النوع من التجارب خاصية وطبيعة مدهشة، إنها لا تخدع ولا تخيب على الإطلاق، فلما كانت تجرى لا لتحصيل ثمرة ما بل لكشف العلة الطبيعية لشيء ما، فإنها تلبي الغاية منها بنفس القدر أيا كان ما تسفر عنه ما دامت قد حسمت السؤال.
74 ••• (100) ولكن إذا كان علينا أن نبحث عن مخزون أكبر من التجارب ونحصل عليه، وعن تجارب من صنف مختلف عما أجريناه حتى الآن، فإن لزاما علينا أيضا أن ندخل منهجا مختلفا تماما ونظاما وعملية لمواصلة الخبرة والتقدم بها، فالخبرة التي تترك لتجول في مضمارها مرخاة العنان هي مجرد تحسس في الظلام (كما قلنا آنفا)، وهي تدهش ولا تخير، أما عندما تمضي الخبرة قدما بقواعد محددة
75
بنظام مطرد ودون انقطاع، سيكون لنا أن نعقد آمالا أكبر على العلوم. ••• (101) ولكن حتى بعد أن نحصل على هذا المخزون، من التاريخ الطبيعي والخبرة، الضروري لعمل الفكر أو للعمل الفلسفي، يظل الفكر عاجزا تماما عن أن يشتغل على هذه المادة بنفسه وبالاتكاء على ذاكرته، فشأنه في هذا كشأن من يريد أن يستظهر حسابات روزنامة ويحتفظ بها في ذاكرته، ورغم ذلك فما زال التأمل يقوم حتى الآن بدور أكبر من دور التدوين (التسجيل) في أعمال الاستكشاف، ولم تدون تجارب حتى الآن في صحائف، غير أن علينا ألا نقبل بأي طريقة للكشف بغير تدوين، وحين يدخل في الكشف نظام التدوين، وتتعلم الخبرة أن تقرأ وتكتب، سيكون لنا أن نعقد آمالا أكبر. ••• (102) وفضلا عن ذلك، فما دام هناك عدد هائل وجيش من الجزئيات، وما دام هذا الجيش مبعثرا منتشرا بطريقة تشتت الفهم وتربكه، فلا ينبغي أن نأمل كثيرا في المناوشات والتحرشات الضئيلة والحركات العابرة المضطربة من جانب الفكر، ما لم ننظم كل الجزئيات التي تتعلق بموضوع البحث ونصفها بواسطة قوائم للكشف ملائمة وجيدة التنظيم ومفعمة بالحياة (إن شئت)، فيشرع العقل عندئذ في العمل على هذه الخلاصات المنظمة من الوقائع التي تقدمها هذه القوائم. ••• (103) ولكن بعد أن نكون قد وضعنا أمام أعيننا هذا المخزون من الجزئيات على النحو المنظم القويم، ينبغي ألا نمضي مباشرة إلى بحث واستكشاف جزئيات أو أعمال جديدة، أو على الأقل إذا فعلنا ذلك فينبغي ألا نقر هناك قانعين بذلك، فرغم أننا لا ننكر أنه بعد أن توضع جميع التجارب لجميع الفنون وتنظم وتتاح أمام ملاحظة وحكم شخص واحد يكون انتقال التجارب من فن لآخر سببا لاكتشاف أشياء جديدة من شأنها أن تفيد المجتمع والجنس البشري من خلال ما أسميه
literate experience (الخبرة الكتابية/المتعلمة/غير الأمية)، رغم ذلك فلا يؤمل من هذا إلا نتائج متواضعة. أما الشيء الأهم فإنما يأتي من الضياء الجديد من المبادئ (القوانين/القضايا) التي تستنبط بمنهج وقاعدة وثيقين من الجزئيات المذكورة، والتي قد تشير بدورها إلى جزئيات جديدة، ذلك أن طريقنا لا يمضي عبر سهل مستو، بل ينجد ويتهم، صاعدا أولا إلى المبادئ ثم هابطا إلى النتائج. ••• (104) ولكن علينا ألا نسمح للفهم بأن يقفز ويطير من الجزئيات إلى المبادئ القصية والشديدة العمومية (كتلك التي تسمى «المبادئ الأولى» للفنون والأشياء)، ثم ينطلق منها - مسلما بيقينها الذي لا يتزعزع - ليبرهن بها على المبادئ الوسطى ويفصلها، وهو المتبع حتى الآن، إذ إن العقل ميال بطبعه لأن يفعل ذلك، بل هو مدرب عليه ومعتاد من خلال نموذج البرهان «القياسي»
syllogistic ، ولكننا لا نأمل خيرا من العلوم إلا عندما ننتقل على سلم أصيل صاعد بدرجات متتالية بلا ثغرات أو كسور، من الجزئيات إلى المبادئ الصغرى، ثم إلى المبادئ الوسطى، الواحد تلو الآخر، انتهاء بالمبادئ الأعم، ذلك أن المبادئ الدنيا غير بعيدة من الخبرة الخام، والمبادئ العليا (كما هي متصورة حاليا) تصورية ومجردة وتفتقر إلى الصلابة، إنما المبادئ الوسطى هي الصادقة السليمة الحية التي تقوم عليها الشئون البشرية والمصائر البشرية، وأيضا المبادئ التي فوقها، وهي حقا الأكثر عمومية على أنها عندي غير مجردة بل محدودة بالمبادئ الوسطى.
لذا ينبغي ألا نزود الفهم البشري بأجنحة، بل بالأحرى بأثقال مدلاة حتى نعقله عن الوثوب والطيران، وهذا ما لم يعمل حتى الآن، وعندما يعمل سيكون لنا في العلوم أمل أكبر. ••• (105) في عملية تكوين المبادئ،
76
ينبغي أن نبتكر شكلا آخر من الاستقراء غير المستخدم حتى الآن، وينبغي أن نستعمله لإثبات واكتشاف لا «المبادئ الأولى»
first principles (كما يطلق عليها) فحسب بل المبادئ الصغرى
77
أيضا والوسطى وجميع المبادئ في الحقيقة؛ ذلك أن الاستقراء الذي ينطلق من التعداد البسيط هو شيء طفولي، استنتاجاته قلقة وعرضة للخطر من أي شاهد مضاد، وهو - بصفة عامة - يحكم بناء على عدد صغير جدا من الوقائع، وعلى تلك الوقائع المتوافرة فحسب، أما الاستقراء الذي نريده من أجل اكتشاف العلوم والبرهنة عليها فينبغي أن يحلل الطبيعة بواسطة عمليات نبذ واستبعاد مناسبة، وعندئذ بعد عدد كاف من السوالب يصل إلى استنتاج عن الأمثلة الموجبة، وذاك شيء لم يعمل حتى الآن بل لم يحاول، باستثناء أفلاطون الذي استخدم حقا على الشكل من الاستقراء إلى حد ما بغرض تمحيص التعريفات والأفكار، ولكن لكي نهيئ هذا الاستقراء أو البرهان لعمله تهيئة جيدة ومناسبة: ثمة أشياء كثيرة جدا يجب تقديمها، والتي لم يفكر فيها أحد من الخلق حتى الآن، حتى إننا سيلزمنا بذل جهد فيه أكبر مما بذل حتى الآن في القياس،
78
وهذا النوع من الاستقراء يتعين استخدامه ليس فقط لاكتشاف المبادئ، بل أيضا لتكوين المفاهيم، وإنما على هذا الاستقراء ينعقد أملنا الأكبر. ••• (106) ولكن في عملية تكوين المبادئ بواسطة هذا النوع من الاستقراء يتعين علينا أيضا أن ندرس ونتفحص ما إذا كان المبدأ المتكون مفضلا على مقاس تلك الجزئيات فحسب التي استمد منها، أم هو أكبر من ذلك وأوسع مجالا، فإذا كان ذا مجال أكبر وأوسع فإن علينا أن ننظر هل يقدم هذا المبدأ تأييدا لهذا المجال الأعرض - كما بنوع من الضمانة الإضافية - بأن يدلنا على جزئيات جديدة، بحيث لا نكون متشبثين فقط بأشياء معروفة أصلا، ولا قابضين بطيش على ظلال وأشكال مجردة لا على أشياء صلبة مقومة في المادة، وعندما نسلك في عملنا هذا المسلك، هنالك سيكون لدينا ما يدعونا إلى الأمل الحقيقي. ••• (107) وهنا أيضا نكرر ما قلناه آنفا
79
عن مد نطاق الفلسفة الطبيعية لتستوعب داخلها العلوم الجزئية، ورد العلوم الجزئية إلى الفلسفة الطبيعية، بحيث لا تنبت أفرع المعرفة عن الجذع، فبغير هذا لا نتوقع أي تقدم يذكر. ••• (108) هكذا تكون الملاحظات التي نريدها، من أجل أن نمحو اليأس ونحيي الأمل بالتخلي عن أخطاء الماضي أو تصحيحها، والآن علينا أن ننظر إن كان ثمة أي دواع أخرى للأمل، وسرعان ما يخطر لنا هذا الخاطر: إذا كانت هناك اكتشافات كثيرة نافعة قد وقعت لبني الإنسان من طريق المصادفة أو الظروف، وبدون دراسة أو انتباه من جانبهم، فلا بد بالضرورة أن نسلم بأن اكتشافات أكثر بكثير قمينة بأن تظهر إلى النور من طريق البحث والانتباه إذا ما تما باطراد ونظام، وليس بتسرع وتقطع، فرغم أنه يحدث بين الحين والحين أن يقع شخص بالمصادفة على شيء ما سبق أن تمنع على جهوده الكبيرة وتحقيقاته المضيئة، إلا أن الحال بغير شك هو العكس بصفة عامة؛ ولذا فإن لنا أن نأمل من العقل الإنساني والكد والمنهج والتطبيق أكثر مما نأمله من الصدقة والغريزة الحيوانية الصرف وما شابه ذلك، والتي كانت هي مصدر الاكتشاف حتى هذه اللحظة. ••• (109) وسبب آخر من أسباب الأمل: أن بعض الاكتشافات التي تمت فيما مضى لم تكن لتخطر على بال أحد، بل كان أي شخص حقيقا بأن يرفضها - ببساطة - كشيء مستحيل؛ ذلك أن الناس قد اعتادت أن تستشف ما هو جديد من خلال مثال مما هو قديم، وبخيال مسكون بالقديم ومصطبغ به، وتلك طريق مغالطة للغاية في تكوين التصورات، فالتيارات المستمدة من منابع الطبيعة لا تتخذ دائما المجرى القديم.
فلو أن واحدا قبل اختراع المدفع وصف هذا الشيء بتأثيراته، وقال مثلا: إن ثمة اكتشافا جديدا يمكن بواسطته زعزعة أقوى الحصون والأسوار وتدميرها من مسافة بعيدة، من المؤكد أن الناس عندئذ ستشرع في التفكير في طرائق زيادة قوة المنجنيق ومعدات الحصار بواسطة الأثقال والعجلات وما شابه من آليات الرجم والقذف، أما فكرة ريح نارية تتمدد فجأة وبعنف وتنفجر، تلك فكرة ما كانت لترد في تصور أحد أو خياله؛ ذلك أنه لم يشهد بنفسه شيئا شبيها بذلك في حياته، ربما باستثناء زلزال أو صاعقة، وهي أشياء قمينة بأن يستبعدها الناس على الفور باعتبارها خوارق أو غرائب الطبيعة التي لا يمكن أن يحاكيها البشر.
وبنفس الطريقة فإنه لو قال أحد قبل اكتشاف الحرير إن هناك صنفا اكتشف من الخيط لغرض اللبس والأثاث أرقى من الكتان أو الصوف، وفي الوقت نفسه يفوقها في القوة وأيضا في الجمال والنعومة، عندئذ سيشرع الناس في التفكير في نبات ناعم ما أو في الشعر الأنعم لحيوان معين أو في ريش أو زغب طائر، أما أن تكون خيوط دودة صغيرة، دودة وفيرة الإنتاج تجدد نفسها كل عام؛ فهذا ما لم يكن يخطر ببال أحد، بل إذا قال أحد ذلك عن إحدى الديدان لأثار السخرية منه على أنه يتوهم نوعا جديدا من نسيج العنكبوت.
كذلك لو أن أحدا - قبل اكتشاف البوصلة البحرية - أشار إلى أن أداة قد اكتشفت يمكن بها أخذ اتجاهات ونقاط السماء وتمييزها بدقة، فسوف يأخذ الناس في التخمين في الأمر والحديث عن تطوير أدوات فلكية أكثر دقة وما إلى ذلك، أما فكرة أن يكتشف أي شيء يتفق في حركته تماما مع الأجرام السماوية وليس هو نفسه جرما سماويا بل مجرد حجر أو مادة معدنية، فذاك شيء سيبدو بعيدا تماما عن التصديق، غير أن هذا وأمثاله من الأشياء قد ظل خفيا على البشر عصورا طويلة، ولم تكتشفها الفلسفة ولا الفنون الميكانيكية، بل اكتشفت بالحظ والصدفة؛ ذلك أنها حقا (كما قلنا آنفا) من نوع مختلف تماما وبعيد كل البعد عن أي شيء معروف من قبل، فلم يكن لأي تصور سابق على الإطلاق أن يقود إليه.
ومن ثم فإن لنا أن نأمل في أن الكثير من الأشياء الرائعة والمفيدة ما زالت مذخورة في حشا الطبيعة، بعيدة الشبه جدا عن الأشياء التي تم اكتشافها، وبعيدة جدا عن منال تخيلنا، وما زالت غير مكتشفة، ولكنها بغير شك سوف تظهر إلى النور في وقت ما خلال انعطافات القرون وتحولاتها، تماما مثلما ظهر غيرها، ولكن ليس بغير المنهج الذي نعالجه الآن يمكنها أن تظهر وتستبق بسرعة وفورية وتزامن.
80 ••• (110) ولكن هناك صنفا آخر من الاكتشافات يبرهن على أنه قد تكون هناك كشوف قابعة تحت أقدامنا، ومع ذلك يعبرها البشر دون أن يلحظوها، فإذا كان اكتشاف البارود والحرير والمغناطيس والسكر والورق وما إليها يعتمد على خصائص معينة للأشياء ذاتها وللطبيعة، فليس ثمة في تقنية الطباعة أي شيء غير ظاهر وغير مكشوف، إلا أن البشر - لغفلتهم - سلخوا أحقابا طويلة بدون هذا الاكتشاف الجميل الذي قدم خدمة جليلة في تقدم المعرفة؛ ذلك أنهم - لغفلتهم - لم يلاحظوا أنه رغم أن صف أحرف الطباعة أصعب من كتابة الأحرف بحركة اليد إلا أن أحرف الطباعة ما إن يتم صفها حتى تمكننا من أخذ ما لا يحصى من الطبعات، في حين لا تسمح الأحرف المكتوبة باليد إلا بنسخة واحدة، وأنهم - لغفلتهم - لم يلاحظوا أن الحبر يمكن أن يكثف بحيث يسم
81
من غير جري، وبخاصة إذا كانت الأحرف متجهة إلى أعلى وفعل الطبع يجرى من أعلى.
وهكذا هو حال العقل البشري في سيرة الكشف، لقد مرن في أغلب الأحيان على التعثر والخرق، فهو في البداية غير واثق من نفسه، ثم محتقر لها بعد ذلك. في البداية يبدو له هذا الاكتشاف أو ذاك بعيدا عن التصديق، وبعد أن يتحقق الاكتشاف تبدو له غفلته نفسها بعيدا عن التصديق، إذ كيف تفوت البشر هذه الملاحظة كل هذا الزمن؟! وهذا نفسه قد يكون من دواعي الأمل، بمعنى أن هناك حشدا هائلا من الكشوف تنتظرنا، نستنبطها ونخرجها إلى النور بمساعدة الخبرة الكتابية (المتعلمة) التي تحدثت عنها، ليس فقط باكتشاف طرائق غير معروفة، بل أيضا بنقل الطرائق المعروفة ومضاهاتها وتطبيقها. ••• (111) ثمة سبب آخر للأمل ينبغي ألا نغفله، فكر مجرد تفكير في الإنفاق الهائل، من الوقت والثروة والموهبة، الذي ينفقه البشر في أشياء وفي مساع أقل فائدة وقيمة بكثير، فلو أن جزءا يسيرا منه وجه إلى موضوعات جادة قويمة؛ لأمكن التغلب على كل صعوبة، ولقد أصبت إذ أضفت هذه الملاحظة؛ لأني أعترف - بصدق - أن مجموعة من التاريخ الطبيعي والتجريبي - مثلما تقصيتها في عقلي وكما ينبغي لها - هي عمل عظيم، وعمل ملكي إن شئت، وعمل يتطلب جهدا وتكلفة كبيرين. ••• (112) في الوقت نفسه، لا ينبغي لأحد أن ينزعج من كثرة الجزئيات، فهذه الحقيقة نفسها أدعى إلى الأمل، إذ إن الظواهر الجزئية للفنون والطبيعة ما هي إلا حفنة إذا قورنت بترهات العقل عندما تنبت عن الواقع وتفقد الصلة ببينة الأشياء، وإن نهاية هذا المنهج الذي أدعو إليه واضحة وقريبة نوعا ما، أما الطريق الآخر فلا آخر له، بل هو متاهة لا نهائية؛ ذلك أن الناس حتى الآن لم تعكف على الخبرة إلا قليلا ولم تمسها إلا مسا عابرا، بينما ضيعوا وقتا هائلا في التفكر النظري وفي التهاويم الذهنية، فإذا تسنى لأي أحد من بيننا أن يجيب حقا عن تساؤلاتنا عن وقائع الطبيعة، فإن اكتشاف جميع العلل وجميع العلوم لن يستغرق إلا بضعة أعوام. ••• (113) أظن أيضا أن الناس يمكن أن تستمد بعض الأمل من خلال النموذج الذي أمثله أنا شخصيا، ولست أقول هذا من باب التفاخر بل لأن من المفيد أن أقوله، فلينظر إلي من يقنطون ولا يثقون في قدراتهم: هاكم رجل هو الأكثر انشغالا بين مجايليه بشئون الدولة، رجل ليس في تمام الصحة (ومن شأن ذلك إضاعة الكثير من الوقت)، ومستكشف أول يرود وحده هذا الطريق، لا يقتفي خطى أحد ولا يشاور في أفكاره أحدا، ولكن بمجرد أن وضعت قدمي بثبات على الطريق الصحيح مسلما عقلي للطبيعة، فإنني أجرؤ على القول بأني حققت للمسألة التي أعالجها دفعة ما إلى الأمام، فما بالكم بما يمكن أن يتوقع (بعد أن تبين الطريق على هذا النحو) من أناس لديهم وفرة من الوقت، ومن جهود متآزرة، ومن توالي العصور، على طريق غير مقصور على عابر واحد في الوقت الواحد (مثلما هو شأن التأمل العقلي)، بل طريق يمكن فيه لأعمال الناس وجهودهم (وبخاصة في جمع الخبرة) أن تتوزع على أفضل نحو ثم تتحد، فلن يدرك الناس قوتهم إلا عندما لا تعود الأعداد الكبيرة تقوم كلها بنفس الشيء، بل يتولى كل واحد شيئا واحدا ويقدم إسهاما مختلفا عن الآخر.
82 ••• (114) أخيرا، حتى لو باتت نسمة الأمل الآتية من هذه «القارة الجديدة» أوهن وأخفت بكثير، فما زلت أعتقد أن علينا أن نحاول بأي شكل (إلا إذا شئنا أن نركن للضعة)؛ ذلك أن ما نخسره من عدم المحاولة يفوق كثيرا ما نخسره من عدم النجاح، فعدم المحاولة من شأنه أن يضيع علينا احتمال أن نجني خيرا هائلا، أما عدم النجاح فلن نخسر منه إلا القليل من الجهد الإنساني، ولكن استنادا إلى ما قلته وإلى كثير غيره لم أقله فإنه يبدو لي أن لدينا ما يدعونا إلى الأمل الكبير، لا يدعو الجسورين فحسب إلى المحاولة، بل ويدعو الحذرين المتحرزين إلى التصديق. ••• (115) ها قد انتهيت من الحديث عن إزالة اليأس، اليأس الذي كان من أقوى الأسباب التي عطلت وأخرت تقدم العلوم، وأكملت عرضي لعلامات الخطأ وأسبابه، وللعطالة والجهل السائدين، وأرجعت الأسباب الأكثر خفاء - والتي تند عن إدراك العامة وملاحظتهم - إلى ما قيل عن «أوهام العقل».
هنا أيضا ينبغي أن أختتم الجزء الهدمي من «الإحياء»
Instauration ، والذي يتكون من ثلاثة تفنيدات: (1) تفنيد العقل الإنساني الطبيعي حين يترك على سجيته. (2) تفنيد البراهين. (3) تفنيد النظريات أو الفلسفات والمذاهب السائدة. وقد كان تفنيدي لها مثلما أمكن أن يكون، أي يكشف علامات الخطأ وتقديم بينة عن أسبابه، وهذا هو الشكل الوحيد المتاح لي من التفنيد ما دمت لا أتفق مع غيري حول مبادئ البرهان وصوره.
لذا فقد حان الوقت لأن نأتي إلى الفن نفسه وإلى معيار تفسير الطبيعة، ولكن تبقى هناك ملاحظة مبدئية ينبغي ألا تفوتنا، فبينما هدفت من هذا الكتاب الأول من الشذور إلى أن أعد عقول الناس لفهم وتقبل ما سيأتي، فالآن وقد طهرت العقل وصقلته وسويته، يبقى علي أن أضع العقل في وضع جيد، وبواجهة مواتية (إن شئت) لما سوف أعرض أمامه؛ ذلك أنه في أي عمل جديد لا يأتي التحيز فقط من تأثير رأي قديم مسيطر، بل أيضا من استباق أو توقع زائف للشيء الجديد الذي يقدم، ومن ثم فقد حرصت على أن أبث انطباعات جيدة وصحيحة عن الأشياء التي أقدمها، حتى لو كان هذا من باب التشويق فحسب، حتى تتم رؤية الشيء نفسه على نحو واضح مكتمل. ••• (116) أود إذن قبل كل شيء ألا يفترض أحد أنني أطمح إلى تأسيس أي مذهب فلسفي على طريقة قدامى اليونان أو بعض المحدثين من أمثال: تيليزيوس أو باتريزي أو سيفيرينوس،
83
إذ ليس هذا هدفي، ولا أنا أعتقد أنه يهم كثيرا لمصائر الناس ماذا يضمر المرء من تصورات مجردة عن الطبيعة وعن مبادئ الأشياء، لا شك هناك أن كثيرا من مثل هذه الآراء القديمة قد يعاد إلى الحياة، وأن أفكارا جديدة قد تدخل، تماما مثلما يمكن أن نفترض نظريات كثيرة عن السماء، والتي توافق الظواهر إلى حد كبير ولكنها غير متوافقة إحداها مع الأخرى.
وهكذا فإن جهدي ليس منصبا على هذه الأمور النظرية والعقيمة في الوقت نفسه، وإنما هدفي على العكس هو أن أحاول إيجاد أساس أمتن لقدرة الإنسان وعظمته، ومد حدودهما إلى آماد أوسع، ورغم أن لدي - في موضوعات معينة وبصورة غير كاملة - نتائج أعتبرها أصوب وأوثق كثيرا وأنفع أيضا من تلك السائدة (وقد جمعت هذا في الجزء الخامس من كتابي «الإحياء»
Instauration )، ولا أنا آمل أن أعمر حتى أكمل الجزء السادس من «الإحياء» (المقيض للفلسفة المكتشفة بواسطة التفسير المشروع للطبيعة)، بل أقنع لو أني مضيت - بخطى رزينة ومثمرة - في الأجزاء الوسطى من مسعاي، ناثرا للأجيال المقبلة بذور حقيقة أكمل، ومؤديا دوري في افتتاح المشروع العظيم.
84 ••• (117) وكما أني لا أدعي أني أؤسس مذهبا، كذلك أنا لا أقدم ولا أعد بتقديم نتائج معينة، ومن ثم قد يعترض البعض قائلا: أنت يا من تكثر من الحديث عن النتائج وتعلق كل شيء على هذه الغاية، ألا يليق بك أن تقدم أيضا بعض عينات منها؟! غير أن طريقتي ومنهجي (كما قلت كثيرا بوضوح، وكما يسرني أن أكرر) ليس أن أستخلص نتائج من نتائج أو تجارب من تجارب (مثلما يفعل التجريبيون العشوائيون
empiricis )، بل من النتائج والتجارب أستخلص العلل والمبادئ، ومن تلك العلل والمبادئ أعود فأستخلص نتائج وتجارب عديدة، شأن مفسر شرعي للطبيعة.
ورغم أنه في قوائمي الكشفية (التي تشكل الجزء الرابع من «الإحياء»)، وفي أمثلة الأشياء الجزئية (التي قدمتها في الجزء الثاني)، وأيضا في ملاحظاتي في التاريخ (الذي وصفته في الجزء الثالث)، سيلاحظ أي قارئ متوسط الذكاء والاستبصار إشارات هنا وهناك وإلماعات إلى نتائج مهمة كثيرة، إلا أني أعترف بصدق أن التاريخ الطبيعي الذي بحوزتي الآن، سواء جمعته من الكتب أو من بحوثي الخاصة ليس من الكمال ودقة التحقيق بحيث يخدم أغراض تفسير مشروع.
ومن ثم فإذا كان هناك من هو أقدر في الأشياء الميكانيكية وأفضل تدريبا، ومن هو قدير في اصطياد النتائج من مجرد التعارف على التجارب ، فليضطلع بالمهمة الصعبة في جمع محصول جيد من تاريخي ومن قوائمي وهو في طريقه، ويستخدمها في إنتاج نتائج، آخذا عربونا مؤقتا حتى يتسنى له أخذ المبلغ، أما عني فإن لي هدفا أكبر، وأنا أنكر أي نشاط مبتسر وسابق لأوانه من هذا النوع، وأشجبه بوصفه «كرات أتلانتا»
85 (كما أحب أن أسميها)، أنا لا ألاحق كالطفل تفاحات ذهبية، بل أراهن على انتصار الفن على الطبيعة في السباق، ولا أنا متلهف على جز الطحلب أو قطع الذرة الخضراء، بل أنتظر الحصاد في إبانه. ••• (118) وسوف يخطر للبعض - بغير شك - عند قراءة التاريخ (الطبيعي) وقوائم الكشف الخاصة بي: أن هناك بعض أشياء في التجارب نفسها غير مؤكدة أو ربما خاطئة تماما، وربما يظن لهذا السبب أن اكتشافاتي تقوم على أسس ومبادئ خاطئة ومشكوك فيها، ولكن لا بأس في ذلك البتة، فمثل هذه الأمور لا مناص منها في البدايات، فهي أشبه بما يحدث في الكتابة أو الطباعة، إذ يتصادف أن يكون هناك حرف أو اثنان فيهما خلل أو انحراف، ولكنهما لا يسببان أي إزعاج للقارئ، إذ يتولى الحس تصحيحهما بسهولة، كذلك ينبغي أن يدرك الناس أن كثيرا من التجارب في التاريخ الطبيعي قد تكون اندرجت فيه بطريق الخطأ، والتي سرعان ما تتدارك بعد ذلك وتحذف عند اكتشاف العلل والمبادئ، ولكن من الحق رغم ذلك أنه إذا ما زادت هذه الأخطاء في التاريخ الطبيعي والتجارب وتكررت واستمرت، فلن يتسنى لأي حذق أو فن أن يصححها وينقحها، فإذا كان هناك أي أخطاء أو أغلاط في الجزئيات حتى في تاريخي الطبيعي الذي بحث وجمع بكل جد ودأب، ولعلي أقول بعناية دينية: فما بالكم بالتاريخ الطبيعي الشائع، المهمل والمهلهل بالقياس إلى تاريخي؟ أو بالفلسفة والعلوم المؤسسة على مثل هذه التربة الهشة (أو بالأحرى الرمال المتحركة)؟ ومن ثم فلا داعي للانزعاج من هذه الزاوية. ••• (119) وفي التاريخ (الطبيعي) والتجارب الخاصة بي سيكون هناك أيضا أشياء كثيرة تافهة وشائعة، وأخرى هابطة وفجة، وأخرى مفرطة الدقة وتأملية خالصة وغير ذات جدوى ، وقد يكون ذلك مدعاة لانصراف الناس.
بالنسبة للأشياء الشائعة يجب أن يدرك الناس أنهم دأبوا على أن يردوا علل الأشياء النادرة الحدوث إلى تلك الأكثر حدوثا، دون أي تمحيص لعلل هذه الأشياء الكثيرة الحدوث ذاتها، فهم يسلمون بها تسليما ويأخذونها على علاتها، وعليه فإنهم لا يدرسون علل الوزن ودوران الأجرام السماوية والحرارة والبرودة والخفة والصلابة والرخاوة والتخلخل والكثافة والسيولة والصلابة والحياة واللاحياة والتشابه والاختلاف والعضوية وما إلى ذلك؛ لا يبحثون علل كل ذلك، بل يسلمون بها كشيء جلي وواضح بذاته، بينما يتنازعون ويعملون الحكم حول أشياء أخرى أقل حدوثا وتواترا وإلفا.
ولكني أنا من يعرف جيدا أن من غير الممكن الحكم على الأشياء النادرة واللافتة - ناهيك بالأشياء الجديدة التي ظهرت إلى النور - ما لم تبحث أولا علل الأشياء الشائعة وعلل تلك العلل على نحو واف وتكتشف. أنا الذي أعرف ذلك كنت مضطرا إلى أن أفسح مكانا للأشياء المعتادة في تاريخي الطبيعي، بل في اعتقادي أنه لم يعرقل تقدم الفلسفة شيء مثلما عرقلها أن الأشياء المألوفة الكثيرة الحدوث لا تأسر انتباه الناس ولا تحظى بالتفاتهم وتأملهم بل يمرون عليها مرور الكرام، ولا يتساءلون عن عللها، إنما يلزمنا أن نولي انتباها للأشياء المعروفة أكثر مما يلزمنا أن نحصل معلومات عن الأشياء غير المعروفة. ••• (120) أما عن الأشياء الوضيعة أو حتى الدنسة - التي علينا (كما يقول بليني
pliny )
86
أن نعتذر عليها - فيجب أن ندرجها في التاريخ الطبيعي بما لا يقل عن أفخم الأشياء وأقيمها، فالتاريخ الطبيعي لا يتلوث منهما، فالشمس تدخل القصر والبالوعة دون تفرقة فلا تتلوث، نحن لا نبني أو نكرس كابيتولا أو هرما لزهو الإنسان، بل نضع أساسا في الفهم الإنساني لمعبد مقدس على غرار نموذج العالم. أنا إذن أتبع النموذج، فأيما شيء يستحق الوجود فهو يستحق المعرفة، فالمعرفة هي صورة الوجود، والأشياء الوضيعة والرفيعة موجودة على السواء، وفضلا عن ذلك فكما أن أفضل العطور يستخرج أحيانا من أشياء عفنة كشأن المسك والزباد، كذلك قد يصدر ضوء ومعرفة رائعان من أشياء وضيعة وقذرة ، ولكن بحسبنا هذا القدر، فمثل هذه الرهافة ما هي إلا طفولية وتخنث. ••• (121) ولكن هناك اعتراضا آخر ينبغي أن ننظر فيه بتمعن أكبر، وهو أن ثمة أجزاء كثيرة في هذا التاريخ (الطبيعي) ستبدو للفهم العام - أو لأي فهم معتاد على الأشياء الراهنة - دقيقة بشكل خيالي غير مفيد، ومن ثم فقد قلت منذ البداية بخصوص هذه المسألة، ويجب أن أكرر ثانية، أنني أبحث عن «تجارب النور لا تجارب الثمار»، مقتديا في ذلك بمثال الخلق الإلهي الذي برأ النور وحده في اليوم الأول، وقيض كل هذا اليوم لخلق النور ولم يزد عليه أي عمل مادي.
لذا فكل من يظن أن مثل هذه الأشياء غير مفيدة يشبه ذلك الذي يظن أن الضوء غير مفيد؛ لأنه ليس صلبا وليس ماديا، والحق أن معرفة الطبائع البسيطة بتمحيص ودقة هي أشبه بالضوء، فهو يقدم منفذا إلى كل أسرار مشغل الطبيعة، ولديه قدرة على أن يمسك ويجر وراءه فيالق كاملة وأرتالا من النتائج، ومصادر المبادئ الأعلى قيمة، وإن كان هو في ذاته غير ذي نفع كبير، كذلك الحال مع أحرف الأبجدية، فهي بذاتها وبمعزل لا معنى لها ولا فائدة، ولكنها مع ذلك بمثابة الخامة الأولى لتركيب وإعداد كل حديث، وكذلك بذور الأشياء، قيمتها الكامنة كبيرة، ولكنها لا نفع لها البتة إلا في نموها، وكذلك الأشعة المشتتة للضوء نفسه لا تؤتي فائدة ما لم تجمع وتتركز.
ولكن إذا تأذى أحد من الدقائق النظرية فماذا تراه يقول عن السكولائيين وانغماسهم المهول في الدقائق؟ لقد أهدروا تلك الدقائق في الألفاظ أو في التصورات العامة (وهي تئول إلى نفس الشيء)، وليس في الأشياء وفي الطبيعة، وكانت تلك الدقائق غير مثمرة لا في مبدئها ولا في منتهاها، ولا تشبه من قريب أو بعيد دقائقنا نحن التي هي غير مفيدة في البداية ولكن نتائجها ذات فوائد لا نهائية، فليعلم الناس علم اليقين أن كل حذق في الجدل والاستدلال لا يؤتى به إلا بعد أن يتم اكتشاف المبادئ إنما هو حذق بائر في غير موضعه ، أما الوقت الصحيح والمناسب للحذق أو أفضل وقت على كل حال فهو إبان روز الخبرة وتقييمها وتكوين المبادئ منها، أما النوع الآخر من الحذق فهو إن أمسك بالطبيعة أو تشبث بها فهيهات له أن يقبض عليها أو يأسرها. إن الطبيعة ليصدق فيها كل الصدق ما قيل في الحظ أو الفرصة: «لها من الأمام خصلة، ولكنها من الخلف صلعاء.»
وباختصار أقول لأولئك الذين يزدرون أي جزء من التاريخ الطبيعي باعتباره مبتذلا أو وضيعا أو مفرط الدقة والرهافة أو غير مفيد في بدايته، أقول لهم ما قالته امرأة فقيرة لملك متغطرس
87
رفض الإصغاء إلى طلبها بوصفه شيئا تافها ولا يليق بجلالته: «كف إذن عن أن تكون ملكا.» فمن المؤكد أن من لن يلتفت إلى أشياء مثل هذه على أنها تافهة وضئيلة فلن يفوز بمملكة الطبيعة ولن يحكمها. ••• (122) سيعترض أيضا بأنه من الغرابة والفظاظة أن نتخلص من جميع العلوم وجميع الثقات مرة واحدة وبضربة واحدة، ولا نستعين بأي من القدماء، بل نعتمد على قوتنا الخاصة.
ولكني أعلم أنني لو كنت اخترت أن أكون أقل صدقا لما كان صعبا علي أن أعزو منهجي الحالي إلى القرون القديمة قبل اليونان (عندما كان العلم الطبيعي ربما أكثر ازدهارا وإن كان أقل صخبا، قبل أن يتوصل إلى مزامير اليونان وطبولهم)، أو حتى أعزوه - في شطر منه - إلى بعض اليونان أنفسهم، فأكون قد كسبت منهم العون والمجد معا، كشأن محدثي النعمة؛ إذ ينتحلون لأنفسهم شرف التحذر من سلالة ما عريقة بمساعدة علوم الأنساب،
88
ولكني أستند إلى بينة الأشياء، وأرفض كل صنف من الخيال والادعاء، ولا أعتقد أنه يهم لعملي الحالي هل الكشوف التي ستأتي كانت ذات يوم معروفة للقدماء وجعلت تغيب وتعود مع تقلبات الأشياء وكر العصور، لا يهم هذا لعملي أكثر مما يهم للجنس البشري ما إذا كان العالم الجديد هو جزيرة أطلنطا
89
الشهيرة التي عرفها القدماء أم هو أرض جديدة تكتشف الآن للمرة الأولى؛ ذلك أن الكشوف الجديدة يجب أن تؤخذ من نور الطبيعة، لا أن تسترد من غياهب القدم.
أما عن نقدي العام للعلوم القديمة، فمن الواضح تماما للنظرة المنصفة أن هذا الشجب ليس فقط أكثر قبولا، بل أيضا أكثر تواضعا مما كان يمكن أن يكونه أي شجب متحيز، فلو لم تكن الأخطاء متجذرة في التصورات الأولية لكان هناك بالضرورة بعض الاكتشافات الصحيحة، ولقدر لهذه الاكتشافات الصحيحة أن تقوم الاكتشافات الخاطئة، ولكن لأن الأخطاء كانت أساسية، ومن طبيعة أدت بالناس إلى أن تغفل الأشياء وتعمى عنها لا أن تحكم عليها حكما متهافتا أو غير صحيح، فلا عجب إذا كان الناس لم يبلغوا ما لم يحاولوه، ولم يدركوا هدفا لم يحددوه، ولم يكملوا سباقا لم يدخلوه ولم يخوضوه.
وأما عن الغطرسة المتضمنة فيه فأقول: من المؤكد أنه إذا ادعى شخص أنه يستطيع رسم خط أكثر استقامة أو دائرة أكثر اكتمالا مما يستطيعه أي شخص آخر بثبات اليد وحدة البصر، فإنه يدعو إلى منافسة للقدرات، أما إذا أقر شخص بأنه يستطيع رسم خط أكثر استقامة أو دائرة أكثر اكتمالا بمساعدة مسطرة أو فرجار، فمن المؤكد أنه لا يتفاخر على الإطلاق، ولننتبه إلى أن هذه الملاحظة لا تنطبق فحسب على محاولتي هذه التمهيدية، بل تنطبق أيضا على أولئك الذين يكرسون أنفسهم لهذا الموضوع في المستقبل؛ لأن منهجي الكشفي في العلوم يسوي بين الأذهان، ولا يترك للامتياز الفردي إلا القليل؛ لأنه يؤدي كل شيء بواسطة أوثق القواعد والبراهين؛ ولذا فأنا أعزو إسهامي - كما قلت مرارا - إلى الحظ لا إلى القدرة، وأعده سليل الزمن لا الذكاء، فهناك - بلا شك - عنصر من المصادقة في أفكار الناس لا يقل عما في أعمالهم وأفعالهم. ••• (123) لذا يجب أن أطلق على نفسي النكتة القديمة (إذ إنها تصيب كبد المسألة): «شارب الماء وشارب النبيذ لا يمكن أن يفكرا بنفس الطريقة.»
90
فجميع البشر - قديمهم وحديثهم سواء - قد شربوا في العلوم شرابا بسيطا كالماء، جاريا تلقائيا من الفهم، أو مستمدا بواسطة المنطق كما ببكرات من بئر، بينما أشرب وأجعل أنخابي من شراب معد من أعناب كثيرة، في إبانها تامة النضج، جمعت وقطفت من أفرع منتخبة، ثم عصرت في معصرة النبيذ، ثم صفيت وخمرت في الدن، ليس مستغربا إذن أنني لا أفكر كما يفكرون. ••• (124) كذلك سيوجه إلي بدون شك اعتراض مفاده أنني لا أستهدف من العلم غايته الصحيحة، أو أفضل غاية له (وهو نفس الشيء الذي أعيبه على الآخرين)، إذ إن تأمل الحقيقة هو شيء أكرم وأرفع من كل منفعة أو امتداد للنتائج، بينما هذا التشبث الطويل بالتجربة والمادة وبالأحوال المتقلبة للأشياء الجزئية يقيد العقل بالأرض، أو بالأحرى يلقي به في جحيم من الفوضى والاضطراب، وينأى به عن سكينة الحكمة المجردة وصفاتها، وهي حالة أكثر سموا وقداسة، وأنا أقبل هذا التوجه بكل ارتياح، فهذا الذي يدعون إليه ويعلون شأنه هو بالتحديد ما أتغياه وأصبو إليه؛ وذلك أني أشيد في الفهم الإنساني نموذجا حقيقيا للعالم مثلما هو عليه في الواقع لا كما شوهه عقل الإنسان، وذاك أمر لا يتحقق إلا بتشريح العالم بكل دقة، غير أني أعلن أنه لا بد من القضاء التام على تلك التقليدات الحمقاء والهزيلة والقردية للعالم التي كونتها أوهام الناس في مختلف المذاهب الفلسفية، فليدرك الناس إذن الفرق الهائل (كما قلت آنفا)
91
بين أوهام العقل البشري (
idols ) وأفكار العقل الإلهي (
ideas )، فما الأولى إلا تجريدات اعتباطية، أما الأخرى فهي طابع الخالق نفسه على مخلوقاته، وقد انطبع على المادة وتحدد فيها بخطوط حقيقية رائعة، ومن ثم فإن الحقيقة هنا والمنفعة شيء واحد،
92
وقيمة النتائج نفسها - بوصفها ضمانات للحقيقة - أعظم من قيمة المنافع التي تقدمها لحياة الإنسان. ••• (125) قد يعترض آخرون بأني لا أفعل غير ما كان يفعل من قبل، وأن القدماء أنفسهم اتخذوا نفس المسار الذي أتخذه الآن؛ ومن ثم فمن المرجح أنني - أنا أيضا - بعد كل هذا العناء والصخب سوف أرسو في واحد من هذه المذاهب التي سادت في الأزمنة القديمة، فالقدماء أيضا كانوا حين يبدءون تنظيراتهم يذخرون مخزونا هائلا من الأمثلة والجزئيات، ويرتبونها في رسائل بأبواب وعناوين، ويشيدون منها فلسفاتهم وفنونهم، وبعد ذلك عندما يفهمون المسألة يذيعونها على العالم، مضيفين بضعة أمثلة هنا وهناك للبرهان والتوضيح، ولكنهم كانوا يرون أن من الزائد والمضجر أن يطبعوا ملاحظاتهم عن الجزئيات ومدوناتهم ورسائلهم، وهكذا كان شأنهم شأن البنائين الذين بعد أن ينتهوا من بناء البيت يزيلون السقالات والسلالم من المشهد، هذه بغير شك هي العملية التي كانت تتم ولا يمكن أن يتصورها المرء غير ذلك، غير أن هذا الاعتراض (أو بالأحرى الوسواس) سيكون من السهل أن يرد عليه أي شخص لم ينس تماما ما قلته آنفا، فأنا أيضا أسلم بأن هناك شكلا من البحث والكشف كان بين القدماء، وهم أنفسهم قد بينوه بوضوح في كتاباتهم، وهو ببساطة أنهم من خلال بضعة أمثلة وجزئيات (مع إضافة تصورات شائعة وربما جرعة ما من أكثر الآراء رواجا) كانوا يقفزون قفزا إلى المبادئ الأكثر عمومية أو المبادئ الأولى للعلم، وإذ يأخذون صدق هذه المبادئ الأولى كأمر ثابت لا يتزعزع، فإنهم ينطلقون منها إلى استنباط الاستنتاجات الدنيا بواسطة قضايا وسطى، ويختبرونها بعرضها على محك المبادئ الأولى الصادقة صدقا ثابتا لا يتزعزع، ومنها يشيدون الفن، وأخيرا فإنهم إذا ظهرت في الأفق جزئيات جديدة تناقض وجهات نظرهم فإنهم إما يسلكونها بمهارة في المذهب بواسطة تحديدات وتفسيرات لقواعدهم نفسها،
93
وإما يتخلصون منها برعونة على أنها استثناءات، أما الجزئيات التي لا تتعارض مع قواعدهم فكانوا يقيضون لها - بتكلف وعنت - عللا تتماشى مع مبادئهم، ولكن ليس هذا هو التاريخ الطبيعي والخبرة كما كان ينبغي أن يكونا، كما أن قفزهم إلى التعميمات قد دمر كل شيء. ••• (126) واعتراض آخر قد يوجه ضدي، هو أنني بتحرزي من أن يصدر الناس آراء ويضعوا مبادئ معينة حتى يصلوا على نحو واف إلى العموميات عبر الخطوات الوسطى؛ أنني بذلك أعلق الحكم وأقود إلى ما يسميه اليونان
acatalepsia (الشك)، غير أن ما أقصده وما أدعو إليه ليس الأكاتالبسيا «الشك» (إنكار قدرة العقل على فهم الحقيقة)، بل اليوكاتالبسيا «الاعتقاد السليم» (تأهيل العقل للفهم الصحيح)، فأنا لا أنتقص من سلطة الحواس بل أعينها بمساعدات، ولا أستهين بالفهم بل أنظمه، ولأن نعرف بقدر ما يلزمنا أن نعرف ثم نرى أن معرفتنا ناقصة خير من أن نرى أن معرفتنا كاملة ثم لا نعرف أي شيء تلزمنا معرفته. ••• (127) كذلك قد يسأل البعض (من باب التشكك لا من باب الاعتراض) عما إذا كان منهجي معنيا بإنهاض العلم الطبيعي وحده أم يهدف أيضا إلى إنهاض العلوم الأخرى كالمنطق والأخلاق والسياسة، إنني بالتأكيد أهدف من منهجي أن ينسحب على العلوم جميعا، ومثلما أن المنطق الشائع الذي ينظم الأمور بواسطة القياس لا يقتصر على العلم الطبيعي بل يمتد ليشمل كل العلوم، فإن منهجي الاستقرائي هو أيضا يشملها جميعا، فأنا أضع تاريخا وقوائم كشف للغضب والخوف والخجل وما شابهها وللأمور السياسية، وكذلك للعمليات العقلية للذاكرة والتركيب والتقسيم
94
والحكم وما شاكلها، تماما كما أضع للحرارة والبرودة أو للضوء أو النمو النباتي ... إلخ، ولكن لما كان منهجي التفسيري بعد إعداد التاريخ واستيفائه لا يقتصر على عمل العاقل وخطابه فحسب (كما يفعل المنطق الشائع) - بل يشمل أيضا طبائع الأشياء - فقد زودت العقل بقواعد وتنظيم بحيث يعمل نفسه في كل شأن على نحو ملائم لذلك الشأن؛ ولهذا فقد قدمت قواعد كثيرة ومتنوعة في مذهبي التفسيري بحيث تكيف منهج الكشف - بدرجة ما - وفقا لنوعية موضوع البحث وحالته. ••• (128) وليس لأحد أن يتشكك في موقفي من الفلسفة والفنون والعلوم القائمة ويظن أني راغب في تدميرها، فأنا أبعد ما أكون عن ذلك، بل يسرني أن أراها تستخدم وتنمى وتقدر، فأنا لا أتدخل بأي حال لتثبيط هذه الفنون الرائجة عن أن تستخدم لإثراء المناقشة وتجميل الخطاب، وأن تكون في خدمة الأساتذة ورجال الأعمال، وأن تحظى بالقبول العام كنوع من العملة المتداولة، بل إني أعلن بوضوح أن ما أقدمه الآن لا يصلح لهذه الأغراض، إذ هو غير مهيأ لكي تفهمه العامة إلا من خلال نتائجه وآثاره، أما عن تعاطفي الصادق ونيتي الحسنة تجاه العلوم السائدة فهو شيء تشهد به كتاباتي المنشورة (وبخاصة «في النهوض بالعلم»
On the advancement of learning ) شهادة تغنيني عن الكلام، وأكتفي بأن أنبه علانية وبغير انقطاع أن المناهج المستخدمة حاليا لا يمكن أن تؤدي إلى تقدم كبير في الجانب النظري والتأملي من العلم، ولا إلى آثار (عملية) واسعة النطاق. ••• (129) يبقى أن أقول بضعة أشياء عن نبل الغرض (من عملي هذا)، وإذا كنت قد عرضت قبلا لهذه الأشياء، فربما بدا ذلك من جانبي مجرد أماني، فأما وقد أحييت الأمل وأزلت التحيزات، فلعلها تكون الآن أثقل وزنا، وإذا كنت قد أكملت العمل بنفسي دون أن أهيب بأحد أن يشارك بقسط فيه وأن يمد إلي يد العون، فإن علي الآن أن أقلع عن ذلك؛ لئلا يظن بي ادعاء التميز والاستحقاق، إنما يليق بي أن أستدعي إلى ذاكرة الناس نقاطا معينة ما دمت أريد أن أثير همتهم وأشعل حماستهم.
أولها إذن أن إدخال اختراعات كبيرة هو العمل الذي يحتل المكانة الأولى، غير مدافع، بين الأعمال البشرية جميعا، وهكذا كان رأي القدماء فيه، فقد كانوا يخلعون على أصحاب الاختراعات ألقاب الشرف الإلهية، بينما يعزون أمجادا بطولية فحسب لأصحاب الإنجازات السياسية الكبرى (مثل مؤسسي المدن والإمبراطوريات والمشرعين ومحرري أوطانهم من المحن المقيمة وقاهري الطغاة ومن إليهم)، ومن يقارن بين الفصيلين مقارنة عادلة سيجد أن القدماء كانوا على حق في حكمهم؛ ذلك أن منافع الاختراعات تعم الجنس البشري كله، أما المنافع السياسية فهي مقصورة على مناطق بعينها، وهي لا تدوم إلا زمنا، بنيما تدوم منافع الاختراعات إلى أبد الدهر، كما أن الإصلاح السياسي قلما يتم دون عنف واضطراب، أما الاختراعات فإنها تسبغ نعمة وتقدم منفعة دون أن تلحق بأحد أي أذى أو ضرر.
كما أن الاختراعات هي ضروب من الخلق الجديد، ومن المحاكاة للأعمال الإلهية، وكما قال الشاعر:
95 «كانت أثينا - تمجد اسمها - ذات يوم هي أول من منح الجنس البشري البائس حصادا مثمرا، وأعاد خلق حياتهم، وصنع لهم قوانين.»
وهنا لا ننسى أن سليمان رغم سطوته وذهبه وأعماله العظيمة وبلاطه وخدمه وأسطوله وبهاء اسمه وإعجاب البشر غير المحدود به، لم يكن يعد مجده في أي شيء من ذلك، بل كان يعلن أن «مجد الله أن يخفي شيئا ما، ولكن مجد الملك أن يكتشفه.»
وفضلا عن ذلك، فليتأمل أي شخص في الفارق الهائل بين حياة الناس في أرقى البلاد الأوروبية وحياتهم في أي منطقة همجية وبربرية من مناطق الهند الجديدة، ولسوف يجد أن الفارق قد بلغ من الضخامة بحيث يصح أن يقال: إن «الإنسان إله للإنسان.»
96
ليس فقط باعتبار العون والمنافع المتبادلة، بل من مقارنة الوضعين، وهذا الفارق لا يأتي بفضل التربية أو المناخ أو العرق، بل بفضل «الفنون».
كذلك ينبغي أن نلاحظ قوة المخترعات وتأثيرها ونتائجها، والتي تظهر في أوضح صورة في تلك المخترعات الثلاثة التي لم يعرفها القدماء: الطباعة والبارود والبوصلة، فقد غيرت هذه المكتشفات الثلاثة وجه وحالة العالم بأسره، الأول في الأدب، والثاني في فن الحرب، والثالث في الملاحة، ثم ترتب عليها تغيرات لا تحصى، بحيث يمكن القول بأنه لم يكن لأي إمبراطورية أو مذهب أو نجم أي قوة أو تأثير في الشئون البشرية يفوق ما كان لهذه الكشوف الميكانيكية.
كذلك يصح أن نميز بين ثلاثة أنواع ودرجات من الطموح البشري؛ الأول: طموح أولئك الذين يريدون بسط سطوتهم على بلدهم الأصلي، وهو نوع سوقي ومنحط من الطموح، والثاني: طموح أولئك الذين يسعون إلى بسط سلطان بلادهم على البشر، وهذا طموح أسمى من سابقه بالتأكيد، وإن لم يكن أقل جشعا، ولكن إذا سعى إنسان إلى تأسيس وبسط سطوة الجنس البشري نفسه وسلطانه على العالم، فإن طموحه - إن جازت هذه التسمية - أسلم وأنبل من سابقيه. إن سلطان الإنسان على الأشياء ليعتمد كليا على الفنون والعلوم، إذ إننا لا يمكن أن نحكم الطبيعة إلا بإطاعتها.
كذلك إذا كانت فائدة أي اختراع معين قد حرك الناس إلى أن تعتبر أي شخص أمكنه أن يسبغ مثل هذا النفع على الجنس البشري كله؛ تعتبره أكثر من إنسان، فأي تمجيد سوف يحظى به ذلك الكشف الذي يؤدي إلى تسهيل اكتشاف كل شيء آخر؟! ومع ذلك (لكي نقول الحقيقة) فمثلما أن فوائد الضوء لا نهاية لها في تمكيننا من السير في طريقنا ومن ممارسة الفنون ومن القراءة ومن تمييز أحدنا الآخر، على أن إبصار الضوء نفسه أروع وأجمل من شتى استخدامات الضوء، كذلك فإن تأمل الأشياء كما هي - دون خرافة أو خداع أو خطأ أو اضطراب - هو بذاته أقيم من كل ثمرات الكشوف.
وأخيرا: فإذا طرح اعتراض بأن العلوم والفنون قد انحرفت إلى جهة الشر والترف وما إلى ذلك، فلا ينزعجن أحد من هذا الاعتراض، فالشيء نفسه يمكن أن يقال في كل خير أرضي: الذكاء، الشجاعة، القوة، الجمال، الثروة، والضوء نفسه، وكل شيء آخر، فقط دع الإنسان يستعيد حقه على الطبيعة - ذلك الحق الذي خصه الله به وكفله له - ودعه يتملك هذه القوة التي سيكون استخدامها محكوما بالعقل السليم والدين الصحيح. ••• (130) والآن حان الوقت لأن أقدم الفن نفسه - فن تفسير الطبيعة - الذي لا أدعي أنه ضروري بشكل مطلق (أي لا يمكن فعل أي شيء بدونه)، ولا أنه كامل مكمل، وإن كنت أعتقد أنني قدمت فيه قواعد صحيحة وبالغة الفائدة؛ ذلك أن لدي قناعة بأنه إذا توافر للناس تاريخ طبيعي جيد وخبرة جيدة، وإذا أخلصوا العمل عليهما، وألزموا أنفسهم بقاعدتين: (1)
التخلي عن الآراء والتصورات الشائعة. (2)
الامتناع عن التعميمات المتسرعة؛ فإن بوسعهم بإعمال قوى عقلهم الأصلية والأصيلة لا أكثر أن يعثروا على طريقتي في التفسير بغير معونة من أي فن؛ ذلك أن التفسير هو الفعل الحقيقي والطبيعي للعقل عندما يتم تحريره من العوائق. ومن الحق مع ذلك أن قواعدي التي أقدمها سوف تجعل كل شيء أسرع وأوثق.
غير أني لا أدعي أن ليس بالإمكان إضافة أي شيء على هذه القواعد، فأنا - على العكس - إذ أنظر إلى العقل لا في قدراته الذاتية فحسب بل في اتحاده بالأشياء، أذهب بالضرورة إلى أن فن الكشف يمكن أن ينمو مع نمو الكشوف ذاتها.
الكتاب الثاني
شذرات في تفسير الطبيعة أو في مملكة الإنسان
(1) مهمة «القوة» البشرية وهدفها هو أن تولد وتحدث في جسم معطى طبيعة جديدة أو طبائع جديدة، أما مهمة «المعرفة» البشرية وهدفها فهو أن تكتشف في طبيعة معطاة «صورتها» أو تميزها الحقيقي أو طبيعتها المسببة لها أو المصدر الذي انبعثت منه إلى الوجود (فهذه هي أقرب الكلمات التي بحوزتي لوصف هذا الشيء الذي أتحدث عنه)، ويندرج تحت هاتين المهمتين الأوليتين مهمتان ثانويتان وأقل أهمية: تحت الأولى تندرج مهمة تحويل الأجسام العينية من شيء إلى آخر، ما أمكن ذلك، ويندرج تحت الثانية مهمة اكتشاف - في كل تكوين وحركة - العملية الكامنة والمستمرة المؤدية من العلة الفاعلة الملحوظة والعلة المادية الملحوظة إلى الصورة المسبغة، وبالمثل اكتشاف البنية الكامنة في الأجسام التي في حالة السكون وليست في حالة حركة. ••• (2) إن الحالة المؤسفة للعلم البشري اليوم واضحة حتى من خلال الأقوال الشائعة عنه، لقد صدق من قال: إن المعرفة الحقة هي معرفة العلل. ولا بأس أيضا من تقسيم هذه العلل إلى أربعة أنواع: المادية والصورية والفاعلة والغائية، غير أن النوع الأخير من هذه العلل - أي العلل الغائية - هو أبعد ما يكون عن الفائدة، والحق أنه يفسد العلوم إلا ما كان منها يتناول الأفعال البشرية. لقد انقطع أمل الناس في اكتشاف العلل الصورية، ولكن العلل الفاعلة والمادية (بالطريقة التي تبحث بها والآراء السائدة عنها، أي بمعزل عن العمليات الكامنة
latent processes
التي تفضي إلى «الصورة»
form ) هي شيء ضحل وسطحي ولا يكاد يسهم بأي شيء في العلم الأصيل والمنتج، لست ناسيا أنني أشرت سابقا إلى - وحذرت من - خطأ يقع فيه العقل البشري إذ يعزو إلى الصور الدور الأساسي في الوجود،
1
ولكن إذا كان في الطبيعة لا يوجد إلا الأجسام الفردة
2
التي تؤدي أفعالا فردية خالصة وفقا لقانون، ففي مجال العلم يعد هذا القانون نفسه (ودراسته واكتشافه وتفسيره) هو أساس كل من المعرفة والتطبيق العملي، إن هذا القانون وبنوده هو ما أعنيه بكلمة «صورة»
form ، مستخدما هذه اللفظة لأنها جارية ومألوفة. ••• (3) إذا اقتصرت معرفتك على علة وجود طبيعة ما (كالبياض أو الحرارة) كما هي قائمة في موضوعات محددة، فإن معرفتك العلمية غير مكتملة، وإذا اقتصرت قدرتك على إحداث نتيجة ما في بعض المواد القابلة لها فإن قدرتك أيضا غير مكتملة، وإذا لم تعرف غير العلة الفاعلة والعلة المادية سيكون بإمكانك الوصول إلى كشوف جديدة في المادة المماثلة بصفة عامة والمؤهلة لذلك من الأصل، ولكنك لن تطال الأغوار القصية للأشياء؛ ذلك أن العلل متنوعة ولا تعدو أن تكون حاملات وليس بقدرتها نقل الصور إلا في بعض الحالات، أما إذا عرفت الصور فسوف تفهم وحدة الطبيعة فيما يبدو من المواد شديدة التباين، ومن ثم ستكون قادرا على أن تكتشف وتحدث أشياء لم تحدث من قبل على الإطلاق، ولم تحدث مثلها تقلبات الطبيعة ولا الجهود التجريبية ولا حتى المصادفة، ولم تكن لتخطر أبدا على عقل البشر؛ اكتشاف الصور - إذن - يفضي إلى الفكر الحق والممارسة الحرة. ••• (4) رغم أن طريقي القوة والمعرفة البشريتين متوازيان ومتماهيان تقريبا، إلا أنه بسبب العادة الموبقة والمتأصلة - عادة الانغماس في التجريدات - فإن من الأسلم جدا أن نقيم العلوم منذ البداية على أسس ذات توجه عملي، وأن ندع التوجه العملي نفسه يؤطر الجانب النظري ويحدده، ومن ثم فإذا أردنا خلق طبيعة معينة أو إحداثها في جسم معطى فإن علينا أن ننظر أي نوع من التعليمات يلزمنا وأي نوع من القواعد والإرشادات، وأن نضع هذه بلغة بسيطة لا غموض فيها ولا تعقيد.
هب أن لديك فضة وأنت تريد أن تسبغ عليها صفرة الذهب أو زيادة في الوزن (مراعيا قوانين المادة)، أو أن لديك حجرا معتما تريد أن تجعله شفافا، أو أنك تريد أن تسبغ القوة على الزجاج، أو النماء على ما ليس نباتا، أقول: إن علينا أن ننظر أي نوع من القواعد أو الإرشادات تفضلها؛ أولا: أنت - بلا شك - ستريد أن نقدم لك شيئا ناجعا في النتيجة وغير مخيب في التجربة، ثانيا: ستود أن نصف لك شيئا لا يجبرك ولا يقصرك على طرائق أو وسائل معينة من الأداء، إذ ربما لا تحوز هذه الوسائل ولا يتسنى لك تدبيرها، أما إذا كان ثمة طرائق أو مناهج أخرى (غير ما نصفه) لإنتاج هذه الطبيعة فربما ستكون في حوزتك ولكنها ستكون هدرا غير مستخدم بسبب ضيق القاعدة، وستحرم من جني أي نتيجة، ثالثا: ستود أن يقدم لك شيء ليس في صعوبة العلمية التي تريد أن تجريها ولكنه أقرب إلى ما هو عملي.
لذا فإني أعلن أن القاعدة الحقة والكاملة للممارسة ينبغي أن تكون محددة ومفتوحة ومواتية للفعل أو مفضية إليه، وهذا هو بعينه اكتشاف «الصورة» الحقة، فصورة طبيعة ما هي ذلك الذي إن حضر حضرت الطبيعة إثره على اليقين، ومن ثم فإن «الصورة» حاضرة دائما ما حضرت الطبيعة؛ لأنها تدعمها وتتأصل في كليتها، والصورة نفسها من شأنها أنها إذا زالت تزول الطبيعة المعنية على اليقين، فما دامت الطبيعة غائبة فالصورة غائبة، إذ هي ليست هناك لتدعمها، وهي لا توجد في أي طبيعة أخرى، وأخيرا، فإن من شأن الصورة الحقة أن تجلب الطبيعة المعنية من مصدر وجودي ما قائم في أشياء كثيرة وأكثر إلفا من الصورة نفسها؛ لذا فإني أعلن وأوصي بأن يكون المبدأ الحق والتام للمعرفة هو التالي: اكتشف طبيعة أخرى قابلة للتحول إلى الطبيعة المعنية ولكنها مثال معين لطبيعة معروفة أكثر ولنوع حقيقي، غير أن هاتين القاعدتين - العملية والنظرية - هما في الحقيقة شيء واحد: ما هو أنفع عمليا هو الأصدق نظريا. ••• (5) ثمة نوعان من القاعدة أو المبدأ الخاص بتحول الأجسام؛ الأول: ينظر إلى الجسم باعتباره جماعا أو حزمة من الطبائع البسيطة، في حالة الذهب مثلا تلتقي الخصائص التالية: فهو أصفر اللون، ثقيل وله وزن معين، قابل للسحب والطرق إلى درجة معينة، غير طيار، لا يفقد شيئا من مادته بالنار، ينصهر إلى درجة معينة من السيولة، يمكن استخلاصه وإذابته بطرق معينة، وهكذا في بقية الطبائع التي توجد معا في الذهب، إذن هذا النوع من المبدأ يستنبط الشيء من صور الطبائع البسيطة، فمن يعرف الصور وطرائق إضفاء صفرة اللون والثقل وقابلية السحب والطرق والثبات والانصهار والسيولة ... إلخ ودرجاتها وحالاتها، فسيجد أن بالإمكان الجمع بينها في جسم ما وينتج عن ذلك تحوله إلى ذهب،
3
هذا النوع من العمليات هو فعل أولي، إذ إن منهج إنتاج طبيعة واحدة هو نفسه منهج إنتاج طبائع عدة، مع فارق واحد هو أن إنتاج طبائع عديدة في آن معا هو أمر عليه قيود وحدود، وليس من السهل ضم طبائع كثيرة معا إلا بالطرائق المألوفة الشائعة من الطبيعة، على أننا ينبغي أن نقول: إن هذا المنهج من مناهج العمل (الذي ينظر بعين الاعتبار إلى الطبائع البسيطة وإن كانت في جسم مركب) ينطلق مما هو ثابت أزلي كلي في الطبيعة، ويتيح فرصا هائلة للقدرة البشرية مما لا يحيط به ولا يتصوره الفكر البشري في حالته الراهنة.
أما النوع الثاني من المبدأ (الذي يعتمد على اكتشاف العملية الكامنة): فلا ينطلق من الطبائع البسيطة، بل من الأجسام المركبة كما توجد في الطبيعة في السياق المعتاد للأشياء، مثال ذلك: إن موضوع البحث قد يكون عن البدايات الأولى والطريقة والمراحل التي يتكون بها الذهب (أو أي معدن أو حجر آخر) من المواد أو العناصر الأصلية إلى المعدن المكتمل، أو بالمثل العملية التي تتكون بها النباتات بداية من تصلب النسغ في التربة أو من البذور، وحتى النبات المكتمل خلال التتابع المنظم للتغيرات والجهود المتنوعة والدائبة للطبيعة، أو التقدم المنتظم لتكون الحيوانات منذ الإخصاب حتى الولادة، وكذلك الأمر في بقية الأجسام.
فهذا البحث لا ينظر فقط في تكون الأجسام، بل ينظر أيضا في الحركات والعمليات الأخرى للطبيعة، فينظر مثلا إلى الحالة التي يكون فيها موضوع البحث هو عن العملية الكلية والفعل المستمر للتغذية، بداية من تناول الغذاء وحتى التمثل التام،
4
أو يكون موضوع البحث هو عن الحركة الإرادية في الحيوانات، بداية من الانطباع الحسي الأصلي، مرورا بالنشاط المستمر للروح وصولا إلى ثني الأطراف أو تحريكها، أو يكون موضوع البحث هو تفسير حركة اللسان والشفاه وبقية الأعضاء وصولا إلى تلفظ الكلمات ونطقها، فهذه الأبحاث أيضا متعلقة بطبائع مركبة، أي طبائع متواشجة في بنية، وتأخذ بالاعتبار عادات معينة وخاصة للطبيعة دون القوانين الأساسية والعامة التي تشكل «الصور»
Forms ، إلا أن على المرء أن يعترف أن هذا المنهج يبدو أسهل من المنهج الأولي وأقرب منه تناولا وأوثق وعدا بالنتائج.
وبنفس الطريقة فإن الجانب العملي المناظر لهذا الجانب النظري يتوسع في نشاطه ويمتد به من الأشياء الاعتيادية المألوفة في الطبيعة إلى الأشياء اللصيقة بها أو غير البعيدة عنها كثيرا، أما العمليات الأكثر عمقا وجذرية على الطبيعة فتعتمد اعتمادا كليا على المبادئ الأولية، وفضلا عن ذلك، فحيثما انتفت قدرة البشر على فعل أي شيء عدا المعرفة، مثلما هو الحال في علم الفلك (فليس بوسع الإنسان أن يؤثر على الأجرام السماوية أو يغيرها أو يحولها) فإن دراسة الوقائع نفسها - إلى جانب معرفة العلل والتوافقات - لتعود بالمرء إلى المبادئ الكلية الأولية عن الطبائع البسيطة (عن طبيعة الدوران التلقائي مثلا، أو طبيعة الجذب أو القوة المغناطيسية، أو عن أشياء أخرى عديدة أكثر إلفا من الأجرام السماوية نفسها)، فلا يأملن أحد في حسم مسألة هل الأرض أم السماء هي التي تدور في الحركة اليومية ما لم يفهم أولا طبيعة الدوران التلقائي. ••• (6) غير أن «العملية الكامنة»
latent process
التي سأتحدث عنها هي شيء مختلف تماما عما يمكن أن يدور بخلد الناس بالنظر إلى شواغلهم الراهنة، فأنا لا أعني بها مقاييس معينة أو علامات أو مراحل نمو مشهودة في الأجسام، بل أعني عملية مستمرة تماما تفلت في معظمها من إدراك الحواس.
مثال ذلك: أنه في كل عملية تكون أو تحول لجسم من الأجسام فإن علينا أن نسأل: ما الذي يفقد أو يتبدد؟ وما الذي يبقى أو يضاف؟ ما الذي يتمدد وما الذي ينكمش؟ ما الذي يتحد وما الذي يفترق؟ ما المتصل وما المنقطع؟ ما الذي يدفع وما الذي يصد؟ ما الذي يسود وما الذي ينزوي؟ وكثير من مثل هذه الأشياء.
هنا أيضا لا تتوقف التساؤلات عند حالات تكون الأجسام أو تحولها، بل علينا في جميع حالات التحور والتبدل أن نتساءل بالمثل: ما الذي يسبق وما الذي يلحق؟ ما السريع وما البطيء؟ ما الذي يقدح الحركة وما الذي ينظمها؟ وما إلى ذلك، غير أن كل هذه الأشياء لا تعرفها ولا تحاولها العلوم في وضعها الحالي البليد البائر، فإذا كان كل فعل طبيعي هو نتاج جزيئات دقيقة لا متناهية الصغر (أو على الأقل أصغر من أن تدركها الحواس) فلا يأملن أحد في السيطرة على الطبيعة أو تعديلها دون أن يفهم هذه الدقائق ويتخذ الوسائل الملائمة لملاحظتها. ••• (7) كذلك فإن دراسة وكشف «البنية الكامنة»
latent structure
في الأجسام هو شيء جديد، مثله مثل كشف «العملية الكامنة»
latent process
و«الصورة»
form ، ومن الواضح أننا حتى الآن كنا نتلكأ في ردهات الطبيعة، ولم نلج بعد إلى غرفاتها الداخلية، ولكنك لا تستطيع أن تضفي طبيعة جديدة على جسم ما أو أن تنجح في تحويله على نحو ملائم إلى جسم جديد دون أن تكون على دراية جيدة بكيفية تغيير الجسم وتحويله، وإلا فسوف تخب في إجراءات غير مجدية (أو صعبة ومرتبكة على أقل تقدير)؛ لأنها غير ملائمة لطبيعة الجسم الذي تعمل عليه، فهنا أيضا لا بد لك من أن تفتح الطريق وأن تمهده.
من الواضح أن جهدا كبيرا ومفيدا قد بذل في تشريح الأجسام العضوية (مثل أجسام البشر والحيوانات)، وهذا الفرع من البحث يبدو دقيقا وينم عن تفحص جيد في الطبيعة، غير أن هذا النوع من التشريح يجرى على مستوى ما هو مرئي ومدرك بالحواس، ولا يلائم إلا الأجسام العضوية، كما أنه واضح وقريب المأخذ إذا قورن بالتشريح الحقيقي للبنية الكامنة في الأجسام التي تعتبر متماثلة، وبخاصة الأشياء التي لها نفس الطابع في كل أجزائها كالحديد والحجر، أو الأجزاء المتجانسة للنبات والحيوان، مثل: الجذر والورقة والزهر واللحم والدم والعظم ... إلخ، على أن الجهد البشري لم يهمل تماما هذا النوع من التشريح، فلدينا مثال منه في فصل الأجسام المتماثلة بواسطة التقطير والطرق الأخرى للإذابة؛ ليتبين عدم تجانس مركب ما من خلال اتحاد الأجزاء المتجانسة. هذا شيء نافع ويسهم في بحثنا وإن كان نتاجه خادعا في كثير من الأحيان، إذ إن كثيرا من الطبائع تنسب إلى المادة المستخلصة كما لو كانت موجودة من قبل في المركب، بينما الحقيقة أن النار والحرارة والمذيبات الأخرى تسبغ عليها طبيعة إضافية جديدة، على أي حال فحتى هذا لا يعدو أن يكون جزءا يسيرا من العمل اللازم لاكتشاف البنيات الحقيقية في المركبات، وهي أشياء أخفى وأدق بكثير، بحيث إن تأثير اللهب يغشي عليها ولا يظهرها، ويحجبها ولا يجلوها.
لذا فإن فصل وحل الأجسام ينبغي ألا يجرى بالنار، بل بالعقل والاستقراء الصحيح،
5
بمساعدة التجارب وبمقارنتها مع أجسام أخرى، وردها إلى الطبائع البسيطة وصورها التي تلتقي وتمتزج في المركب، وباختصار: علينا أن ننتقل من «فولكان»
Vulcan
إلى «منيرفا»
Minerva
إذا شئنا إلقاء الضوء على النسيج الحقيقي والبنية الحقيقية للأجسام التي تعتمد عليها كل خاصية خفية (أو كما يقولون نوعية) وكل فعالية للأشياء، ومنه أيضا يمكن أن نستمد كل قاعدة للتغيير الفعال والتحويل المؤثر.
علينا مثلا أن نسأل بإزاء كل جسم ما الروح
6
الموجودة فيه، وما الماهية العينية، أما عن الروح فينبغي أن نعرف ما إذا كانت وفيرة غزيرة أم ضئيلة واهية، خفيفة أم كثيفة، هوائية أم نارية، نشطة أم بليدة، ضعيفة أم قوية، متقدمة أم متراجعة، منقطعة أم مستمرة، متآلفة مع البيئة الخارجية أم متنافرة، وبالمثل نتناول الماهية العينية (وهي ليست أقل تنوعا من الروح) بشعرها وأليافها ونسيجها المتنوع، وكذلك توزع الروح خلال الكتلة الجسمية بثقوبها ومساراتها وعروقها وخلاياها، والمراحل أو المحاولات الأولى البدئية لجسم عضوي، فهنا أيضا - وبالتالي في كل كشف لبنية كامنة - فإن المبادئ الأولية بالتأكيد هي التي تلقي الضوء الذي يبدد كل ظلام ويكشف كل غموض. ••• (8) ورغم ذلك فنحن لن ينتهي بنا المطاف بالذرات، التي تفترض مسبقا وجود فراغ، وأن المادة لا تقبل التغير (وكلا الافتراضين خطأ)، بل ننتهي إلى الجزئيات الحقيقية مثلما هي عليه، ولكن ليس لأحد أن يشيح عن هذه الدقة على أنها عسيرة على التفسير، بل على العكس كلما اتجه البحث إلى الطبائع البسيطة صارت الأشياء جميعا في ضياء شفاف واضح، فالإجراء يمضي من المتعدد إلى البسيط، من غير المقيس إلى المقيس، من العشوائي إلى المحسوب، من الغامض وغير المحدد إلى الدقيق والمحدد، مثلما هو حال الأحرف في الكتابة والنغمات في الموسيقى . إنما ينجح البحث الطبيعي أفضل نجاح إذا انتهى الفيزيائي في الرياضي، فلا يخش أحد من الأعداد الكبيرة والكسور الصغيرة، وفي مجال الحسابات الرياضية فإن تناول العدد ألف هو بسهولة تناول العدد واحد، وتناول جزء من الألف من شيء ما هو بسهولة تناول الكل. ••• (9) هذان الصنفان من المبادئ اللذان عرضت لهما آنفا هما الأساس الذي تقوم عليه القسمة الحقيقية للفلسفة والعلوم، شريطة أن نأخذ الألفاظ بالمعنى الذي أقصده لا بمعانيها التقليدية التي لا تشير إلا إشارة تقريبية إلى الحقيقة، وعليه فإن الميتافيزيقا عبارة عن دراسة الصور، التي هي أزلية ثابتة (في نظر العقل على الأقل وفي قوانينها الخاصة)، أما الفيزيقا فتتألف من دراسة العلل الفاعلة والعلل المادية والعمليات الكامنة والبنيات الكامنة (وكل منها يتعلق بالمسار المعتاد والمطرد للطبيعة لا بالقوانين الأساسية والأزلية)، كما ينضوي تحت كل من هذين المبحثين علم عملي: تحت الفيزيقا تنضوي الميكانيكا، وتحت الميتافيزيقا ينضوي السحر (بمعناه الأنقى) بالنظر إلى طرائقه الواسعة وسلطانه على الطبيعة. ••• (10) بعد أن وضعنا هدف المعرفة علينا أن نمضي قدما إلى قواعدها، وفي أوضح نظام وأقومه، تشتمل اتجاهاتي لتفسير الطبيعة على قسمين عريضين: الأول يتعلق بكيفية استخلاص المبادئ من الخبرة، والثاني يتعلق باستنباط تجارب جديدة من المبادئ، ينقسم الأول بثلاثة طرق إلى ثلاث مهام: مهمة الحواس ومهمة الذاكرة ومهمة الذهن أو العقل.
علينا أولا أن نعد تاريخا طبيعيا وتجريبيا وافيا ودقيقا، فهذا هو أساس المشروع كله، إذ إن علينا ألا نخترع أو نتخيل ما تقوم به الطبيعة أو تخضع له، بل أن نكتشفه.
غير أن التاريخ الطبيعي والتجريبي هو من التنوع والتشتت بحيث يربك العقل ويشتته، ما لم يتم تنسيقه وعرضه بتنظيم ملائم؛ ولذا فإن علينا أن نكون قوائم وترتيبات للشواهد، بطريقة أو نظام يمكن العقل من التعامل معها.
وحتى بعد أن نقوم بذلك فإن الذهن إذ يترك لحاله وطرائقه فهو غير قادر وغير لائق لتكوين المبادئ ما لم يتم توجيهه ودعمه؛ لذا فإن علينا في المقام الثالث أن نستخدم استقراء صحيحا ومشروعا يكون هو المفتاح نفسه للتفسير، وإنما علي أن أبدأ بالحديث عن هذا الأخير، ثم أعود أدراجي إلى البقية. ••• (11) تمضي دراسة الصور كمنا يلي: بالنسبة لأي طبيعة معطاة علينا أولا بإحضار جميع الأمثلة (الشواهد)
7
المعروفة المتفقة في نفس الطبيعة أمام الذهن، مهما تباينت موادها واختلفت، يجب وضع هذه المجموعة على هيئة تاريخ، وبدون أي تنظير سابق لأوانه أو تنقيح مفرط، خذ مثلا هنا بحث صورة الحرارة.
قائمة 1: شواهد تتفق في طبيعة الحرارة (1)
أشعة الشمس، وبخاصة في الصيف وفي الظهيرة. (2)
أشعة الشمس منعكسة ومركزة، كما هو الحال بين الجبال أو على الحوائط، وكما هو الحال بخاصة في العدسات المحرقة. (3)
الشهب. (4)
الصواعق الحارقة. (5)
ثوران اللهب من تجاويف الجبال. (6)
أي لهب. (7)
المواد الصلبة المحترقة. (8)
الينابيع الطبيعية الحارة. (9)
السوائل المسخنة أو الغالية.
8 (10)
البخار والدخان الساخن، والهواء نفسه القابل للسخونة الشديدة والعنيفة إذا انضغط، كما يحدث في الأفران الارتدادية. (11)
بعض حالات الطقس الصحو والساطع، من خلال تكوين الهواء نفسه، ودون اعتبار للوقت من السنة. (12)
الهواء المحبوس تحت الأرض في بعض الكهوف، وبخاصة في الشتاء. (13)
كل المواد الزغباء، مثل: الصوف وجلود الحيوانات وريش الطيور، بها بعض الدفء. (14)
جميع الأجسام: صلبة أو سائلة، كثيفة أو خفيفة (كالهواء نفسه)، حين توضع بعض الوقت بقرب النار. (15)
الشرار المنقدح من الصوان والصلب بالقرع الشديد. (16)
أي جسم يحك بشدة كالحجر والخشاب والقماش ... إلخ، مثلما تعلق النار أحيانا بسكان العجلات ومحاورها، ومثلما يقدح الهنود الغربيون النار بالاحتكاك. (17)
كثيرا ما تشتعل النباتات الخضراء الرطبة المخزونة والمحتك بعضها ببعض كالورد والبازلا في السلال، مثلما يشتعل القش في كثير من الأحيان إذا كان رطبا عند تكديسه. (18)
الجير الحي المرشوش بالماء. (19)
الحديد إذ يذاب بالأحماض في كأس دون استخدام اللهب، وكذلك القصدير وغيره، وإن بدرجة أقل. (20)
الحيوانات، وبخاصة باطنها، حيث هي دافئة بصورة دائمة، وإن كانت حرارة الحشرات لا تدرك باللمس لصغر حجمها. (21)
روث الحصان، وما إليه من فضلات الحيوانات، وهو طازج. (22)
لزيت الكبريت القوي وزيت الزاج القوي مفعول الحرارة في حرق الكتان. (23)
كذلك لزيت العترة وما إليه أثر حراري في حرق المادة العظمية للأسنان. (24)
للكحول المقطر القوي أثر حراري، فإذا غمس فيه بياض بيضة فإنه يتصلب ويبيض مثلما يبيض بالغليان، وإذا غمس فيه الخبز فإنه ينشف كالخبز المحمص. (25)
التوابل والأعشاب الحارة، مثل اللوف والكبوسين القديم ... إلخ رغم أنها لا تحرق اليد (لا النبتة الكاملة ولا المسحوق)، ولكنها بعد قليل من المضغ يجدها الفم والحنك حارة وتكاد تكون حارقة. (26)
الخل القوي وجميع الأحماض تسبب ألما لا يختلف كثيرا عن ألم الحرارة إذا لامست جزءا من الجسم غير مكسو بالبشرة، مثل العين أو اللسان أو أي جزء مجروح أو أزيل جلده. (27)
حتى البرد الشديد الحاد يسبب نوعا من الإحساس الحارق؛ ذلك أن «برد ريح الشمال الشديد برد حارق!» (28)
أمثلة أخرى.
وأنا أطلق على هذه القائمة «قائمة الوجود أو الحضور»
table of existence of presence . ••• (12) علينا ثانيا إحضار «شواهد» (أمثلة)
instances
أمام الذهن خلو من الطبيعة المعنية؛ لأن الصورة - كما قلنا - يتعين أن تغيب إذا غابت الطبيعة المعنية مثلما يتعين أن تحضر إذا حضرت، ولكن تسجيل كل هذه الشواهد سيكون عملا لا آخر له.
ولذا فإن علينا أن نقرن شواهد سالبة بشواهدنا الموجبة، ولا نستقصي شواهد الغياب إلا في الموضوعات الوثيقة الصلة بأخرى توجد فيها الطبيعة المعنية وتظهر، وأنا أسمي هذه قائمة «الانحراف» أو قائمة شواهد «الغياب القريبة الصلة».
القائمة 2: شواهد (أمثلة) قريبة الصلة تخلو من طبيعة الحرارة (1)
المثال السلبي الأول أو المقترن بالمثال الموجب الأول: أشعة القمر أو أشعة النجوم أو المذنبات وجد أنها غير حارة للمس، بل إن أشد البرد ليلاحظ حدوثه في تمام القمر، غير أن النجوم الثابتة الكبرى يعتقد أنها تزيد حرارة الشمس قوة وحدة عندما تمر تحتها أو تقترب منها، مثلما يحدث عندما تكون الشمس في برج الأسد
Leo ، أو في أيام الشعرى
Dog days . (2)
مثال سلبي للمثال الموجب الثاني: لا تعطي أشعة الشمس حرارة لما يسمى المنطقة الوسطى من الجو، والتفسير الشائع لهذا تفسير معقول تماما، فهذه المنطقة ليست قريبة اقترابا كافيا من جرم الشمس الذي تنبعث منه الأشعة، ولا من الأرض التي تنعكس بها، يتضح هذا من قمم الجبال (ما لم تكن شاهقة جدا) حيث الجليد موجود بصفة دائمة، ومن جهة أخرى فقد لاحظ الرحالة أنه في قمة تينيريف
9
وكذلك سلسلة جبال أندس
Andes
10
في بيرو؛ تخلو قمم الجبال من الجليد، ولا يوجد جليد إلا على المنحدرات الدنيا. كذلك لوحظ في الذرى الحقيقية أن الهواء ليس باردا ولكنه خفيف حاد، بحيث إن حدته المفرطة في أندس تلسع العين وتؤذيها، وتلسع الفم أيضا والمعدة وتسبب القيء، كذلك لاحظ الكتاب في العصر الإغريقي القديم أن الهواء على قمة الأوليمب خفيف جدا، بحيث يتعين على من يرتقيها أن يأخذ معه إسفنجا مغمسا في الخل والماء ويضعه من وقت لآخر على فمه وأنفه؛ لأن خفة الهواء تجعله غير كاف للتنفس، كان يقال أيضا عن هذه القمة: إنها ساكنة غير مضطربة بالمطر أو الجليد أو الريح، بحيث إن آثار الأحرف المتروكة على رماد الأضاحي على مذبح جوبيتر التي تخطها أصابع المضحين تبقى كما هي حتى العام التالي، وحتى في يومنا هذا يصعد الصاعدون إلى قمة تينيريف أثناء الليل لا النهار، وينصحهم مرشدوهم أن يأخذوا في الهبوط السريع بعد شروق الشمس مباشرة، لكي يتجنبوا الخطر (الناجم فيما يبدو عن خفة الهواء) الذي يعوق تنفسهم ويصيبهم بالاختناق.
11 (3)
مثال سلبي للمثال الموجب الثاني: في المناطق القريبة من الدوائر القطبية، وجد أن انعكاس أشعة الشمس ضعيف جدا ولا ينتج حرارة؛ لذا فإن الهولنديين الذين كانوا يشتون في نوفا زمبلا
Nova Zembla
ويتوقعون أن تتحرر سفينتهم من كتلة الجليد التي تعترضها، قد خاب توقعهم واستيأسوا من ذلك في بداية يوليو تقريبا واستقلوا مراكبهم الطويلة؛ لذا فإن أشعة الشمس المباشرة ضعيفة التأثير فيما يبدو حتى على الأرض المنبسطة، وكذلك الأشعة المنعكسة ما لم تتعدد وتتضام مثلما يحدث عندما تقترب الشمس من الخط العمودي؛ ذلك أن الأشعة في ذلك الوقت تكون زوايا حادة تماما فتكون خطوطها متقاربة بعضها من بعض، أما عندما يزيد الميل فإن الزوايا تكون منفرجة جدا، وبالتالي تتباعد خطوط الأشعة بعضها من بعض، ومع ذلك فمن الجدير بالملاحظة أن هناك عمليات كثيرة لأشعة الشمس مرتبطة أيضا بطبيعة الحرارة، لا تلائم حاسة اللمس عندنا، فلا تنتج حرارة لدينا، ولكنها تنتج بالفعل تأثيرات حرارية في بعض الأجسام الأخرى. (4)
مثال سالب للمثال الموجب الثاني: أجر التجربة التالية: ضع عدسة مقعرة (عكس العدسة الحارقة) بين أشعة الشمس وبين يديك، ولاحظ ما إذا كانت تنقص من حرارة الشمس (التي تزيدها العدسة الحارقة وتكثفها)، إذ من الواضح في حالة الأشعة البصرية أن الصور تبدو أعرض أو أضيق بحسب سماكة العدسة في المنتصف وفي الأطراف على التوالي، فالشيء نفسه ينبغي أن يدرس بالنسبة للحرارة. (5)
مثال سالب للمثال الموجب الثاني: أجر بعناية تجربة تبين ما إذا كان يمكن بواسطة عدسات حارقة غاية في القوة والجودة حصر أشعة القمر وتجميعها لكي تنتج ولو أيسر درجة من الحرارة، فإذا كانت الدرجة من الضآلة والدقة بحيث تخفى على إدراك حاسة اللمس، فإن علينا أن نجرب ترمومترات تشير إلى حالة الطقس الحارة أو الباردة، ونجعل أشعة القمر تسقط خلال عدسة حارقة على رأس هذا الترمومتر، ونلاحظ عندئذ ما إذا كان الماء يهبط بالحرارة. (6)
مثال سلبي للمثال 2 الموجب: جرب عدسة حارقة على أجسام حارة غير مشعة أو مضيئة مثل حديد أو حجر مسخن - ولكن غير متقد - أو ماء ساخن أو ما شابه، ولاحظ ما إذا كانت الحرارة تزداد وتتكثف مثلما يحدث مع أشعة الشمس. (7)
مثال سلبي للمثال 2 الموجب: جرب العدسة الحارقة أيضا على اللهب العادي. (8)
مثال سلبي للمثال 3 الموجب: المذنبات (إذا كان لنا أن نعتبرها نوعا من النيازك) لم يلحظ أن لها تأثيرا مطردا أو واضحا في زيادة حرارة الموسم القائم، وإن كان من الملاحظ أن نوبات الجفاف تتبعها في كثير من الأحيان، كما أن الخطوط والأعمدة والفجوات المضيئة وما إلى ذلك تظهر في الشتاء أكثر منها في الصيف، وبخاصة في موجات البرد الشديد والتي هي أيضا موجات جفاف، غير أن البرق والومض والرعد قلما يحدث في الشتاء، بل في أوقات الحر الشديد، أما ما يسمى النجوم الساقطة فالاعتقاد الشائع أنها تتكون من مادة معينة دبقة براقة وملتهبة وليست من طبيعة شديدة الحرارة، ولكن هذا بحاجة إلى مزيد من البحث. (9)
مثال سلبي للمثال 3 الموجب: ثمة بعض البرق الخلب الذي يصدر ضوءا ولكن بدون احتراق، ومثل هذه البروق تأتي دائما غير مصحوبة برعد. (10)
مثال سلبي للمثال 4 الموجب: ثوران وانفجار اللهيب يحدث في المناطق الباردة مثلما يحدث في المناطق الحارة على حد سواء، مثال ذلك: في أيسلند وجرينلند، كما أن الأشجار في المناطق الباردة تكون أحيانا أكثر قابلية للاشتعال وأكثر قارا وراتنجا مما هي في المناطق الحارة، مثال ذلك: أشجار التنوب والصنوبر وغيرها، أما في أية مواقف أو تضاريس يحدث هذا الثوران عادة فليس لدينا أبحاث كافية تمكننا من أن نقرن مثالا سلبيا لهذا المثال الموجب. (11)
مثال سلبي للمثال 6 الموجب: كل ما هو لهب فهو حار دائما، وليس هناك مثال سلبي يقرن بذلك، إلا أنه يقال: إن الوهج المستنقعي (كما يطلق عليه) - الذي يستقر أحيانا حتى على الجدران - ليس فيه حرارة كبيرة، شأنه ربما شأن لهب الكحول وهو لهب خفيف لطيف، إلا أن أخف منه ذلك الذي يقال في قصص تاريخية جادة وثيقة: إنه ظهر حول رأس وشعر أولاد وبنات، وبدلا من أن يحرق رءوسهم كان يتراقص بنعومة حولها، ومن المؤكد أيضا أن نوعا من الوميض خلوا من أي حرارة واضحة قد تبدى حول حصان يعرق أثناء ترحاله بالليل في جو صاف. منذ بضعة أعوام وقع حدث معروف كان ينظر إليه كنوع من المعجزة: فقد كان حزام إحدى الفتيات يومض إذا هزه أحد قليلا أو حكه. قد يكون ذلك بسبب الشب أو الأملاح المستخدمة في الصبغة، والتي بقيت سميكة بعض الشيء وكونت قشرة وكانت تنكسر بالاحتكاك، ومن المؤكد أيضا أن كل السكر - سواء المكرر أو الخام ما دام صلبا تماما - يتلألأ عندما يكسر أو يحت بالسكين في الظلام، كذلك لوحظ أن ملح مياه البحر يومض بالليل عندما يضرب بالمجاديف بشدة، وفي العواصف الشديدة الاهتياج يصدر زبد البحر وميضا، كان الإسبان يسمون هذا الوميض «رئة البحر». أما بخصوص حرارة اللهب الذي كان البحارة القدامى يسمونه
Castor and
ويسمى الآن «لهب القديس إلمو»
St Elmo’s Fire ،
12
فلم تتم دراسة كافية له. (12)
مثال سلبي للمثال 7 الموجب: كل شيء أحرق حتى تحول إلى أحمر متقد فهو دائما حار حتى من غير لهب، ولا يوجد مثال سالب لهذا الموجب، وأقرب شيء للمثال السلبي - فيما يبدو - هو الخشب العطن، الذي يومض بالليل ولكنه غير ساخن، وحراشف السمك الفاسد، والذي يومض أيضا بالليل ولكنه ليس حارا باللمس، ولا هو حار باللمس جسم الحباحب
glow-worm
ولا الذبابة التي يقال لها اليراعة
firefly . (13)
للمثال 8: لم تتم دراسة كافية لمواقع وطبيعة الأرض التي تنبجس منها الينابيع؛ لذا فلا يوجد مثال سلبي يلحق به. (14)
للمثال 9: المثال السلبي المقترن بالسوائل الحارة هو السائل نفسه في طبيعته ذاتها، فليس ثمة سائل ملموس وجد أنه حار بطبيعته ويبقى حارا على الدوام، إنما الحرارة تحدث لبعض الوقت فقط كطبيعة طارئة؛ لذا فالسوائل الأعلى حرارة في قوتها وتأثيرها، مثل: الكحول والزيوت العطرية الكيميائية، وزيوت الزاج والكبريت وما شابه، التي تسبب الاحتراق السريع، هي سوائل باردة باللمس في البداية، وماء الينابيع الحارة إذا جمع في وعاء وأبعد عن الينابيع فإنه يبرد، شأنه بالضبط شأن الماء الذي سخن على النار. صحيح أن المواد الزيتية أقل برودة باللمس من المواد المائية، إذ إن الزيت أقل برودة من الماء، والحرير أقل برودة من الكتان، ولكن هذا شيء يندرج في قائمة «درجات البرودة». (15)
للمثال 10: بالمثل فإن المثال السالب الذي أقرنه بالبخار الحار هو طبيعة البخار نفسه كما نخبره، فانبعاثات المواد الزيتية - رغم أنها سريعة الاشتعال - لا نجدها حارة ما لم تكن منبعثة للتو من جسم حار. (16)
للمثال 10: كذلك بالضبط المثال السلبي الذي أقرنه بالهواء الحار هو طبيعة الهواء نفسه، فنحن لا نخبر الهواء نفسه كشيء حار ما لم يحبس أو يتعرض للاحتكاك أو يسخن بوضوح بهجير الشمس أو بجسم آخر حار. (17)
للمثال 11: المثال السلبي الذي أقرنه هنا هو الطقس الأكثر برودة مما هو معتاد في ذلك الوقت من العام، والذي نجده يحدث أثناء ريح الشرق وريح الشمال، بالضبط كما أن لدينا طقسا من النوع المقابل مع ريح الجنوب وريح الغرب؛ لذا فإن ميلا لهطول الأمطار - وبخاصة في زمن الشتاء - يصاحب الطقس الدافئ، وميلا إلى الصقيع يصاحب الطقس البارد. (18)
للمثال 12: المثال السلبي الذي أقرنه هو الهواء المحبوس في الكهوف في زمن الصيف، والحق أن طبيعة الهواء المحبوس تحتاج منا إلى بحث أكثر دقة: أولا لأن صفة الهواء من حيث الحرارة والبرودة في طبيعته ذاتها هي شيء قد يكون موضع شك، فمن الواضح أن الهواء يتلقى الحرارة من تأثير الأجرام السماوية، ويتلقى البرودة ربما بواسطة انبعاث من الأرض، وفيما يسمى المنطقة الوسطى للجو من الأبخرة الباردة والثلج، ومن ثم لا يمكن الحكم على طبيعة الهواء من دراسة الهواء الطلق، بل ربما يكون حكمنا أكثر دقة إذا درسنا الهواء المحبوس، ومن الضروري أيضا أن يكون الهواء محبوسا في وعاء من مواد لا تضفي عليه حرارتها أو برودتها هي ولا تسمح أن يطاله تأثير الهواء الخارجي؛ لذا يجب أن نجري التجربة بجرة خزفية مغطاة بطبقات عديدة من الجلد لكي يحميها من الهواء الخارجي، ونختمها جيدا ونحفظ الهواء فيها لثلاثة أيام أو أربعة، ونأخذ القراءة بعد فتح الجرة، إما باليد أو بترومتر مدرج. (19)
للمثال 13: ثمة شك مماثل فيما إذا كانت الحرارة في الصوف والجلود والريش وما إليها تأتي من حرارة ضئيلة متأصلة فيها من حيث هي منسلخة من الحيوانات، أو بسبب طبيعتها الدهنية والزيتية التي تنسجم مع الحرارة، أو لمجرد انحباس الهواء وانعزاله الذي تحدثت عنه في الفقرة السابقة، إذ إن أي هواء يعزل عن الاتصال بالهواء الخارجي يمتلك - فيما يبدو - درجة معينة من الدفء، فلنجر إذن تجربة بمواد ليفية من الكتان وليس من الصوف أو الريش أو الحرير التي هي منتزعة من الحيوانات. لاحظ أيضا أن كل نوع من المسحوق (الذي يحبس هواء بشكل واضح) هو أقل برودة من المواد التي أتى منها وهي كاملة (غير مسحوقة)، تماما مثلما نتخيل الرغوة (التي تحتوي على هواء) أقل برودة من السائل نفسه. (20)
للمثال 14: ليس هناك مثال سلبي ملحق بهذا، فنحن لا نجد شيئا سواء كان ملموسا أو روحيا لا يكتسب حرارة عندما يوضع بقرب النار، إلا أن هذه الأشياء تختلف فيما بينها في أن بعضها يمتص الحرارة بسرعة، مثل الهواء والزيت والماء، بينما البعض الآخر أبطأ في امتصاص الحرارة، مثل: الحجر والمعادن،
13
غير أن هذا يندرج في «قائمة الدرجات»
Table of Degrees . (21)
للمثال 15: ليس هناك إلا مثال سلبي واحد يقترن بهذا المثال: لاحظ أن الشرر لا يضرم بالصوان والصلب - أو أي مادة صلبة - ما لم تقتطع شظايا دقيقة من الحجر أو المعدن من المادة نفسها، وأن الهواء حين يحك لا يكون شررا بنفسه كما يعتقد الناس، كما أن الشرر نفسه ينطلق إلى أسفل وليس إلى أعلى، بسبب وزن الجسم المتقد، وعندما ينطفئ يتحول إلى مادة سخامية. (22)
للمثال 16: أعتقد أنه ليس هناك مثال سالب يلحق بهذا المثال، فنحن لا نعرف أي جسم ملموس لا يكتسب دفئا واضحا بالاحتكاك، من هنا كان القدماء لا يتصورون أي وسيلة أو قوة أخرى تخلق بها الأجرام السماوية الحرارة غير حك الهواء بواسطة الدوران السريع والعنيف، ولكن علينا في هذا الموضوع أن نسأل سؤالا آخر: هل الأجسام المقذوفة من الآلات (مثل الكرات المقذوفة من المدافع) تكتسب بعض الحرارة من الانفجار نفسه، إذ نجدها حارة جدا عندما تسقط؟ إن الهواء المتحرك يبرد ولا يسخن، كما يظهر من الريح والكير والنفخ بالفم المنقبض، إلا أن مثل هذه الحركة ليست بالسرعة التي تسبب حرارة، وهي حركة كتلة من الهواء وليست حركة جزيئاته، فلا عجب إذن أنها لا تولد حرارة. (23)
للمثال 17: ينبغي أن نجري مزيدا من البحث الدءوب في هذا المثال، فالأعشاب والخضروات الخضراء والرطبة بها - فيما يبدو - شيء من الحرارة الكامنة، حرارة ضئيلة لا تدرك باللمس في العينات الصغيرة، ولكن عندما تتضام وتحبس بحيث لا تنسرب روحها إلى الهواء، بل تدفئ إحداها الأخرى، تظهر حرارتها على الفور، بل يظهر اللهب أحيانا في المواد الملائمة. (24)
للمثال 18: هنا أيضا علينا أن نجري مزيدا من البحث الدءوب، فالجير الحي عندما يرش بالماء يولد حرارة يبدو أنها بسبب تركيز الحرارة التي كانت قبل ذلك متفرقة (كما قلنا سابقا عن النباتات المخزونة)، أو لأن الروح النارية أثيرت وأغضبت بواسطة الماء الماء، وحدث شيء من الصراع والرفض من الروح المضادة، وبوسعنا أن نبين أي هذه الأسباب هو السبب الصحيح إذا استعملنا الزيت بدلا من الماء؛ لأن الزيت سيكون له نفس تأثير الماء في التضام مع الروح المحصورة بدون إثارتها، ويجب توسيع التجربة أكثر من ذلك باستخدام رماد أجسام مختلفة وصدئها الكلسي، وبرش سوائل مختلفة عليها. (25)
للمثال 19: يقرن بهذا المثال السالب لمعادن أخرى أكثر ليونة وقابلية للذوبان، فرقاقة الذهب المذابة بواسطة الماء الملكي
aqua Regis
14
لا يسبب حرارة باللمس، ولا الرصاص المذاب في الماء القوي
aqua fortis ،
15
ولا الزئبق (على ما أذكر)، ولكن الفضة تبعث بعض الحرارة، وكذلك النحاس (على ما أذكر)، وكذلك - وبشكل أوضح - النحاس، وأكثر من كل ذلك الحديد والصلب اللذان لا يبعثان فقط حرارة شديدة في الذوبان بل وبقبقة عنيفة؛ لذا فيبدو أن الحرارة تتسبب عن الصراع، إذ تخترق المذيبات القوية تلك المواد وتحفر فيها وتمزق أجزاءها إربا إربا بينما المواد ذاتها تقاوم، أما إذا أذعنت المواد بسهولة أكبر فقلما تتولد حرارة. (26)
للمثال 20: ليس هناك مثال سلبي لحرارة الحيوانات إلا الحشرات (كما ذكرت سابقا)، بسبب صغر حجم أجسامها، ففي الأسماك - مقارنة بحيوانات اليابسة - فإن الملاحظ وجود درجة منخفضة من الحرارة وليس غياب الحرارة، أما في الخضروات والنباتات فليس ثمة حرارة مدركة باللمس لا في مادتها الصمغية ولا في نسغها حين يكشف، وأما في الحيوانات فنجد تنوعا كبيرا في درجات الحرارة، سواء في أجزائها (إذ إن كمية الحرارة حول القلب وفي الدماغ وفي الأطراف تتفاوت جميعا) أو في حالاتها العارضة مثل الجهد الجسماني العنيف والحميات. (27)
للمثال 21: قلما نجد مثالا سلبيا لهذا المثال، وحتى فضلات الحيوان غير الطازجة بها حرارة كامنة، مثلما نرى من تخصيبها للتربة. (28)
للمثال 22، 23: للسوائل (سواء المائية أو الزيتية ) اللاذعة بشدة فعل يشبه الحرارة في تمزيق الأجسام وحرقها في النهاية، وإن لم تكن حارة للمس في البداية، ولكن مفعولها يتوقف على قابليتها وعلى مسامية الجسم الذي تلامسه، فالماء الملكي يذيب الذهب، ولكن لا يذيب الفضة، بينما الماء القوي يذيب الفضة ولا يذيب الذهب، وكلاهما لا يذيب الزجاج وهكذا البقية. (29)
للمثال 24: جرب الكحول على الخشب وعلى الزبد وعلى الشمع وعلى القار؛ لترى ما إذا كان يذيبها بحرارته، فالمثال 24 يبين أن له خواص تماثل خواص الحرارة في إحداث التحميص، أجر أيضا تجربة باستخدام ترمومتر مدرج
16
مقعر من قمته، وصب في تجويفه كحولا جيد التقطير وأغلقه بغطاء لتحفظ حرارته، وانظر ما إذا كان يسبب هبوط الماء في الترمومتر بفعل حرارته. (30)
للمثال 25: التوابل والأعشاب الحريفة حارة في الحلق، وأشد حرارة في المعدة، لاحظ إذن على أية مواد أخرى تؤتي تأثيراتها الحرارية، وينبئنا البحارة بأنه عندما تفتح كميات كبيرة من التوابل فجأة بعد انغلاقها لمدة طويلة فهناك خطر من الحمى والالتهاب على من يقلبها أو يخرجها، بوسعنا إذن إجراء تجربة لمعرفة ما إذا كانت هذه التوابل والأعشاب عندما تسحق تجفف السمك واللحم المتدلي عليها مثلما يفعل الدخان. (31)
للمثال 26: هناك تأثير لاذع ونفاذ في كل من الأشياء الباردة كالخل وزيت الزاج، والأشياء الحارة كزيت العترة وأشباهه، وكلاهما لذلك يسبب ألما في المواد الحية، وتأثيرا ممزقا وأكولا للأجزاء غير الحية، وليس هناك أي مثال سلبي لهذا، ولا هناك أي ألم في الحيوان غير مصحوب بإحساس الحرارة. (32)
للمثال 27: ثمة تأثيرات كثيرة مشتركة بين الحرارة والبرودة، وإن يكن ذلك بطريقة جد مختلفة، فالصبية يجدون أن الثلج بعد فترة كأنما يحرق أيديهم، والبرد يحفظ اللحم من الفساد بقدر ما تفعل الحرارة، والحرارة تقلص الأجسام مثلما تفعل البرودة، ولكن من الأنسب أن نتناول هذه المسائل وأمثالها في «دراسة البرودة». ••• (13) ثالثا: علينا أن نعرض أمام العقل الأمثلة التي توجد فيها الطبيعة محل البحث بدرجة معينة، قد يتم ذلك بمقارنة زيادتها ونقصانها في الموضوع نفسه، أو بمقارنة مقدارها في موضوعات مختلفة بين موضوع وآخر، فما دامت صورة الشيء هي الشيء عينه، وما دام الشيء لا يختلف عن صورته إلا كما يختلف الظاهر عن الحقيقي وكما يختلف الخارج عن الداخل أو يختلف الشيء كما يتبدى لنا عن الشيء في حقيقته وفي ذاته؛ فإنه يترتب على ذلك بالضرورة أن الطبيعة لا يمكن أن تؤخذ مأخذ الصورة الحقة ما لم تكن تنقص دائما بنقصان الطبيعة المعنية وتزداد بزيادتها؛ لذا أطلق على هذه القائمة «قائمة الدرجات أو قائمة المقارنة».
قائمة 3: قائمة الدرجات أو المقارنة في حالة الحرارة
لذا سأتحدث أولا عن تلك المواد التي لا تتضمن على الإطلاق أي درجة حرارة مدركة باللمس غير أنها تبدو مشتملة على نوع من الحرارة الكامنة ... استعداد للحرارة أو قابلية للحرارة، ثم أنتقل بعد ذلك إلى الأشياء الحارة بالفعل أو الحارة للمس، وأعرض لشدتها ودرجتها. (1)
لا يوجد بين الأجسام الصلبة والملموسة شيء هو حار في طبيعته من الأصل، فلا حجر ولا معدن ولا كبريت ولا متحجر ولا خشب ولا جثة حيوان وجد أنها حارة، والمياه الحارة في الينابيع الطبيعية يبدو أنها تسخن عرضا، سواء بواسطة لهب تحت الأرض أو بواسطة نار كالتي تنفجر من إتنا
Etna
وعدد من الجبال الأخرى، أو باحتكاك أجسام معينة مثل الحرارة المتسببة من ذوبان الحديد والقصدير. ليس ثمة إذن أي درجة من الحرارة الملموسة في المواد الحية، ولكنها تختلف في درجات البرودة، فالخشب ليس في برودة المعدن، غير أن هذا يندرج تحت «قائمة درجات البرودة». (2)
أما بخصوص الحرارة الكامنة وقابلية الاشتعال فنجد الكثير من المواد غير الحية قابلة لذلك بشدة، مثل الكبريت والنافثا والملح الصخري. (3)
الأشياء التي كانت حارة من قبل تظل محتفظة ببقايا كامنة من حرارتها السابقة، مثلما يحتفظ روث الحصان بحرارة الحيوان، ويحتفظ الجير - وربما الرماد أو السخام - بحرارة النار، هكذا تنضح الأجسام المدفونة في روث الحصان بسوائل معينة وتتحلل، وهكذا تنبعث الحرارة في الجير حين ينضح بالماء كما بينت آنفا. (4)
وبين الخضروات ليس ثمة نبات أو جزء من نبات (كالراتنج أو النسغ) وجد أنه حار للمس ، إلا أن الأعشاب الخضراء المخزونة (كما قلنا آنفا) تسخن بالفعل، وبعض الخضروات وجد أنه حار والبعض بارد للمس الداخلي، أي للحلق والمعدة، بل حتى للمس الخارجي بعد فترة معينة (كما في حالة الكمادات والمراهم). (5)
لا شيء وجد حارا للمس البشري من بين أجزاء الحيوانات بعد أن تموت أو تفصل من الجسم، وحتى روث الحصان يفقد حرارته ما لم يحصر ويدفن، ومع ذلك فيبدو أن كل روث به حرارة كامنة كما في عملية تسميد الحقول، كذلك جثث الحيوانات بها حرارة مستترة أو كامنة من هذا النوع، فنجد أن الأرض في المقابر - حيث تتم دفنات كل يوم - تكتسب نوعا من الحرارة الخفية التي تلتهم الجسد الحديث الدفن أسرع كثيرا مما تفعل الأرض النقية، ويقال: إن الناس في الشرق كانوا يعرفون نوعا من القماش اللين الناعم المصنوع من ريش الطيور كان يمكنه صهر الزبد الملفوف فيه بلطف بواسطة دفئه الخاص. (6)
الأشياء التي تخصب الحقول - مثل الروث بأنواعه والطباشير ورمل البحر والملح وما شابه - لها ميل معين إلى الحرارة. (7)
كل تعفن يشتمل على آثار من حرارة ضعيفة فيه، وإن لم تصل إلى درجة يمكن الإحساس بها باللمس، فلا الأشياء من قبيل اللحم والجبن التي تتعفن وتتحلل إلى كائنات صغيرة،
17
ولا الخشب المعطن الذي يومض في الظلام هي أشياء دافئة للمس، غير أن حرارة الأشياء المتعفنة تتمثل أحيانا في رائحة قوية منفرة. (8)
إذن الدرجة الأولى للحرارة في المواد المدركة كأشياء حارة للمس البشري هي - فيما يبدو - حرارة الحيوانات التي لها نطاق واسع جدا من الدرجات، فالدرجة الدنيا (كما في الحشرات) لا تكاد تدرك باللمس، والدرجة العليا قلما تبلغ درجة حرارة أشعة الشمس في المناطق والمواسم الأشد حرا، وليست من الشدة بحيث لا تحتملها اليد، ولكن يقال عن قنسطنتيوس ونفر آخر من ذوي الجبلة والبنية الجسمية الشديدة اليبوسة، يقال: إنهم كانوا إذا أصابتهم حمى شديدة يسخنون بحيث تكاد اليد التي تلمسهم أن تحترق. (9)
ترتفع حرارة الحيوانات من جراء الحركة والجهد الجسماني، ومن جراء الخمر والأكل ومن الجنس ومن الحميات الحارقة ومن الألم. (10)
عندما تصاب الحيوانات بنوبات الحميات المتقطعة تأخذها في البداية قشعريرة وبرد، ولكن سرعان ما ترتفع حرارتها للغاية، مثلما ترتفع منذ البداية في حالة الحميات الحارقة والمهلكة. (11)
علينا أن نجري مزيدا من البحث في الحرارة المقارنة في مختلف الحيوانات، مثل الأسماك وذوات الأربع والثعابين والطيور، ووفقا للنوع أيضا، مثل: الحرارة عند الأسد والحدأة والإنسان، فالرأي الشائع أن الأسماك هي الأقل حرارة داخليا، وأن الطيور هي الأعلى حرارة، وبخاصة الحمام والصقور والعصافير. (12)
علينا إجراء مزيد من البحث في الحرارة المقارنة في الحيوان نفسه، في مختلف أعضائه وأجزائه، فاللبن والدم والمني متوسط الحرارة، وأقل حرارة من اللحم الخارجي للحيوان أثناء الحركة والتهيج، كذلك لم يقم أحد حتى الآن بالبحث في درجة الحرارة في الدماغ والمعدة والقلب ... إلخ. (13)
في الشتاء والطقس البارد تكون الحيوانات جميعا باردة من الخارج، ولكن يعتقد أنها في الداخل حارة بل أعلى حرارة من المعتاد. (14)
حتى في أحر جزء من العالم وفي أحر الأوقات من العام ومن اليوم، فإن حرارة الأجرام السماوية لا تبلغ درجة تحرق أو تسفع الخشب أو القش أو حتى الصوفان الأشد جفافا، ما لم تكثف الحرارة بواسطة العدسات الحارقة، غير أنها يمكن أن تبعث بخارا من المادة الرطبة. (15)
تعاليم الفلكيين تجعل بعض النجوم أحر وبعضها أبرد، فالمريخ يقال: إنه الأشد حرا بعد الشمس يليه المشتري ثم الزهرة، أما القمر فيقال: إنه بارد، وزحل أبردها جميعا، وبين النجوم الثابتة يقال: إن «الشعرى اليمانية» هو الأعلى حرارة، يليه «قلب الأسد» أو «الملك الصغير» ثم «الكلب» ... إلخ. (16)
كلما اقتربت الشمس من الخط العمودي أو من «السمت»
Zenith
بعثت حرارة أكبر، وربما ينسحب هذا أيضا على الكواكب الأخرى وفقا لدرجتها الحرارية، ف «المشتري» مثلا يكون أعلى حرارة عندما يقع تحت «السرطان» أو «الأسد» منه عندما يكون تحت «الجدي» أو «الدلو». (17)
ينبغي أيضا أن نتوقع من الشمس نفسها ومن الكواكب الأخرى أن تبعث حرارة عندما تكون في «الحضيض» (أقرب نقطة في مدارها للأرض ) - لاقترابها من الأرض - أكبر مما تبعثها عندما تكون في «الأوج» (أبعد نقطة في مدارها عن الأرض)، ولكن إذا تأتى للشمس في أي منطقة أن تكون في «الحضيض» وأقرب إلى الخط العمودي في الوقت نفسه فلا بد أنها ستكون أشد حرا مما تكونه في منطقة تكون فيها في «الحضيض» وفي موقع أكثر ميلا؛ ومن ثم فإن علينا أن نعقد دراسة مقارنة لارتفاعات الكواكب من حيث اقترابها من الخط العمودي وميلها عنه في المناطق المختلفة. (18)
يعتقد أيضا أن الشمس والكواكب الأخرى تكون أشد حرا عندما تكون بمقربة من نجوم ثابتة أكبر، فإذا كانت الشمس في برج الأسد فإنها تكون أقرب من «قلب الأسد» و«ذيل الأسد» و«سنبلة العذراء» و«الشعرى اليمانية» و«نجم الكلب» منها عندما تقع في برج السرطان، حيث تكون رغم ذلك أقرب إلى الخط العمومي، وينبغي أن نفترض أن بعض أجزاء السماء تبعث حرارة أكبر (وإن تكن غير مدركة باللمس)؛ لأنها مفروشة بعدد أكبر من النجوم، وبخاصة النجوم الأكبر. (19)
بصفة عامة تزداد حرارة الأجرام السماوية بثلاث طرق: بالتعامد وبالاقتراب من الحضيض وبالتجمع أو الترافق مع النجوم. (20)
بصفة عامة فإن حرارة الحيوانات وحرارة الأشعة السماوية أيضا (كما تصلنا) تختلف كثيرا عن اللهب، حتى أخف أنواع اللهب، وعن الأجسام المتقدة، وأيضا عن السوائل أو الهواء نفسه عندما يسخن بالنار تسخينا شديدا، فلهب الكحول - حتى في شكله الطبيعي غير المركز - يظل قادرا على إشعال القش أو الكتان أو الورق، وهو ما لا تقدر عليه حرارة الحيوانات أو حرارة الشمس بدون عدسات حارقة. (21)
هناك رغم ذلك درجات من القوة والضعف في حرارة اللهب والأشياء المشتعلة، ولكن حيث إنها لم تدرس بعناية فإن علينا أن نمر عليها مرورا عابرا، فبين جميع ضروب اللهب يبدو أن لهب الكحول ألطفها، ربما باستثناء وهج المستنقع أو الوميض الصادر من عرق الحيوانات، يلي ذلك - فيما أفترض - اللهب الصادر من المادة النباتية الخفيفة والمسامية كالقش ونبات السمار والأوراق اليابسة، ولا يختلف عنها كثيرا اللهب الصادر من الشعر والريش . ربما يأتي بعد ذلك لهب الخشب، وبخاصة تلك الأنواع من الخشب الأقل احتواء على الراتنج أو القار، علما بأن لهب الأخشاب الأقل ثقلا (التي تربط عادة في حزم) ألطف من لهب جذوع الأشجار وجذورها، يعرف ذلك كل من لديه خبرة بالأفران التي تصهر الحديد، حيث لا يجدي فيها الحطب وفروع الأشجار، يلي ذلك - فيما أعتقد - اللهب الصادر من الزيت والشحم الحيواني والشمع وما إليها من المواد الدهنية الهينة اللسع، أما اللهب الأشد قوة فيوجد في القار والراتنج، وأشد منه في الكبريت والكافور والنافثا والملح الصخري والأملاح (بعد إفراغ المادة الخام) وفي مركباتها كالبارود، والنار الإغريقية (التي يطلق عليها
wild fire ) وأنواعه المختلفة التي لديها حرارة عنيدة بحيث لا يسهل إطفاؤها بالماء. (22)
أعتقد أيضا أن اللهب الذي يصدر من بعض المعادن الرديئة هو لهب قوي وعنيف جدا، ولكن كل هذه الأشياء تحتاج إلى مزيد من البحث. (23)
يبدو أن اللهب المنبعث من البرق الشديد يفوق في قوته كل ما سبق، فقد تبين أنه يصهر حتى الحديد المطرق إلى قطرات، وهو ما لا تقدر عليه تلك الضروب الأخرى من اللهب. (24)
هناك درجات مختلفة من الحرارة في الأجسام المشتعلة، وهو ما لم ينل دراسة جادة حتى الآن، وأعتقد أن أضعفها هو لهب الصوفان، كالذي نستخدمه لنقدح به النار، وكذلك اللهب المنبعث من الخشب المسامي أو القيطان الجاف الذي يستخدم لإشعال المدفع، يلي ذلك الخشب أو الفحم المتقد والقرميد أيضا - وما إليه - المسخن حتى الاشتعال، ولكن أحر المواد المشتعلة جميعا فيما أعتقد هو المعادن المشتعلة كالحديد والنحاس ... إلخ، ولكن هذا يحتاج إلى مزيد من البحث. (25)
بعض الأجسام المتقدة وجد أنها أشد حرارة من بعض أنواع اللهب، الحديد المتقد مثلا أكثر حرارة وإتلافا من لهب الكحول. (26)
كذلك وجد أن من المواد غير المتقدة بل المسخنة بالنار فحسب - كالماء المغلي أو الهواء المحبوس في الأفران - ما يفوق في حرارته كثيرا من ضروب اللهب والمواد المتقدة. (27)
الحركة تزيد الحرارة، وبوسعك أن ترى ذلك في حالات النفخ بالكير والنفخ بالنفس، فتجد المعادن الأصلب لا تذوب ولا تنصهر بالنار الخامدة أو الهادئة حتى تضطرم بالنفخ. (28)
أجر تجربة بعدسات حارقة يحدث فيها (على ما أذكر) ما يلي: إذا وضعت عدسة حارقة (مثلا) على بعد شبر (تسع بوصات) من جسم قابل للاحتراق، فإنها لا توقده أو تحرقه بنفس السرعة التي تحرقه بها لو أنها وضعت على مسافة خمس بوصات (مثلا) ثم سحبت بالتدريج وببطء إلى مسافة عشر بوصات. إن مخروط الأشعة وبؤرتها رغم ذلك هما نفس المخروط والبؤرة، ولكن مجرد الحركة تزيد تأثير الحرارة. (29)
يعتقد أن الحرائق التي تحدث عندما تهب ريح قوية تمتد عكس الريح أكثر مما تمتد مع الريح؛ وذلك لأن اللهب يرتد عندما تهن الريح بحركة أسرع من حركته إذ يتقدم عندما تكون الريح مواتية. (30)
لا يضطرم اللهب أو يزداد ما لم يكن لديه مكان فارغ لكي يتحرك فيه ويعمل، إلا في حالة اللهب المتفجر للبارود - وما شابه - حيث انضغاط اللهب وانحباسه يزيده ضراوة. (31)
يسخن السندان كثيرا بالمطرقة، فإذا كان سندان مصنوعا من لوح معدني رقيق، فإن لنا أن نفترض أنه يمكن أن يحمر كالحديد المتقد تحت الضربات المستمرة للمطرقة، ولكن ينبغي لذلك أن يثبت بالتجربة. (32)
في حالة المواد المسامية المشتعلة التي بها مكان للنار لتتحرك فيه، فإنها تنطفئ للتو إذا أخمدت حركتها بضغط قوي، كما يحدث عندما يطفأ الصوفان أو ذبالة الشمعة المشتعلة أو المصباح أو حتى الفحم المشتعل أو قطعة الفحم النباتي بغطاء مطفئ أو تهرس تحت القدم أو ما إلى ذلك، فيتوقف نشاط النار على الفور. (33)
تقريب الشيء من جسم حار يزيد الحرارة وفقا لدرجة الاقتراب، والأمر نفسه ينسحب على حالة الضوء، فكلما قربت الشيء من الضوء زادت قابليته للرؤية. (34)
تضام الحرارات المختلفة يزيد الحرارة ما لم تمزج المواد المختلفة، فوجود لهب كبير ولهب صغير في نفس المكان من شأنه أن يزيد كل منهما حرارة الآخر، إلا أن سكب ماء دافئ في ماء مغلي يبرد هذا الماء المغلى. (35)
استمرار التجاور مع جسم حار يزيد الحرارة، فالحرارة تستمر في الصدور والانبعاث والامتزاج بالحرارة الموجودة مسبقا فتضاعفها، فاللهب مثلا لا يدفئ غرفة في نصف ساعة مثلما يدفئها في ساعة، ولكن هذا لا ينطبق على الضوء، فالمصباح أو الشمعة الموضوعة في نقطة معينة لا تصدر ببقائها هناك ضوءا أكثر مما كانت تصدره في البداية. (36)
الاستثارة القادمة من برودة محيطة من شأنها أن تزيد الحرارة، مثلما يمكنك أن ترى في حالة الحرائق التي تشب في البرد القارس، ولا أعتقد أن هذا ناجم عن انحباس الحرارة وانضغاطها (وهو نوع من الاتحاد) فحسب، بل أيضا استثارتها، فالهواء أو العصا التي تثنى أو تلوى بشدة لا ترتد فحسب إلى النقطة التي كانت عليها، بل ترتد أبعد من ذلك في الجهة المعاكسة، فلنجر إذن تجربة دقيقة بوضع عصا - أو شيء من هذا القبيل - في اللهب، وملاحظة ما إذا كان الاحتراق يجري على نحو أسرع في أطراف اللهب أم في وسطه.
18 (37)
ثمة درجات عديدة لقابلية الحرارة، لاحظ أولا كيف أنه حتى الحرارة الضئيلة الضعيفة تغير وتدفئ بعض الدفء، حتى الأجسام الأقل قابلية للحرارة، فحتى حرارة اليد تضفي شيئا من الدفء على كرة من الرصاص أو من أي معدن آخر تقبض عليها اليد لفترة وجيزة، فما أسهل انتقال الحرارة وإثارتها! يحدث ذلك في جميع المواد دون حدوث أي تغير ظاهر فيها. (38)
أسرع المواد جميعا التي نعرفها اكتسابا للحرارة وفقدانا لها هو الهواء، يتبدى ذلك على أفضل نحو في الثرمومترات (زجاجات قياس الطقس) التي تتكون كالتالي: أحضر زجاجة لها بطن أجوف ورقبة رفيعة طويلة، واقلبها وضعها بحيث تتجه فوهتها إلى أسفل داخل وعاء زجاجي آخر يحتوي على ماء، بحيث تجعل نهاية الأنبوبة يمس قعر الوعاء، بينما الأنبوبة نفسها مائلة قليلا على الحافة بحيث تكون واقفة وثابتة على فوهة الوعاء ومستندة إليه، ولكي تسهل ذلك ضع قليلا من الشمع على الحافة، بحيث يثبت الأنبوبة دون أن يسد فوهة الوعاء فيمنع الهواء من الهروب فيعوق الحركة التي سنتحدث عنها الآن، والتي هي حركة شديدة الدقة والرهافة.
قبل إدخال الزجاجة الأولى في الثانية يجب تدفئة جزئها الأعلى (أي بطن الزجاجة) على النار، ثم عند وضعها بالطريقة التي وصفتها فإن الهواء (الذي تمدد بالحرارة)، بعد أن ترك له وقت كاف لأن يفقد الحرارة الإضافية، سيعود ويقلص نفسه إلى نفس الأبعاد الخاصة بالطقس الخارجي أو العام لحظة الغمر بالماء، وسينجذب الماء إلى أعلى في الأنبوب بالدرجة المتناسبة، يجب أن نلصق بالأنبوبة شقة نحيلة طويلة من الأوراق مقسمة بدرجات عديدة مثلما تريد، سترى عندئذ - إذ يأخذ الطقس في الدفء أو في البرودة - أن الهواء يكمش نفسه إلى حيز أقل في الطقس البارد ويمدد نفسه في الطقس الدافئ، وهو ما سيتمثل في ارتفاع الماء مع انكماش الهواء وانخفاض الماء مع تمدد الهواء. إن حساسية الهواء للحرارة والبرودة أدق وأرهف بكثير من حاسة اللمس البشرية، بحيث إن شعاعا من الشمس أو حرارة النفس، بل حتى حرارة اليد إذ توضع على قمة الأنبوبة، تسبب انخفاضا فوريا واضحا في مستوى الماء، إلا أني أعتقد أن روح الحيوانات تمتلك قابلية للحرارة والبرودة أكثر رهافة بكثير، ولكن تعوقها وتبلدها كتلة الجسم. (39)
أكثر المواد حساسية للحرارة بعد الهواء هي في اعتقادي تلك الأجسام التي تم تغيرها حديثا وانضغاطها بالبرد، مثل الجليد والثلج، فهي تبدأ في الانصهار والذوبان مع أهون حرارة، يأتي بعد هذه ربما الزئبق، ثم المواد الدهنية كالزيت والزبد وما إليها ثم الخشب ثم الماء، ويأتي في النهاية الحجارة والمعادن التي لا تسخن بسهولة وبخاصة من الداخل، غير أنها ما إن تكتسب حرارة حتى تحتفظ بها فعلا لمدة طويلة جدا؛ لذا فإن القرميد أو الحجر أو الحديد - الذي تم تسخينه ثم غمس وغمر في حوض من الماء البارد - يحتفظ بكثير جدا من الحرارة بحيث لا يمكن لمسه لمدة ربع ساعة تقريبا. (40)
كلما صغرت كتلة الجسم زادت سرعة احتراره عندما يوضع بقرب جسم حار، وهذا يثبت أن كل حرارة نعرفها في خبرتنا هي - بشكل ما - مناوئة لمادة عينية.
19 (41)
الحرارة شيء متفاوت ونسبي فيما يتعلق بالحواس وباللمس البشري، فالماء الفاتر يحس حارا إذا كانت اليد باردة ، ولكنه يحس باردا إذا كانت اليد حارة. ••• (14) قد يرى أي شخص بسهولة كم هو قاصر على هذا التاريخ الذي أقدمه، إذ كثيرا ما أضطر في القوائم السابقة إلى استخدام عبارات «أجر تجربة» أو «أجر مزيدا من البحث»، ناهيك عن حقيقة أنني بدلا من التاريخ المحقق والشواهد الثابتة أضع تقاليد وحكايات (وإن نوهت إلى أن مصداقيتها أو سلطتها مشكوك فيها). ••• (15) أطلقت على مهمة ووظيفة هذه القوائم الثلاثة «عرض الشواهد أمام الذهن»، وبعد أن تم العرض يجب أن يبدأ «الاستقراء» نفسه في العمل، فبالإضافة إلى «عرض» كل مثال يجب أن نكتشف أية طبيعة تظهر دائما مع الطبيعة المعنية أو لا تظهر، أيها تزيد معها أو تقل، وأيها تعد حدا (كما قلنا آنفا) لطبيعة أعم، إذا حاول العقل أن يفعل ذلك على نحو إيجابي
20 (وهو ما سيفعله دائما إذا ترك لحاله)، هنالك ستبرز أوهام وتخمينات وأفكار غير محددة ومبادئ تحتاج إلى تصحيح كل يوم، ما لم يؤثر المرء أن ينافح عن الباطل (كشأن المدرسيين)، وإن كانت هذه - بغير شك - ستكون أفضل أو أسوأ بحسب قدرة وذكاء الفكر الذي يعمل، غير أن الله وحده (خالق الصور وبارئها) - أو ربما الملائكة والعقول العليا - من يملك معرفة مباشرة بالصور بالإيجاب ومنذ بداية التفكير. من المتيقن أن هذا فوق قدرة الإنسان، الذي قدر عليه ألا ينطلق إلا من خلال «الأمثلة السالبة»، فلا يخلص إلى «الأمثلة الإيجابية» إلا بعد أن يستنفد كل ما هو مستبعد. ••• (16) لذا ينبغي أن نقوم بتحليل كامل واستخلاص للطبيعة، لا بالنار بل بالعقل الذي هو نار إلهية، والمهمة الأولى ل «الاستقراء» الصحيح هي رفض أو استبعاد الطبائع المفردة غير الموجودة في شاهد توجد فيه الطبيعة المعنية، أو الموجودة في شاهد لا توجد فيه الطبيعة المعنية، أو التي وجد أنها تزيد في شاهد تقل فيه الطبيعة المعنية وتقل عندما تزيد هذه الطبيعة، وليس قبل أن يتم إجراء «الرفض» و«الاستبعاد» على نحو قويم سيتبقى ثمة (في قاع القارورة إن شئت) صورة إيجابية وصلبة وصادقة ومحددة (وقد تبددت الأفكار الطيارة الآن إلى دخان)، من السهل أن نقول هذا، ولكن علينا أن نصل إليه بطريق التفافي، وسأحاول جهدي رغم ذلك ألا أغفل أي شيء يمكن أن يساعدنا في بلوغ هذه الغاية. ••• (17) إذا كنت أعزو ل «الصور» مثل هذا الدور الهام، فلا يحسبن أحد أنني أعني بها تلك الصور التي درجت عليها تأملات الناس وأفكارهم حتى اليوم.
فأنا أولا لا أتحدث في الوقت الحالي عن الصور المركبة، التي هي (كما قلت) تجمعات من الطبائع البسيطة كما هو معهود في الأشياء، مثل: الأسد والنسر والورد والذهب ... إلخ، وسيكون ملائما أن أتناولها عندما آتي إلى «العمليات الكامنة»
latent processes
و«البنيات الكامنة»
latent structures
واكتشافها كما توجد فيما يسمى الجوهر
substances
أو الطبائع المركبة.
ثم إن ما قلته يجب ألا يفهم على أنني أعني (حتى عند تناول الطبائع البسيطة) أي صور أو أفكار مجردة، سواء غير محددة في مادة على الإطلاق أو سيئة التحديد، فحين أتحدث عن الصور فإنما أعني ببساطة تلك القوانين وحدود الفعل البسيط (المحض) التي تنظم وتكون أي طبيعة بسيطة من قبيل الحرارة، الضوء، الوزن، في كل نوع من المادة والموضوع القابل لها. صورة الحرارة إذن أو صورة الضوء هي هي قانون الحرارة أو قانون الضوء، وما يكون لي أن أنعزل عن الأشياء ذاتها وعن الجانب العملي؛ ولذا فعندما أقول (مثلا) في بحث صورة الحرارة «ترفض الخفة»
21
أو «الخفة لا ترتبط بصورة الحرارة»، فكأنني قلت: «من الممكن أن تحدث حرارة في جسم خفيف»، أو «من الممكن أن تسحب حرارة أو تمنعها عن جسم خفيف».
ولكن إذا تصور أي شخص أن صوري أيضا من صنف مجرد بعض الشيء؛ لأنها تمتزج وتتحد بعناصر متباينة (إذ إن حرارة الأجرام المساوية وحرارة النار تبدوان مختلفتين اختلافا بعيدا، وحمرة الورد أو ما إليها مختلفة جدا عن الحمرة الظاهرية في قوس قزح أو في أشعة أوبالة
22
أو ماسة، كذلك الموت بالغرق والموت بالحرق أو بطعنة سيف أو بسكتة دماغية أو بالجوع، ومع ذلك فكلها تلتقي في وجود طبيعة الحرارة والحمرة والموت)، وليعلم كل من يفكر هكذا أن عقله واقع في أسر العادة، أو في أسر المظهر السطحي للأشياء أو آراء الناس، فمن المؤكد أن هذه الأشياء - رغم اختلافها وتباينها - إنما هي متماثلة في الصورة أو القانون الذي يحكم الحرارة والحمرة والموت، ومن المتعذر على القدرة البشرية أن تتحرر وتنعتق من المجرى الشائع للأشياء وتنفتح وتسمو إلى قدرات جديدة وطرائق جديدة من الأداء إلا بكشف هذه الصور وإماطة اللثام عنها، وبعد أن أفرغ من الحديث عن هذه الوحدة في الطبيعة - وهي نقطة في غاية الأهمية - سوف أتحدث لاحقا عن أقسام الطبيعة وتفريعاتها، سواء المعتادة أو الباطنة الصميمة، وأعرض لذلك في موضعه. ••• (18) علي الآن أن أقدم مثالا لاستبعاد أو رفض الطبائع التي وجد من خلال «قوائم الحضور» أنها لا تندرج في صورة الحرارة، مع ملاحظة أنه ليست القوائم فحسب كافية ل «رفض» طبيعة ما، بل كل مثال من الأمثلة الفردية المندرجة تحتها، فمن الواضح مما قلته أن كل «مثال مضاد» يقوض فرضية عن «صورة» ما، غير أني - من أجل الوضوح ومن أجل مزيد من التبيين لكيفية استخدام القوائم - قد أقدم أحيانا مثالين أو أكثر للاستبعاد.
مثال لاستبعاد أو رفض طبائع من صورة الحرارة (1)
بالنظر إلى أشعة الشمس تستبعد طبيعة العناصر. (2)
بالنار الشائعة، وبخاصة النار الباطنية في جوف الأرض (وهي أبعد ما تكون وأقل تأثرا بأشعة الأجرام السماوية)، تستبعد الطبيعة السماوية. (3)
بالنظر إلى أن الأجسام بجميع أنواعها (أي المعادن والخضر والأجزاء الخارجية للحيوانات والماء والزيت والهواء ... إلخ) تسخن بمجرد الاقتراب من النار أو أي جسم ساخن، تستبعد شتى الأنسجة الدقيقة للأجسام. (4)
بالنظر إلى الحديد والمعادن المسخنة التي تعطي الأجسام الأخرى حرارة دون أن تفقد شيئا من وزنها أو مادتها، يستبعد الانتقال أو المزج من مادة جسم آخر فيه حرارة. (5)
بالنظر إلى الماء الغالي والهواء الحار، وأيضا المعادن والمواد الصلبة التي سخنت ولكن لم تبلغ نقطة الاشتعال أو الاحمرار، تستبعد الإضاءة واللمعان. (6)
بأشعة القمر والنجوم الأخرى (عدا الشمس)، تستثنى كذلك الإضاءة واللمعان . (7)
بالمقارنة مع الحديد المتقد ولهب الكحول (حيث يظهر أن الحديد أكثر حرارة وأقل لمعانا وأن الكحول أقل حرارة وأكثر لمعانا)، تستبعد كذلك الإضاءة واللمعان. (8)
بالذهب المسخن وغيره من المعادن - التي تمتلك أعلى كثافة نوعية - تستبعد الخفة. (9)
بالهواء الذي يظل خفيفا مهما اكتسب من برودة، تستبعد كذلك الخفة. (10)
بالحديد المسخن الذي لا يزيد في الحجم بل يحتفظ بحدوده المرئية نفسها
23
تستبعد حركة الجسم الموضعية أو التمددية في الجملة. (11)
بالنظر إلى تمدد الهواء في الترمومترات وما إليها - الذي يتحرك في المكان دون أن يكتسب زيادة واضحة في الحرارة - يستبعد كذلك حركة الكل الموضعية أو التمددية. (12)
بالنظر إلى سهولة تسخين جميع الأجسام دون أي تلف أو تغير ملحوظ، تستبعد طبيعة التلف أو الاتصال العنيف بأي طبيعة جديدة. (13)
بالنظر إلى توافق وتطابق الآثار المتشابهة الناجمة عن البرودة والحرارة، تستبعد حركة التمدد والانكماش في الجملة. (14)
بالنظر إلى تولد الحرارة من احتكاك الأجسام معا تستبعد الطبيعة الرئيسية أو الأساسية، التي أعني بها تلك التي توجد في الأشياء مستقرة فيها ولا تتسبب عن طبيعة سابقة.
هناك طبائع أخرى غير ما ذكرت، إنما قصدت بهذه القوائم ضرب أمثلة ولم أقصد بها الحصر والاستيفاء.
ليس بين الطبائع المدرجة أي طبيعة تنتمي إلى صورة الحرارة، وليس على المرء أن يتقيد بأي منها في تجاربه على الحرارة. ••• (19) يتأسس «الاستقراء» الصحيح على «الاستبعاد»
exclusion ، والحق أن الاستبعاد نفسه ليس كاملا بأي حال ولا يمكن أن يكون كذلك في البداية، فمن الواضح تماما أن «الاستبعاد» هو «رفض» طبائع بسيطة، ولكن إذا لم تكن لدينا بعد أفكار صحيحة عن الطبائع البسيطة، فكيف نبرر استبعادنا لأي منها؟! إن بعض التصورات المذكورة أعلاه غامضة أو غير محددة (مثل فكرة طبيعة العناصر وطبيعة الأجرام السماوية وطبيعة الخفة)، إنني أعي وأضع نصب عيني دائما ضخامة المهمة التي أضطلع بها (ألا وهي أن أجعل الفهم البشري على مستوى الأشياء والطبيعة)، ومن ثم لا أقنع بما أرسيت حتى الآن من قواعد، بل أمضي قدما لأبتكر وأقدم عونا أقوى لاستخدام الذهن، وهو ما سأضيفه الآن، والحق أن على العقل في عملية «تفسير الطبيعة» أن يوطن نفسه على أن يضع قدمه على مراحل ودرجات ملائمة من اليقين، وأن يتذكر مع ذلك (وبخاصة في البداية) أن ما هو أمامه يعتمد كثيرا على ما يبقى وراءه. ••• (20) ولكن لما كانت الحقيقة تأتي من الخطأ بأسرع مما تأتي من الخلط، رأيت أن من المفيد أن ندع الفهم حرا في أن يجهد نفسه ويحاول تفسير الطبيعة بالطريقة الموجبة، بعد أن شيد القوائم الثلاثة وتمعنها (مثلما فعلت)، من خلال الشواهد الواردة فيها والشواهد التي يصادفها في أي مكان آخر، وقد أسميت هذه المحاولة الأولى «حرية الذهن» أو «المقاربة الأولى للتفسير» أو «القطف الأول»
first vintage .
24
قطف أول لصورة الحرارة
لاحظ (كما هو واضح مما قلت) أن صورة شيء ما قائمة في كل مثال فردي يوجد فيه هذا الشيء، وإلا لما كانت صورة، ويترتب على ذلك أن من المستحيل وجود مثال مضاد، على أن الصورة تكون أوضح وأجلى في بعض الشواهد عنها في غيرها، أي تكون أوضح حيثما كانت طبيعة الصورة غير مقيدة وغير معوقة وغير مزاحمة بطبائع أخرى، وقد أسميت هذه الشواهد «الأمثلة الجلية أو اللافتة»، فلنتقدم إذن إلى «القطف الأول» لصورة الحرارة.
من خلال مسح للشواهد - جملة وتفصيلا - يتبين أن الطبيعة التي تعد الحرارة إحدى حالاتها الخاصة هي الحركة، يتمثل هذا بوضوح شديد في حالة اللهب الذي هو دائما في حالة حركة، وفي السوائل الغائية أو الفائرة، التي هي أيضا في حالة حركة دائبة، ويتبين هذا أيضا في تحفيز الحرارة أو زيادتها بواسطة الحركة، كما يحدث بالنفخ والرياح (انظر مثال 29 من القائمة 3)، كذلك الشأن مع الأنواع الأخرى من الحركة (انظر مثال 28، 31 من القائمة 3)، ويتبين كذلك في حقيقة أن كل جسم ينحطم أو على الأقل يتغير كثيرا بواسطة أي لهب أو حرارة قوية وعنيفة؛ لذا فمن الواضح تماما أن الحرارة تسبب اضطرابا وتهيجا وحركة عنيفة في الأجزاء الداخلية لأي جسم، فتفضي به إلى الانحلال تدريجيا.
ينبغي ألا يؤخذ ما قلناه عن الحركة (أنها بمثابة «الجنس»
genus
بالنسبة للحرارة)، على أنه يعني أن الحرارة تولد الحركة أو أن الحركة تولد الحرارة (وإن كان كلاهما صحيحا في بعض الحالات)، بل إن الحرارة الفعلية ذاتها أو ماهية الحرارة هي الحركة ولا شيء غير الحركة، وإن كانت مقيدة ب «فروق» معينة سأضيفها حالا، بعد إضافة بعض المحاذير لتجنب الالتباس.
والحرارة المحسة هي شيء نسبي، وليست عمومية بل نسبية بحسب كل فرد، وتعتبر - بحق - مجرد تأثير الحرارة على الروح الحيوانية، كما أنها في حد ذاتها شيء متغير، إذ إن الشيء الواحد يفضي إلى إدراك لكل من السخونة والبرودة (بحسب حالة الحواس)، كما هو واضح من المثال 41 من القائمة 3.
وينبغي ألا تختلط صورة الحرارة بتوصيل الحرارة أو طبيعتها الانتقالية التي بواسطتها يسخن جسم ما بالاتصال مع جسم آخر ساخن، فالحرارة غير الإحرار (التسخين)، وبالإمكان أن تثار الحرارة بالاحتكاك دون وجود مسبق لأي حرارة، وهو مثال يستبعد الإحرار من صورة الحرارة، وحتى عندما تنتج باقتراب جسم حار، فإن هذا لا ينطلق من صورة الحرارة، بل يعتمد كليا على طبيعة أعلى وأكثر عمومية، وهي طبيعة التمثيل أو التكثر الذاتي، وهذا موضوع يتطلب بحثا منفصلا.
وفكرة النار فكرة عامية ولا نفع لها، فهي تتكون من تضام الحرارة والإضاءة في أي جسم، كما هو الحال في اللهب المعتاد وفي الأجسام المسخنة حتى الاحمرار.
بعد أن أزلت كل الالتباس آتي الآن إلى «الفروق» الحقيقية التي تحدد الحركة وتشكلها بوصفها صورة الحرارة.
الفرق الأول:
أن الحرارة حركة متمددة، بها يسعى جسم ما إلى أن يتحرك في نطاق أو بعد أكبر مما كان يشغله من قبل، وهذا الفرق هو أوضح ما يكون في اللهب، حيث الدخان أو البخر المتلبد يتمدد بوضوح ويتفجر إلى لهب.
وهو ظاهر أيضا في جميع السوائل الغالية، التي تنتفخ بشكل واضح وتعلو وتزبد، وتواصل عملية تمددها حتى تتحول إلى جسم أكثر امتدادا واتساعا بكثير من السائل نفسه، ألا وهو البخار أو الدخان أو الهواء.
وهو ظاهر كذلك في الخشب وفي كل المواد القابلة للاحتراق، حيث هناك نضح أحيانا وتبخر دائما.
وظاهر أيضا في المعادن المنصهرة، التي بسبب تكتلها الشديد لا تنتفخ ولا تتمدد بسهولة، ولكن روحها إذ تتمدد في ذاتها - فتجد رغبة في مزيد من التمدد - تدفع وتحفز الأجزاء الأصلب إلى شكل سائل، فإذا اشتدت الحرارة أكثر فإنها تذوب وتحول كثيرا من مادتها إلى حالة طيارة.
وهو ظاهر أيضا في الحديد والصخور، وإن كانت لا تنصهر أو تذوب، ولكنها مع ذلك تلين، وهذا هو الحال أيضا مع ألواح الخشب، فهي تصير مرنة عندما تدفأ بلطف في رماد ساخن.
ولكن هذا النوع من الحركة يرى على أفضل نحو في الهواء، الذي يتمدد باستمرار وبوضوح مع أقل حرارة، كما يتضح في المثال 38 بالقائمة 3.
وهو ظاهر أيضا في الطبيعة المضادة: طبيعة البرودة، فالبرودة تكمش كل مادة وتضيقها،
25
فنجد أنه في موجات الصقيع الشديد تتساقط المسامير من الجدران، وتتشقق الأشياء البرونزية، ونجد الزجاج الذي كان ساخنا ثم تعرض للبرودة المفاجئة ينشرخ وينكسر، والهواء بالمثل ينكمش بأقل تبريد إلى حيز أصغر، كما في مثال 38 بالقائمة 3، ولكني سأعرض لذلك بتفصيل أكبر في بحث البرودة.
ولا عجب إذا كانت البرودة والحرارة تظهران كثيرا من التأثيرات المشتركة (انظر في ذلك مثال 32 بالقائمة 2)، إذ إن اثنين من الفروق التالية (التي سأتحدث عنها حالا) ينتميان إلى كلتا الطبيعتين، رغم أنه في الفرق الحالي نجد تأثيراتهما متضادة تماما، فالحرارة تسبب حركة تمددية توسعية والبرودة تسبب حركة انكماشية تقلصية.
والفرق الثاني:
هو تنويع على الفرق الأول، وهو أن الحرارة حركة تمددية أو حركة تجاه الخارج، ولكن في الوقت نفسه تحمل الجسم إلى أعلى، فلا شك أن هناك كثيرا من الحركات المركبة، مثال ذلك: أن السهم أو الرمح يتحرك حركة دورانية وتقدمية معا، يدور وهو يطير ويطير وهو يدور، كذلك حركة الحرارة، فهي توسع وصعود معا في آن.
وهذا الفرق يتضح في الملقط أو مذكي النار إذ يوضع في اللهب، فأنت إذا وضعته قائما وأنت تمسكه بيدك من أعلى فسرعان ما يحرق يدك، أما إذا أمسكته مائلا أو من أسفل فسيكون أبطأ بكثير في حرق يدك.
ومن الواضح أيضا في عملية التقطير بواسطة معوجة، والتي تستخدم مع الأزهار الرقيقة التي تفقد عطرها بسهولة، وقد وجد بالخبرة أن على المرء أن يضع اللهب من أعلى وليس من أسفل حتى يقل سفع اللهب، إذ إن كل حرارة - وليس اللهب فحسب - تتحرك إلى أعلى.
وفي ذلك: أجر تجربة على الطبيعة المضادة للبرودة، وما إذا كانت البرودة تكمش الجسم بالهبوط إلى أسفل، مثلما أن الحرارة تمدد الجسم بالصعود إلى أعلى، خذ قضيبين من الحديد أو أنبوبتين زجاجيتين (متماثلتين في كل شيء آخر) وسخنهما بعض الشيء، وضع إسفنجة ممتلئة بالماء البارد أو الثلج تحت إحداهما وفوق الأخرى، وافتراضي هو أن التبريد في طرفيهما سيكون أسرع في القضيب ذي الثلج بأعلاه من القضيب ذي الثلج بأسفله، بعكس الذي يحدث في حالة الحرارة.
والفرق الثالث:
هو أن الحرارة هي حركة تمددية ليست متجانسة في الجسم كله، بل تمددية خلال جزيئاته الصغرى، وهي مقيدة ومثبطة ومرتدة في آن معا، ومن ثم فهي تلوب جيئة وذهابا، وفي عجلة دائمة وضغط وصراع وغضب من النخس الذي يلحقها، ومن هنا يأتي عنف اللهب والحرارة.
يظهر هذا الفرق على أوضح نحو في اللهب وفي السوائل الغالية التي تجيش بلا توقف وتعلو في نقاط متفرقة وتهبط.
وهو أيضا ظاهر في الأجسام الصلبة البنيان، بحيث لا تنتفخ أو تتمدد في كتلتها عندما تسخن أو تتقد، مثل الحديد المسخن حتى الاحمرار حيث الحرارة فيه عنيفة جدا.
وهو ظاهر أيضا في مدفأة النار التي تذكو أشد ما تذكو في الطقس الأبرد.
وظاهر كذلك في حقيقة أنه لا تلحظ حرارة عندما يتمدد الهواء في ترمومتر دون عائق أو ضغط مضاد، أي بتجانس وتساو، ولا تلحظ حرارة كبيرة في الرياح التي سكتت ثم هبت بعنف شديد؛ وذلك لأن الحركة هنا تؤثر على الكل دون أي حركة متبادلة في الجزيئات. أجر تجربة في هذا لنرى ما إذا كان اللهب لا يتوقد في الجوانب أكثر مما يتوقد في وسطه.
وهو ظاهر أيضا في واقعة أن كل احتراق يتقدم بواسطة المسام الدقيقة للأجسام المحترقة، فيتلفها ويخترقها ويخزها ويشكها كما لو كان بألف سن إبرة، هذا ما يجعل للأحماض القوية (إذا ماثلت الجسم الذي تعمل عليه) تأثير النار بسبب طبيعتها الأكولة الحادة.
هذا الفرق المحدد (الذي أتحدث عنه الآن) ينسحب أيضا على طبيعة البرودة، ففي البرد تتقيد الحركة الانكماشية بواسطة الحركة التمددية المضادة، مثلما أنه في الحر تتقيد الحركة التمددية بواسطة الحركة الانكماشية المضادة.
وهكذا سواء كانت جزيئات الجسم تعمل إلى الداخل أو إلى الخارج، فإن طريقة الفعل واحدة في الحالتين وإن اختلفت القوة؛ ذلك لأننا لا نخبر على الأرض أي شيء مفرط البرودة، انظر المثال 27 بالقائمة 1.
والفرق الرابع:
هو تنويع على سابقه، وهو أن حركة الوخز والاختراق لا بد أن تكون سريعة وليست بطيئة بحال، وأنها تحدث لا على مستوى الجزيئات البالغة الدقة بل الجزيئات الأكبر بعض الشيء.
يتضح هذا الفرق من مقارنة تأثيرات النار بتأثيرات الزمن: فالزمن أيضا يذوي ويستنفد ويتلف ويحيل إلى رماد مثلما تفعل النار، وربما على نحو أدق، ولكن لأن حركته بطيئة جدا، ولأنه يهاجم الجزيئات البالغة الدقة، لا تلحظ في الأمر حرارة.
ويتضح أيضا من مقارنة ذوبان الحديد وذوبان الذهب، فالذهب يذوب دون أن يثير أية حرارة، بينما يذوب الحديد مع إثارة عنيفة للحرارة وإن كان ذلك في فترة متساوية من الزمن؛ ذلك لأنه في حالة الذهب يكون دخول الحامض الفاصل رفيقا وحذرا وتذعن جزيئات الذهب بسهولة، أما في حالة الحديد فيكون الدخول عنيفا مقتحما وجزيئات الحديد أكثر عنادا.
ويتضح أيضا إلى حد ما في بعض حالات الغنغرينا وتعفن اللحم، حيث تنتج حرارة ضئيلة وألم قليل بسبب الطابع الرفيق للتعفن.
وهذا هو «القطف الأول» أو «التفسير المبدئي» لصورة الحرارة، إذ يضعه الذهن في تساهل ودعة.
وبناء على هذا «القطف الأول» فإن الصورة أو التعريف الحقيقي للحرارة (الحرارة كفكرة عمومية لا كشيء نسبي - للحرارة معتبرة بالنسبة للعالم وليس بالنسبة للحس)، هي - باختصار - ما يلي: «الحرارة هي حركة تمددية تتقيد وتصارع خلال جزيئات الأجسام.» غير أن التمدد يعدل هكذا: «فبينما يحدث التمدد في جميع الاتجاهات، فإن لديه نزوعا إلى أعلى.» والصراع في الجزيئات يتعدل أيضا: «إنه ليس بطيئا، بل يحدث بعجلة وببعض العنف.»
أما بخصوص التعريف الإجرائي فالأمر واحد، إذا ما استطعت أن تثير حركة تمددية أو توسعية في أي جسم طبيعي، وأن تكبت هذه الحركة وتغلبها على أمرها بحيث لا تسمح للتمدد أن يتقدم بالتساوي، بل أن يكون مدفوعا جزئيا ومكبوتا جزئيا، ستكون بغير أدنى شك منتجا حرارة، سواء كان الجسم من الأرض (من العناصر كما يسمونها) أو مشربا بتأثير علوي، مضيئا أو معتما، خفيفا أو كثيفا، متمددا محليا أو محتوى داخل حدود أبعاده الأولى، مائلا إلى الذوبان أو في حالة ثابتة، حيوانا أو نباتا أو معدنا، ماء أو زيتا أو هواء أو أي مادة أخرى على الإطلاق قابلة لمثل هذه الحركة، والحرارة المدركة بالحس هي نفس الشيء ولكن معتبرة بالنسبة للحواس، ولنتقدم الآن إلى مساعدات أخرى. ••• (21) بعد إكمالنا لقوائم العرض الأول، وبعد «الرفض» أو «الاستبعاد»، وبعد إتمام «القطف الأول» على أساسها، علينا أن نتقدم إلى مساعدات أخرى للذهن في «تفسير الطبيعة» وفي «استقراء» صحيح وتام، وسوف أظل في تقديمها أستخدم الحرارة والبرودة عندما نحتاج إلى القوائم، أما عندما لا يتطلب الأمر إلا أمثلة قليلة فسوف أستخدم أي أمثلة أخرى بحيث أوسع نطاق المذهب دون أن أشوش على البحث.
سأتناول إذن في المقام الأول الأمثلة أو «الشواهد ذات الامتياز»
privileged instances ،
26
وأتناول ثانيا مدعمات (دعائم) الاستقراء، وثالثا تنقيح الاستقراء، ورابعا تكييف البحث وفقا لطبيعة الموضوع، وخامسا الطبائع ذات الامتياز من حيث الدراسة، أو ما ينبغي أن يأتي أولا وما ينبغي أن يأتي لاحقا في البحث، وسادسا حدود البحث أو ملخص جميع الطبائع الموجودة في العالم، وسابعا التطبيق على الأغراض العملية أو ما يتصل بالإنسان، وثامنا التجهيزات الخاصة بالبحث، وتاسعا وأخيرا المقياس الصاعد والهابط للمبادئ. ••• (22) من بين «شواهد الامتياز» سأضع أولا الأمثلة أو «الشواهد الانفرادية (المنعزلة)»
solitary instances ،
27
والشواهد الانفرادية هي شواهد تظهر الطبيعة محل البحث في موضوعات لا تتفق فيما بينها في أي شيء عدا هذه الطبيعة، أو التي لا تظهر الطبيعة محل البحث في موضوعات تتماثل في كل شيء عدا هذه الطبيعة، ومن الواضح أن شواهد من هذا النوع من شأنها أن تختصر الطريق وتعجل بعملية الاستبعاد وتقويها، بحيث يستوي أن تضع منها شواهد قليلة أو كثيرة.
فمثلا إذا كنا نبحث في طبيعة اللون فإن المنشور والبلورات والندى - أيضا - ومثل تلك الأشياء التي لا تتلون فحسب في ذاتها بل تلقي بالألوان خارجها على الحائط، تعد «شواهد انفرادية»؛ ذلك أنها لا تتفق في شيء مع الألوان الثابتة في الأزهار والأحجار الملونة والمعادن والأخشاب ... إلخ عدا اللون. نخلص من ذلك بسهولة إلى أن اللون ما هو إلا تعديل في شعاع الضوء المتلقى على الشيء، في الحالة الأولى خلال درجات مختلفة للحدث، وفي الثانية خلال مختلف أنسجة الجسم وبنياته،
28
وهذه الأمثلة انفرادية من حيث التماثل.
وأيضا في نفس البحث فإن العروق المميزة البيضاء والسوداء في الرخام، وتنوعات اللون في الأزهار التي هي من جنس واحد، هي «شواهد انفرادية»؛ فالخطوط البيضاء والسوداء في الرخام، والبقع الحمراء والبيضاء في القرنفل، تتفق في كل شيء تقريبا عدا اللون نفسه، ومن هنا نخلص ببساطة إلى أن اللون لا شأن له بالطبيعة الداخلية للشيء، بل يعتمد ببساطة على الترتيب العيني وشبه الميكانيكي للأجزاء، وهذه «شواهد انفرادية» من حيث الاختلاف، وأنا أسمي كلا النوعين شواهد «انفرادية» أو «آبدة»
ferine
مستعيرا المصطلح من الفلكيين. ••• (23) في المرتبة الثانية من «شواهد الامتياز» سأضع «شواهد الانتقال»
instances of transition ،
29
حيث الطبيعة محل البحث هي في طور التكوين إذا كانت غير موجودة قبلا، أو في طور الاختفاء إذا كانت موجودة قبلا؛ ولذا ففي كلتا هاتين الحركتين المتضادتين فإن هذه الشواهد هي دائما مزدوجة، أو بالأحرى شاهد واحد يستمر في حركته ومروره حتى يصل إلى الحالة العكسية، مثل هذه الشواهد لا تسرع وتقوي عملية الاستبعاد فحسب، بل أيضا تخفض الإثبات (الإيجاب) أو الصورة نفسها إلى نطاق ضيق، فصورة الشيء يجب بالضرورة أن تكون شيئا ما يدخل بواسطة نوع من الانتقال أو من الجهة الأخرى يزال أو يباد بواسطة نوع آخر، ورغم أن كل استبعاد يشجع «إيجابا»، فإن هذا يتم بشكل أكثر مباشرة عندما يحدث في نفس الموضوعات منه في موضوعات مختلفة، والصورة (كما هو واضح جدا مما قلت) التي تنكشف في حالة مفردة تمهد الطريق إلى اكتشافها في كل الحالات، وكلما كان الانتقال أبسط وجب أن يزيد تقديرنا للشاهد (المثال)، كما أن «شواهد الانتقال» مفيدة تماما من الجهة العملية؛ لأنها إذ تعرض الصورة مرفقة بالسبب الذي يجعلها كذلك أو يمنعها من أن تكون كذلك، فإنها تقدم توجيها واضحا للممارسة في بعض الحالات التي يسهل الانتقال منها إلى الحالات التالية، على أن هناك خطرا فيها يتطلب تحذيرا، فقد تدفعنا إلى ربط الصورة ربطا زائدا بالعلة الفاعلة، وقد تشرب الذهن - أو على الأقل تغمسه - برؤية زائفة للصورة في علاقتها بالعلة الفاعلة، فتعرف العلة الفاعلة دائما على أنها ليست أكثر من وعاء أو حامل للصورة، يمكن علاج هذه المشكلة بسهولة بواسطة التطبيق القويم للاستبعاد.
علي الآن أن أقدم مثالا ل «شاهد انتقال»، ولتكن الطبيعة المطلوبة هي البياض، فمثال لإنتاجه هو الزجاج السليم والزجاج المسحوق، وكذلك الماء الرائق والماء المزبد (الذي قلب حتى أزبد)، فالزجاج السليم والماء الرائق شفافان لا أبيضان، أما الزجاج المسحوق والماء المزبد فأبيضان لا شفافان؛ ولذا فإن على المرء أن يسأل ماذا حدث للزجاج أو للماء كنتيجة للانتقال، فمن الواضح أن «صورة» البياض انتقلت وأدخلت بواسطة سحق الزجاج وتهييج الماء، ولا شيء آخر نجد أنه حدث عدا تفتت الزجاج والماء إلى أجزاء دقيقة وعدا دخول الهواء، ليس بالشيء اليسير تجاه اكتشاف «صورة» البياض أن جسمين شفافين في ذاتهما (أي الهواء والماء أو الهواء والزجاج) يظهران بياضا بمجرد تشظيهما إلى كسر دقيقة بسبب الانكسار غير المتساوي لأشعة الضوء.
ولكن ينبغي في نفس الوقت أن نقدم مثالا على الخطر والتحذير الذي ألمعت إليه، لا شك أن العقل الذي أضله ذلك الصنف من العلة الفاعلة سوف يقع له على الفور أن الهواء ضروري دائما لصورة البياض، أو أن البياض لا ينتج إلا بواسطة الأجسام الشفافة، وهما افتراضان زائفان تماما، وثبت زيفهما باستبعادات كثيرة. الحق أنه سيظهر بالأحرى (بغض النظر عن الهواء وما شابهه) أن الأجسام المتساوية كليا في جزيئاتها التي تؤثر على البصر هي أجسام شفافة، والأجسام غير المتساوية وذات نسيج بسيط هي أجسام بيضاء، والأجسام غير المتساوية وذات البنية المركبة - ولكنها متجانسة - هي أجسام ملونة غير سوداء، والأجسام غير المتساوية وذات البنية المركبة المضطربة وغير المتجانسة على الإطلاق هي أجسام سوداء، هذا إذن مثال ل «شاهد انتقال» تجاه الوجود في الطبيعة المطلوبة للبياض، أما «شاهد الانتقال» تجاه عدم الوجود في طبيعة البياض نفسها فهو انحلال الزبد (الرغوة) وذوبان الثلج، فهما يفقدان بياضهما ويكتسبان شفافية الماء في حالته الصافية بدون هواء.
ولا يفوتنا بحال أن نذكر أن علينا أن ندرج تحت شواهد الانتقال لا الشواهد المتجهة إلى الوجود وإلى عدم الوجود فحسب، بل أيضا تلك الشواهد المتجهة إلى الزيادة أو النقصان؛ لأنها أيضا تساعد في كشف الصورة، كما هو واضح من تعريفنا للصورة ومن قائمة الدرجات، ومن ثم فإن الورق - الذي هو أبيض عندما يكون جافا - يقل بياضه عندما يبتل (من جراء استبعاد الهواء وإدخال الماء) ويميل أكثر إلى الشفافية، والتفسير مماثل للتفسير في الأمثلة السالفة. ••• (24) وبين شواهد الامتياز سأضع في المرتبة الثالثة «الشواهد الكاشفة»
revealing instances
30
التي أشرت إليها في «القطف الأول» عن الحرارة، وأسميها أيضا «الشواهد الجلية أو المتحررة أو السائدة»، وهي شواهد تكشف الطبيعة محل البحث عارية ومستقلة، وفي أوجها أيضا وفي درجتها العليا من القوة، أي المتحررة والمنعتقة من العواتق، أو على الأقل السائدة عليها والقامعة والمقيدة لها بقوة خواصها، ولأن كل جسم ينطوي على ضروب كثيرة من الطبائع متحدة معا في حالة عينية، فإنها كثيرا ما يمحق بعضها بعضا ويقمعه ويكسره ويقيده وتحتجب الصور المفردة، إلا أننا نجد بعض الموضوعات تنفرد فيها الطبيعة محل البحث عن غيرها في عنفوان، إما لغياب العوائق أو لأن صفتها سائدة، مثل هذه الشواهد كاشفة للصورة على نحو لافت، ولكن حتى في هذه الشواهد يجب الحذر، ويجب أن نكبح تسرع الذهن. يجب أن نشك في أي شيء يقحم علينا صورة ما ويقذفها في ذهننا، وعلينا إذاك أن نعتصم ب «استبعاد»
exclusion
صارم ودقيق.
افترض مثلا أن الطبيعة هي الحرارة، فالمثال الكاشف للحركة التمددية - التي (كما لاحظنا) تؤلف الجزء الرئيسي لصورة الحرارة - هو الترمومتر، فرغم أن اللهب يظهر تمددا بشكل واضح، فهو لا يكشف تقدم التمدد بسبب انطفائه الفوري، والماء الغالي أيضا لا يكشف تمدد الماء جيدا في شكله نفسه بسبب تحوله السريع إلى بخار وهواء، والحديد المحمى وما شابهه هو أبعد ما يكون عن كشف تقدم، وعلى العكس فإن روحه مكبوتة ومضعضعة بواسطة جزيئاته الكثيفة والمدمجة (التي تروض التمدد وتكبحه)، فتمنع التمدد الحقيقي من أن يكون واضحا تماما للحواس، أما الترمومتر فيكشف التمدد في الهواء بوضوح كشيء جلي ومتقدم ودائم لا مؤقت.
خذ مثالا آخر، ولتكن الطبيعة المطلوبة هي الثقل، ف «الشاهد الكاشف» للثقل هو الزئبق، فهو يفوق كل شيء في الثقل باستثناء الذهب، فهو أثقل قليلا من الزئبق، والزئبق شاهد أفضل من الذهب لكشف الثقل؛ لأن الذهب صلب ومدمج بسبب كثافته فيما يبدو، بينما الزئبق سائل ويعج بالروح، ومع ذلك يفوق الماس وزنا ويفوق المواد التي تعتبر شديدة الصلابة، وهذا يكشف أن صورة الثقل أو الوزن تعتمد ببساطة على كم المادة وليس على مبلغ اندماجها. ••• (25) وبين شواهد الامتياز أضع في المرتبة الرابعة «الشواهد المتوارية»
concealed instances ،
31
التي أسميها أيضا «شواهد الشفق»
instances of the twilight ، وهي على التقريب عكس «الشواهد الكاشفة»، فهي تعرض الطبيعة محل البحث في أدنى درجات قوتها، كأنها في مهدها وبداءتها، تجاهد وتبذل نوعا من المحاولة الأولى، غير أنها متوارية تحت الطبيعة المضادة وخاضعة لها، غير أن هذه الشواهد عظيمة الأهمية في كشف الصور، فكما أن الشواهد الكاشفة تفضي بسهولة إلى الفروق، فإن الشواهد المتوارية هي أفضل مرشد إلى «العموميات»
genera
أي تلك الطبائع العامة التي لا تعدو الطبائع المقترحة أن تكون حالات خاصة منها.
وعلى سبيل المثال: افترض أن الطبيعة محل البحث هي «القوام»
consistency ، أي ذلك الذي يحدد شكله وهيئته، والذي ضده السيولة، من شأن «الشواهد المتوارية» أن تعرض درجة ما ضعيفة ومنخفضة من القوام في السائل، مثل فقاعة الماء، فهي نوع من الغشاء الصلب ذي الشكل المحدد مصنوع من مادة الماء، كذلك الحال في تنقيط الماء، فإذا استمر الماء في الدفق فإن القطرات تطيل ذاتها إلى خيط رفيع جدا لكي تحفظ استمرارية الماء، ولكن إذا لم يكن ثمة ماء كاف للدفق، عندئذ تسقط على شكل قطرات دائرية، وهو أفضل شكل يحفظ استمرارية الماء من التصدع، وفي اللحظة التي يتوقف فيها خيط الماء ويبدأ الماء سقوطه في قطرات فإن خيط الماء يرتد إلى أعلى لكي يتجنب مثل هذا التصدع، أما في حالة المعادن التي تكون في الانصهار سائلة - ولكن شديدة التماسك - فإن القطرات المنصهرة كثيرا ما ترتد وتبقى معلقة، وشاهد آخر مشابه إلى حد ما هو المرايا التي يصطنعها الأطفال من اللعاب على القصب، فهنا أيضا نجد قشرة (غشاء) صلبة من الماء، ولكن هذا يظهر على نحو أفضل بكثير في لعب الأطفال، إذ يأخذون الماء ويزيدون لزوجته قليلا بالصابون وينفخونه من خلال قصبة جوفاء، فيحولون الماء إلى شيء أشبه بخزان فقاقيع، ومن خلال مزجه بالهواء يتخذ صلابة بحيث يمكن قذفه مسافة في الهواء دون أن ينفجر، يرى هذا على أفضل نحو في الرغوة والثلج اللذين يتخذان قواما بحيث يمكن تقريبا قطعهما بالسكين، ومع ذلك فإن كلا الجسمين مكون من هواء وماء، وكليهما لا قوام له، كلا هذين يشير بوضوح إلى أن السائل والصلب ما هي إلا أفكار عامية مكيفة للحواس، وأن في جميع الأجسام ميلا إلى تجنب التصدع وتحاشيه، وهو ميل واهن وضعيف في الأجسام المكونة من أجزاء متجانسة (كما في حالة السوائل)، ولكنه أكثر جلاء وقوة في تلك المكونة من أجزاء غير متجانسة، ويرجع ذلك إلى أن إضافة مادة غير متجانسة من شأنه أن يدمج الأجسام معا، بينما دخول مادة متجانسة من شأنه أن يحل الأجسام ويفككها.
مثال آخر: افترض أن الطبيعة محل البحث هي «الجذب»
attraction
أو تضام الأجسام معا، فأبرز «الشواهد الكاشفة» هو المغناطيس، الطبيعة المضادة للجذب هي عدم الجذب، حتى في المادة نفسها، فالحديد مثلا لا يجذب الحديد، ولا الرصاص يجذب الرصاص، ولا الخشب الخشب، ولا الماء الماء، أما «الشاهد المتواري» فهو المغناطيس المدرع بالحديد، أو بالأحرى الحديد في مغناطيس مدرع، فطبيعته هي أن المغناطيس المدرع لا يجذب الحديد الذي على مسافة منه بأشد مما يفعل المغناطيس غير المدرع، ولكن إذا قرب الحديد بما يكفي لأن يلمس الحديد الذي في المغناطيس المدرع، فإن المغناطيس المدرع يمسك بثقل من الحديد أكبر كثيرا مما يمسكه المغناطيس البسيط غير المدرع؛ بسبب تشابه المادة؛ الحديد مقابل الحديد. هذا التأثير كان «متواريا» تماما وكامنا في الحديد قبل إدخال المغناطيس. من الواضح إذن أن صورة التضام هي شيء جلي وقوي في المغناطيس، وضعيف وكامن في الحديد، لوحظ كذلك أن السهام الخشبية الصغيرة - غير ذات الأطراف الحديدية المسددة من آلات كبيرة - تخترق الأشياء الخشبية (مثل جوانب السفن أو ما شابه) اختراقا أعمق مما تفعل نفس السهام وهي مسننة بالحديد؛ وذلك بسبب تشابه المواد (خشب لخشب)، رغم أن هذا كان مخبوءا في الخشب من قبل، وبالمثل فرغم أن الأجسام الهوائية الكلية لا تجذب الهواء بشكل واضح، ولا الماء الماء، إلا أن الفقاعة حين تقارب فقاعة أخرى فسرعان ما تنحل الاثنتان؛ بسبب ميل الماء إلى أن يتضام مع الماء، والهواء مع الهواء. مثل هذه «الشواهد المتوارية» (التي هي ذات نفع عظيم كما قلت) تفصح عن نفسها أكثر في الأجزاء الصغيرة من الأجسام؛ ذلك أن الكتل الأكبر تتبع صورا أكثر عمومية وشمولا، كما سوف يتبين في موضعه. ••• (26) بين «شواهد الامتياز» سأضع في المرتبة الخامسة «الشواهد المقومة»
constitutive ،
32
التي أسميها أيضا «شرذمية»
manipular ، وهي تلك التي تشكل نوعا مفيدا من الطبيعة محل الدراسة، نوعا من «الصورة الصغرى»، فحيث إن الصور الأصيلة (التي هي دائما قابلة للتحول مع الطبائع محل البحث) عميقة وغير دانية وغير سهلة الاكتشاف، زد على ذلك وهن الذهن الإنساني، فإن الصور المعينة التي تجمع معا مجموعات معينة من الشواهد (وإن لم تكن كلها) في فكرة عامة ما، ينبغي ألا تغفل بل تلاحظ بدأب، فأيما شيء يوحد الطبيعة - وإن على نحو غير كامل - يمهد الطريق إلى اكتشاف الصور؛ لذا فإن الشواهد التي تفيدنا في هذا الصدد هي شواهد لا يمكن الاستهانة بقوتها، وشواهد على شيء من الامتياز.
غير أن على المرء أن يتخذ أقصى ضروب الحيطة هنا؛ حتى لا يستنيم الذهن - بعد أن يعثر على قليل من هذه الصور المعينة، ويؤسس أقساما أو أفرعا للطبيعة المعنية - ويقنع بها بدلا من أن يتقدم إلى الاكتشاف الحقيقي ل «الصورة» العظيمة، ويسلم بأن الطبيعة جذريا متعددة ومتشعبة، ويزدري ويرفض أي مزيد من الوحدة في الطبيعة كترف زائد وميل إلى التجريد المحض.
افترض - على سبيل المثال - أن الطبيعة محل البحث هي الذاكرة، أو ذلك الذي يحفز الذاكرة ويساعدها، فال «الشواهد المقومة» هي النظام أو الترتيب الذي من الواضح أنه يساعد الذاكرة، وأيضا «المواضع» (الأماكن) في الذاكرة الاصطناعية، التي قد تكون أماكن بالمعنى الحرفي للكلمة كالباب والزاوية والشرفة وما شابه، أو أشخاصا معروفين ومألوفين، أو أي شيء على الإطلاق (شريطة أن يوضعوا في نظام معين) كالحيوانات والنباتات والكلمات أيضا والأحرف والشخصيات والأشخاص التاريخيين ... إلخ، وإن كان بعض هذه أكثر ملاءمة من بعض. مثل هذه المواضع المصطنعة تساعد الذاكرة على نحو مدهش وتعلو بها كثيرا فوق قدراتها الطبيعية، وكذلك الشعر يسهل حفظه وتذكره أكثر من النثر، من هذه المجموعة من الشواهد الثلاثة - الترتيب والمواضع الاصطناعية والشعر - يتألف نوع من العون للذاكرة،
33
يمكن أن نسمي هذا النوع من العون «تحديد غير المحدود»، فعندما يحاول المرء أن يتذكر شيئا ما أو يستحضره في الذهن، فمن المؤكد أنه إذا لم تكن لديه فكرة مسبقة أو تصور عما يبحث عنه فإنه سيظل يفتش ويجهد ويتخبط هنا وهناك وكأنه متورط في اللانهاية، أما إذا كانت لديه فكرة محددة فسرعان ما تختصر اللانهاية ويبقى مجال الذاكرة ضمن حدود. ثمة فكرة واضحة ومحددة في الشواهد الثلاث المذكورة: في الأول يجب أن يكون ثمة شيء ما يتفق مع الترتيب، وفي الثاني يجب أن يكون ثمة شكل يحمل علاقة ما أو اتفاقا مع المواضع المحددة، وفي الثالث يجب أن تكون هناك ألفاظ لها إيقاع الشعر، هكذا يتحدد اللامحدود، وهناك شواهد أخرى ستقدم لنا نوعا آخر: أيما شيء يجعل الفكرة الذهنية تصدم الحواس فهو يساعد الذاكرة (وهذه هي الطريقة الغالبة في الذاكرة الصطناعية)، وشواهد أخرى ستنتج لنا نوعا آخر، فالذاكرة يعينها أي شيء يترك انطباعه بواسطة انفعال قوي، فيبث الخوف مثلا أو الإعجاب أو الخجل أو البهجة، وشواهد أخرى ستقدم لنا نوعا رابعا، فالأشياء التي تنطبق على العقل وهو صاف وغير مشغول بأي شيء قبله ولا بعده - مثل ما نتعلمه في الطفولة أو ما نفكر فيه قبل ذهابنا إلى النوم، أو الخبرة الأولى بأي شيء - تظل عالقة بالذاكرة زمنا أطول، وشواهد أخرى تقدم النوع التالي، فهناك تشكيلة كبيرة من الظروف أو الوسائل تساعد الذاكرة، مثل تقطيع النص إلى أقسام، أو القراءة أو التلاوة الجهرية، وشواهد بعد ستقدم لنا نوعا أخيرا، فالأشياء المستبقة والمثيرة للانتباه تعلق بالذاكرة أكثر مما تعلق الأشياء التي تمر مرورا عابرا، فأنت إذا أعدت قراءة أي شيء عشرين مرة فلن تحفظها عن ظهر قلب بالسرعة التي تحفظها بها إذ تقرؤها عشر مرات محاولا تلاوتها غيبيا من وقت لآخر وأن تعود إلى النص عندما تفشل ذاكرتك، هكذا يستوي لنا نحو ست «صور صغرى» لأشياء تعين الذاكرة، وهي: (1) تحديد غير المحدود. (2) رد الفكري إلى الحسي. (3) الطبع على انفعال قوي. (4) الطبع على عقل صاف. (5) تنوع كبير للأدوات. (6) الاستباق.
ومثال آخر مماثل: افترض أن الطبيعة محل البحث هي الذوق، فالشواهد التالية شواهد مقومة: (1)
الأشخاص الذين لا يمكنهم الشم ومحرومون بطبيعتهم من هذه الحاسة يعجزون عن ملاحظة أو تمييز الطعام الفاسد أو العفن بالذوق ، أو من الجهة الأخرى الطعام المطبوخ بالثوم أو ماء الورد أو ما إلى ذلك. (2)
أما أولئك الذين انسدت مناخرهم بسبب عارض (كالبرد) فلا يميزون أي مادة فاسدة أو زنخة من أي شيء منضوح بماء الورد. (3)
إذا ضرب أولئك المصابون ببرد أنوفهم بقوة في اللحظة ذاتها التي يكون فيها الشيء الفاسد أو المعطر في أفواههم أو في حلوقهم، فإنهم في تلك اللحظة يكون لديهم إدراك واضح بالعفن أو العطر، هذه الشواهد تقدم وتقوم هذا النوع، أو بالأحرى هذا الجزء من الذوق، وهو أن هذا الجزء لا يعدو أن يكون شما داخليا، والذي يمر هابطا خلال المسالك العليا للمنخرين إلى الفم والحنك، ولكن من جهة أخرى فإن أولئك الذين يعانون من فقدان حاسة الشم أو انسدادها يدركون ما هو ملح وحلو ولاذع وحمضي وقاس ومر ... إلخ، شأنهم شأن أي شخص آخر؛ وعليه فإن من الواضح أن الذوق شيء مركب من الشم الداخلي ومن نوع مرهف من اللمس لن نعرض له هنا.
ومثال مشابه آخر: افترض أن الطبيعة محل البحث هي توصيل كيفية ما دون خلط المادة، يقدم لنا مثال الضوء أو يشكل نوعا من التوصيل، وتقدم الحرارة والمغناطيس نوعا آخر، فتوصيل الضوء لحظي وفوري ويتوقف فور إزالة المصدر الضوئي، أما الحرارة والقوة المغناطيسية فتنقل - أو بالأحرى تثار - في جسم آخر، ثم تمكث وتبقى فيه لفترة كبيرة من الزمن بعد إزالة المصدر.
وأخيرا فإن امتياز «الشواهد المقومة» مهم جدا في الحقيقة، من حيث إنها تسهم إسهاما عظيما في تكوين التعريفات (وبخاصة التعريفات الخاصة) وفي تقسيم أو تجزئة الطبائع، وقد صدق أفلاطون حين قال: «ينبغي أن يعد إلها ذلك الذي يعرف جيدا كيف يعرف وكيف يقسم.» ••• (27) وبين «شواهد الامتياز» سأضع في المرتبة السادسة «شواهد التشابه»
instances of resemblance ،
34
أو «شواهد المماثلة»
analogous instances ، التي أسميتها أيضا «الموازيات»
parallels
أو «التشابهات الفيزيقية»، وهي شواهد تكشف تشابهات أو روابط بين الأشياء، لا في الصور الصغرى (وهو دور «الشواهد المقومة») بل في الشيء العيني الفعلي، وهي من ثم أشبه بالخطوات الأولى والسفلى تجاه وحدة الطبيعة، وهي لا تؤسس مباشرة أي مبدأ، بل تشير فقط وتلاحظ توافقا معينا بين الأجسام، ولكن رغم أنها لا تساعد كثيرا في اكتشاف الصور، فهي مفيدة غاية الفائدة في إماطة اللثام عن بنية أجزاء العالم، وتؤدي نوعا من التشريح على أعضائه، وبالتالي فإنها تفضي بنا أحيانا بتؤدة ورفق إلى مبادئ جليلة ونبيلة تتعلق ببنية العالم لا بالصور والطبائع البسيطة.
من أمثلة «شواهد التشابه»: العين والمرآة، تكوين الأذن وتكوين الأماكن التي ترجع الصدى، من مثل هذا التشابه وبغض النظر عن الملاحظة الفعلية للتماثل والتي تفيد في أغراض كثيرة، يكون من السهل أن تكون المبدأ التالي: إن أعضاء الحس ذات طبيعة شبيهة بالأشياء التي تقدم انعكاسات إلى الحواس، وما إن يلم الذهن بهذه الحقيقة حتى يصعد بسهولة إلى مبدأ أعلى وأنبل. إن الفرق الوحيد بين الأجسام الحاسة والأجسام غير الحية في هذه الأمور التي يتفقان فيها أو يتجانسان هو هذا: إنه في الأجسام الحاسة توجد روح
35
حيوانية مضافة إلى تنظيم الجسم، بينما تغيب في الأجسام غير الحية؛ لذا فمن الجائز أن يكون ثمة حواس في الحيوانات بعدد نقاط الاتفاق مع الأجسام غير الحية إذا كان الجسم الحي مخترقا يسمح بنفاذ الروح إلى عضو مهيأ جيدا للفعل كعضو رائق، وهناك - بغير شك - حركات في الجسم الجامد الخالي من روح حيوانية بعدد الحواس في الحيوانات، وإن تعين أن تكون الحركات في الأجسام غير الحية أكثر من الحواس في الأجسام الحية؛ وذلك لوجود عدد قليل جدا من أعضاء الحس، والمثال الشديد الوضوح على هذا نجده في الألم، فرغم وجود أنواع كثيرة من الألم في الحيوانات ذات خصائص متباينة (آلام الحروق، ألم البرد الشديد، ألم الوخز، الألم الضاغط، الألم الشاد ... إلخ مختلفة إحداها عن الأخرى تمام الاختلاف)، فمن المتيقن أنها من حيث هي حركة تحدث في الأجسام غير الحية، كالخشب أو الصخر عندما يحترق أو ينكمش بالبرد أو يثقب أو يقطع أو ينثني أو يتهشم، وكذلك الحال في الأشياء الأخرى، رغم غياب الإحساس فيها لغياب الروح الحيوانية.
كذلك جذور وفروع النباتات (على غرابة هذا القول) هي شواهد تشابه، فكل ما هو نبات ينتفخ ويمد أطرافه في بيئته إلى أعلى وإلى أسفل، والفرق الوحيد بين الجذور والفروع هو أن الجذر مدفون في الأرض والفروع معرضة للهواء والشمس، خذ فرع شجرة صغيرا نضرا واثنه واجعله ملاصقا لكتلة من التربة - حتى لو لم يكن مثبتا بالأرض - وستجده على الفور ينتج جذرا لا فرعا، وعلى العكس إذا وضعت التربة من فوق وأثقلت إلى أسفل بحجر أو بأي جسم صلب بحيث تحصر النبات وتمنعه من التفرع إلى أعلى، فستجده يمد فروعه في الهواء إلى أسفل.
وصمغ الشجر ومعظم صمغ الصخر هو أيضا من «شواهد التشابه»، فكلاهما هو - ببساطة - نضح ورشح لعصائر مستمدة في الأول من الشجر وفي الثاني من الصخر، وتكتسب اللمعان والصفاء من الترشيح المرهف الدقيق، وهذا أيضا هو السبب في أن شعر الحيوانات أقل جمالا وألقا في لونه من ريش معظم الطيور؛ ذلك أن العصائر لا ترشح خلال جلد الحيوان بالرهافة التي ترشح بها خلال الريش.
من «شواهد التشابه» أيضا الصفن عند الذكور والرحم عند الإناث، ومن ثم فإن البناء المشهود الذي يفرق بين الجنسين هو - فيما يظهر - مسألة خارج وداخل، إذ إن الحرارة الأقوى في الجنس الذكري تدفع أعضاء الجنس إلى الخارج، بينما الحرارة في الإناث أضعف من أن تفعل ذلك، فتبقى الأعضاء بالداخل.
وحراشف السمك وأقدام ذوات الأربع أو أقدام وأجنحة الطيور هي كذلك «شواهد تشابه»، وقد أضاف أرسطو التموجات الأربع في حركة الثعابين، وهكذا في البنية العامة للأشياء، فإن حركة المخلوقات الحية تبدو في كثير من الأحيان معتمدة على مجموعات من أربعة مفاصل أو انثناءات.
وأسنان حيوانات اليابسة ومناقير الطيور هي أيضا «شواهد تشابه» يتضح منها أنه في جميع الحيوانات المكتملة اتجاه لتجمع نوع من المادة الصلبة في الفم.
كذلك ليس محالا أن هناك تشابها وتماثلا بين الإنسان والنبات المقلوب، فالرأس هو جذر الأعصاب والملكات في الحيوان، والأجزاء البذرية الناسلة هي السفلى (بإغفال الأطراف السفلى والعليا)، بينما في النبات يقع الجذر (والذي يشبه الرأس) دائما أسفل جزء، والبذور في أعلى جزء.
وأخيرا ينبغي أن نصر إصرارا ونعلن مرارا أن جهد الإنسان في بحث التاريخ الطبيعي وتدوينه ينبغي أن يتغير تماما، ويسلك مسلكا معاكسا للنظام الحالي، فقد كرس الناس حتى الآن شطرا كبيرا من العمل الجاد والدقيق في تسجيل تنوع الأشياء وتفسير الملامح المميزة للحيوانات والنباتات والمتحفرات، التي أغلبها شذوذات للطبيعة أكثر مما هي فروق حقيقية ذات جدوى للعلوم، مثل هذه المساعي شيء مبهج بالتأكيد، ومفيدة عمليا في بعض الأحيان، ولكنها لا تسهم بشيء في تشكيل رؤية دقيقة للطبيعة؛ ولذا فإن علينا أن نوجه كل انتباهنا إلى التماس التشابهات والتماثلات وتدوينها في الكلات وفي الأجزاء معا، فتلك هي الأشياء التي توحد الطبيعة وتضع الأساس للعلوم.
ولكن على المرء في كل هذا أن يكون صارما وحذرا جدا ولا يقبل ك «تشابه» إلا تلك «الشواهد» التي تشير إلى تماثلات فيزيقية (كما قلت من البداية) أي تماثلات حقيقية وجوهرية مرسخة في الطبيعة لا عرضية وظاهرية، ولا تماثلات خرافية وغرائبية ما يزال يصورها المؤلفون في السحر الطبيعي (وهم أبلد الناس الذين لا يليق ذكرهم في مقام جاد كالذي نحن بصدده) الذين يعرضون بغرور وحمق بالغين، بل يخترعون أحيانا تشابهات وتجانسات فارغة.
وبغض النظر عن هذه الأشياء، فإن علينا ألا نغفل «شواهد التشابه» في الأمور الأكبر، حتى في الشكل الحقيقي للأرض، مثل: أفريقيا ومنطقة بيرو ذات الخط الساحلي الممتد إلى مضيق ماجلان، فكلتا المنطقتين بها برازخ متماثلة وقنن جبال متماثلة، وهذا شيء لا يحدث بالصدفة.
كذلك الحال بالنسبة للعالم الجديد والعالم القديم، فكلاهما مستعرض ممتد تجاه الشمال، وضيق مستدق تجاه الجنوب.
ومن «شواهد التشابه» اللافتة للغاية ذلك البرد الشديد في المنطقة التي يسمونها المنطقة الوسطى للهواء، والنيران الشديدة العنف التي كثيرا ما تشاهد متفجرة من نقاط تحت الأرض، وهما شيئان يتشابهان في أنهما متناهيان ومتطرفان: أقصى طبيعة البرودة - مثلا - هو تجاه حد السماء، وأقصى طبيعة الحرارة تجاه مركز الأرض، يجمعهما طابع التضاد أو رفض الطبيعة المضادة.
وأخيرا ثمة في مبادئ العلوم «شواهد تشابه» جديرة بالملاحظة، فالمجاز البلاغي المسمى
surprise (المباغتة/مخالفة التوقع) تماثل ما يسمى في الموسيقى
avoidance of the cadence (تجنب القرار أو محط النغم)، وكذلك المسلمة الرياضية القائلة بأن المساويين لثالث متساويان تماثل بنية «القياس»
syllogism
في المنطق، الذي يربط أشياء تتفق في الحد الأوسط. إن من المفيد غاية الفائدة في مناح كثيرة أن يكون لدى أكبر عدد ممكن من الناس درجة معينة من الفطنة في تعقب واقتفاء التشابهات والتماثلات الفيزيقية.
36 ••• (28) بين شواهد الامتياز سأضع في المرتبة السابعة الشواهد الفريدة أو الفذة»
unique instances ،
37
التي أردت أيضا أن أسميها «الشواهد الشاذة أو غير القياسية»
irregular or heteroclite instances (مستعيرا المصطلح من النحويين)، تلك هي الشواهد التي تكشف عيانيا الأجسام التي تبدو استثنائية فائقة للعادة، ولا تشبه غيرها من الأشياء التي من صنفها، فإذا كانت «شواهد التشابه» يشبه أحدها الآخر، فإن «الشواهد الفريدة» هي «نسيج وحدها»
sui generis ، وفائدة الشواهد الفريدة مماثل لفائدة «الشواهد المتوارية»، وهو أن ترفع الطبيعة وتوحدها بغرض اكتشاف أنواع أو طبائع مشتركة يتعين بعد ذلك أن تحد بواسطة فروق حقيقية، وعلينا ألا نتخلى عن البحث حتى نرد الخصائص والكيفيات الموجودة في تلك الأشياء التي قد تعد من غرائب الطبيعة، نردها ونستوعبها تحت صورة معينة أو قانون محدد، وبذلك يتكشف أن الشذوذ أو الفرادة تعتمد على صورة مشتركة معينة، وأن الغرابة ما هي إلا في الفروق المحددة وفي الدرجة وفي ندرة التضام لا في النوع نفسه، في حين لا تعدو أفكار الناس أن تنعت هذه الأشياء بأنها أسرار الطبيعة أو عجائبها، وبأنها أشياء بلا علة، وأنها شواذ عن القواعد العامة.
من أمثلة الشواهد الفريدة: الشمس والقمر بين النجوم، والمغناطيس بين الأحجار، والزئبق بين المعادن، والفيل بين ذوات الأربع، والإحساس الجنسي بين ضروب اللمس، وحدة الشم عند الكلاب بين ضروب الشم، وكذلك يعد حرف
S
عند النحويين حرفا فريدا لسهولة تضامه مع الحروف الساكنة (الصوامت)، فقد يلتصق بصامتين أحيانا بل بثلاثة، وهو ما لا تحتمله بقية الأحرف، مثل هذه الشواهد ينبغي أن تقدر حق قدرها؛ لأنها ترهف البحث وتنشطه، وتنعش الذهن الذي تبلد بفعل العادة وبفعل المجرى المعهود للأشياء. ••• (29) وبين «شواهد الامتياز» سأضع في المرتبة الثامنة «شواهد الانحراف»
deviant instances ،
38
أي أغلاط الطبيعة أو الفلتات والمسوخ، حيث تنحرف الطبيعة، وتزيغ عن مسارها المعتاد، والفرق بين أغلاط الطبيعة وبين «الشواهد الفريدة» هو أن الشواهد الفريدة هي غرائب الأنواع بينما أغلاط الطبيعة هي غرائب الأفراد، غير أن الفائدة واحدة في الحالتين؛ لأنها تحصن العقل في مواجهة العادة (إذ تصوب الانطباعات الخاطئة التي تومئ بها الظواهر المعتادة إلى الذهن) وتكشف الصور المشتركة، هنا أيضا ينبغي علينا مواصلة البحث حتى نكتشف سبب الانحراف، إلا أن هذا السبب لا يرقى إلى أن يكون صورة، بل فقط إلى «العملية الكامنة» التي تؤدي بنا إلى الصورة، إن من يعرف طرائق الطبيعة قمين أيضا أن يميز الانحرافات بسهولة أكبر، وفي المقابل من يميز الانحرافات قمين أن يقف على الطرائق على نحو أدق.
وهي أيضا تختلف عن الشواهد الفريدة في أنها تقدم عونا أكبر للجانب العملي والتطبيقي، فأن ننتج أنواعا جديدة ذلك أمر شديد الصعوبة، وأيسر من ذلك بكثير أن ننوع في الأنواع المعروفة فننتج بذلك كثيرا من الأشياء النادرة وغير المألوفة،
39
إنه انتقال سهل من غرائب الطبيعة إلى غرائب الفن، فما إن تلاحظ إحدى الطبائع في تنوعها، ويعرف سبب ذلك بوضوح، حتى يتسنى لنا أن نوجد تلك الطبيعة بواسطة الفن بنفس الدرجة التي وصلت إليها بواسطة المصادفة، لا في حالة واحدة فحسب، بل في غيرها أيضا، فالأغلاط في جانب ما تكشف وتميط اللثام عن الأغلاط والانحرافات في جميع الجوانب، لا حاجة هنا إلى أمثلة كثيرة جدا، فإن علينا أن نضع مجموعة أو تاريخا طبيعيا خاصا لجميع الشوهات والنواتج المعجزة للطبيعة، ولكل جدة أو ندرة أو شذوذ في الطبيعة، على أن نتخذ في ذلك أشد درجات الحذر حتى نضمن المصداقية، وسوف نشك - بصفة خاصة - في الأشياء التي تعتمد على الديانة بأي شكل من الأشكال، مثل المعجزات عند ليفي
Livy ،
40
ومثل ما نجده عند المؤلفين في السحر الطبيعي أو الخيمياء ومن على هذه الشاكلة من أولئك المشغوفين بالحكايات الخرافية، فالحقائق إنما ينبغي أن تلتمس في تاريخ رصين وأمين وفي روايات موثقة. ••• (30) في المرتبة التاسعة من شواهد الامتياز سأضع «الشواهد الحدية»
borderline instances
41
التي أسميتها أيضا «شواهد المشاركة»
instances of sharing ،
42
وهي الشواهد التي تعرض تلك الأنواع من الأجسام التي تبدو مركبة من نوعين أو من عنصرين، أو تبدو بداءات بين نوع وآخر، قد تعتبر هذه الشواهد بحق شواهد فريدة أو غير قياسية (شاذة)، من حيث إنها نادرة أو غير معتادة في المخطط الشامل للأشياء، إلا أنها ينبغي أن تصنف وتعرض على حدة، وذلك لقيمتها الخاصة؛ فهي مؤشرات ممتازة لتركيب الأشياء وبنيتها، وهي تشير إلى أسباب عدد ونوعية الأنواع المطردة في العالم، وتقود الذهن مما هو كائن إلى ما هو ممكن.
من أمثلة ذلك: الطحلب
43
الذي يقع بين العفن والنبات، بعض المذنبات بين النجوم والشهب المتوهجة، الأسماك الطائرة
44
بين الطيور والأسماك، الخفافيش
45
بين الطيور وذوات الأربع، و«القرد، ذلك المخلوق المنفر، كيف يشبهنا؟»
46
والنسل الحيواني الهجين والأنواع المزيجة وما إلى ذلك. ••• (31) في المرتبة العاشرة من شواهد الامتياز سأضع «شواهد القوة»
instances of power
47
أو «شواهد الصولجان»
instances of scepter (مستعيرا اللفظ من شارات الملك)، والتي أسميها أيضا «شواهد فطنة الإنسان أو أدواته (يديه)»، وهي الأعمال الأنبل والأكمل، والروائع في كل فن، فلما كان هدفنا الرئيسي هو أن نجعل الطبيعة تسهم في خدمة الشئون والمصالح البشرية، فإن الخطوة الأولى تجاه هذه الغاية هي أن نسجل ونعدد الأعمال التي في قدرة الإنسان من الأصل (الأقاليم المحتلة والمخضعة من الأصل)، وبخاصة تلك الأعمال الأكثر رهافة وكمالا؛ لأنها تقدم الطريق الأيسر والأسرع إلى أشياء جديدة لم تكتشف بعد، فإذا ما تأملها المرء بدقة ثم بذل جهدا دءوبا ومتصلا، فلا ريب أنه إما أن يطورها بعض الشيء وإما أن يطور شيئا ما قريب الصلة بها، بل قد يطبقها وينتقل بها إلى غاية أرفع.
ليست هذه نهاية المطاف، فمثلما أن أعمال الطبيعة النادرة وغير العادية تحفز الذهن لكي يبحث ويكتشف أيضا الصور التي تشملها ، كذلك تفعل الأعمال الفنية الرائعة والمدهشة، بل تفعل ذلك بدرجة أكبر؛ لأن طريقة خلق وتشييد هذه العجائب الفنية واضحة في أغلب الحالات، في حين أن غرائب الطبيعة غامضة في الأغلب الأعم، ولكن علينا هنا أيضا أن نتوخى الحذر كله؛ لئلا ندعها تثبط العقل وتقيده إلى الأرض.
فثمة خطر بأن مثل هذه الأعمال الفنية - التي تبدو أشبه بقمم السعي البشري وذراه - قد تذهل الفكر وتقيده وتنفث فيه سحرها الخاص فلا يعود قادرا على تناول أي شيء آخر، بل سيظن أن ليس بوسعه عمل شيء من هذا النوع إلا بنفس الطريقة التي عملت بها هذه الروائع، ربما بجهد أكبر بعض الشيء أو بإعداد أدق.
أما الشيء المؤكد فهو على العكس من ذلك، فقلما تجدينا الطرق والوسائل المكتشفة حتى الآن والمعروفة لإنتاج أي شيء أو عمل، وإنما يعتمد التأثير الحقيقي على الصور ويستمد من مصادرها، ولا شيء من ذلك تم اكتشافه حتى الآن.
ولذا (مثلما قلت سابقا) فليس بوسع من يتأمل آلات القدماء ومنجنيقهم أن يخلص إلى اختراع مدفع يعمل بالبارود مهما أخلص السعي، وحتى لو قضى فيه عمره كله، ولا هو بوسع من قصر أفكاره وملاحظاته على أعمال الصوف والقطن أن يكتشف بهذه الوسيلة طبيعة دودة القز أو الحرير المستمد منها.
هكذا (لو تفكرت) يتبين أن كل ما يمكن أن يعد اختراعا عظيما إنما أتى إلى الوجود بمحض الصدفة، وليس من خلال تطوير قليل أو توسع في الفنون، يستغرق إنجاز الصدفة قرونا لكي يواتي، ولا شيء يأتي بتلك المخترعات أسرع من ذلك إلا اكتشاف الصور.
لسنا بحاجة إلى تقديم أمثلة على تلك الشواهد لأنها كثيرة جدا، أما الذي نحتاج إليه مسيس الحاجة فهو أن نقيم مسحا دقيقا وفحصا لجميع الفنون الميكانيكية والفنون الحرة أيضا (بقدر ما تتناول تطبيقات عملية)، ثم نقيم تصنيفا أو تاريخا خاصا للإنجازات الكبرى والروائع العظيمة والأعمال المكتملة في كل فن، ونرفق بها المنهج المتبع في تنفيذها.
غير أني لا أقصر الجهد الذي علينا بذله في هذا التصنيف على ما يعد روائع وأسرارا في كل فن، والتي تثير الدهشة، فالدهشة بنت الندرة، فالشيء النادر يثير الدهشة دائما حتى لو كان مركبا من طبائع عادية، على حين أن الأشياء التي تستدعي الدهشة حقا بسبب فرق محدد يميزها عن الأنواع الأخرى قلما تلفت النظر ما دمنا نألفها حولنا في استخدامنا الشائع. إن علينا أن نلتفت إلى «الشواهد الفريدة» في الفن بالإضافة إلى الشواهد الفريدة في الطبيعة كما قلنا آنفا، ومثلما أدرجنا الشمس والقمر والمغناطيس ... إلخ بين الشواهد الفريدة في الطبيعة وإن كانت على فرادتها مألوفة لنا تماما، كذلك ينبغي أن نفعل الشيء نفسه تجاه «الشواهد الفريدة» في الفن.
الورق على سبيل المثال، ذلك الشيء المألوف تماما، هو «شاهد فريد» للفن، فأنت إذا أنعمت النظر في الموضوع فستجد أن المواد الصناعية هي إما منسوجة من خيوط عرضية وطولية كالقماش المصنوع من الحرير أو الصوف أو الكتان ... إلخ، وإما مصنوعة من سوائل مجففة من قبيل القرميد أو الخزف أو الزجاج أو المينا أو الصيني ... إلخ، وهي قابلة للصقل إذا أدمجت، فإذا لم تدمج تصير صلبة دون أن تصقل. إن كل ما هو مصنوع من سوائل مجففة هو شيء هش وليس دبقا أو متماسكا، ورغم ذلك فإن الورق مادة متماسكة يمكن أن تقطع وتمزق، فتحاكي وتكاد تنافس جلد الحيوان أو أغشيته أو ورق النبات، وما إلى ذلك من النواتج الطبيعية، وهو ليس هشا كالزجاج ولا منسوجا كالقماش، وله بالتأكيد ألياف ولكن ليس له خيوط محددة، شأنه شأن المواد الطبيعية تماما؛ ولذا فالورق لا يشبه المواد الصناعية الأخرى من قريب أو بعيد، وإنما هو فريد كل الفرادة، ومن المؤكد أن الضروب الأفضل من المواد الصناعية هي إما تلك التي تحاكي الطبيعة محاكاة وثيقة، وإما تلك التي تهيمن عليها وتغير مسارها.
مرة ثانية، بين شواهد فطن الإنسان ويديه يجب ألا نستهين بالخدع والألعاب السحرية، فرغم أنها تلهيات عابثة وغير ذات جدوى، إلا أنها قد تقدم معلومات ذات قيمة.
وأخيرا فإن مسائل الخرافة والسحر (بالمعنى الشائع للكلمة ) ينبغي ألا نغفلها كليا، فمثل هذه الأشياء مطمورة عميقا تحت ركام هائل من الزيف والخرافات، ولكن يظل على المرء أن ينظر فيها قليلا ليرى هل ثمة عملية طبيعية ما تقبع كامنة في أي منها، مثلما هو الحال في الرقى وفي تقوية الخيال وتوافق الأشياء عن بعد، وانتقال الانطباعات من روح لروح مثلما تنتقل من جسم لجسم وما إلى ذلك. ••• (32) من الواضح مما قيل أن الفئات الخمس الأخيرة من الشواهد (أي شواهد التشابه والشواهد الفريدة وشواهد الانحراف والشواهد الحدية وشواهد القوة) ينبغي ألا ترجأ حتى نكون بصدد بحث طبيعة معينة (مثلما ينبغي للشواهد الأخرى التي وضعتها أولا وأغلب الشواهد التي تليها) بل ينبغي البدء فورا بمجموعة منها كنوع من التاريخ الخاص؛ لأنها تساعد على تنظيم المادة التي تدخل الذهن، وتصوب عادته الفاسدة، إذ إنه بالضرورة مشرب بالانطباعات اليومية والاعتيادية ومفسد بها ومنحرف ومشوه.
علينا أن نستخدم هذه الشواهد كإعداد مبدئي لتصويب الذهن وتطهيره، فكل ما يصرف الذهن عن الأشياء المعتادة من شأنه أن يسوي ويصقل سطحه لتلقي الضياء الصريح الصافي للأفكار الصادقة.
مثل هذه الشواهد أيضا تمهد وتعبد الطريق الذي يؤدي إلى تطبيق عملي، كما سوف يتبين في موضعه عندما أعرض للحديث عن الاستنباطات المؤدية إلى ممارسة عملية (الاستنباطات العملية).
48 ••• (33) في المرتبة الحادية عشرة من شواهد الامتياز سأضع «شواهد الصحبة والعداء»
instances of accompanying and enmity
49
التي أسميتها أيضا «شواهد القضايا الثابتة»
instances of unchanging propositions ، وهي الشواهد التي تعرض جوهرا أو شيئا عيانيا فيه تكون الطبيعة محل البحث: إما حاضرة على الدوام كالرفيق اللصيق، وإما منسحبة دائما ومستبعدة من الارتباط كالعدو أو الخصم، ونحن على أساس هذه الشواهد نكون قضايا كلية يقينية إما موجبة وإما سالبة، سيكون فيها الموضوع جسما عينيا ويكون المحمول هو الطبيعة نفسها محل البحث؛ ذلك أن القضايا الجزئية ليست ثابتة على الإطلاق، إنها قضايا نجد فيها الطبيعة المقصودة سائلة غير ثابتة في شيء عيني، أي إنها طبيعة مقتربة أو مكتسبة، أو على النقيض مبتعدة أو منفصلة، وهكذا فالقضايا الجزئية ليس لها امتياز كبير إلا في حالة «الانتقال» التي عرضنا لها آنفا، ورغم ذلك فحتى القضايا الجزئية تكون ذات قيمة عندما توازن وتقارن بالقضايا الكلية، كما سوف أبين في موضعه، ولكن حتى في القضايا الكلية نحن لا نتطلب الإثبات أو النفي التام والمطلق، ويكفي لغرضنا أن تتيح استثناء ما فريدا أو نادرا.
بذا تكون وظيفة «شواهد الصحبة» هي تضييق مجال الموجب (الإثبات)، فمثلما تضيق «شواهد الانتقال» مجال الموجب بحيث تكون الصورة هي شيء يقبل أو يرفض بواسطة فعل الانتقال، كذلك تضيقه «شواهد الصحبة» حيث يتعين علينا أن نميز الصورة كشيء يدخل في تركيب هذا الجسم أو - على العكس - يأبى أن يدخل، بذا يصبح كل من هو على إلف بتركيب أو هيئة هذا الجسم قريبا من تسليط الضوء على صورة الطبيعة محل البحث.
افترض على سبيل المثال أن الطبيعة المطلوبة هي الحرارة، إن «شاهد الصحبة» هنا هو اللهب، ففي الماء والهواء والحجر والمعدن ومعظم الأشياء الأخرى تتباين الحرارة، ويمكن أن تأتي وأن تذهب، أما اللهب فكله حار، فالحرارة تصحب تكوين اللهب، وليس ثمة «شاهد عداء» (أو نفور) للحرارة في خبرتنا، ليست لدينا خبرة حسية بأحشاء الأرض، ولكننا لا نعرف بين جميع الأجسام تكوينا واحدا غير قابل للحرارة.
أو افترض أن الطبيعة المطلوبة هي الصلابة، فشاهد العداء هو الهواء، فالمعدن قد يكون منصهرا وقد يكون صلبا وكذلك الزجاج، وحتى الماء قد يكون صلبا وذلك عندما يتجمد، إلا أن من المحال دائما أن يتصلب الهواء أو يفقد سيولته.
50
يبقى هناك تحذيران حول «شواهد القضايا الثابتة» يتصلان بهذا العرض؛ أولا: إذا لم يكن ثمة أي قضية كلية مطلقة - موجبة أو سالبة - فإن علينا أن نسجل بعناية تلك الحقيقة الواقعة ذاتها كشيء غير موجود، تماما مثلما فعلنا في حالة الحرارة، حيث السالب الكلي (في حدود خبرتنا) غير قائم في الطبيعة، وبالمثل إذا كانت الطبيعة محل البحث أبدية أو غير قابلة للفساد فإن الموجب الكلي غير متاح في خبرتنا، فالأبدية وعدم القابلية للفساد لا يمكن أن يحملا على أي جسم يقع تحت سمائنا وفوق أحشاء أرضنا، والتحذير الثاني هو أن القضايا الكلية - السالبة والموجبة كلتيهما - عن الشيء العياني لها أشياء عيانية مرتبطة بها تقترب، فيما يبدو، من العدم (الجواهر غير الموجودة)، مثال ذلك: في حالة الحرارة اللهب الفائق اللطف والأقل إحراقا، وفي حالة عدم القابلية للفساد: الذهب، فهو أقرب شيء إلى ذلك؛ كل هذه الأشياء تشير إلى التخوم الطبيعية بين الوجود والعدم، وتفيد في تحديد حدود الصور فلا تنتفخ وتضل وراء شروط المادة. ••• (34) وفي المرتبة الثانية عشرة من شواهد الامتياز سأضع تلك «الشواهد الإضافية»
accessory instances
51
التي تحدثت عنها في الشذرة السابقة، والتي أسميتها أيضا «شواهد النهاية أو الشواهد النهائية»
instances of the end or terminal instances ، هذه الشواهد ليست مفيدة فحسب عندما ترتبط بالقضايا الثابتة، بل هي أيضا مفيدة في ذاتها ومفيدة بطبيعتها الخاصة؛ ذلك أنها تميز بوضوح الأقسام الحقيقية للطبيعة: مقاييس الأشياء، وإلى أي حد في كل حالة يمكن للطبيعة أن تفعل (أي شيء) أو تنفعل، ثم الانتقال من طبيعة إلى طبيعة أخرى، مثال ذلك: في الثقل الذهب، وفي الصلابة الحديد، والحوت في حجم الحيوان، والكلب في الشم، ولهب البارود في سرعة التمدد ... إلخ، وهي شواهد تبين الدرجات النهائية في قاع المقياس مثلما تبينه في قمته، كشأن الكحول في الوزن، والحرير في النعومة، ودويدة الجلد في حجم الحيوان ... إلخ. ••• (35) وفي المرتبة الثالثة عشرة من شواهد الامتياز سأضع «شواهد التحالف أو الاتحاد»
instances of alliance or of union ،
52
وهي الشواهد التي تصهر وتوحد الطبائع التي تظن غير متجانسة وتدون وتدرج كذلك في التقسيمات السائدة.
تبين «شواهد التحالف» أن العمليات والتأثيرات المنسوبة إلى طبيعة ما قد تنتمي أيضا إلى طبائع متباينة أخرى، وأن هذا التباين يتكشف أنه غير حقيقي أو جوهري بل مجرد تعديل لطبيعة عامة، وهي من ثم ذات نفع عظيم في العلو والارتفاع بالعقل من الفروق إلى «العموميات»
genera ، وفي التخلص من الأوهام والصور الزائفة للأشياء كما تصادفنا متخفية في مواد عيانية.
افترض على سبيل المثال أن الطبيعة محل البحث هي «الحرارة»، ثمة - فيما يبدو - تمييز معتاد ومصدق بين ثلاثة أنواع من الحرارة: حرارة الأجرام السماوية وحرارة الحيوانات وحرارة النار، هذه الأنواع (وبخاصة أحدها بالمقارنة بالاثنين الآخرين) مختلفة ومتباينة تماما في ماهيتها وجنسها الحقيقيين أو في طبيعتها الخاصة، فحرارة الأجرام السماوية والحيوانات تخلق وتغذو، بينما حرارة النار تفسد وتدمر؛ لذا فمن «شواهد التحالف» تلك الخبرة الشائعة جدا من إحضار فرع من الكرم إلى منزل لا تخبو النار في مدفأته، فينضج عنبه سابقا الخارج بشهر، بوسع المرء إذن أن يسرع نضج الفاكهة حتى إذا كانت مدلاة على الشجرة، وذلك باستخدام نار، وإن كان ذلك - فيما يبدو - هو التأثير الخاص للشمس، من هذه البداية يشرع العقل في رفض وجود تباين جوهري، ويرتقي للتو إلى بحث أي فروق حقيقية توجد بين حرارة الشمس وحرارة النار فتجعل عمليهما جد متباينين رغم اشتراكهما في طبيعة عامة.
سيتبين أن الفروق هي أربعة: (1)
حرارة الشمس أخف وألطف درجة بكثير بالمقارنة بحرارة النار. (2)
وهي أرطب بكثير من حيث النوعية (على الأقل كما تصلنا خلال الهواء). (3) (وهذا هو الفرق الرئيسي) أنها متفاوتة للغاية، تعلو وتزداد ثم تهبط وتقل، الأمر الذي يسهم إسهاما كبيرا في تكوين الأجسام، وقد صدق أرسطو حين قال بأن السبب الرئيسي لكون الأشياء وفسادها هنا على سطح الأرض هو المسار المائل للشمس خلال دائرة البروج
Zodiac ، والذي ينتج عنه التفاوت الغريب في حرارة الشمس، بتغير النهار والليل من جانب، وبتعاقب الصيف والشتاء من جانب، إلا أن أرسطو سرعان ما أفسد وحرف ما أصاب في اكتشافه، فهو بصفته حكما على الطبيعة فقد قرر جازما أن اقتراب الشمس هو سبب الكون، وابتعادها سبب الفساد، بينما الصواب أن كليهما - الاقتراب والابتعاد - هما سبب الكون والفساد دون تفرقة ودون تتابع، إذ إن تفاوت الحرارة يخدم الكون والفساد، بينما تساوي الحرارة يخدم الحفظ فقط. (4)
هناك أيضا فرق رابع بين حرارة الشمس وحرارة النار، وهو فرق ذو دلالة هائلة، فالشمس تنشر عملياتها خلال آماد طويلة من الزمن، بينما عمليات النار (بإلحاح من عجلة الإنسان) تحمل على أن تنتج أثرا في فترة قصيرة نسبيا، ومع ذلك فبوسع المرء أن يراعي بدأب أن يتحكم في حرارة لهب ويخفضه إلى درجة خفيفة ومعتدلة (وهناك طرق كثيرة لذلك)، وبوسعه أيضا أن يرد رطوبة ويمزجها بها، وبوسعه خاصة أن يحاكي تفاوت حرارة الشمس، ثم أن يصبر على الوقت الذي تأخذه (لن يكون طويلا كالوقت الذي تستغرقه عمليات الشمس، ولكنه أطول على كل حال مما دأب الناس على أخذه في استعمالات النار)، إذا فعل المرء كل ذلك فسوف يطرح بسهولة فكرة عدم تجانس الحرارة، وسوف يقترب - باستخدام حرارة النار - من عمليات الشمس أو يتساوى معها، وربما يفوقها في بعض الحالات، ثمة «شاهد تحالف» مماثل، وهو عملية إنعاش الفراش المدوخ ونصف المقتول بالبرد بقليل من التدفئة من اللهب، بوسعك في هذا الشاهد أن ترى بسهولة أن النار تنعش حياة الحيوانات مثلما هي تنضج النباتات، كذلك من الواضح أن اختراع فراكاسترو
Fracastoro
الشهير للوعاء المسخن (الذي يحجم
53
به الأطباء رءوس ضحايا السكتة الدماغية الميئوس من حالاتهم) يمدد أرواح الحيوان التي أخمدتها وأطفأتها تقريبا أمزجة الدماغ وانسداداته، وتحفزها إلى النشاط، إنها تعمل كما تعمل النار على الماء أو الهواء، إلا أن لها أثر استعادة الحياة، والبيض أيضا قد يفقس بواسطة حرارة النار، في محاكاة مباشرة لحرارة الحيوان، وهناك شواهد أخرى عديدة من هذا القبيل، بحيث لا تدع لأحد مجالا للشك في أن حرارة النار - في موضوعات كثيرة - يمكن أن تلطف لتكون شكلا من حرارة الأجرام السماوية أو حرارة الحيوانات.
وبالمثل، افترض أن الطبيعتين المطلوبتين هما الحركة والسكون، ثمة - فيما يبدو - تقسيم شائع هو أيضا مستمد من قلب الفلسفة، يفيد أن الأجسام الطبيعية إما تدور وإما تتحرك في خط مستقيم وإما تقف وتبقى في سكون، فثمة إما حركة بغير نهاية، وإما سكون في نهاية، وإما حركة تجاه نهاية، يبدو أن الحركة الدائرية الدائمة تخص الأجرام السماوية، وأن المكوث أو السكون يخص كوكب الأرض نفسه، ولكن الأجسام الأخرى التي ينعتونها بالثقل والخفة - أي الأجسام التي هي خارج أماكنها الطبيعية - تتحرك في خط مستقيم تجاه محيط السماء، والأجسام الثقيلة إلى أسفل تجاه الأرض، كل هذا كلام جميل.
والمذنب المنخفض هو «شاهد تحالف»، ورغم أنه أخفض من السماء بكثير فإنه يدور، وقد تم منذ زمن طويل تكذيب الخيال الأرسطي القائل بأن المذنب مربوط بنجم معين أو تابع لنجم معين، ليس فقط لأن تفسيره غير محتمل، بل بسبب الحقيقة الملاحظة لحركة المذنبات الهائمة وغير المنتظمة خلال مناطق مختلفة من السماء.
وشاهد تحالف آخر هو حركة الهواء، الذي يبدو أنه يدور من الشرق إلى الغرب داخل المنطقة الاستوائية (حيث حلقات الدوران أكبر).
وشاهد آخر هو جزر البحر ومده، شريطة أن تكون المياه نفسها قد شوهدت تتحرك بحركة دائرية (وإن تكن بطيئة وصعبة الملاحظة) من الشرق إلى الغرب، ولكن بحيث تنحسر مرتين في اليوم، فإذا كان الأمر كذلك لتبين أن الحركة الدائرية غير مقصورة على السماء، بل يشارك فيها الهواء والماء.
وحتى تلك الخاصية للمواد الخفيفة - أي ميلها للحركة إلى أعلى - هي خاصية متفاوتة بعض الشيء، خذ مثلا فقاعة الماء كشاهد تحالف في هذه الحالة، فإذا كان الهواء تحت الماء فإنه يرتفع بسرعة تجاه سطحه بواسطة الحركة اللاكمة (كما يسميها ديمقريطس) التي يضرب بها الماء الهابط الهواء ويرفعه إلى أعلى، وليس بواسطة سعي أو جهد من جانب الهواء نفسه، وحال وصول الهواء إلى سطح الماء تمنعه من الصعود أكثر تلك المقاومة الهينة التي يجدها في الماء الذي لا يسمح بالانفصال الفوري لأجزائه، وهكذا فميل الهواء نفسه للصعود لا بد أنه ميل ضئيل جدا.
افترض أيضا أن الطبيعة المقصودة هي الثقل، إن من التمييزات المقبولة تماما أن الأشياء الكثيفة الصلبة تميل إلى الاتجاه نحو مركز الأرض، بينما تميل الأشياء الخفيفة القليلة الكثافة إلى الاتجاه نحو محيط السماء ... أي إلى أماكنها الصحيحة، أما عن الأماكن فمن العبث والطفولية أن نعتقد (وإن كان مثل هذا النوع من الأفكار منتشرا في المدارس) أن المكان له أي تأثير على الإطلاق؛ لذا فإن الفلاسفة يهرفون إذ يقولون: إنه إذا ثقبت الأرض فإن الأجسام الثقيلة سوف تتوقف عندما تصل إلى مركز الأرض. إنه ليكون ضربا غريبا حقا من العدم المؤثر أو النقطة الرياضية المؤثرة، هذا المركز إذا كان يؤثر على الأجسام أو تسعى إليه الأجسام! فالجسم لا يؤثر عليه إلا جسم، أما الميل إلى الحركة إلى أعلى أو إلى أسفل فهو يعتمد إما على بنية الجسم المتحرك وإما على تجانسه أو توافقه مع جسم آخر، فإذا ما وجد أي جسم هو كثيف وصلب ولكنه لا يميل إلى الحركة تجاه الأرض فإن هذا التمييز يتقوض، أما إذا قبلنا رأي جلبرت بأن القوة المغناطيسية للأرض الجاذبة للأشياء الثقيلة لا تتجاوز نطاقها الخاص (الذي يمتد دائما إلى حد معين ولا يتخطاه)،
54
وإذا ثبت ذلك بشاهد ما، فسيكون هذا الشاهد أحد «شواهد التحالف» في هذا الموضوع، إلا أنه لم يقع تحت الملاحظة شاهد مؤكد وواضح على هذه النقطة حتى الآن، وأقرب الأشياء إليه - فيما يبدو - هو أعمدة الماء التي كثيرا ما يشاهدها المسافرون خلال المحيط الأطلنطي إلى أي من الهندين. إن كتلة وقوة الماء المدفوع فجأة بهذه الأعمدة تبدو هائلة بحيث تنم عن تراكم مسبق للماء الذي يبقى ثابتا حيث تكون، حتى يحمله على السقوط فيما بعد سبب ما عنيف غير الحركة الطبيعية لثقله، ومن ثم فقد يخمن المرء بأن كتلة فيزيقية كثيفة ومدمجة على مسافة كبيرة من الأرض ستظل معلقة كالأرض نفسها ولن تسقط ما لم تحمل على السقوط، غير أني هنا لا أدعي أمرا يقينيا، وفي هذا وكثير غيره سنرى بوضوح كم نحن معوزون في التاريخ الطبيعي، ما دمنا نضطر أحيانا إلى تقديم افتراضات بدلا من تقديم شواهد أكيدة.
افترض كذلك أن الطبيعة المقصودة هي إعمال العقل، إن التمييز بين عقل الإنسان وغريزة الحيوان يبدو صائبا تماما، غير أنه في بعض الأحيان تومئ أفعال الحيوانات إلى أنها تمر خلال سلسلة من الاستدلال: يحكى أن غرابا اشتد عليه العطش في قحط عظيم حتى كاد يقتله، فلمح بعض الماء في جذع شجرة أجوف، ولما كان الجذع أضيق من أن ينفذ فيه، فقد جعل يسقط حصوات في التجويف الواحدة تلو الأخرى لكي يرتفع منسوب الماء فيتمكن من الشرب، وقد جرى ذلك فيما بعد مجرى الأمثال.
55
وافترض أيضا أن الطبيعة المقصودة هي الرؤية، ثمة تمييز يبدو حقا ويقينا تماما بين الضوء وهو المرئي الأصلي والمصدر الأولي للإبصار، وبين اللون وهو مرئي ثانوي ولا يبصر بغير الضوء، ومن ثم يبدو أنه مجرد صورة أو تعديل للضوء لا أكثر، إلا أن هناك - فيما يبدو - «شواهد تحالف» في ذلك لكلا الجانبين: الجليد بكميات كبيرة، ولهب الكبريت، يظهر في أحدهما أن هناك لونا يصير ضوءا، وفي الآخر أن هناك ضوءا ينحدر تجاه اللون.
56 ••• (36) وبين شواهد الامتياز سأضع في المرتبة الرابعة عشرة «الشواهد الصليبية»
crucial instances ،
57
مستعيرا اللفظة من المشيرات الإصبعية التي تنصب عند مفارق الطرق؛ لكي تشير إلى الاتجاهات المختلفة، وقد أسميتها أيضا «الشواهد الفاصلة»
decisive instances
و«القاضية»
judicial ، وفي بعض الحالات أسميها «الشواهد النبوئية»
oracular
أو «الآمرة»
commanding ، وتعمل طبيعتها كما يلي: في بحثه عن طبيعة ما قد يقر الذهن في محله ولا يمكنه أن يقرر إلى أي من طبيعتين (أو أكثر) ينبغي أن يعزو سبب الطبيعة محل البحث؛ إذ إن طبائع كثيرة تقع معا في العادة، هناك تنهض الشواهد الفاصلة بتبيان أن تصاحب إحدى الطبائع مع الطبيعة محل البحث هو تصاحب دائم لا انفصام له، بينما تصاحب الأخرى متقطع وغير دائم، من شأن ذلك أن يحسم البحث فتؤخذ الأولى على أنها السبب بينما ترد الثانية وترفض، بذلك يقدم هذا النوع من الشواهد ضوءا كثيفا وسلطانا عظيما بحيث ينتهي ويتم فيها مسار التفسير. قد تقع الشواهد الفاصلة ببساطة إذ توجد بين شواهد مألوفة طويلة العهد، إلا أنها - في الأغلب - تكون جديدة ومستخدمة عمدا ومطبقة خصيصا، وتتطلب دأبا واجتهادا للكشف عنها.
افترض مثلا أن الطبيعة محل البحث هي الجزر والمد المتكرر مرتين في اليوم - أي ست ساعات لكل مجيء وذهاب - مع بعض التفاوت وفقا لحركات القمر، وفيما يلي حالة من حالات افتراق الطرق.
هذه الحركة لا بد أن تكون مسببة إما عن حركة الماء جيئة وذهابا مثل الماء الذي يتخبط في حوض فيترك جانبا من الحوض عندما يغطي الجانب الآخر، وإما عن ارتفاع ماء البحر من القاع ثم هبوطه مرة ثانية مثل الماء الغالي، ولكن المرء في شك: إلى أي من هذين السببين يعزو الجزر والمد، إذا قبلنا الأول لترتب أنه عندما يكون هناك مد على جانب من البحر لتعين أن يكون هناك في الوقت نفسه جزر في مكان ما على الجانب الآخر؛ لذا فهذا هو الشكل الذي سيتخذه البحث، ولكن أكوستا
Acosta
وكثيرين غيره قد لاحظوا (بعد بحث دقيق) أن هناك مدا عاليا في الوقت نفسه على شواطئ فلوريدا وعلى الشواطئ المقابلة لها لإسبانيا وأفريقيا، وكذلك يوجد جزر خفيض في الوقت نفسه، وليس العكس، أي ليس هناك جزر خفيض بشواطئ إسبانيا وأفريقيا عندما يكون هناك مد عال بشواطئ فلوريدا، ورغم ذلك فإذا أنعمت النظر في ذلك لوجدت أنه لا يبرهن على حركة صاعدة ولا يفند حركة أمامية، فمن الجائز أن يحدث أن تتحرك المياه قدما بينما تغمر كلا الشاطئين بمدة ماء في الوقت نفسه، بمعنى أن تلك المياه معرضة لقوة وضغط من اتجاه آخر، مثلما يحدث في الأنهار، حيث يحدث المد والجزر على كلتا الضفتين في الوقت نفسه رغم أن الحركة أمامية بشكل واضح، حركة المياه الداخلة إلى فم النهر من البحر؛ لذا فمن الممكن بالمثل أن تدفع مياه آتية بكتلة كبيرة من المحيط الهندي الشرقي وتنغمد في حوض البحر الأطلنطي، وبذلك تغمر كلا الجانبين في الوقت نفسه، علينا من ثم أن نسأل ما إذا كان هناك حوض آخر يمكن للمياه من خلاله أن تفيض وتنحسر في الوقت نفسه، وهناك المحيط الجنوبي الذي يطرح نفسه للتو، والذي لا يقل عن المحيط الأطلنطي، بل هو أعرض وأوسع مما هو مطلوب لهذا الأثر.
ها نحن أولاء قد وصلنا إلى «المثال الفاصل» في هذا الموضوع، إذا ما تبين على اليقين أنه عندما يكون هناك مد عال في الشاطئين المتقابلين لكل من فلوريدا وإسبانيا في المحيط الأطلنطي، هناك في الوقت نفسه مد عال في شواطئ بيرو وقرب البر الرئيسي للصين في البحر الجنوبي؛ لوجب علينا إذن بهذا «الشاهد الفاصل» أن نرفض القول بأن المد والجزر (موضوع البحث) يحدث بحركة أمامية، فليس ثمة بعد أي بحر أو مكان آخر حيث يمكن أن يكون ثمة انحسار أو جزر في الوقت نفسه، ويمكن أن نعرف ذلك على نحو مريح للغاية إذا ما سئل سكان بنما وليما (حيث المحيطان الأطلنطي والجنوبي يفصلهما برزخ صغير) عما إذا كان المد والجزر على جانبي البرزخ يحدثان في الوقت نفسه أم العكس هو ما يحدث، أي إن المد يكون على جانب عندما يكون الجزر على الجانب الآخر، هذا الحكم أو الرفض يبدو يقينيا إذا سلمنا بأن الأرض ثابتة، أما إذا كانت الأرض تدور فربما يكون الحال هو أن دوران الأرض ودوران مياه البحر غير متساويين (في السرعة والقوة)، فيترتب على ذلك ضغط عنيف يدفع المياه إلى أعلى في كومة والتي هي المد العالي، يعقبه سقوط المياه (عندما لا يسعها أن تظل مكومة) والذي هو الجزر، يتطلب هذا بحثا منفصلا، ولكن بناء على هذا الافتراض يظل صائبا بالمثل أنه يتعين أن يكون هناك جزر في مكان ما في الوقت ذاته الذي يوجد فيه مد عال في أماكن أخرى.
افترض أيضا أن الطبيعة محل البحث هي الحركة الثانية من الحركتين اللتين افترضناهما، أي حركة البحر ارتفاعا وهبوطا، إذا رفضنا بالفعل - بعد تفحص دقيق - الحركة الأمامية، فسيكون لدينا عندئذ تفرع ثلاثي في الطريق: فالحركة التي ترتفع بها المياه وتهبط في جزرها ومدها دون إضافة مياه أخرى تتدفق فيها، تمضي بالضرورة بطريقة من ثلاث طرق، فقد تتسبب من أن كتلة عظيمة من الماء تنفجر إلى أعلى من جوف الأرض ثم تغطس فيه مرة ثانية، أو من أن كمية الماء ثابتة بلا زيادة، ولكن هذه المياه نفسها تمد أو ترقق بحيث تشغل مكانا وبعدا أكبر، ثم تنكمش بعد ذلك، أو لأن الكمية والامتداد لا يزيدان ولكن المياه نفسها (هي هي من حيث الكم والكثافة والخفة) تعلو وتهبط بواسطة قوة مغناطيسية معينة من فوق تشدها وتجذبها من خلال الاتفاق،
58
ولندع جانبا الحركتين الأوليين ونقصر بحثنا (من فضلكم) على هذا الاحتمال الأخير، ولنجر البحث فيما إذا كان ثمة أي علو مثل هذا بالاتفاق أو بقوة مغناطيسية، فمن الواضح أولا أن المياه جميعا هي قابعة في خندق البحر أو قاعه لا يمكنها أن ترتفع معا في الوقت نفسه، إذ لن يكون هناك شيء يحل محلها في القاع، فإذا كان للماء أي ميل من هذا القبيل إلى الارتفاع فلسوف تصده قيود الطبيعة وتكبحه، أو (كما يقال) لكي تمنع حدوث فراغ، ولا يبقى إلا تفسير واحد، وهو أن المياه تعلو في مكان، ولهذا السبب تهبط وتنحسر في مكان آخر. والحق أنه سوف يترتب على ذلك بالضرورة أنه ما دامت القوة المغناطيسية لا يمكن أن تعمل على الكل، فإنها تعمل بشدة أكبر على المركز فترفع المياه في الوسط، وحين ترتفع المياه في الوسط تنحسر عن الأجناب وتتركها عارية مكشوفة.
59
ها نحن قد وصلنا أخيرا إلى «شاهد فاصل» في هذا الموضوع، إذا وجد أثناء الجزر يكون سطح المياه في البحر أكثر تقوسا واستدارة، إذ ترتفع المياه في وسط البحر وتنحسر في الأطراف وهي الشواطئ، وأنه أثناء المد يكون نفس السطح أكثر استواء وانبساطا إذ تعود المياه إلى وضعها السابق. يمكننا إذن بهذا «الشاهد الحاسم» أن نقبل بالتأكيد فكرة الارتفاع بواسطة القوة المغناطيسية، وإلا فإن علينا أن نرفضها كليا، وبميسورنا تبيان ذلك باستخدام خيوط سبر في المضايق، أي تبيان ما إذا كان الماء أعلى وأعمق تجاه مركز البحر أثناء الجزر مما هو أثناء المد، مع ملاحظة أنه إذا صح ذلك، فإن الحقيقة (على عكس ما يعتقد) هي أن المياه تعلو في الجزر ولا تهبط إلا في المد؛ كيما تغطي الشواطئ وتغمرها.
وافترض بالمثل أن الطبيعة محل البحث هي حركة الدوران التلقائية، وبخاصة ما إذا كانت الحركة اليومية التي تطلع بها الشمس والنجوم في نظرنا وتغور هي حركة دوران حقيقية في السماء أم هي حركة ظاهرية في السماء ولكنها حركة حقيقية في الأرض، قد يكون لدينا «شاهد فاصل» في هذا الموضوع كما يلي: إذا وجدنا في المحيط حركة من الشرق إلى الغرب مهما كان ضعفها وبطؤها، وإذا وجدنا نفس الحركة على نحو أسرع قليلا في الهواء، وبخاصة داخل المنطقة الاستوائية حيث يسهل رصدها لأن محيطها أكبر، وإذا وجدنا الحركة نفسها في المذنبات الدنيا، وهي الآن في هيئة قوية وحيوية، وإذا وجدنا الحركة نفسها في الكواكب، وإن على نحو محصص ومدرج بحيث كلما قصرت مسافتها من الأرض كانت أبطأ، وكلما بعدت كانت أسرع، وتكون أسرع ما تكون في سماء النجوم. إذن علينا بالتأكيد أن نعترف بحقيقة الحركة اليومية في السماء، وأن ننكر حركة الأرض، إذ سيكون واضحا أن الحركة من الشرق إلى الغرب تمضي خلال الكون وتقوم على توافق الكون كله، وأنها تبلغ أقصى سرعتها في أعالي السماء، وتخفت بدرجات حتى تهن وتتوقف في النقطة غير المتحركة، أي الأرض.
لنفترض أيضا أن الطبيعة محل الدراسة هي حركة الدوران الأخرى التي كثيرا ما تحدث عنها الفلكيون، وهي الحركة المقاومة والمضادة للحركة اليومية، أي الحركة من الغرب إلى الشرق، التي يعزوها الفلكيون القدامى إلى الكواكب وإلى سماء النجوم أيضا، ولكن كوبرنيقوس وتلاميذه يعزونها كذلك إلى الأرض، ولكن لنسأل: هل ثمة أي حركة من هذا القبيل في الطبيعة؟ أم هي بالأحرى شيء مختلق ومفترض من أجل اختصار الحساب وتيسيره، ومن أجل تلك الفكرة الجميلة التي تفسر الحركات السماوية بواسطة الدوائر التامة؟ فهذه الفكرة عن السماء لم يثبت بأي حال أنها صادقة أو حقيقية، لا بإخفاق كوكب في العودة في حركته اليومية إلى نفس النقطة من الكرة السماوية ولا بالتفاوت بين أقطاب دائرة البروج وأقطاب الأرض، وهما الشيئان اللذان شجعا فكرة هذه الحركة؛ فالظاهرة الأولى تفسر أفضل تفسير بافتراض أن النجوم الثابتة تسبق الكواكب وتتركها وراءها، والثانية بافتراض حركة في خطوط حلزونية، فيكون التفاوت في العودة والانحدار نحو المنطقة الاستوائية تعديلات للحركة اليومية الواحدة وليس حركات معاكسة أو حركات حول أقطاب مختلفة. إن من المؤكد تماما لو أننا اتخذنا للحظة وجهة نظر الإنسان العادي (ونفضنا يدنا من أوهام الفلكيين والمدرسيين الذين دأبوا على مناوأة الحس المشترك بلا داع، وشغفوا بكل ما هو مبهم) أن الحركة تبدو للحس المشترك كالذي وصفته، والذي مثلته مرة على هيئة آلة مكونة من أسلاك حديدية.
وبوسعنا أن نأخذ الشاهد التالي كشاهد فاصل في هذا الموضوع: إذا وجدنا في أي تاريخ ذي مصداقية أنه قد تأتى لأي مذنب - سواء كان مرتفعا أو منخفضا - ألا يدور في توافق ظاهر (وإن غير منتظم) مع الحركة اليومية بل في الاتجاه المعاكس، فبوسعنا عندئذ بقدر ما تسمح هذه الملاحظة أن نقرر إمكان مثل هذه الحركة في الطبيعة، أما إذا لم يوجد شيء من هذا فلا بد أن نعتبره محل شك، وأن نلجأ إلى شواهد فاصلة أخرى في هذا الأمر.
افترض أيضا أن الطبيعة محل البحث هي الوزن أو الثقل، هنا سيكون تفرع الطريق كما يلي، فالأشياء الثقيلة يتعين بالضرورة إما أن تميل بطبيعتها ذاتها تجاه مركز الأرض بسبب بنيتها الخاصة، وإما أن تشد وتجذب بواسطة الكتلة الفيزيقية للأرض نفسها، كاجتماع الأشياء الشبيهة، وتتحرك نحوها بالتوافق (
agreement/consensus )، ولكن إذا كان الثاني هو السبب لترتب عليه أنه كلما اقتربت الأشياء الثقيلة من الأرض كانت حركتها تجاهها أقوى وأعنف، وكلما ابتعدت عنها كانت حركتها أضعف وأبطأ (مثلما هو الحال مع الجذب المغناطيسي)، وأن هذا الفعل محصور في حدود معينة، فإذا ما كانت هذه الأشياء من البعد عن الأرض بحيث لا يمكنها أن تؤثر عليها، فسوف تبقى معلقة، مثل الأرض نفسها، ولن تسقط أبدا.
60
ولذا يمكن لما يلي أن يكون «شاهدا فاصلا» في هذه المسألة: خذ ساعة من تلك الساعات التي تتحرك بواسطة أثقال الرصاص، وساعة أخرى من تلك الساعات التي تتحرك بواسطة زنبرك من الحديد، وجربهما بدقة لتتأكد أن ليست إحداهما أسرع ولا أبطأ من الأخرى، ثم ضع الساعة التي تتحرك بالأثقال في قمة كنيسة شاهقة الارتفاع، واترك الأخرى أسفل، ثم لاحظ ما إذا كانت الساعة العليا تتحرك أبطأ لأن أثقالها صارت (بالارتفاع) أقل قوة، أجر نفس التجربة في قاع المناجم عميقا تحت الأرض؛ لترى ما إذا كانت ساعة من هذا القبيل لا تتحرك أسرع مما كانت لأن أثقالها صارت أشد قوة، فإذا وجدت أن قوة الأثقال تقل في الأعالي وتزيد تحت الأرض، فإن لك أن تأخذ الجذب من الكتلة الفيزيقية للأرض كسبب للثقل.
افترض كذلك أن الطبيعة محل البحث هي قطبية إبرة حديدية عندما تمس بالمغناطيس، سيتفرع الطريق إزاء هذه الطبيعة إلى فرعين كما يلي: إن لمس المغناطيس لا بد بالضرورة إما أنه يضفي من ذاته قطبية تجاه الشمال والجنوب على الإبرة، وإما أنه يحفز الحديد ويؤهله، بينما الحركة تتأتى من وجود الأرض، مثلما يعتقد جلبرت، ويحاول بكل جد أن يبرهن عليه؛ ولذا فإن كل ملاحظاته التي جمعها بدأب مستبصر تئول إلى هذا: (1) فالمسمار الحديدي الذي وضع زمنا طويلا في اتجاه الشمال والجنوب، يكتسب قطبية من هذه العادة دون أن يلمسه مغناطيس، كأنما الأرض ذاتها التي تعمل بضعف بسبب المسافة (إذ إن السطح أو القشرة الخارجية للأرض ليس لها - في رأيه - قوة مغناطيسية) تعمل رغم ذلك عمل المغناطيس إذا منحت زمنا كافيا، وتحفز الحديد وتحوله وتغيره. (2) إذا سخنت قطعة من الحديد حتى الاحمرار ثم بردت وهي في وضع الشمال/الجنوب، فهي أيضا تكتسب قطبية دون لمس مغناطيس، وكأنما أجزاء الحديد إذ تدفع إلى الحركة بالتسخين ثم تنكمش بعد ذلك بالتبريد، فإنها في اللحظة ذاتها التي تبرد فيها تكون أكثر قابلية وحساسية للقوة الصادرة من الأرض منها في اللحظات الأخرى، ومن ثم تثار بها، غير أن هذه الأشياء - رغم أنها ملاحظة جيدا - لا تبرهن على مزاعمه برهانا كاملا.
قد يكون فيما يلي «شاهد فاصل» في هذا الموضوع، خذ بوصلة مغناطيسية وضع علامة على كل من قطبيها، ثم ضعها وقطباها في اتجاه شرق/غرب، وليس شمال/جنوب، ثم ضع عليها إبرة حديدية غير ممغنطة واتركها في هذا الحال لمدة ستة أو سبعة أيام، حين تكون الإبرة على المغناطيس (ولا محل للشك في هذه النقطة) فسوف تغفل قطبي الأرض وتأخذ اتجاه قطبي المغناطيس؛ ولذلك فما دامت باقية على هذه الحال فإنها تشير إلى الشرق والغرب، ولكن إذا أزلنا الإبرة من المغناطيس ووضعناها على محور، فإذا وجدنا أنها تتحول للتو إلى الشمال/الجنوب، أو حتى تتحرك تدريجيا في هذا الاتجاه، فعلينا إذن أن نسلم بأن وجود الأرض هو السبب، أما إذا تحولت (كما فعلت من قبل) إلى الشرق/الغرب أو فقدت القطبية، فإن علينا أن نضع السبب موضع التساؤل، ونجري مزيدا من البحث.
وافترض أيضا أن الطبيعة المطلوبة هي الجوهر الفيزيقي للقمر، أهو خفيف يتكون من لهب أو هواء (كما ذهب معظم الفلاسفة القدامى)، أم كثيف وصلب (كما يعتقد جلبرت وكثير من المحدثين وبعض القدامى)؟
61
ويستند الرأي الثاني على حقيقة أن القمر يعكس أشعة الشمس، ويبدو أن انعكاس الضوء لا يكون إلا من أشياء صلبة.
ومن ثم ستكون «الشواهد الفاصلة» في هذا الموضوع هي تلك (إن وجدت) التي تعرض انعكاسا من جسم خفيف، مثل اللهب إذا ما تحلى بقدر كاف من الكثافة، من المؤكد أن أحد أسباب الشفق - بين غيره من الأسباب - هو انعكاس
62
أشعة الشمس من الجزء الأعلى من الجو، وأحيانا ما نرى أيضا أشعة الشمس منعكسة في الأماسي الصافية من حواف السحب المخضلة ببهاء لا يقل عن ذلك المنعكس من جرم القمر، وربما أكثر تألقا وروعة، ولكن ليس من الثابت أن هذه السحب تندمج في جسم كثيف من الماء، كما أننا في الليل نرى الهواء المعتم يعكس ضوء الشمعة في النافذة الزجاجية مثلما يعكسها جسم كثيف،
63
علينا أيضا أن نجرب تسليط أشعة الشمس خلال ثقب في لهب أزرق قاتم؛ لأننا حقا نرى أن أشعة الشمس الطليقة الساقطة على اللهب الباهت تخفته وتجعله يبدو أشبه بالدخان الأبيض منه باللهب، هذا ما يحضرني ك «شواهد فاصلة» في هذه المسألة، وربما يمكن العثور على شواهد أفضل، ولكن على المرء دائما أن يضع في اعتباره أنه لا يتوقع انعكاس من لهب ما لم يكن لهذا اللهب عمق معين، وإلا يوشك أن يكون شفافا، أما الذي لا شك فيه فهو أن الضوء (الساقط) على جسم مستو هو دائما إما يؤخذ ويمر خلاله وإما ينعكس.
افترض أيضا أن الطبيعة محل البحث هي حركة القذائف خلال الهواء كالرماح والسهام والكرات، يفسر المدرسيون هذه الحركة - كدأبهم دائما - بكثير من عدم الاكتراث، قانعين بتمييزها باسم الحركة العنيفة عن ذلك الذي يسمونه الحركة الطبيعية، وبتعليل الضربة الأولى أو الدفعة الأولى بقولهم: «لا يمكن لجسمين أن يكونا في نفس المكان، وإلا كان ثمة اختراق للأبعاد.» ثم لا يقلق خاطرهم على الإطلاق كيف تمضي هذه الحركة بعد ذلك، ولكن تفرع طريق هذا البحث هو كالتالي: إما أن الحركة تتسبب عن أن الهواء يحمل الجسم المقذوف ويتجمع وراءه، مثلما يفعل النهر بالقارب أو الريح بالذرات، وإما أن الحركة تتسبب عن أن أجزاء الجسم نفسه لا تحتمل الضغط فتدفع نفسها إلى الأمام لكي تتخفف منه. يتبنى فراكاسترو الرأي الأول وكذلك كل الذين انخرطوا - تقريبا - في هذا البحث بأي درجة من الحذق، ومما لا شك فيه أن الهواء يلعب دورا ما في هذا الأمر، إلا أن الرأي الثاني هو الصحيح بالتأكيد، كما تثبت تجارب لا حصر لها، من بين «الشواهد الفاصلة» في هذا الموضوع ما يلي: اثن شريحة من الحديد أو قطعة متينة من السلك الحديدي أو حتى قصبة أو قلما منفصما نصفين، إذ يضغط إلى شكل قوس بين إصبع وبين الإبهام تجده يطفر بعيدا، فمن الواضح أن هذه الحركة لا يمكن أن تعزى إلى الهواء إذ يتجمع وراء الجسم؛ لأن مصدر الحركة هو في منتصف الشريحة أو القصبة وليس في طرفيها.
كذلك لتكن الطبيعة محل البحث هي الحركة التمددية القوية السريعة للبارود إلى لهب، التي تحطم الأشياء الضخمة وتطلق أثقالا هائلة كما نشاهد في المناجم وفي المدافع، فيما يتصل بهذه الطبيعة يتفرع الطريق كما يلي: إما أن الحركة يحفزها مجرد ميل الجسم إلى التمدد عندما يحترق، وإما يحفزها ذلك جزئيا ويحفزها من جهة أخرى ميل الروح الخام في الجسم، التي تفر بعيدا عن النار وتنفجر بعنف من قبضتها كأنما تفر من سجن، غير أن المدرسيين والرأي الشائع لا يتناولون إلا الميل الأول؛ فالناس تتوهم نفسها بلغت ذروة الفلسفة عندما يقررون أن اللهب مزود - بحكم صورته الأولية - بنوع من الضرورة لشغل مكان أكبر مما كان يشغله عندما يكون على شكل مسحوق، وأن هذا هو السبب الذي يفضي إلى الحركة، غير أنهم يفشلون في ملاحظة أنه رغم أن هذا صحيح (إذ إن اللهب مندلع بالفعل) إلا أن تولده يمكن منعه بكتلة من المادة تخمده وتخنقه، فلا تبلغ العملية تلك الضرورة التي يتحدثون عنها، فإذا كانوا على حق في أن اللهب إذا اندلع فلا بد أن يحدث تمدد وأن يتبعه انبعاث أو انطلاق للجسم الذي يسده، إلا أن من الواضح أن هذه الضرورة تمتنع إذا كبتت الكتلة الصلبة اللهب قبل أن يندلع، ونحن نشاهد أن اللهب - وبخاصة في بداية تولده - يكون خفيفا لطيفا ويتطلب حيزا أجوف يعمل فيه ويبلو قوته، ومن ثم لا يمكننا أن نعزو مثل هذا العنف للهب بحد ذاته، إنما الحقيقة هي أن اندلاع هذه النيران العاصفة أو العواصف النارية يحدث كنتيجة صراع بين مادتين من طبيعتين متناقضتين تماما: إحداهما شديدة القابلية للاشتعال وهي طبيعة الكبريت، والأخرى كارهة للاشتعال وهي الروح الخام للنترات، والنتيجة هي صراع هائل، فالكبريت يشعل نفسه جهد ما يستطيع (فالمادة الثالثة، أي فحم خشب الصفصاف، لا يعدو دوره أن يربط المادتين الأخريين ويوحد بينهما)، بينما تنفجر روح النترات بكل قوتها وتتمدد في الوقت نفسه (فالهواء أيضا وكل المواد الخام والماء كذلك يستجيب للحرارة بالتمدد)، وفيما هي تفر وتتفجر فإنها تنفخ لهب الكبريت في كل الاتجاهات، كأنها كبر خفي.
قد يكون لدينا نوعان من «الشواهد الفاصلة» في هذا الموضوع؛ الأول: يتكون من المواد الشديدة القابلية للاشتعال، مثل: الكبريت والكافور والنافثا ... إلخ، مع مركباتها التي تلتقط النار بأسرع وأسهل مما يلتقطها البارود إذا لم تقمع (وهو ما يبين بوضوح أن الميل إلى التفجر إلى لهب لا يفضي بحد ذاته إلى هذا الأثر الهائل)، والثاني: يتكون من المواد التي تتجنب النار وتكرهها، مثل الأملاح جميعا، فنحن نشاهد أنها إذا ألقيت في النار فإن روحها المائية تنفجر بطقطقة صاخبة قبل أن تبدأ النار، ويحدث هذا أيضا بشكل أخف حتى مع أوراق الشجر المتيبسة بعض الشيء، إذ يتفجر الجزء المائي منها قبل أن يلتقط جزؤها الزيتي النار، ولكن هذا يشاهد في أوضح صورة في الزئبق، الذي صدق من أسماه ماء معدنيا، فبخلاف التقاطه النار فهو يكافئ تقريبا قوة البارود في مجرد التفجر والتمدد، ويقال أيضا: إنه حين يخلط بالبارود فإنه يزيده قوة.
افترض أيضا أن الطبيعة محل البحث هي الطبيعة المؤقتة للهب وانطفائه الفوري، فلا يبدو أن طبيعة اللهب هي شيء ثابت دائم هنا على الأرض، بل تتولد كل لحظة وتنطفئ كل لحظة، فمن الواضح أنه في حالة النيران - في خبرتنا - التي تستمر وتدوم، فإن استمرارها الذي نراه ليس استمرار اللهب المفرد نفسه، بل يتسبب من تتابع لهب جديد يتولد باطراد، ولا اللهب يبقى في هوية إحصائية، يتبين ذلك بسهولة من حقيقة أن اللهب يموت بمجرد أن تسحب وقوده أو غذاءه، في هذه المسألة يتفرع الطريق كما يلي: تنشأ الطبيعة المؤقتة إما لتوقف السبب الذي أنتج اللهب في البداية، كما في حالة الضوء والأصوات وما يسمى الحركات العنيفة، وإما لأن اللهب - وإن يكن قادرا بطبيعته ذاتها على البقاء معنا - يعاني عنفا من طبائع أخرى مضادة تحيط به وتقوضه.
لذا فقد نأخذ ما يأتي كشاهد فاصل في هذه المسألة: نحن نرى في النيران الكبيرة كم يرتفع اللهيب، فكلما اتسعت قاعدة اللهب ارتفعت ذروته؛ لذا فيبدو أن الانطفاء يبدأ حدوثه في الحواف حيث يقمع اللهب بالهواء ويكون ضعيفا، ولكن قلب اللهب - الذي لا يمسه الهواء بل يحيطه لهب آخر من كل الجوانب - يبقى في هوية إحصائية، ولا ينطفئ حتى يضغطه الهواء المحيط تدريجيا، وهذا ما يجعل كل لهب على شكل هرم، فهو أعرض عند القاعدة قرب الوقود، ولكنه مدبب عند القمة، حيث الهواء مناوئ والوقود شحيح، أما الدخان - وهو أضيق عند القاعدة - فيتسع كلما ارتفع، ويكون أشبه بهرم مقلوب؛ ذلك لأن الهواء يقبل الدخان ويضغط اللهب، ولا يتصورن أحد أن اللهب المشتعل هو هواء، إذ إنهما في الحقيقة مادتان مختلفتان تماما.
ولكن قد يكون لدينا «شاهد فاصل» أنسب في هذا الأمر إذا أمكن بالصدفة أن تتم التجربة بنيران ذات ألوان مختلفة؛ لذا خذ شمعدانا معدنيا صغيرا، وثبت فيه شمعة متقدة، وضع الشمعدان في وعاء ضحل عريض واسكب حوله قليلا من الكحول لا يصل إلى حافته، ثم أشعل الكحول، فالآن سيعطي الكحول لهبا أزرق بينما تعطي الشمعة لهبا أصفر، ثم لاحظ ما إذا كان الأخير (الذي يفترق بسهولة عن لهب الكحول باللون، فالنيران لا تمتزج فورا كما تفعل السوائل) يبقى هرميا، أم يميل أكثر إلى اتخاذ شكل كرة؟ إذ ليس ثمة شيء يدمره أو يضغط عليه)، فإذا لاحظت النتيجة الأخيرة فينبغي أن يكون في حكم المؤكد أن اللهب يبقى في هوية إحصائية ما دام محصورا داخل لهب آخر وغير معرض للفعل المناوئ من جانب الهواء.
وبحسبنا من «الشواهد الفاصلة» ما ذكرنا، وقد قصدت أن ألبث عندها طويلا حتى يتعلم الناس بالتدريج عادة تكوين أحكام عن الطبيعة بواسطة «الشواهد الفاصلة» والتجارب الكاشفة، وليس بواسطة الاستدلالات الاحتمالية. ••• (37) وفي المرتبة الخامسة عشرة بين شواهد الامتياز سأضع «شواهد التباعد»
instances of divergence (شواهد الطلاق
instantiae divortii ) التي تشير إلى انفصال الطبائع التي تحدث معا، وهي تختلف عن الشواهد الملحقة ب «شواهد الصحبة»؛ لأن هذه الأخيرة تعلن انفصال طبيعة ما عن الشيء العيني الذي توجد فيه عادة، بينما «شواهد التباعد» تشير إلى انفصال طبيعة عن طبيعة أخرى، وهي تختلف أيضا عن «الشواهد الفاصلة»؛ لأنها لا تحسم شيئا، بل تشير فقط إلى انفصال طبيعة عن أخرى، وتكمن قيمتها في أنها تكشف الصور الزائفة وتبدد التنظيرات المتسرعة التي يوحي بها ظاهر الأمور وعابر الأشياء، بحيث يجوز القول بأنها تضيف صابورة وثقلا للذهن.
64
افترض على سبيل المثال أن الطبائع محل البحث هي الطبائع الأربع التي أسماها تيليسيو رفقاء ومن نفس الأسرة، وهي الحرارة والضوء والخفة والحركة أو التأهب للحركة، إلا أن كثيرا من «شواهد التباعد (الطلاق)» يمكن اكتشافها فيما بينها، فالهواء خفيف وسهل الحركة، ولكنه ليس حارا ولا مضيئا، والقمر مضيء بغير حرارة، والماء الغالي حار بدون ضوء، وحركة الإبرة الحديدية على محور هي حركة سريعة ورشيقة ولكن في مادة هي باردة وكثيفة ومعتمة، وهناك العديد من الأمثلة الأخرى.
افترض كذلك أن الطبائع محل البحث هي الجسم الفيزيقي والفعل الطبيعي، يبدو أن الفعل الطبيعي لا يحدث إلا في وجود جسم، ولكن حتى في هذه الحالة ربما يوجد «شاهد تباعد (طلاق)»، مثل الفعل المغناطيسي الذي به ينجذب الحديد إلى المغناطيس، وبه تنجذب الأشياء الثقيلة إلى كرة الأرض، وبوسعنا أن نضيف بعض العمليات الأخرى التي تتم عن بعد: فمثل هذا الفعل يحدث في الزمان ويشغل لحظات لا مجرد وهلة من الزمن، ويحدث أيضا في المكان ويمر خلال درجات ومسافات. ثمة إذن لحظة معينة من الزمان ومسافة معينة من المكان تكون فيها القوة أو الفعل معلقا بين الجسمين المنتجين للحركة، فينتقل سؤالنا من ثم إلى: هل الجسمان اللذان هما طرفا الحركة يؤثران على - أو يغيران - الأجسام التي بينهما بحيث تتحرك القوة من طرف إلى الطرف الآخر بواسطة تتابع من التلامس الحقيقي وتعيش زمنا ما في الجسم البيني، أم ليس ثمة إلا الأجسام والقوى والأماكن؟ في الأشعة البصرية والأصوات والحرارة وبعض الأشياء الأخرى التي تعمل عن بعد ربما تكون الأشياء البينية متأثرة ومتغيرة، ويزداد ذلك إذا كان الأمر يتطلب وسطا ملائما لحمل مثل هذه العملية، أما القوة المغناطيسية أو الجاذبة فلا تكترث بالوسط، ولا تعاق في أي صنف من الوسط، ولكن إذا كانت القوة أو الفعل لا يشبه الجسم البيني في شيء لترتب على ذلك أنها حركة طبيعية أو فعل يعيش زمنا ما في مكان ما دون جسم؛ إذ إنها لا تعيش لا في الطرفين ولا في الوسط، ومن ثم فإن الفعل المغناطيسي قد يكون «شاهد تباعد (طلاق)» في مادة فيزيقية وفعل طبيعي، وثمة شيء ما ينبغي أن يضاف إلى ذلك كنتيجة ضرورية مترتبة أو فائدة لا يصح إغفالها: إنه حتى في التفلسف على أساس الحواس قد يستوي للمرء برهان على وجود كيانات وجواهر منفصلة وغير جسمية، فإذا أمكن للقوة والفعل الطبيعيين الصادرين من جسم أن يعيشا في زمن ومكان ما بلا جسم كلية، فإنه أيضا قريب من القدرة على أن يصدر في أصله من جوهر غير جسمي؛ ذلك أن الجوهر المادي يبدو متطلبا لإدامة الفعل الطبيعي وحمله مثلما هو متطلب لبدئه أو توليده. ••• (38) والآن يترتب لدينا خمس فئات من الشواهد، رأيت أن أسميها باسم عام واحد: «شواهد المصباح، أو المعلومات المباشرة»
instances of the lamp or of first information ، وهي تلك التي تعين الحواس، فبما أن كل تفسير الطبيعة يبدأ بالحواس ويفضي - بطريق مستقيم مستو معبد - من إدراكات الحواس إلى إدراكات الذهن، التي هي أفكار ومبادئ صحيحة، يترتب إذن بالضرورة أنه كلما كانت تمثلات الحواس نفسها أكمل وأدق سار كل شيء على نحو أيسر وأنجح.
من هذه الشواهد الخمسة للمصباح فإن الأول يقوي الأفعال المباشرة للحواس ويكبرها ويصححها، والثاني يجعل غير المحسوس محسوسا، والثالث يشير إلى العمليات الموصولة أو سلاسل تلك الأشياء والحركات التي لا تلاحظ في معظمها إلا في نهايتها أو خواتيمها، والرابع يزودنا ببديل عن الحواس حيث لا تملك الحواس أن تفعل أي شيء، والخامس يثير انتباه الحواس وملاحظتها، وفي نفس الوقت يحد من غموض الأشياء وخفائها، وعلي الآن أن أعرض لكل واحد على حدة. ••• (39) في المرتبة السادسة عشرة بين «شواهد الامتياز» سأضع «شواهد الباب أو البوابة»
65 (الشواهد التي تفتح الأبواب أو البوابات)
instances that open doors or gates ، هذا هو الاسم الذي أعطيه لتلك الشواهد التي تساعد الأفعال المباشرة للحواس، من الواضح أن البصر يحتل المكان الأول بين الحواس فيما يتعلق بالمعلومات، ومن ثم فهذه هي الحاسة التي ينبغي أن نجتهد في المقام الأول لكي ندبر لها معينا، ويظهر أن هناك ثلاثة أنواع من المعينات: فإما أن نمكن البصر أن يدرك ما لا يدركه أو أن يدرك أبعد مما يدركه، أو أن يدرك على نحو أكثر دقة وتحديدا.
إذا ضربنا صفحا عن النظارات وما إليها، التي تنحصر وظيفتها في تصحيح وإزالة الضعف في النظر الضعيف، ومن ثم لا تقدم معلومات جديدة، فإن من شواهد النوع الأول الميكروسكوبات - التي اخترعت أخيرا - التي تكشف الأجزاء الدقيقة الخفية وغير المرئية للأجسام وتراكيبها الكامنة بتكبير حجمها بدرجة مدهشة، وبواسطتها نشاهد، باندهاش عظيم، الشكل والتكوين الدقيق لدى البرغوث والذبابة والديدان، وكذلك ألوانها وحركاتها التي كانت في السابق غير مرئية، ويقال أيضا: إن الخط المرسوم بقلم الحبر أو الرصاص يرى خلال هذه العدسات شديد الاعوجاج والتموج، وتأويل ذلك: أنه لا حركة اليد مهما استعانت بمسطرة، ولا انطباع الحبر أو اللون، بالشيء المستوي في حقيقة الأمر، رغم أن عدم الاستواء هو من الدقة بحيث لا يمكن كشفه بدون هذه العدسات. هنا أيضا قدم الناس نوعا من الملاحظة الخرافية (كشأنهم مع كل شيء جديد ومدهش)، وهو أن مثل هذه الميكروسكوبات تشيد بأعمال الطبيعة وتهين أعمال الفن، ولكن هذا يعود ببساطة إلى أن نسيج الطبيعة أدق بكثير من النسيج الصناعي، فهذا الميكروسكوب لا يصلح إلا للأشياء الدقيقة، فلو أن ديمقريطس قد شهد عدسة مكبرة لقد كان قمينا ربما أن يثب فرحا؛ ظنا منه أن قد اخترعت وسيلة لرؤية الذرة (التي أكد أنها غير قابلة للرؤية على الإطلاق)، ولكن قصور هذه الميكروسكوبات في ملاحظة أي شيء عدا الأجسام البالغة الدقة (بل قصورها حتى في هذه الأخيرة حين تكون جزءا من جسم أكبر) يدمر فائدتها؛ ذلك أن هذا الاختراع لو أمكن أن يمتد إلى الأجسام الأكبر أو الأجزاء الدقيقة للأجسام الكبيرة، بحيث تبدو قطعة القماش أشبه بشبكة، وبحيث تشاهد وتميز الملامح والتعاريج الخفية للجواهر والسوائل والبول والدم والجروح والكثير من الأشياء الأخرى؛ لأمكننا - بغير شك - أن نجني فوائد عظيمة من هذا الاختراع.
ومن شواهد النوع الثاني: الإنجاز العظيم لجاليليو؛ التلسكوب، الذي يفتح اتصالا أقرب، وكأن بقوارب أو بسفن بيننا وبين أجرام السماء؛ فبفضل مساعدة التلسكوب تأكدنا أن درب التبانة هو مجرد عقدة أو كوكبة من النجوم الصغيرة منمازة ومنفصلة بشكل واضح، وهو ما لم يكن يعرفه القدامى إلا ظنا وتخمينا، ويبدو أيضا أنه يثبت أن الفضاءات فيما بين ما يسمى أفلاك الكواكب ليست خلوا تماما من نجوم أخرى، بل إن السماء يبدأ التماعها بالنجوم من قبل أن تصل إلى الكرة السماوية النجمية نفسها، وإن كانت تلك نجوما أصغر من أن تشاهدها بغير مساعدة التلكسوب، يمكن للمرء بهذا التلسكوب أن يشاهد مجموعات النجوم الصغيرة حول كوكب المشتري (وقد يحدس من هذا أن هناك أكثر من مركز واحد في حركات النجوم)، وبه ترى تفاوتات النور والظل على سطح القمر وتحدد على نحو أوضح، بحيث يمكن عمل نوع من الخريطة للقمر، وبه يمكن للمرء أن يرى البقع في الشمس، وما إلى ذلك، وكلها بالتأكيد كشوف جليلة إذا أمن المرء لصدق هذا الضرب من البراهين، غير أننا في شك كبير من مثل هذه الأشياء؛ لأن الخبرة تتوقف عند هذه الأشياء القليلة، ولأن أشياء أخرى كثيرة تستحق الدراسة بالمثل لم يتم اكتشافها بنفس الوسيلة.
66
ومن شواهد النوع الثالث: قضب قياس الأرض - الأسطرلاب وما شابهه - التي لا تكبر حاسة البصر بل تصححها وتركزها، وإذا كان ثمة شواهد أخرى تساعد الحواس الأخرى في أعمالها الفردية المباشرة، فإنها بعد لا تسهم في مشروعنا ما لم يكن من شأنها أن تضيف إلى الرصيد الفعلي من المعلومات التي بحوزتنا الآن؛ ولذلك لم أتطرق إليها. ••• (40) وفي المرتبة السابعة عشرة بين شواهد الامتياز سأضع «شواهد الاستدعاء»
summoning instances ،
67
مستعيرا اللفظة من المحاكم المدنية؛ لأنها تستدعي للمثول الأشياء التي لم تفعل ذلك من قبل، وأسميتها أيضا «شواهد الاستشهاد»
invoking (citing) instances ، تتسم هذه الشواهد بأنها ترد إلى مجال الحواس تلك الأشياء التي لا تقع فيه بشكل مباشر.
تند الأشياء عن الحواس إما بسبب بعدها وإما بسبب تدخل أجسام أخرى، وإما لأنها غير قادرة على ترك انطباع على الحواس، وإما لأن كم الشيء لا يكفي لإثارة الحواس، وإما لأن الزمن غير كاف لتنبيه الحواس، وإما لأن الحواس لا تحتمل تأثير الشيء، وإما لأن شيئا ما قد ملأ الحواس وملكها مسبقا فلم يبق متسع لحركة أخرى. هذه العوامل تخص البصر في المقام الأول واللمس في المقام الثاني، تسهم هاتان الحاستان بشدة في تزويدنا بالمعلومات عن الأشياء العادية، بينما لا تقدم الحواس الثلاث الباقية أي معلومات إلا بطريق مباشر وإلا عن أشياء خاصة بكل حاسة. (1) في الحالة الأولى لا يوصل الشيء إلى الحواس إلا إذا كان الشيء الذي لا تمكن رؤيته قد أضيف إليه أو استبدل به شيء يمكن أن يغير أو يؤثر في الحواس عن بعد، مثلما تحمل الأخبار عن طريق النيران والأجراس وما شابه. (2) في الحالة الثانية يحدث التوصيل حين يؤتى بالأشياء التي يبطنها الجسم ولا يسهل عرضها، يؤتى بها أمام الحواس بواسطة أشياء على السطح أو أشياء تخرج من الداخل، كما تكشف حالة جسم بشري بواسطة النبض والبول وما إلى ذلك. (3)، (4) توصيل النوع الثالث والرابع ينطبق على أشياء كثيرة، وينبغي أن نفطن لها دائما في أبحاثنا في الطبيعة، مثال ذلك: من البين أن الهواء والروح والأشياء التي من هذا القبيل التي تتسم في كل جوهرها باللطف والخفة، من البين أنها لا يمكن أن ترى أو تلمس، من الضروري للغاية في دراسة مثل هذه الجواهر أن نلجأ إلى ضروب التوصيل (الرد).
وافترض أن الطبيعة محل البحث هي فعل وحركة الروح الحبيسة في الأجسام العينية (الملموسة)، فكل جسم عيني على الأرض يحتوي روحا غير مرئية وغير ملموسة، الجسم يغلفها ويكسوها، وهذا هو المصدر الثلاثي القوي والمدهش لعملية الروح في الجسم العيني. حين تتحرر الروح التي بداخل الشيء العيني تنكمش الأجسام وتيبس، وحين تستبقى فيها تطرى وتلين، وحين لا تتحرر تماما ولا تستبقى تماما فهي تشكلها وتمنحها الأعضاء، وتتمثل وتهضم وتستهلك وتنظم ... إلخ، كل هذا يوصل إلى الحواس بواسطة الآثار المرئية.
ففي كل جسم عيني وغير حي تتكاثر الروح الحبيسة أولا وتتغذى على الأجزاء العينية المتاحة والمتوافرة وتهضمها وتذيبها وتحولها إلى روح ، ثم تهربان معا ، هذا التكاثر والذوبان بواسطة الروح يوصل إلى الحواس في هيئة نقصان الوزن، فعندما يجف أي شيء فإن شيئا ما يفقد من كمه، وهذا النقصان ليس من الروح التي كانت فيه من قبل بقدر ما هو من المادة التي كانت عينية من قبل وشرعت للتو في التحول، إذ إن الروح لا ثقل لها، والآن فإن خروج الروح وانطلاقها يتمثل للحواس في صدأ المعادن وغيره من مظاهر التحلل التي تتوقف قبيل أن تصل إلى بداءات الحياة التي تنتمي إلى الجنس الثالث من العملية،
68
ففي المواد المدمجة لا تجد الروح مسام ومنافذ تخرج منها، ومن ثم تضطر إلى طرد الأجزاء العينية خارجا ودفعها أمامها فتبرز معها، ومن هنا يحدث الصدأ وما شابهه. يوصل تقلص الأجزاء العينية عقب انطلاق بعض من الروح (متبوعا بالجفاف)، يوصل إلى الحس بواسطة زيادة في صلابة الشيء، ولكن بدرجة أكبر من ذلك بكثير بواسطة تشقق لاحق وانكماش وتجعد وانثناء في الأجسام، فقطع الخشب تذبل وتنكمش، والجلود تتجعد، ليس هذا فحسب، بل (بعد انطلاق مفاجئ للروح بواسطة حرارة لهب) تميل بشدة إلى الانقباض بحيث تلتوي وتلتف على نفسها.
وعلى النقيض من ذلك، حين تستبقى الروح بينما تتمدد، وتنبه بالحرارة أو ما شابهها (كما يحدث في حالة المواد الصلبة والمتماسكة)، عندئذ تطرى الأجسام كما في الحديد الساخن، أو تسيل مثل المعادن، أو تنصهر مثل الصمغ والشمع وما شابه، هكذا تفسر بسهولة التأثيرات المتضادة للحرارة (بعض الأشياء يتصلب بالحرارة وبعضها يسيل)، ففي الحالة الأولى تنطلق الروح وفي الثانية تثار الروح ولكنها تستبقى، والأخير هو فعل الحرارة والروح ذاتهما، والأول هو فعل الأجزاء العينية، وما انطلاق الروح إلا مناسبة الفعل لا أكثر.
أما إذا كانت الروح لا هي مستبقاة كليا ولا متحررة كليا، بل تناضل وتكافح داخل قيودها، وفي حوزتها الأجزاء العينية التي تطيع وتذعن وتتبع الروح للتو حيثما تقودها، فإن النتيجة هي تكون جسم عضوي، نمو الأعضاء والأنشطة الأخرى للحياة، في كل من النباتات والحيوانات، توصل هذه الأشياء إلى الحواس عن طريق الملاحظة الدقيقة للبدايات والبداءات المبكرة أو محاولات الحياة في المخلوقات الدقيقة التي تولد من التحلل، مثل: بيض النمل والديدان والذباب والضفادع بعد المطر ... إلخ، فلكي تنتج الحياة لا بد من وجود حرارة لطيفة ومادة ملائمة، بحيث لا تهرب الروح بسرعة ولا هي تمنع بمقاومة الأجزاء من ثني هذه الأجزاء وتشكيلها كالشمع.
مرة ثانية هناك شواهد كثيرة جدا للتوصيل تضع أمام أعيننا الفروق الأهم والأعرض مجالا بين الأرواح: الروح المعزولة، والروح المتفرعة، والروح المتفرعة والخلوية في آن معا، الأولى: روح الأجسام غير الحية، والثانية: روح النباتات، والثالثة: روح الحيوانات.
من الواضح أيضا أن أنسجة الأشياء وبنياتها الأدق هي غير مدركة لا بالبصر ولا باللمس (رغم أن الجسم الكلي مرئي وملموس)؛ ولذا ففي هذه الحالات أيضا تأتي المعلومات عن طريق التوصيل (الرد)، ولكن الفرق الأكثر جذرية وأولية بين البنيات يعتمد على مقدار المادة الأكبر أو الأقل الذي يشغل نفس المكان أو البعد، وجميع الأشكال الأخرى (التي تعود إلى الملامح المعينة للأجزاء المتضمنة في نفس الجسم وأماكنها وأوضاعها النسبية) ثانوية فحسب بالنسبة إليه.
افترض أن الطبيعة محل البحث هي تمدد المادة في الأجسام وانكماشها، أو كم من المادة يشغل كم من المكان في كل جسم، فليس ثمة ما هو أصدق انطباقا على الطبيعة من القضية المزدوجة القائلة: «لا شيء يأتي من لا شيء»، و«لا شيء يئول إلى لا شيء»،
69
وإنما الكمية المعطاة من المادة أو الكمية الكلية ثابتة لا تزيد ولا تنقص، وليس أقل صدقا أنه «من كمية معطاة من المادة ثمة كمية أكبر أو أقل تحتوى داخل نفس الحيز أو الأبعاد بحسب الفرق بين الأجسام»، مثال ذلك: إن الماء يحتوي أكثر مما يحتويه الهواء؛ لذا إذا ذهب أحد إلى أن كمية معطاة من الماء يمكن أن تتحول إلى نفس الكمية من الماء، فهو كأنما قال: إن من الممكن أن يئول شيء إلى لا شيء، وفي المقابل إذا ذهب أحد إلى أن كمية معطاة من الهواء يمكن أن تتحول إلى كمية مساوية من الماء، فكأنما قال: إن من الممكن أن يأتي شيء من لا شيء، وفكرتا «الكثافة» و«الخفة» اللتان تستخدمان - بتسيب - بمعان متنوعة، إنما ينبغي أن تستمدا على نحو قويم من هذه الوفرة أو الندرة في المادة. ينبغي أيضا أن نعدها يقينية تماما هذه الدعوى الثالثة القائلة بأن كمية المادة التي نقول: إنها في هذا الجسم أو ذاك يمكن أن ترد (بالمقارنة) إلى أرقام، إلى مقاييس مضبوطة أو مضبوطة تقريبا، ليس من الخطأ مثلا أن نقول: إنه في كمية معطاة من الذهب ثمة تراكم من المادة تقتضي من الكحول 21 ضعفا من الحيز الذي يشغله الذهب لكي يساوي هذه الكمية من المادة.
غير أن تراكم المادة وكميتها النسبية توصل إلى الحس بواسطة الثقل، فالثقل يناظر كمية المادة، من حيث أجزاؤها العينية، أما الروح وكميتها من المادة فيجب ألا تحسب بالوزن، فهي تخفف الوزن ولا تزيده، وقد وضعت قائمة دقيقة لهذا الشيء، أدرجت فيها أوزان وأحجام كل المعادن والأحجار الرئيسية والأخشاب والسوائل والزيت ومعظم الأجسام الأخرى سواء الطبيعية أو الصناعية، وهو إجراء مفيد للغاية من حيث كل من النظرية والتطبيق، وقادر على كشف كثير من النتائج غير المتوقعة، وهو أيضا ذو قيمة في البرهنة على أن النطاق الكامل للأجسام العينية المعروفة لنا (أعني الأجسام المدمجة لا الأجسام الإسفنجية الجوفاء المليئة بالكثير من الهواء) لا تتجاوز نسب 1: 21، محدودة هي الطبيعة أو على الأقل ذلك الجزء من الطبيعة الألصق بنا وبخبرتنا.
وقد وجدت من الجدير باهتمامي أيضا أن أرى ما إذا كان بالإمكان تحديد نسبة الأجسام غير العينية (الروحية) إلى الأجسام العينية، وقد حاولت ذلك بالوسيلة التالية: أخذت زجاجة صغيرة يمكن أن تسع أوقية تقريبا (استخدمت وعاء صغيرا لكي يتحقق التبخر الناتج بحرارة أقل)، وملأت هذه الزجاجة حتى رقبتها تقريبا بالكحول، وقد اخترت الكحول؛ لأنه - بحسب قائمة سابقة - هو الأخف، والمحتوي على أقل كم من المادة في حيز معطى بين الأجسام العينية المدمجة غير الجوفاء، ثم سجلت بدقة وزن السائل والزجاجة، ثم أخذت كيسا يحتوي باينتين
70
وطردت كل الهواء قدر استطاعتي حتى تلامست جوانبه، وقد دلكت الكيس قبل ذلك بلطف بالزيت لكي أجعله غير منفذ للهواء بإغلاق مسامه بالزيت، وربطت الكيس بإحكام حول فوهة الزجاجة، وشمعت الخيط لكي أجعله ألصق وأكثر إحكاما، ثم وضعت الزجاجة على فحم ساخن في مجمرة، وسرعان ما تمدد بخار الكحول بالحرارة وتحول إلى شكل غازي، ونفخ الكيس شيئا فشيئا وشده في كل اتجاه مثل شراع، وبمجرد أن تم لي هذا رفعت الزجاجة من النار ووضعتها على بطانية حتى لا تتكسر بالبرودة، وفي الحال أيضا ثقبت قمة الكيس حتى لا يعود البخار عند توقف الحرارة إلى الشكل السائل وينزل فيفسد القياسات، ثم رفعت الكيس نفسه وأخذت مرة ثانية وزن الكحول المتبقي، ثم حسبت الكمية التي تحولت إلى بخار أو إلى شكل غازي، وكم هو الحيز الذي شغله الجسم في شكله الكحولي في الزجاجة، وكم هو الحيز الذي شغله في شكله الغازي في الكيس، وطرحت النتيجتين فتبين بوضوح أن الجسم إذا تحول وتغير اكتسب تمددا مئة ضعف فوق حالته السابقة.
وافترض أيضا أن الطبيعة محل البحث هي الحرارة أو البرودة التي تبلغ من الضعف درجة تجعلها مدركة بالحواس، وتوصل هذه إلى الحواس بواسطة الترمومتر، مثلما بينت سابقا، فالحرارة والبرودة ليستا مدركتين باللمس في ذاتهما، بل الحرارة تمدد الهواء والبرودة تكمشه، وبدوره ليس تمدد الهواء أو انكماشه مدركا بالبصر، بل الهواء المتمدد يدفع الماء إلى أسفل، والهواء المنكمش يرفعه إلى أعلى، ولا يحدث التوصيل إلى البصر إلا عند هذه النقطة لا قبلها ولا بأي طريقة أخرى.
افترض كذلك أن الطبيعة محل البحث هي مزج الأجسام، أي ماذا تحوي من ماء وزيت وروح ورماد وملح ... إلخ، أو (لكي نأخذ شاهدا معينا) كم مقدار الزبد والخثارة والمصل المتضمن في اللبن، يوصل هذا إلى الحس بواسطة ضروب الفصل الصناعية والحرفية، ولا تدرك طبيعة الروح فيها بشكل مباشر، بل تكشف في مختلف الحركات والميول التي تظهرها المواد العينية في نفس فعل وعملية الفصل، وأيضا مرارة ولذع وشتى ألوان وروائح ومذاقات نفس المواد بعد الفصل، وقد بذل الناس في هذه المهمة جهودا كبيرة بالتأكيد، عن طريق ضروب التقطير والفصل الحرفي، ولكن دون نجاح يتجاوز ما في طريقتهم المعهودة للتجريب: تحسس مناهج وطرق مسدودة وجهد أكبر من الذكاء، و(الأسوأ من كل ذلك لا محاكاة أو مضاهاة بالطبيعة)، بل تدمير ب (الحرارة العالية أو القوى المفرطة) كل البنية الأرقى التي تكمن فيها - بشكل رئيسي - القوى الخفية للأشياء وتوافقاتها، ولا يقلق أفكارهم أو ملاحظاتهم في مثل هذا الفصل التحذير الآخر الذي أطلقته في موضع آخر، وهو أنه في العمليات العنيفة التي يجرونها على الأجسام - سواء بواسطة اللهب أو بطرائق أخرى - فإن كثيرا من الكيفيات تتسبب عن النار نفسها والمواد المستخدمة في صنع التحليل والتي لم تكن في المركب من قبل، ومن هنا تأتي أغلاط عجيبة، فليس كل البخار مثلا المنطلق من الماء بواسطة النار كان يوجد كبخار أو هواء في الماء، بل تكون معظمه عن طريق تمدد الماء بواسطة حرارة النار.
لذا فإن هذا هو الموضع الذي تحال إليه جميع الطرق الدقيقة لاختيار المواد - سواء الطبيعية أو الصناعية - التي تميز الأصلي من المغشوش والجيد من الأقل جودة؛ لأنها ترد غير المحسوس إلى المحسوس، لذا ينبغي أن نفتش عنها في كل سبيل ونجد في طلبها. (5) أما عن الطريقة الخامسة التي تجعل الأشياء تفلت من إدراك الحواس، فمن البين أن فعل الحس يحدث كحركة، والحركة تحدث في الزمن، فإذا ما كانت حركة الجسم بطيئة جدا أو سريعة جدا بحيث لا توافق السرعة التي يحدث بها فعل الحواس؛ فإن الشيء لا يدرك على الإطلاق، مثلما هو الحال في حركة عقرب الساعة أو حركة رصاصة، أما عن الحركة التي لا ترى بسبب بطئها الشديد فمن السهل والشائع أن توصل إلى الحواس عن طريق جمع حركاتها، وأما الحركات الفائقة السرعة فلا يمكن قياسها بدقة حتى الآن، وإن كان بحث الطبيعة يتطلب منا أن نفعل ذلك في بعض الحالات. (6) الحالة السادسة حيث يعاق الحس بسبب القوة المفرطة للشيء، يمكن أن ترد إلى الحس عن طريق تحريك الشيء بعيدا عن الحواس، أو بتخفيف تأثيرها بوضع حائل أمامه بحيث يضعفه دون أن يزيله، أو بجعله ينعكس واستقبال انعكاسه إذا كان انطباعه المباشر مفرط القوة، كما في حالة انعكاس الشمس في حوض من الماء. (7) الحالة السابعة التي لا يتمكن الشيء فيها من أن يظهر هي الحالة التي يقمع فيها الحس قمعا شديدا بشيء معين، بحيث لا تترك فرصة لأي شيء آخر لكي يؤثر على الحس، وهذه حالة مقصورة إلى حد ما على الروائح، وغير ذات صلة كبيرة بهذا العرض، وبحسبنا هذا من حديث عن طرائق رد غير المحسوس إلى المحسوس.
في بعض الأحيان لا يتم التوصل إلى حس الإنسان، بل إلى حس حيوان آخر معين، والذي يفوق الحواس البشرية في بعض الحالات، مثال ذلك: توصيل بعض الروائح إلى حس الكلب، وتوصيل الضوء الكامن في الهواء غير المضاء من خارج نفسه؛ توصيله إلى حس القط والبومة والحيوانات التي ترى بالليل، وقد صدق تيليسيوس في ملاحظته أن ثمة بالفعل نوعا من الضياء الداخلي في الهواء نفسه، وإن كان ضعيفا وواهنا وغير مجد في معظمه لأعين البشر أو معظم الحيوانات، إذ إن الحيوانات التي حواسها مكيفة على هذا النوع من الضوء ترى بالليل، ومن غير الممكن تصديق أن هذا يحدث بدون ضوء أو بضوء داخلي.
لاحظ أيضا أنني الآن أتعامل مع أوجه قصور الحواس وعلاجاتها، فأغلاط الحواس يجب أن تحال إلى الأبحاث الخاصة بالحس والمحسوسات، باستثناء الغلط الكبير للحواس، وهو أنها ترسم خطوط الطبيعة بالإطار المرجعي للإنسان لا بالإطار المرجعي للعالم، والذي لا يمكن تصحيحه إلا بالعقل العالمي والفلسفة العالمية. ••• (41) وفي المرتبة الثامنة عشرة بين شواهد الامتياز سأضع «شواهد الطريق»
instances of the road ،
71
التي أسميتها أيضا «شواهد مرتحلة»
traveling instances
و«شواهد مفصلية»
jointed instances ، وهي الشواهد التي تشير إلى الحركات المستمرة بالتدريج في الطبيعة. هذا النوع من الشواهد يتجنب ملاحظتنا لا حواسنا، فالناس هنا غافلون بشكل عجيب. حقيقة الأمر أنهم لا يلاحظون الطبيعة إلا بطريقة عابرة ومتقطعة وبعد أن تتم الأجسام وتكتمل وليس أثناء عمل الطبيعة عليها، فأنت إذا أردت أن ترى مهارات رجل حرفي وتلاحظ عمله، فأنت لن تشاء أن تشاهد المواد الخام لحرفته فحسب، بل تريد أن تكون هناك أثناء قيامه بعمله وتشكيل منتجه، كذلك الأمر بالنسبة للطبيعة، وعلى المرء أن يقوم إزاءها بشيء مشابه، مثال ذلك: إن على كل من يدرس نمو النباتات أن يلاحظها منذ بذر البذور فصاعدا (يمكن بسهولة أن يعمل ذلك بأن يأخذ كل يوم تقريبا بذورا لها في الأرض يومان وثلاثة أيام وأربعة وهكذا ويدرسها بعناية)، إن عليه أن يلاحظ كيف ومتى تبدأ البذرة في الامتلاء والانتفاخ وتملأ بالروح (إن جاز القول)، وكيف تبدأ عندئذ في فتق القشرة وإخراج شطئها، وتشق طريقها في الوقت نفسه إلى أعلى بعض الشيء ما لم تكن التربة ثقيلة جدا، وكيف تطلع أيضا فروعا، بعضها لأسفل كجذور، والبعض لأعلى كجذوع، وأحيانا تزحف جانبا إذا استطاعت أن تجد تربة مفتوحة وأيسر من هذا الاتجاه، وهناك أشياء أخرى عديدة عليه أن يلاحظها، وعلى المرء أن يفعل نفس الشيء إزاء عملية فقس البيض، حيث عملية بداية الحياة وتشكلها تفصح عن نفسها، وتكشف أي الأجزاء يأتي من المح وأيها يأتي من بياض البيضة وهكذا، وتقدم الحيوانات المتولدة من التحلل تقدم منهجا مماثلا. إنه ليكون غير إنساني أن تجرى مثل هذه الأبحاث على الحيوانات التامة التشكل والجاهزة للولادة بفصل الأجنة إلى خارج الرحم، باستثناء الإجهاضات العرضية وفي الصيد وما إلى ذلك؛ ولذا يتعين على المرء أن يعكف على نوع من الملاحظة الدءوب للطبيعة على مدار الساعة، إذ إنها تكشف عن نفسها للفحص أثناء الليل أفضل مما تفعل أثناء النهار، فهذه الملاحظات قد تعتبر ليلية؛ لأن مصباحنا ضئيل ولكنه دائم الإضاءة.
والشيء نفسه ينبغي أن يجرب في حالة الأشياء غير الحية، مثلما فعلنا في دراسة تمدد السوائل بواسطة اللهب، فهناك طريقة للتمدد في الماء، وأخرى في النبيذ، وأخرى في الخل، وأخرى في عصير العنب، وطريقة مختلفة جدا في اللبن والزيت ... إلخ، بوسعك أن ترى هذا بسهولة بأن تغليها في وعاء زجاجي على نار هادئة، حيث يمكن لكل شيء أن يرى بوضوح، وأنا هنا أمر مرورا سريعا بهذا الموضوع؛ لأني سأعرض له بدقة وإسهاب أكبر عندما أصل إلى اكتشاف «العملية الكامنة»
latent process
للأشياء، فعلينا دائما أن نضع في اعتبارنا أننا لا نتناول الأشياء ذاتها هنا، بل نقدم أمثلة لا أكثر. ••• (42) وفي المرتبة التاسعة عشرة بين شواهد الامتياز سأضع «شواهد التكملة أو الاستبدال»
instances of supplement or subsitution ،
72
التي أسميها أيضا «شواهد الملجأ الأخير»
instances of last resort ، وهي الشواهد التي تزودنا بمعلومات عندما تخذلنا الحواس خذلانا تاما، ولذلك نلجأ إليها إذا ما عجزنا عن الحصول على شواهد ملائمة، يحدث هذا الاستبدال بطريقتين: إما بالتقريب المتدرج وإما بالمماثلة (الأنالوجي)، مثال ذلك: لا يوجد وسط معروف يوقف تماما عمل المغناطيس في جذب الحديد، فلا الذهب - حين تضعه بينهما - يوقفه ولا الفضة ولا الحجر ولا الزجاج ولا الخشب ولا الماء ولا الزيت ولا القماش ولا المواد الليفية ولا الهواء ولا اللهب ... إلخ، إلا أنه قد يكتشف وسط ما - بالاختبار الدقيق - يمكن أن يضعف عمل المغناطيس أكثر من غيره بشكل نسبي وبدرجة ما، مثلا قد يكتشف المرء أن المغناطيس لا يجذب الحديد خلال سمك من الذهب مثلما يجذبه خلاله نفس السمك من الهواء، أو لا يجذب الحديد خلال الفضة الساخنة مثلما يجذبه خلال الفضة الباردة، وهكذا في حالات مماثلة، وأنا لم أجر تجارب في هذه وإنما أوردها كأمثلة، وبالمثل لا يوجد جسم معروف في الخبرة البشرية لا يكتسب حرارة حين يوضع قرب نار، ولكن الهواء يكتسب الحرارة أسرع بكثير مما يكتسبها الحجر، ذلك هو الاستبدال بالتدرج.
أما الاستبدال بالمماثلة (الأنالوجي) فهو بالتأكيد أكثر نفعا ولكنه أقل يقينا، ومن ثم ينبغي أن يستخدم بشيء من الحذر، وهو يحدث حين يوضع شيء غير محسوس أمام الحواس، لا بعمليات مدركة من جانب الجسم غير المدرك نفسه، بل بملاحظة جسم مدرك مشابه، افترض مثلا أننا ندرس مزيجا من الأرواح - التي هي أجسام غير مرئية - فيظهر أن هناك نوعا من الألفة بين الأجسام ووقودها أو المادة التي تغذيها، فوقود اللهب (غذاؤه) هو - فيما يبدو - الزيت والمواد الدهنية، ووقود الهواء الماء والمواد المائية؛ لأن اللهب يشتد على أبخرة الزيت، والهواء يتغذى على بخار الماء. علينا إذن أن ندرس مزيج الماء والزيت، إذ هو مدرك بالحواس؛ لأن مزيج الهواء والنار يند عن الحواس، غير أن الزيت والماء لا يمتزجان - حين تضمهما أو تقلبهما - إلا امتزاجا ضئيلا متعثرا للغاية، ولكن في العشب والدم وأجزاء الحيوانات تمتزج نفس الأشياء امتزاجا تاما سلسا، ومن ثم قد يكون هناك شيء مماثل لذلك في حالة مزج أجزاء نارية وهوائية في الأرواح، فالأشياء التي لا تمتزج بسهولة بمجرد إضافتها معا يبدو أنها تمتزج في أرواح النباتات والحيوانات، خاصة أن كل روح حي يتغذى على مواد رطبة من كلا النوعين - المائي والدهني - كوقود مناسب.
كذلك إذا كان بحثنا لا يتناول مزيجا تاما للأرواح بل مجرد مركب منها، أي نبحث ما إذا كانت الأرواح مندمجة معا بسهولة أم أن هناك - مثلا - رياحا أو أبخرة أو أجساما روحية أخرى لا تمتزج بالهواء العادي بل تتعلق وتطفو به فحسب في هيئة حبيبات وقطرات، وتتكسر وتنشطر بالهواء، غير مدخلة وغير مدمجة فيه، هذا الشيء لا يمكن إدراكه بالحواس في الهواء العادي والأجسام الروحية الأخرى؛ بسبب خفتها المتناهية، غير أن بوسعنا أن نتصور ما يحدث عن طريق نوع من الصورة أو التمثيل مستفاد من السوائل كالزئبق والزيت والماء، وأيضا في الدخان الكثيف، وأخيرا في التراب المثار المعلق في الهواء، وفي كل حالة من هذه لا يوجد دمج، هذا التمثيل الذي وضعته في هذا الموضوع لا بأس به شريطة أن نبحث أولا بدقة: هل يمكن أن يكون هناك مثل هذا التباين بين الأرواح مثلما هو موجود بين السوائل؛ لأنه إذا أمكن ذلك فقد يتسنى استبدال هذه الصور بواسطة المماثلة دون مصاعب.
ورغم أني قلت: إن بالإمكان الحصول على معلومات من هذه «الشواهد المكملة» كملجأ أخير إذا أعوزتنا الشواهد المباشرة، إلا أني أود أن يكون مفهوما أنها أيضا ذات نفع كبير عندما تكون الشواهد المباشرة متوافرة، وذلك بغرض تعزيز المعلومات التي تقدمها الشواهد المباشرة، إلا أني سوف أعرض لها بدقة أكبر عندما يفضي بنا الحديث - في موضعه - إلى تناول «دعائم الاستقراء»
supports of induction . ••• (43) وفي المرتبة العشرين بين شواهد الامتياز سأضع «الشواهد الباضعة»
cleaving instances ،
73
التي أسميتها أيضا «الشواهد المقتلعة»
plucking instances
ولكن لسبب مختلف. أسميها الشواهد «المقتلعة»؛ لأنها تمسك بالعقل وتسحبه، و«الباضعة» لأنها تشق الطبيعة شقا؛ لذا أيضا أسميها «شواهد ديمقريطس»،
74
إنها شواهد تذكر الذهن بالدقة المدهشة والمعجبة للطبيعة، فتثيره وتوقظه وتحضه على أن يولي الطبيعة الانتباه والملاحظة والتمحيص الذي تستحقه، مثال ذلك: أن نقطة من الحبر يمكن أن تخط كل هذه الحروف أو السطور، أن قطعة من الفضة مذهبة من الخارج فحسب يمكن أن تمط إلى كل هذا الطول من السلك المذهب، أن دودة دقيقة كالتي توجد في الجلد تحتوي على روح وعلى بنية محددة من الأجزاء، أن قليلا من الزعفران يصبغ ويلون برميلا كاملا من الماء، أن قليلا من الزباد
civet
أو المسك يملأ حجما أكثر بكثير من الهواء ويفعمه برائحته، أن قليلا من البخور يبعث سحابة هائلة من الدخان، أن فروقا دقيقة من الأصوات المنطوقة في كلمات تحمل خلال الهواء بطريقة ما وتخترق حتى ثقوب ومسام الخشب والماء (وإن بصورة أضعف) ويرجع صداها حقا بهذه السرعة والدقة، أن الضوء واللون يتخلل بسرعة - حتى من مسافة بعيدة - المادة الصلبة للزجاج والماء ويملؤها بهذا التنوع المدهش من الصور وينكسر أيضا وينعكس، أن المغناطيس مؤثر خلال كل صنف من المادة حتى أشده صلابة. وأعجب من هذا بعد أنه في هذه الأشياء جميعا تجد فعل أحدها في وسط محايد كالهواء لا يعيق الآخر، بحيث إن فضاءات (أماكن) الهواء في الوقت نفسه تحمل صورا كثيرة جدا كروائح البنفسج والورد، وكذلك الحرارة والبرودة والقوى المغناطيسية، كلها - أكرر - في الوقت نفسه ودون أن يمنع أحدها الآخر، كأنما لكل منها طرائقه ومساراته الخاصة بمعزل، ودون أن يصدم أحدها الآخر أو يكتسحه.
ولكن هناك ملحقا مفيدا أضيفه إلى «الشواهد الباضعة »، وهو ما أسميه «حدود البضع»؛ ذلك أنه في الأشياء التي ذكرتها فإن الفعل لا يعرقل أو يعوق الفعل الذي من نوع مختلف، غير أنه قد يقهر ويطفئ فعلا آخر من نفس النوع، كما يفعل ضوء الشمس بضوء الشمعة، وصوت المدافع بالصوت العادي، وكما تغلب الرائحة النفاذة الرائحة الألطف، والحرارة الشديدة الحرارة الخفيفة، وكما تعوق شرائح الحديد المدسوسة بين مغناطيس وقطعة حديد أخرى، تعوق عمل المغناطيس، ولكن هذا الموضوع أيضا سوف يجد موضعه الملائم بين «دعائم الاستقراء». ••• (44) فرغنا الآن من الحديث عن الشواهد التي تساعد الحواس، والتي تفيد الجانب المعلوماتي من مشروعنا بصفة رئيسية، فالمعلومات تبدأ من الحس، ولكن المشروع ككل ينتهي في الممارسة، هذه هي نهاية الأمر كما أن المعلومات هي بدايته؛ لذا فالشواهد التالية ستكون تلك التي تفيد الجانب العملي بصفة رئيسية وهي نوعان، وهناك سبعة منها، وقد أطلقت عليها جميعا الاسم العام «الشواهد العملية»
practical instances . هناك عيبان في الجانب العملي وقسمان مناظران من الشواهد المهمة، فالممارسة إما أن تخذلنا وإما أن تجهدنا، والسبب الرئيسي في الفشل في التطبيق (خاصة بعد أن تكون الطبائع قد درست بعناية) هو عدم تحديد قوى الأجسام وأفعالها وعدم قياسها على نحو دقيق، توصف قوى الأجسام وأفعالها، وتقاس بواسطة أبعاد المكان أو بواسطة لحظات الزمن أو بواسطة وحدات الكم (المقدار) أو بفعالية غالبة، إذا لم تقس هذه العوامل الأربعة بأمانة ودقة فستكون لدينا - ربما - علوم جيدة نظريا، ولكنها فارغة من النتائج العملية، وأنا أطلق على الشواهد الأربعة التي تناظر هذه اسما واحدا هو «الشواهد الرياضية»
mathematical instances
و«شواهد القياس»
instances of measurement .
تجهدنا الممارسة: إما بسبب خلط أمور لا فائدة فيها، أو من خلال كثرة الأدوات، أو بسبب ضخامة المادة والأجسام التي تصادف أن تتطلبها مهمة ما؛ لذا ينبغي أن نثمن الشواهد التي توجه العمل إلى الأشياء الأكثر نفعا للبشرية، أو الشواهد التي تقتصد في عدد الأدوات، أو التي تقتصد في المادة أو المعدات، وأنا أسمي الشواهد الثلاثة التي تخدمنا هنا بالاسم الواحد «الشواهد السمحة أو المحسنة»
propitious or benevolent instances ، وسأعرض الآن لهذه الشواهد السبعة كل على حدة، وأختم بها هذا القسم من موضوعي المتعلق بشواهد الامتياز. ••• (45) في المرتبة الحادية والعشرين بين شواهد الامتياز سأضع «شواهد القصبة أو المسطرة»
instances of the rod or of the ruler ،
75
التي أسميها أيضا «شواهد النطاق أو الحد الأقصى»
instances of range or furthest limit ؛ ذلك أن قوى الأشياء وحركاتها تعمل وتؤثر على مسافات ليست تصادفية وغير محددة، وإنما هي ثابتة ومحددة؛ ولذا فمن الأهمية العملية الكبيرة أن نلاحظها ونسجلها في كل طبيعة نريدها، لا لتجنب الخطأ العملي فحسب بل أيضا لتحسين الممارسة ومد سلطانها؛ ذلك أن بإمكاننا أحيانا أن نوسع نطاق قوانا وأن نقلص المسافات، كما في حالة استعمال التلسكوب على سبيل المثال.
لا تعمل أغلب القوى وتؤثر على الأشياء الأخرى إلا بالتلامس الظاهر، كما في حالة تصادم الأجسام، حيث لا يحرك أحدهما الآخر من مكانه ما لم يتلامسا، كذلك الأدوية المستعملة من الظاهر - مثل: المراهم واللزقة - لا تمارس مفعولها إلا بالتلامس الجسمي، وكذلك لا تؤثر الأشياء على حواس اللمس والذوق إلا عندما تلامس الأعضاء.
كما أن هناك قوى أخرى تعمل عن بعد، وإن يكن بعدا صغيرا جدا، ولم يلحظ منها حتى الآن إلا عدد قليل وإن يكن هناك عدد أكبر مما يتصور البشر، مثال ذلك (لنأخذ أمثلة شائعة): إن الكهرمان الأسود يجذب القش، والفقاعة تفجر الفقاعة الأخرى حين تقترب منها، وبعض المسهلات تدر ارتشاحات ... إلخ، والقوة المغناطيسية التي تسحب الحديد إلى المغناطيس، أو تسحب المغناطيس إلى غيره، تعمل داخل مجال معين للقوة وإن يكن مجالا صغيرا، أما إذا كانت هناك قوة مغناطيسية تصدر من الأرض نفسها (من تحت السطح مباشرة) إلى إبرة من الصلب وتؤثر على قطبيتها، فإن التأثير يكون من مسافة عظيمة.
مرة ثانية إذا كان هناك أي قوة مغناطيسية تعمل بالتوافق بين كوكب الأرض والأجسام الثقيلة، أو بين كوكب القمر ومياه البحر (والذي يبدو محتملا جدا في المد العالي والمنخفض مرتين في الشهر)، أو بين السماء النجمية والكواكب، والتي بها تجذب الكواكب إلى نقاط أو جهات، فإن جميع هذه الأشياء ستكون عاملة على مسافات عظيمة جدا .
هناك أيضا بعض حالات النار تبدأ أو تندلع في بعض المواد من مسافات كبيرة جدا، مثلما يحكى عن النفط في بابل، فالحرارة تسافر مسافات شاسعة وكذلك البرودة، فأهالي كندا يشعرون من بعيد بالبرد الناجم عن كتل الجليد التي تتحطم وتطفو على المحيط الشمالي وتحمل خلال الأطلنطي تجاه سواحلهم، والروائح أيضا تؤثر من مسافات كبيرة (وإن بدا أن هناك أيضا انبعاثا فيزيقيا ما في حالتها)، كما يلاحظ البحارة على طول سواحل فلوريدا أو بعض أجزاء إسبانيا حيث توجد غابات كاملة من أشجار الليمون وأشجار البرتقال ومثل هذه النباتات العطرة، أو أدغال من إكليل الجبل
rosemary
والعترة وما شابه، وأخيرا فإن إشعاع الضوء وانطباعات الصوت تعمل على مسافات كبيرة.
ولكن جميع هذه القوى - سواء تعمل على مسافة كبيرة أو صغيرة - تعمل بالتأكيد في حدود مسافة محددة، ثابتة ومعلومة من جانب الطبيعة، ومن ثم هناك حد يعتمد على كتلة الأجسام أو مقدارها، أو على عرامة هذه القوى أو ضعفها، أو على الوسط المحيط موات هو أم مقاوم، وكل منها ينبغي أن يؤخذ بالاعتبار ويلاحظ، وينبغي أيضا أن نلاحظ ونحسب حدود الحركات العنيفة من قبيل القذائف والمدافع والعجلات ... إلخ، فمن البين أن لها أيضا حدودها الثابتة.
هناك أيضا حركات وقوى معينة ذات طبيعة مضادة لتلك التي تعمل بالتلامس وليس عن بعد، أي تلك التي تعمل على بعد وليس بالتلامس، وتلك التي تعمل عملا ضعيفا على المسافة القصيرة وتؤثر تأثيرا أقوى على المسافة الأكبر. البصر مثلا لا يؤدى بالتلامس على نحو جيد، بل يحتاج إلى وسط وإلى مسافة، غير أني أذكر أني سمعت رواية من شخص ذي مصداقية قال: إنه كان يعالج الكاتاراكت
76
بعينيه (كان العلاج أن تدخل إبرة فضية صغيرة تحت الغشاء الأول للعين لكي تزيل غشاء الكاتاراكت وتدفع به إلى ركن العين)، فرأى الإبرة وهي تتحرك فوق الحدقة الحقيقية بوضوح شديد، ولكن مهما يكن نصيب هذا من الصدق، فمن الواضح أن الأشياء الأكبر لا ترى جيدا أو بوضوح إلا على رأس مخروط حيث تلتقي الأشعة من الشيء على مسافة ما، وفضلا عن ذلك فالمسنون من الناس يبصرون على نحو أفضل حين يوضع الشيء أبعد قليلا لا أقرب، وفي حالة القذائف فمن المؤكد أن المفعول ليس كبيرا جدا من المسافة المفرطة القصر مثلما هو من مسافة أبعد بعض الشيء، هذه الأشياء ومثيلاتها هي ما ينبغي علينا ملاحظته في قياس الحركات في صلتها بالمسافة.
هناك أيضا نوع ثان من القياس المكاني للحركة ينبغي ألا نغفله، وهو لا يتصل بالحركات الخطية بل بالحركات الكروية، أي بتمدد الأجسام إلى كرة أكبر، أو انكماشها إلى كرة أصغر، فبين قياساتنا للحركات يجب أن ندرس أي درجة من الضغط أو التمدد تحتمله الأجسام (وفقا لطبيعتها) بسهولة وطواعية، وعند أية نقطة تبدأ في المقاومة إلى أن تنفد ولا يعود الجسم يحتمل، مثلما يحدث عندما يضغط كيس منتفخ، فهو يتحمل بعض الضغط على هوائه، ولكن بعد نقطة معينة لا يعود الهواء يحتمل الضغط وينفجر الكيس.
وقد اختبرت هذا على نحو أدق بتجربة مرهفة، فأخذت جرسا معدنيا صغيرا رقيقا وخفيفا جدا مثل المملحة، وغطسته في حوض من الماء، بحيث يأخذ معه إلى قاع الحوض الهواء الذي يحمله في تجويفه، ووضعت أولا كرة صغيرة في القاع ليستقر عليها الجرس، وكانت النتيجة أنه إذا كانت الكرة صغيرة جدا (بالنسبة للتجويف) كان الهواء ينسحب إلى منطقة أصغر، وينضغط ببساطة ولا يطرد، أما إذا كانت الكرة كبيرة جدا لا تسمح للهواء أن ينسحب طوعا، فإن الهواء لا يمكنه تحمل الضغط الأكبر، بل كان يرفع الكرة جزئيا ويصعد إلى أعلى على شكل فقاعات.
ولكي أختبر التمدد والانضغاط الذي يسمح به الهواء لجأت إلى التجربة التالية: أخذت بيضة زجاجية بها ثقب في أحد أطرافها، وسحبت الهواء منها خلال الثقب بواسطة شفاط قوي، ثم سددت الثقب للتو بإصبع، وغطست البيضة في الماء ثم نزعت الإصبع. كان الهواء تحت ضغط بواسطة التوتر الذي أحدثه الشفط، ومنتفخا بدرجة تتجاوز طبيعته، وفي محاولته لكي يرتد وينكمش (بحيث إذا لم تكن البيضة قد غطست في الماء لكانت سحبت هواء إلى داخلها يصفر في دخوله) فقد سحب إلى الداخل كمية من الماء كافية لكي يستعيد أبعاده الأولى.
77
من المؤكد أيضا أن الأجسام الخفيفة (مثل الهواء) تسمح بانكماش ملحوظ كما لاحظنا سابقا، أما المواد العينية (مثل الماء) فلا تسمح بذلك إلا بصعوبة أكبر وبقدر أقل، وقد بينت بالتجربة التالية إلى أي حد تسمح بذلك:
أخذت كرة من الرصاص تسع حوالي 2 باينت، جوانبها سميكة بحيث تحتمل قوة كبيرة، وملأتها ماء خلال ثقب فيها، ثم ختمت برصاص سائل، بحيث أصبحت كرة صلبة تماما، ثم فلطحتها على جانبين متقابلين بواسطة مطرقة ثقيلة، بذلك اضطررت الماء بداخلها إلى الانضغاط إلى حيز أصغر؛ إذ إن الكرة أكثر الأشكال سعة، وعندما لم تعد الطرق تجدي كنتيجة لمقاومة الماء للانكماش، استعملت طاحونة أو معصرة، وبذلك لم يعد الماء يحتمل ضغطا أكبر، فأخذ يرتشح خلال السطح الصلب للرصاص (مثل الندى الخفيف)، عندئذ حسبت كم نقص الحجم بالانضغاط واستنتجت أن الماء (ولكن فقط عندما أخضع لمثل هذه القوة الكبيرة) قد عانى هذا القدر من الانضغاط.
ولكن الانضغاط أو التمدد الذي تحتمله الأجسام الأكثر صلابة وجفافا واندماجا، مثل الخشب والحجارة والمعادن، أقل من هذا، ولا يكاد يدرك، فمثل هذه المواد تخلص نفسها بالانكسار أو بالتحرك أو بمناورات أخرى، مثلما يظهر في انثناء الخشب أو المعدن، وفي الساعات التي تتحرك بالزنبرك وفي القذائف وفي الطرق بالمطرقة، وفيما لا يحصى من الحركات الأخرى، كل هذه الأشياء مع قياساتها يجب أن تستكشف وتختبر في دراسة الطبيعة، إما في صورتها الدقيقة أو بالتقدير أو بالمقارنة، حسبما تسمح الحالة. ••• (46) وفي المرتبة الثانية والعشرين بين شواهد الامتياز سأضع «شواهد المضمار»
instances of the course
78 (شواهد العدو
running instances )، التي أسميها أيضا «شواهد الماء»، مستعيرا اللفظة من الساعات المائية عند القدماء، التي كانت تملأ بالماء لا بالرمل، إنها تقيس الطبيعة بلحظات الزمان، مثلما تقيسها «شواهد المسطرة» بوحدات المكان، فكل حركة أو فعل طبيعي إنما يجري في الزمان أسرع أو أبطأ، إلا أنه يجري في لحظات محددة ومقدرة بدقة من جانب الطبيعة، وحتى الأفعال التي يبدو وقوعها فوريا وفي طرفة عين (كما نقول) وجد أنها تستغرق مدة من الزمن.
في المقام الأول إذن نرى أن دورات الأجرام السماوية تحدث في فترات زمنية محسوبة، وكذلك الجزر والمد، وإن حركة الأشياء الثقيلة تجاه الأرض والخفيفة تجاه السماء تشغل لحظات معينة يحددها الجسم المتحرك والوسط الذي يتحرك فيه، ومخور السفن وحركات الحيوانات ومسارات القذائف كلها تحدث في آماد من الزمن يمكن قياس مجملها، ونرى الحواة بحركات سلسة رشيقة يقلبون أقداحا مملوءة بالنبيذ أو الماء رأسا على عقب ويعدلونها ثانية دون أن تند قطرة واحدة ومثل هذا كثير، كذلك انكماش وتمدد وتفجر الأجسام يحدث بسرعة أو ببطء بحسب نوع الجسم والحركة، إلا أنها جميعا تستغرق قدرا محددا من الزمن، وفضلا عن ذلك عند انطلاق عدة مدافع في نفس الوقت، والذي يسمع أحيانا على مبعدة ثلاثين ميلا، فإن أولئك القريبين من موقع الانطلاق يسمعون صوته قبل الذين هم أبعد، وفي حالة البصر (حيث الفعل سريع جدا) من الواضح أيضا أنه يحتاج لحظات معينة من الزمن لكي يعمل عمله، بدليل أن الأشياء الفائقة السرعة لا ترى، كما هو الحال عندما تنطلق رصاصة من بندقية، فانطلاق الرصاصة هو من السرعة بحيث لا يسمح بانطباع لصورته يصل إلى العين.
هذا الشاهد وأشباهه قد أدخل في روعي أحيانا شكا عجيبا فيما إذا كنا نرى صفحة السماء الرائقة والنجوم في لحظة وجودها حقا، أم بعدها بقليل، وما إذا كان هناك (بالنسبة لمظهر الأجرام السماوية) زمن حقيقي وزمن مدرك، كما في حالات البارالكس
parallaxes
79
حيث لاحظ الفلكيون أن هناك مكانا حقيقيا ومكانا مدركا، فيبدو صعبا علي جدا أن أصدق أن صور أو أشعة الأجرام السماوية يمكن أن توصل للتو إلى البصر خلال هذه المسافات الهائلة، بدلا من أن تستغرق زمنا ملحوظا وهي ترتحل إلينا،
80
ولكن هذا الشك (بخصوص أي فرق كبير بين الزمن الحقيقي والظاهري) تبدد تماما بعد ذلك عندما تأملت في الفقدان والنقصان المتناهي في الحجم بين المقدار الحقيقي والمقدار الظاهري للنجم ، والناتج عن بعده، وعندما لاحظت أيضا عظم المسافة (60 ميلا على الأقل) التي يمكن منها للتو رؤية الأجسام البيضاء فقط هنا على الأرض، إذ لا شك أن ضوء الأجرام السماوية يفوق - في قوة إشعاعه - لا نصاعة اللون الأبيض فحسب بل أيضا ضوء أي لهب معروف لنا هنا على الأرض، كما أن السرعة الهائلة للأجسام نفسها كما ترى في حركتها اليومية (والتي أذهلت حتى المفكرين الجادين بحيث جعلتهم أميل إلى تصديق أن الأرض تتحرك) يجعل حركة انطلاق الشعاع منها (مذهل السرعة كما قلت) أقرب إلى التصديق، ولكن النقطة الأكثر إقناعا لي، من كل ما عداها، هي أنه إذا كان ثمة أي فترة ملحوظة من الزمن تتوسط بين الواقع والإبصار لترتب على ذلك أن ستعترض الصور في كثير من الأحيان وتشوش بالسحب الصاعدة في نفس الوقت وما شابه ذلك من الاضطرابات في الوسط، وبحسبنا ذلك من حديث عن القياسات البسيطة للزمن.
غير أننا لا يجب علينا فقط أن ندرس قياس الحركات والأفعال في ذاتها، بل أيضا وأهم أن ندرسها على نحو مقارن، فهذا شيء عظيم النفع ولأغراض كثيرة، فنحن نجد أن نار البندقية يرى ومضها أسرع مما يسمع صوتها، رغم أن الرصاصة لا بد أنها ضربت الهواء قبل أن يستطيع اللهب الذي وراءها أن يخرج، ولا بد أن يكون هذا راجعا إلى أن حركة الضوء أسرع من حركة الصوت، ونحن نرى أيضا أن الصور المرئية تستقبل بالنظر بسرعة أكبر من السرعة التي تمحى بها، ولهذا السبب فإن وتر الكمان الذي ينقر بالإصبع يظهر مزدوجا أو مثلثا؛ وذلك لأن صورة جديدة تستقبل قبل أن تكون القديمة قد محيت، ولنفس السبب فإن الحلقات الدوارة تظهر كروية، والمشعل المتوهج المحمول بسرعة ليلا يبدو كأن له ذيلا، وعلى هذا الأساس من تباين سرعة الحركات بنى جاليليو تصوره عن الجزر والمد، فالأرض تدور بسرعة أكبر، والماء بسرعة أقل، ولذلك يتكوم الماء عاليا ثم يعود فيهبط مرة ثانية، مثلما يظهر في زهرية من الماء حركت بسرعة ، غير أنه بنى هذا على افتراض لا يصح أن يفترض (وهو أن الأرض تتحرك)، ودون أن يحيط علما بحقيقة حدوث المد كل ست ساعات.
إن النقطة التي نحن بصددها هي القياس المقارن للحركات، في ذاتها وفي منفعتها الكبيرة (التي تحدثت عنها للتو)، والمثال اللافت في ذلك هو الألغام التي توضع تحت الأرض وتحشى بالبارود، وفيه تجد أن مقدارا ضئيلا من البارود يدمر ويطيح في الهواء بكتل ضخمة من الأرض والمباني وما إليها؛ وسبب ذلك - بغير شك - هو أن حركة تمدد البارود أسرع بكثير من حركة الجاذبية التي تقاومها، بحيث تنتهي الأولى قبل أن تبدأ الحركة الثانية المضادة، ومن ثم فهناك غياب للمقاومة في البداية، وهذا يفسر لنا لماذا في كل قذيفة تكون للضربة - التي ليست قوية بقدر ما هي حادة وسريعة - قوة قذف عالية جدا، والسبب الوحيد الذي يمكن كما صغيرا من الأرواح الحيوانية - وخاصة الضخمة الجثة كالحيتان والأفيال - من أن تقود وتتحكم في هذه الكتلة الجسمية الضخمة، هو أن حركة الروح سريعة جدا وحركة الجسم بطيئة وتبذل مقاومة.
وأخيرا، هذا هو أحد الأسس الرئيسية لتجارب السحر، التي سوف أعرض لها لاحقا: أي عندما تتحكم كمية صغيرة من المادة في كمية أكبر منها بكثير وتنظمها، وعندي أن هذا ما يحدث إذا استبقت الأولى الأخرى بسرعة حركتها قبل أن تهم هذه بالفعل.
وأخيرا، هذا التمييز بين «القبل» و«البعد» ينبغي أن يلاحظ في كل فعل طبيعي، مثلا: في عملية إشراب الراوند، فإن القوة المسهلة تظهر أولا ثم القوة القابضة، وقد رأينا شبيها لذلك في نقع البنفسج في الخل، حيث الأريج الجميل الرقيق يلاحظ أولا، ثم الجزء الترابي من الزهرة الذي يفسد الأريج؛ وعليه فإذا نقعت بنفسجات يوما كاملا تكون الرائحة أضعف من أن تلاحظ، أما إذا نقعت ربع ساعة فقط ثم أخرجت، و(حيث إن الروح المعطرة في البنفسج صغيرة) وضع بنفسج جديد كل ربع ساعة، وتكرر ذلك ست مرات، فإن المنقوع يكون في النهاية ثريا رغم أنه لم يوجد بنفسج في الخل - مهما تجدد - لأكثر من ساعة ونصف، تتبقى فيه رغم ذلك رائحة زكية في قوة البنفسج نفسه تدوم عاما كاملا، ومع ذلك فإن على المرء أن يلاحظ أن الرائحة لا تبلغ قوتها الكاملة إلا بعد شهر من النقع، وفي تقطير الطيوب العطرية المشربة في الكحول، من الواضح أنه في البداية ينشأ سائل مائي غير ذي فائدة، ثم ماء به كحول أكثر، وبعد ذلك فقط ماء بأريج أكثر، وتوجد كثير جدا من مثل هذه الأشياء في عمليات التقطير وتستحق أن تلاحظ، ولكن بحسبنا الأمثلة التي ذكرناها. ••• (47) وفي المرتبة الثالثة والعشرين بين شواهد الامتياز سأضع «شواهد الكمية»
instances of quantity ،
81
التي أسميها أيضا «جرعات الطبيعة»
doses of nature (مستعيرا اللفظة من الطب)، هذه هي الشواهد التي تقيس القوى بواسطة كميات الأجسام، وتبين أية كمية من الجسم تؤدي إلى كمية معينة من القوة، وهناك أولا بعض القوى التي لا توجد إلا في «كم كوني» أي في «كم» منسق مع شكل العلم وبنيته؛ فالأرض مثلا ثابتة برسوخ، وأجزاؤها تسقط، والماء في البحر يمد ويجزر، وليس الماء في الأنهار إلا إذا فاض البحر فيها، مرة ثانية إذن يعتمد تأثير كل القوى تقريبا على ما إذا كان هناك كثير أم قليل من المادة، فالكتل الكبيرة من الماء لا تتلوث بسهولة والصغيرة تتلوث، وجديد النبيذ والجعة ينضج ويطيب للشراب في القرب الصغيرة أسرع مما يفعل في البراميل الكبيرة. إذا وضع عشب في كمية كبيرة من السائل، ينقع العشب ولا يمتص السائل، وإذا وضع في كمية أقل لا يحدث انتقاع ويمتص السائل. الحمام في تأثيره على الجسم غير الرذاذ الخفيف، والندى الخفيف كذلك لا يسقط أبدا في الهواء، بل يتبدد ويدمج فيه، وبالزفير على الجواهر قد ترى الرطوبة الضئيلة تنحل على الفور مثل غمامة صغيرة في الجو، وكسرة من المغناطيس لا تجذب حديدا كثيرا كالذي يجذبه المغناطيس الكامل، وهناك أيضا قوى تكون فيها للكمية الصغيرة تأثير أكبر، فالسن الحاد أسرع في الاختراق والثقب من السن المثلم، والماس المدبب يحفر على الزجاج ... وهكذا.
هنا أيضا علينا ألا نتلبث طويلا مع نتيجة غامضة، بل أن نبحث في النسبة الدقيقة لكمية المادة إلى كمية القوة، إذ إن من الطبيعي أن يفترض المرء أن القوة تحمل تناسبا دقيقا مع الكمية، بحيث إنه إذا أخذت كرة من الرصاص وزنها أوقية وقتا معينا لكي تسقط على الأرض، فإن كرة وزنها أوقيتان لا بد أن تسقط بضعف سرعة الأولى، وهو افتراض خاطئ تماما، ولا تنطبق هذه بالنسبة في كل صنف من القوة، فالفروق في ذلك كبيرة جدا، ومن ثم فإن من الضروري أن نبحث عن هذه القياسات في الأشياء نفسها وليس على أساس الشبه أو التخمين.
وأخيرا، علينا في كل بحوثنا في الطبيعة أن نلاحظ ما هي الكمية - أو الجرعة - من الجسم المطلوبة من أجل كل تأثير معين، وأن نأخذ جذرنا في الوقت نفسه من تقديرها تقديرا زائدا أو ناقصا. ••• (48) وفي المرتبة الرابعة والعشرين بين شواهد الامتياز سأضع «شواهد الصراع»
instances of struggle ،
82
التي أسميها أيضا «شواهد السيطرة (الهيمنة)»
instances of dominance ، وهي تشير إلى الهيمنة والخضوع المتبادلين بين القوى، وتبين أيهما هو الأقوى والمسيطر وأيهما هو الأضعف والمستسلم، فحركات الأجسام وجهودها تتراكب وتتفكك وتتعقد شأنها شأن الأجسام ذاتها؛ لذا فسوف أقدم أولا الأنواع الرئيسية للحركة أو القوة النشطة عسانا أن نتمكن من مقارنتها بوضوح أكبر من حيث القوة، وبناء على ذلك نعرض ونميز «شواهد الصراع أو الهيمنة». (1)
لتكن الحركة الأولى هي حركة «المقاومة» في المادة، والتي توجد في كل جزء منها، وبها تأبى المادة أن تنعدم، فلا النار ولا الثقل أو الضغط ولا العنف ولا القدم أو العمر الزمني، يمكن أن يرد حتى أصغر جزء من المادة إلى العدم، بل هي دائما شيء ما وتشغل حيزا ما من المكان، وعند الضرورة فهي إما أن تخلص نفسها بتغيير شكلها أو مكانها، وإما (إذا لم يتح لها ذلك) أن تبقى كما هي، ولا تنتهي أبدا إلى نقطة كونها لا شيء أو في لا مكان. هذه الحركة يشير إليها المدرسيون (الذين يسمون الأشياء ويعرفونها دائما بمعلولاتها ونواتجها السلبية لا بعللها الداخلية )، إما بالمبدأ القائل: «لا يمكن لجسمين أن يكونا في مكان واحد.» وإما يسمونها «حركة منع اختراق الأبعاد»، لست بحاجة إلى أن أقدم أمثلة لهذه الحركة؛ لأنها ملازمة لكل جسم. (2)
ولتكن الحركة الثانية ما أسميه «الارتباط»
connection
وبها تأبى الأجسام أن تنتزع في أي جزء من أجزائها من صلتها بجسم آخر، كما لو كانت تستمتع بالوصل أو بالاتصال المتبادل، هذه الحركة يسميها المدرسيون الحركة ل «تجنب الفراغ»، مثلما يحدث حين يسحب الماء بالشفط أو خلال حقنة، أو يسحب اللحم بكأس الحجام، أو عندما يمكث الماء ولا يهرب من الجرة ما لم تفتح فوهة الجرة بما يسمح بدخول الهواء، وما لا يحصى من الشواهد المماثلة. (3)
ولتكن الحركة الثالثة هي حركة ال
liberty (الحرية) كما أسميها، والتي بها تكافح الأجسام لكي تحرر نفسها من الضغط أو التوتر غير الطبيعي وتستعيد نفسها إلى الأبعاد التي تلائم الجسم، هناك أمثلة لهذه الحركة تفوق الحصر، مثل (لكي نبدأ بالتحرر من الضغط) حركة الماء في السباحة، وحركة الهواء في الطيران، وحركة الماء في التجديف، وحركة الهواء في هبات الرياح، وحركة الزنبرك في الساعات، والمثال الدقيق على حركة المنضغط يشاهد في بندقية الهواء عند الأطفال، إذ يجوفون فرعا من جار الماء أو شيئا من هذا القبيل، ثم يحشونه من كلا طرفيه بجذر لحيم أو شيء من هذا القبيل، ثم بقضيب تنظيف (مدك بندقية) يحشون جذرا أو عصا من أحد الطرفين، فيدفع الجذر الذي عند الطرف الآخر خارجا ويقذف بصوت مسموع قبل أن يمسه الجذر أو العصا أو المدك المدخل من الطرف القريب، أما عن التحرر من التوتر فهذه الحركة تفصح عن نفسها في الهواء المتبقي في البيض الزجاجي بعد الشفط وفي الأوتار وفي الجلد والقماش الذي يستعيد شكله بعد مطه ما لم يستمر المط فترة طويلة بحيث يصير مستديما، هذه الحركة يشير إليها المدرسيون تحت اسم «الحركة وفقا لصورة العنصر»، وهي تسمية من الجهل بمكان، إذ إن هذه الحركة ذات صلة لا بالهواء أو الماء أو النار فحسب، بل بطيف الأجسام الصلبة جميعا كالخشب والحديد والرصاص والقماش والرق ... إلخ، حيث لكل جسم حد من بعده المميز الخاص، ومن الصعب أن يسحب خارجه إلى أي امتداد يذكر، ولكن لأن حركة التحرر هي الأشد وضوحا ولها عدد لا نهاية له من الأشكال، فمن الحكمة أن نضع بعض التمييزات الواضحة الجيدة؛ لأن البعض يخلط بإهمال بين هذه الحركة وحركة المقاومة والارتباط، فيخلط التحرر من الضغط بحركة المقاومة، ويخلط التحرر من التوتر بحركة الارتباط، كما لو أن الأجسام تحت الضغط تذعن أو تمتد لكي تتجنب «اختراق أبعادها»، وأن الأجسام تحت التوتر ترتد وتنقبض لكي تتجنب «الفراغ»، ولكن إذا حاول الهواء المنضغط أن يتقلص حتى يبلغ كثافة الماء، أو يبلغ الخشب كثافة الحجر، لما كان ثمة حاجة إلى «اختراق أبعاد»، ومع ذلك سيكون ذلك انضغاطا له أشد كثيرا مما يسمح به فعليا، وبنفس الطريقة إذا حاول الماء أن يتمدد ويبلغ خفة الهواء، أو يبلغ الحجر خفة الخشب، لما كان ثمة حاجة ل «الفراغ»، ومع ذلك سيكون ثمة تمدد له أكبر كثيرا مما يسمح به فعلا. المسألة إذن ليست مسألة «اختراق أبعاد» و«فراغ»، إلا في المراحل الأخيرة من التكثيف والخلخلة. إن هذه الحركات تتوقف قبل بلوغ هذه المراحل بكثير، وهي - ببساطة - محاولات للأجسام أن تحفظ قوامها الخاص (أو - إن شاءوا
83 - صورها الخاصة) وألا تفقدها فجأة، إلا إذا كانت تغير بطرائق لطيفة وطوع إرادتها الخاصة، ولكن أهم من ذلك بكثير (لكثرة ما يترتب عليه) أن نطبع في أذهان الناس أن الحركة العنيفة (التي أسميها «ميكانيكية»، ويسميها ديمقريطس الذي هبط في تفسير حركاته الأولى إلى ما دون أنصاف الفلاسفة، يسميها حركة «اللكمة») هي ببساطة حركة حرية، أي حركة من الانضغاط إلى الاسترخاء، فسواء كانت اندفاعا بسيطا أو هروبا خلال الهواء، فليس ثمة إزاحة أو حركة مكانية حتى تعاني أجزاء الجسم على نحو غير طبيعي بواسطة ضغط القوة الدافعة، عندئذ يتحرك الجسم كله إذ يدفع كل جزء الآخر على التوالي، لا حركة أمامية فقط بل حركة دائرية في الوقت نفسه، فبهذه الطريقة تصبح الأجزاء أيضا قادرة على الهروب أو المشاركة في الحمل بالتساوي، وبحسبنا ذلك من حديث عن هذه الحركة. (4)
ولتكن الحركة الرابعة هي الحركة التي أسميتها «حركة المادة»، هذه الحركة هي بمعنى ما عكس حركة الحرية التي تحدثت عنها للتو، ففي حركة الحرية فإن الأجسام تكره وترفض وتتجنب بعدا جديدا أو حجما جديدا أو تمددا أو انكماشا جديدا (هذه الألفاظ المتعددة تعني نفس الشيء)، وتجاهد بكل قوتها لكي ترتد وتستعيد قوامها السابق، وفي المقابل ففي هذه الحركة - «حركة المادة» - تتوق الأجسام لاكتساب حجم أو بعد جديد، وتحاول ذلك طواعية وبلهفة، وأحيانا بجهد شديد جدا (كما في حالة البارود)، وأدوات هذه الحركة - لا الوحيدة بل الأقوى أو على الأقل الأكثر حدوثا - هي الحرارة والبرودة، مثلا: إذا تمدد الهواء بالتوتر (بالشفط مثلا في البيض الزجاجي)، فإنه يبذل جهدا عظيما لكي يستعيد نفسه، أما إذا استخدمت الحرارة فإنه يجهد - على العكس - لكي يتمدد، ويتوق إلى حجم أكبر، فيمر ويرحل إليه باطراد كأنما ينتقل إلى صورة (كما يسمونها) جديدة، وبعد درجة معينة من التمدد لا يعود يعبأ بالعودة ما لم يستنفر لذلك باستخدام البرودة، والتي هي ليست عودة في الحقيقة بل تحولا ثانيا، وبنفس الطريقة أيضا إذا حصر الماء بالضغط فهو يقاوم ويحاول أن يكون ما كان عليه من قبل، أي أكثر تمددا، ولكن إذا وقعت برودة شديدة مستمرة فإنه يتغير طوعا إلى المادة الكثيفة للثلج، فإذا استمرت البرودة دون انقطاع ودون تدخل نوبات من الدفء (كما يحدث في الكهوف والكهوف العميقة) فإنه يتحول إلى بلور أو مادة شبيهة بالبلور، ولا يستعيد صورته أبدا. (5)
ولتكن الحركة الخامسة هي حركة «التماسك»
cohesion (أو «المتصلبة»
continuity )، ولست أعني التماسك الأولي البسيط مع جسم آخر (فهذه هي حركة الارتباط
connection ) بل التماسك الذاتي في الجسم الواحد. من المؤكد تماما أن الأجسام تكره انحلال تماسكها، البعض أكثر كرها والبعض أقل، ولكن الجميع يكره انحلاله بدرجة ما، في الأجسام الصلبة (كالصلب أو الزجاج) تكون مقاومة الانحلال قوية وشديدة جدا ، ولكن في السوائل أيضا - حيث تبدو هذه الحركة مفتقدة أو على الأقل ضعيفة جدا - فإنها ليست غائبة تماما، بل واضحة فيها بدرجة جد منخفضة، وتكشف عن نفسها في تجارب كثيرة، مثال ذلك: في الفقاعات، في دائرية القطرات، وفي الخيوط الدقيقة للماء الساقط من السقف، في تماسك الأجسام الدبقة ... إلخ، يكشف هذا الميل عن نفسه على أفضل نحو إذا حاول المرء أن يكسر شيئا ما إلى فتات صغير جدا، فالمدقة (يد الهاون) لا يمكنها أن تفعل شيئا بعد أن تكون المادة قد دقت إلى درجة معينة، والماء لا يمكنه أن ينفذ من الشقوق المتناهية الدقة، وحتى الهواء - رغم خفة جسمه نفسه - لا يمكنه أن يمر على الفور من خلال مسام أوعية على شيء من الصلابة، بل ينسرب انسرابا مزمنا. (6)
ولتكن الحركة السادسة هي ما أسميه الحركة من أجل «الاكتساب»
gain ، أو حركة «الاحتياج»
want ، وهي الحركة التي بها تسعى الأجسام عندما توضع بين أجسام أخرى مختلفة عنها تماما في النوع وشبه مناوئة لها، إن تسنى لها تجنب هذه الأجسام المناوئة، تسعى إلى أن تصل نفسها بأشياء أكثر تجانسا (حتى لو كانت هذه على غير اتفاق وثيق معها)، فتمسك بها على الفور وتفضلها وتبدو أنها تعتبرها شيئا «مكتسبا» (ومن هنا استعرت الاسم) كأنها كانت «بحاجة» إلى هذه الأجسام، مثال ذلك: رقائق الذهب، شأنها شأن رقائق المعادن الأخرى، لا تحب أن تحاط بالهواء، ومن ثم فإذا تمكنت من أن تمسك بجسم عيني سميك (إصبع، ورقة، أو ما شئت) فإنها تلتصق به على الفور، ولا تنتزع بسهولة، وكذلك الورق والقماش وما شابه لا يستحب أن يدخله الهواء ويستقر في مسامه، ومن ثم يطيب له أن يتشرب الماء أو السائل، وأن ينفي الهواء، كذلك قطعة السكر أو الإسفنج إذا غمست من طرف في الماء أو النبيذ بينما الطرف الآخر بعيد فوق السطح، فإنها تسحب الماء أو النبيذ رويدا رويدا إلى أعلى.
84
ومن هنا نستمد قاعدة ممتازة لفتح الأجسام وحلها، (فبغض النظر عن المواد الكاوية والأحماض، التي تفتح لنفسها طريقا) إذا أمكن العثور على جسم ملائم أكثر قبولا لجسم صلب وأشبه به من الجسم الذي ألحق به بالقوة، فإنه سرعان ما ينفتح ويطمئن ويتقبله في داخله بينما يرفض الآخر ويلفظه، هذه «الحركة من أجل الاكتساب» لا تعمل وتؤثر بالتلامس فحسب، فالعملية الكهربية (التي روى عنها جلبرت ومن بعده هذه الحكايات) لا تعدو أن تكون شهية جسم عندما يثار باحتكاك لطيف، شهية لا تتحمل الهواء بل تفضل أي جسم عيني آخر يمكن أن تجده بقربها. (7)
ولتكن الحركة السابعة هي حركة «الاحتشاد الأكبر»
major aggregation (كما أسميه) التي بها تنجذب الأجسام تجاه حشد الأجسام ذات الطبيعة المماثلة: الأجسام الثقيلة إلى الأرض، والخفيفة إلى محيط السماء، وقد أطلق المدرسيون على هذه الحركة اسم «الحركة الطبيعية»، وذلك لاعتبارات سطحية، إما لعدم وجود سبب خارجي ظاهر يمكن أن يحدث هذه الحركة (ومن ثم فقد افترضوا أنها فطرية ومتأصلة في الأشياء ذاتها)، أو ربما لأنها لا تتوقف أبدا، ولا عجب في ذلك، فالسماء والأرض موجودان دائما، بينما أسباب معظم الحركات الأخرى ومنشؤها موجودة أحيانا وغائبة أحيانا أخرى؛ ولذا اعتبر المدرسيون هذه الحركة فطرية ودائمة وبقية الحركات إضافية؛ لأن هذه الحركة غير متقطعة بل تبدأ فور توقف الحركات الأخرى، ولكن الحقيقة أن هذه الحركة ضعيفة وواهنة للغاية؛ لأنها (إلا في حالة الأجسام ذات الكتل الكبيرة) تذعن وتستسلم للحركات الأخرى، ورغم أن هذه الحركة قد شغلت أفكار الناس بحيث ألقوا بقية الحركات إلى الظل، إلا أن الناس لا تعلم عنها شيئا يذكر، بل يتورطون في أخطاء كثيرة بشأنها. (8)
ولتكن الحركة الثامنة هي حركة «الاحتشاد الأصغر»
minor aggregation ، وبها تنفصل الأجزاء المتجانسة في جسم ما عن الأجزاء غير المتجانسة، وتندمج فيما بينها، وبها أيضا تتحد الأجسام الكاملة وتتضام بسبب تشابه الجوهر، وأحيانا تتجمع وتتجاذب وتلتقي من بعد، مثلما يحدث عندما تتجمع القشدة شيئا فشيئا في أعلى اللبن، وترسو عكارة النبيذ وثفالته إلى القاع، هذه الأشياء لا تحدث بسبب الثقل أو الخفة فترتفع أجزاء إلى أعلى وتهبط أجزاء إلى أسفل، بل بسبب رغبة الأشياء المتجانسة إلى الاتحاد والتضام معا، وهذه الحركة تختلف عن «حركة الاحتياج» في شيئين: الأول أنه في حركة الاحتياج يكون الحافز الأكبر هو حافز شر، طبيعة مضادة، ولكن في هذه الحركة (بشرط عدم وجود عوائق قيود) تتحد الأجزاء من خلال الألفة وإن لم تكن هناك طبيعة غريبة لكي تخلق صراعا، والشيء الثاني أن الاتحاد أوثق وأكثر انتقائية، ففي «حركة الاحتياج» تتحد الأجسام غير الوثيقة الصلة لا لشيء إلا لتتقي أجساما غريبة، بينما في هذه الحركة ثمة اتحاد أجسام يربطها تشابه قرابة وثيقة، وتنصهر في كيان واحد، تحدث هذه الحركة في جميع الأجسام المركبة وهي قمينة بأن تفصح عن نفسها للتو لو لم تكن مقيدة ومكبوحة بواسطة ميول وضرورات أخرى للأجسام تعيق الاتحاد.
تعاق هذه الحركة عادة بثلاث طرق: ببلادة الأجسام وبقوة جسم مسيطر وبحركة خارجية، أما عن بلادة الأجسام فمن المؤكد أن في الأجسام العينية نوعا من الكسل بدرجة تزيد أو تقل، ونفورا من الحركة المكانية، فهي قمينة - ما لم يثرها مثير - أن تقنع بحالتها (أيا ما تكون) لا أن تتجشم التغيير إلى حالة أفضل. هناك ثلاث طرق لكسر هذه البلادة: إما بالحرارة، وإما بقوة فائقة لجسم مشابه، وإما بحركة ناشطة قوية، أما عن العون الذي تقدمه الحرارة فبسببه قيل: إنها هي «التي تفصل الأشياء المتباينة وتوحد الأشياء المتجانسة»، وقد كان جلبرت محقا حين رفض بازدراء هذا التعريف الخاص بالمشائين،
85
قائلا: إنه تعريف مستمد من المعلولات فقط، والمعلولات الجزئية فحسب، كما لو أن على المرء أن يعرف الإنسان بأنه ذلك الشيء الذي يبذر الحنطة ويزرع الكرم، بل إن هذا التعريف أسوأ من ذلك؛ لأن هذه المعلولات (أيا ما تكون) لا تنجم من خاصية الحرارة إلا عرضا (إذ إن للبرد أيضا نفس التأثير كما سأبين لاحقا)، وإنما تنجم من رغبة الأجزاء المتجانسة في أن تتحد، في حين أن الحرارة تساعد فحسب في كسر البلادة التي كانت من قبل تقيد الرغبة، وأما عن العون الذي تقدمه قوة جسم مشابه فيشاهد على نحو مدهش في المغناطيس المدرع بالحديد، فهو يثير في الحديد قوة الالتصاق بالحديد بوصفه مادة متجانسة. إن بلادة الحديد تكسر بواسطة قوة المغناطيس، وأما عن العون الذي تقدمه الحركة فيشاهد في أمثل صورة في السهام الخشبية ذات السن الخشبي أيضا، فبعد أن تكسر الحركة السريعة بلادة الخشب فإن هذه السهام تخترق القطع الخشبية بدرجة أعمق مما لو كانت سنها حديديا، وذلك لتماثل المادة، وقد عرضت لهاتين التجربتين أيضا في شذرة «الشواهد المتوارية»
concealed instances .
86
يشاهد القيد على حركة «الاحتشاد الأصغر» الناجم عن جسم مسيطر، يشاهد في انحلال الدم والبول بواسطة البرودة، إذ ما دامت هذه المواد ممتلئة بالروح النشطة، التي تنظم وتضبط كلا من أجزائها بوصفها الحاكم المهيمن على الكل، فإن الأجزاء المختلفة العديدة لا تتجمع، وذلك بسبب هذا القيد المفروض عليها، ولكن عندما تكون الروح قد تبخرت أو اختنقت بالبرد، عندئذ تتحرر من القيد وتتبع رغبتها الطبيعية في الاتحاد، وهذا هو السبب في أن جميع الأجسام التي تحتوي على روح حادة (مثل الأملاح وما إليها) تبقى بدون انحلال، بفضل القوة الدائمة والباقية للروح المسيطرة والمهيمنة.
أما القيد على حركة «الاحتشاد الأصغر» الناجم عن حركة خارجية فيشاهد على أفضل نحو في ذلك الاضطراب للأجسام الذي يمنع التحلل، فكل تحلل يقوم على اتحاد أجزاء متجانسة، ينتج عنه أن الطبيعة السابقة (كما يسمونها) تفسد بالتدريج وتتولد طبيعة جديدة، فالتحلل الذي يمهد الطريق إلى تولد صور جديدة يسبقه عادة انحلال الصور القديمة، وهو نفسه اتحاد لخلق تجانس، إذا لم يقاطع هذا الانحلال فإن ما يحدث هو انحلال بسيط، أما إذا صادف عوائق مختلفة فإن التحلل يتبعه، وهذه هي البدايات لتكون جديد، ومع ذلك فإذا كان ثمة اضطراب متكرر من حركة خارجية (وهو ما يعنينا الآن) فإن حركة الاتحاد (التي هي حركة مرهفة وحساسة وتحتاج إلى حماية من الحركات الخارجية) تضطرب وتتوقف، ونحن نرى هذا يحدث في حالات لا حصر لها، فإثارة الماء أو تصريفه يوميا يمنع التحلل، والرياح تمنع الوباء في الهواء ، والحبوب في المخازن تبقى نقية إذا حركت وقلبت، حقيقة الأمر أن أي شيء يهز من الخارج لا يتعفن بسهولة من الداخل.
ولا يفوتني أخيرا أن أذكر أن اتحاد أجزاء الأجسام هو السبب الرئيسي للتصلب والتجفيف، فحين تهرب الروح أو الرطوبة - التي تحولت إلى روح - من جسم مسامي (مثل الخشب والعظم والرق وما شابه)، فإن الأجزاء الأكثر كثافة تنكمش وتتضام بقوة أكبر، وتكون النتيجة هي التصلب والجفاف، وهو ما أعتقد أنه لا يعود إلى حركة التجمع لتجنب الفراغ بقدر ما يعود إلى حركة الألفة والاتحاد.
أما عن التجمع عن بعد، فهو نادر ولكنه يحدث في حالات أكثر مما نفطن إليه، نلحظ ذلك عندما تحل فقاعة فقاعة أخرى، وعندما تجذب الأدوية أمزجة
humors
لأن جوهرها مشابه لها، وعندما يسبب وتر في آلة وترية حدوث نفس الصوت في وتر لآلة أخرى ... إلخ، أعتقد أيضا أن هذه الحركة منتشرة جدا في أرواح الحيوان وإن كنا نجهل ذلك تماما، وهي واضحة بالتأكيد في المغناطيس وفي الحديد الممغنط، ومع ذلك فإن علينا أن نتحدث عن الحركات المغناطيسية أن نضع تمييزا حادا، فهناك أربع قوى أو عمليات في المغناطيس ينبغي ألا نخلط بينها وإن كان الناس قد وضعوها - بسب دهشتهم واستغرابهم - في فئة واحدة؛ الأولى: هي اتحاد المغناطيس بمغناطيس أو الحديد بمغناطيس أو الحديد الممغنط بالحديد، والثانية: هي قطبيته تجاه الشمال والجنوب، وتفاوت هذه القطبية، والثالثة: هي نفاذ مفعوله خلال الذهب والزجاج والحجر وكل شيء، والرابعة: هي اتصال قوته من الحجر إلى الحديد، ومن الحديد إلى الحديد دون اتصال المادة، غير أني أتحدث هنا عن قوته الأولى فقط: قوة الاتحاد، ومن اللافت أيضا حركة اتحاد الزئبق والذهب، فالذهب يجذب الزئبق حتى عندما يستخدم هذا في شكل مرهم، وأولئك الذين يعملون بين أبخرة الزئبق يعتادون أن يضعوا قطعة من الذهب في أفواههم لتجمع انبعاثات الزئبق حتى لا تهاجم رءوسهم وعظامهم، وهذه القطعة سرعان ما تتحول إلى اللون الأبيض، وبحسبنا هذا من حديث عن «الاحتشاد الأصغر». (9)
ولتكن الحركة التاسعة هي الحركة المغناطيسية، وهي بصفة عامة حركة «احتشاد أصغر»، ولكنها إذا عملت من مسافات عظيمة وعلى كتل كبيرة، فإنها تستحق بحثا منفصلا، وبخاصة إذا كانت لا تبدأ من التلامس كما تفعل معظم الحركات، ولا تواصل فعلها حتى يحدث التلامس، كما تفعل كل الحركات الاحتشادية، بل ترفع الأجسام فحسب، أو تجعلها تنتفخ أو تتمدد دون أي تأثير آخر، فإذا كان القمر يرفع المياه، أو يجعل الأشياء الرطبة تنتفخ أو تتمدد، وإذا كان المحيط النجمي يجذب الكواكب تجاه نقاط أوجها، أو الشمس تحفظ الزهرة وعطارد على مسافة محددة من جرمها لا يتجاوزانها، فليس من الملائم - فيما يبدو - أن تدرج هذه الحركات كحركات احتشاد أكبر أو أصغر، فيبدو أنها صور وسطى وغير كاملة من الاحتشاد، وينبغي من ثم أن تشكل نوعها الخاص. (10)
ولتكن الحركة العاشرة هي «حركة الاجتناب»
motion of avoidance ، وهي حركة عكس حركة «الاحتشاد الأصغر»، في «حركة الاجتناب» تفر الأجسام - بدافع الكراهية الفطرية - من الأجسام المعادية وتعزل نفسها عنها، وتأبى أن تمتزج بها، وقد تبدو هذه الحركة من بعض الوجوه مجرد حركة طارئة - كعرض ونتاج - على حركة الاحتشاد الأصغر، إذ إن الأشياء المتجانسة لا يمكنها أن تندمج معا دون أن تستبعد وتتخلص من الأشياء غير المتجانسة، إلا أنها ينبغي أن تصنف كحركة في ذاتها وتجعل نوعا بذاته؛ لأنه في حالات كثيرة نجد أن الرغبة في الاجتناب تطغى على الرغبة في التضام.
هذه الرغبة واضحة على نحو خاص في حالة فضلات الحيوانات، وبنفس الدرجة في الأشياء المنفرة لبعض الحواس وبخاصة الشم والذوق، فالرائحة الكريهة ترفضها حاسة الشم رفضا عنيفا بحيث تحدث بالتوافق حركة طرد في فم المعدة، والطعم المر الكريه يرفضه الحنك أو الزور رفضا عنيفا، بحيث يحدث بالتوافق اهتزازا بالرأس ورعشة، تحدث هذه الحركة أيضا في أشياء أخرى، فهي تلاحظ في أشكال معينة من ردود الأفعال، مثلما يحدث في المنطقة الوسطى من الهواء، حيث يبدو أن البرد نتيجة لاستبعاد طبيعة البرودة من منطقة الأجرام السماوية، مثلما أن تلك الحرارة العظيمة وذلك اللهب الشديد الموجود في المناطق تحت الأرضية هما استبعاد لطبيعة الحرارة من باطن الأرض؛ ذلك أن الحرارة والبرودة - في مقادير صغيرة - تفني إحداهما الأخرى، أما إذا حدثتا في كتل أكبر أو قل بكامل قوتهما، عندئذ تكافحان حقا لكي تستبعد وتطرد كل منهما الأخرى من الأماكن، يقال أيضا: إن القرفة والأشياء الزكية تحتفظ برائحتها فترة أطول عندما توضع بمقربة من المراحيض والأماكن الكريهة؛ لأنها ترفض أن تخرج وتختلط بالروائح العطنة، ومن المؤكد أن الزئبق يمنع من الرجوع إلى صورته الكاملة، كما يميل إذا ترك لحاله بواسطة لعاب الإنسان أو شحم الخنزير أو زيت التربنتينة وما إلى ذلك، الذي يمنع أجزاءه من الاتحاد لعدم توافقها مع أجسام من هذا القبيل، وعندما تحاط بمثل هذه الأجسام فإنها تنسحب، وهكذا يكون «اجتنابها» للمواد الدخيلة أقوى من رغبتها في الاتحاد مع الأجزاء التي تشبهها، وهذا ما يسمونه
mortification of quicksilver (إماتة/غنغرينا الزئبق)، وحقيقة أن الزيت لا يمتزج بالماء لا تعود فقط إلى اختلاف النقل، بل أيضا إلى عدم التوافق فيما بينها، كما يمكننا أن نشاهد من الكحول الذي هو أخف من الزيت ولكنه يمتزج بالماء امتزاجا جيدا، وأوضح الأمثلة جميعا هو حركة «الاجتناب» في النيتر
87
وما إليها من المواد الخام - التي لديها ذعر من النار - كما في البارود والزئبق والذهب أيضا، إلا أن «اجتناب» الحديد لأحد قطبي المغناطيس - كما بين جلبرت بشكل جيد - ليس «اجتنابا» بالمعنى الصحيح، بل هو إذعان وقبول للوضع الأنسب. (11)
ولتكن الحركة الحادية عشرة هي «حركة التمثل»
motion of assimilation
أو «التضاعف (التكاثر) الذاتي»
self-multiplication
أو «التكون البسيط»
simple generation ، ولست أعني ب «التكون البسيط» تكون الأجسام الكاملة - كما في النباتات والحيوانات - بل تكون الأجسام البسيطة، بهذه الحركة تقوم الأجسام الشبيهة بتغيير أجسام أخرى مقاربة لها أو على الأقل ميالة لها، وتحويلها إلى مادتها وطبيعتها الخاصة، مثل: اللهب الذي يتضاعف بالأبخرة والمواد الزيتية ويكون لهبا جديدا، والهواء الذي يتضاعف فوق الماء والمواد المائية ويكون هواء جديدا، والروح النباتية والحيوانية التي تتضاعف فوق الأجزاء الأرق من المواد المائية والزيتية بالطعام وتكون روحا جديدة، والأجزاء الصلبة للنبات والحيوان مثل الأوراق والأزهار واللحم والعظم ... إلخ والتي يتمثل كل منها ويكون مادة جديدة كل يوم من عصير غذائها، إذ يجب ألا يهذي أحد مع باراسيلسوس
(فلربما أعمته خيباته) الذي ذهب إلى أن التغذية لا تحدث إلا بالانفصال، وأن العين والأنف والدماغ والكبد كامنة في الخبز، والجذور والأوراق والأزهار كامنة في رطوبة الأرض، فمثلما يجبل الفنان من الكتلة الخام للحجر أو الخشب بالفصل والاستبعاد لما هو زائد ورقا وزهرا وعينا وأنفا ويدا وقدما ... إلخ، كذلك يجبل أركيوس
Archaeus
الفنان الداخلي من الطعام بالفصل والاستبعاد شتى أعضاء جسمنا وأجزائه، ولكن بعيدا عن هذا الهراء فإن من المؤكد تماما أن جميع أجزاء النباتات والحيوانات - سواء المتجانسة أو العضوية - تجذب أولا تلك العصائر المتضمنة في طعامنا، والتي هي مشتركة تقريبا أو على الأقل غير شديدة الاختلاف، ثم تتمثلها وتحولها إلى طبيعتها الخاصة، هذا التمثل أو التكون البسيط ليس وقفا على الأجسام الحية، وإنما الأجسام غير الحية أيضا تشارك في نفس الخاصية (كما قلنا عن اللهب والهواء)، وتلك الروح الواهنة المتضمنة في كل مادة حية عينية تعمل - بلا توقف - على الأجزاء الأكبر وتهضمها وتحولها إلى روح، والتي تهرب بعد ذلك؛ مما يسبب فقدان الوزن والجفاف كما قلنا في موضع آخر، وفي حديثنا عن «التمثل» ينبغي ألا نغفل عن ذكر ال
accretion (النمو الالتحامي) الذي يتميز عادة عن التغذية، مثلما يحدث عندما يتصلب الطين الذي بين الأحجار ويتحول إلى مادة صلبة، وعندما تتصلب المادة القشرية على الأسنان وتتحول إلى مادة لا تقل صلابة عن الأسنان ذاتها ... إلخ، فأنا على الرأي القائل بأن في الأجسام جميعا رغبة للتمثل لا تقل عن الرغبة في الاتحاد بمواد مجانسة لها، إلا أن هذه القوة مقيدة كالأخرى تماما، وإن لم يكن بنفس الطرائق، وعلينا أن ندرس هذه الطرائق بكل جد وكذلك انحلالها؛ لأنها ذات صلة بإنعاش القوة الحيوية في الشيخوخة، وأخيرا يجدر بالملاحظة أنه في الحركات التسع السابقة تبدو الأجسام ساعية فقط إلى حفظ طبيعتها الخاصة، أما في هذه فتبدو ساعية إلى التكاثر. (12)
ولتكن الحركة الثانية عشرة هي حركة «الإثارة»
stimulation ، تبدو هذه الحركة نوعا من «التمثل»، وأنا أحيانا أسميها بنفس الاسم دون تمييز، فهي حركة منتشرة واتصالية وانتقالية وتضاعفية، شأنها شأن الأخرى، ومتفقة معها - على الإجمال - في تأثيرها وإن بطريقة أخرى في إحداثه وفي موضوعها، فحركة «التمثل» تمضي كأنما بقوة وسلطان، تأمر وتضطر المادة المتمثلة إلى أن تتحول وتتغير إلى المادة التي تتمثلها، أما حركة «الإثارة» فتمضي كأنما بفن وتلميح وخلسة، وبمجرد إغراء المادة المثارة وتكييفها بطبيعة المادة التي تثيرها، كما أن حركة «التمثل» تضاعف الأجسام والمواد وتحولها تماما، فتنتج لهبا أكثر وهواء أكثر وروحا أكثر ولحما أكثر. أما في حركة «الإثارة» فإن القوى فقط هي ما يتضاعف، فتنتج حرارة أكبر ومغناطيسية أكثر وتحلل أكثر، وتتجلى هذه الحركة - بشكل خاص - في الحرارة والبرودة، فالحرارة لا توصل ذاتها في عملية تسخين الأجسام الأخرى بأن تقاسمها حرارتها الأصلية، بل بإثارة أجزاء تلك الأجسام إلى تلك الحركة التي هي «صورة الحرارة»، والتي تحدثت عنها في «القطف الأول لطبيعة الحرارة»؛ لذا فإن الحرارة تثار في الحجر أو المعدن بشكل أبطأ كثيرا وصعوبة أكبر مما تثار في الهواء؛ لأن هذه الأجسام غير مكيفة وغير قابلة لتلك الحركة، ومن ثم فمن المحتمل أن هناك بعض المواد تجاه مركز الأرض غير قادرة مطلقا على أن تسخن؛ بسبب كثافتها الكبيرة التي قد تجردها من الروح التي بها تثار هذه الحركة، وبالمثل أيضا يخلق المغناطيس في الحديد ميلا جديدا في أجزائه وحركة مطاوعة دون أن يفقد أي شيء من قوته، وكذلك خميرة الخبز وخميرة الجعة والإنفحة وبعض السموم تثير وتحفز حركة مستمرة ومتتابعة في كتلة العجين والجعة والجبن أو في الجسم البشري، ليس بسبب قوة الجسم المثير بقدر ما هو بسبب استعداد الجسم المثار واستسلامه. (13)
ولتكن الحركة الثالثة عشرة هي «حركة الطبع»
motion of impression : هذه الحركة أيضا هي نوع من «التمثل»، وهي الأكثر رهافة بين الحركات المنتشرة، وقد ارتأيت أن أجعلها نوعا بعينه من الحركة بسبب اختلافها الملحوظ عن الحركتين الأخريين، فالحركة البسيطة ل «التمثل » تحول الأجسام نفسها، بحيث إذا أزلت الفاعل الأول فلن تقلل من تأثير ما سيتلوه، وهكذا فلا الشرارة الأولى للهب ولا التحول الأول إلى هواء له أي تأثير على اللهب أو الهواء المتولد كنتيجة، كذلك تدوم «حركة الإثارة» في صورتها الكاملة لفترة طويلة جدا بعد زوال مصدر الحركة، مثلما يحدث في الجسم المسخن عندما يزول مصدر الحرارة، وفي الحديد المثار عندما يبعد المغناطيس، وفي كتلة العجين عندما تزال الخميرة، أما حركة الطبع فرغم أنها منتشرة وانتقالية، فهي تعتمد - فيما يبدو - على المحرك الأول دائما وأبدا، بحيث إذا أزيل أو توقف تفشل الحركة وتنتهي للتو؛ ولذا فإن تأثيرها لا يلبث غير لحظة أو أمد زمني قصير جدا على الأقل، وقد أطلقت على «التمثل والإثارة» اسم حركات «ولادة جوبيتر»؛ لأن التكون يستمر، أما هذه فأسميها حركة «ولادة زحل»؛ لأنها ما إن تولد حتى تلتهم وتبتلع، تفصح هذه الحركة عن نفسها في ثلاثة أشياء: في أشعة الضوء، وفي قرع الصوت، وفي المغناطيسية من حيث اتصالها. فأنت إذا ذهبت بالضوء فإن الألوان وصوره الأخرى تختفي في الحال، وإذا ذهبت بالقرع الأصلي والاهتزازات الجسمية التي يحدثها يذهب بالصوت فورا، فرغم أن الأصوات تضطرب في انتقالها خلال الوسط بفعل الرياح كما لو كان بفعل أمواج، إلا أن على المرء أن يلاحظ بعناية أن الصوت الأصلي لا يبقى طوال الوقت الذي يستمر فيه الرنين، فأنت حين تقرع جرسا فإن الصوت يبدو مستمرا فترة ممتدة، فيغريك ذلك بأن تفترض أن الصوت يظل طوال الوقت طافيا وعالقا في الهواء، وهو غير صحيح على الإطلاق،
88
فالرنين ليس هو الصوت ذاته بل تجدد له، يتضح ذلك حين تكبت أو توقف الجسم الذي قرع، فإذا مسكت بالجرس بقوة بحيث لا يمكنه أن يتحرك فإن الصوت يسكت في الحال ولا يعود ثمة رنين، وإذا لمست الوتر بعد ضربه (بإصبع في حالة القيثار، أو بالريشة في حالة السبنيت)
89
يتوقف الرنين في الحال، وإذا أبعدت المغناطيس يسقط الحديد للتو، غير أن القمر لا يمكن إبعاده عن البحر ولا الأرض عن ثقل كبير يهوي، ومن ثم لا يمكننا إجراء تجربة في هذه الحالات، غير أن المبدأ واحد. (14)
ولتكن الحركة الرابعة عشرة هي «حركة الهيئة أو الوضع»
motion of configuration or position ، وبها تبدو الأجسام راغبة لا في الاتحاد أو الانفصال، بل في الوضع والارتصاف مع غيرها، هذه الحركة غامضة جدا ولم تدرس جيدا، وهي تبدو في بعض الأشياء بلا علة، وإن كانت في الحقيقة غير ذلك (على حد اعتقادي)، فإذا سأل سائل: لماذا تدور السماء من الشرق إلى الغرب لا من الغرب إلى الشرق؟ أو لماذا تلف على قطبين قريبين من الدب لا من الجوزاء أو جزء آخر من السماء؟ فإن مثل هذا السؤال يبدو غير معقول تماما؛ إذ إن هذه الظواهر ينبغي قبولها على أساس الخبرة وكوقائع عجماء، والحق أن هناك بالتأكيد بعض أشياء في الطبيعة هي نهائية ولا علة لها، ولكن ما نحن بصدده لا يبدو أنه من بينها، فأنا أعتقد أن سببه تناغم وتوافق معين في العالم لم يدخل بعد تحت الملاحظة، والأسئلة نفسها تبقى قائمة إذا قبلنا أن حركة الأرض هي من الغرب إلى الشرق، فهي أيضا لا بد تدور حول أقطاب معينة، فلماذا يجب أن تكون هذه الأقطاب حيث هي بدلا من أن تكون في أي موضع آخر؟ وبالمثل تعزى قطبية البوصلة واتجاهها وانحرافها إلى هذه الحركة، يلاحظ أيضا في الأجسام الطبيعية والصناعية معا - وبخاصة إذا كانت صلبة وغير سائلة - ارتصاف معين ووضع للأجزاء ولما قد نسميه شعرا وأليافا، وهو أمر يحتاج إلى بحث دقيق؛ لأننا إذا لم نكتشفه ونفهمه فلن يمكننا أن نعرض لهذه الأشياء ونتحكم فيها على نحو صحيح، أما تلك التيارات في السوائل التي بها يخفف بعضها عن بعض حين تكون تحت ضغط، حتى يتوزع العبء بالتساوي ريثما تستطيع أن تحرر نفسها، فإنها تنتمي على نحو أصح إلى «حركة الحرية»
motion of liberty . (15)
ولتكن الحركة الخامسة عشرة هي «حركة المرور»
motion of passage ، أو «الحركة وفقا للمسارات»
motion according to pathways ، التي بها تعاق قوى الأجسام أو تعزز بواسطة الوسط الذي هي فيه، بحسب طبيعة الأجسام وقواها النشطة وبحسب الوسط أيضا؛ فهناك وسط يلائم الضوء، وآخر يلائم الصوت، وثالث يلائم الحرارة والبرودة، ورابع يلائم القوى المغناطيسية، وهلم جرا. (16)
ولتكن الحركة السادسة عشرة هي الحركة «الملكية»
royal (كما أسميها)، أو الحركة «السياسية» التي بها تقوم الأجزاء المسيطرة والحاكمة من الجسم بتقييد الأجزاء الأخرى وترويضها وإخضاعها وتنظيمها وإرغامها على أن تتحد وتتفرق وتتوقف وتتحرك وتتخذ مواضعها المحددة، لا برغبتها الخاصة بل وفق نظام معين ووفق ما هو أنسب لخير الجزء الحاكم وصالحه. ثمة إذن نوع من الهيمنة أو الحكومة يمارسها الجزء الحاكم على الأجزاء المحكومة، تتجلى هذه الحركة في أظهر صورة في روح الحيوان، التي تلطف جميع حركات الأجزاء الأخرى ما دامت هي في قوتها، وتوجد أيضا بدرجة أقل في الأجسام الأخرى، كما قلنا عن الدم والبول اللذين لا ينحلان حتى تطرد أو تخنق الروح التي مزجت أجزاءهما معا، وليست هذه الحركة حكرا على الأرواح، وإن كانت الأرواح مسيطرة في معظم الأجسام بفضل سرعة حركتها ونفاذها، ففي الأجسام الكثيفة غير الممتلئة بروح قوية وحيوية (مثلما هو الحال في الزئبق والزجاج)، فإن الأجزاء الأغلظ هي المسيطرة، ومن ثم فلا أمل في أي تحويل جديد لهذه الأجسام ما لم ينزع هذا النير أو الكابح بحيلة فنية ما. ولا يتصورن أحد أني قد نسيت موضوع الحديث بالنظر إلى أنني (وإن لم أبغ من هذا الاستعراض الوصفي لضروب الحركة إلا البحث الأفضل لهيمنتها، من خلال شواهد الصراع) أتناول الآن الهيمنة فيما بين الحركات نفسها؛ ذلك أنني في وصف «الحركة الملكية» لا أعالج هيمنة الحركات أو القوى، بل هيمنة أجزاء الأجسام، تلك هي «الهيمنة» التي تشكل هذا النوع من الحركة. (17)
ولتكن الحركة السابعة عشرة هي «حركة الدوران التلقائية»
spontaneous motion of rotation ، التي بها تكون الأجسام الميالة للحركة والموجودة في وضع موات مستمتعة بطبيعتها الخاصة، تسعى إلى ذاتها فحسب، لا إلى الأجسام الأخرى، وتريد أن تعانق ذاتها، فيبدو أن الأجسام إما تتحرك بغير حد، وإما تبقى ساكنة تماما، وإما تميل إلى حد وحين تبلغه فإنها - بحسب طبيعتها - إما أن تدور أو تسكن. تتحرك الأجسام ذات الوضع الجيد والتي تحب الحركة، تتحرك في دائرة، أي في حركة أبدية ولا نهائية، أما الأجسام ذات الوضع الجيد والتي تكره الحركة فإنها ببساطة تسكن، وأما الأجسام التي ليست في وضع جيد فتتحرك في خط مستقيم (بوصفه أقصر طريق) إلى رفقة أجسام من نفس الطبيعة، ولحركة الدوران تسعة عناصر مختلفة؛ الأول: المركز الذي حوله تدور الأجسام، والثاني: الأقطاب التي عليها تتحرك، والثالث: المحيط أو الفلك (المدار) بحسب بعدها من المركز، والرابع: سرعتها، أكانت تتحرك أسرع أو أبطأ، والخامس: اتجاه حركتها، من الشرق إلى الغرب أم من الغرب إلى الشرق، والسادس: انحدارها عن الدائرة الكاملة في خطوط حلزونية بعيدة نوعا ما عن مركزها، والسابع: انحدارها عن الدائرة الكاملة في خطوط حلزونية بعيدة نوعا ما عن أقطابها، والثامنة: طول أو قصر المسافة بين هذه الخطوط الحلزونية، والتاسع والأخير: تنوع الأقطاب نفسها، إذا كانت قابلة للحركة، وهذه الأخيرة لا علاقة لها بالدوران إلا إذا كان دائريا. هذه الحركة - في الاعتقاد الشائع والقديم العهد - يعتقد أنها الحركة التي تليق بالأجرام السماوية، غير أن هناك جدلا حول هذه الحركة بين بعض المحدثين بالإضافة إلى بعض القدماء الذي يعزون «الدوران» إلى الأرض، ولكن هناك خلافا آخر وربما يكون أكثر معقولية بكثير (إن لم يكن فوق الخلاف تماما) فيما إذا كانت (بالتسليم بأن الأرض ثابتة) هذه الحركة مقصورة على السماء أم أنها تهبط وتصل نفسها بالهواء والمياه، إلا أني أعزو «الدوران» في القذائف والحراب والسهام والرصاص ... إلخ، أعزوه بالكامل إلى حركة «الحرية». (18)
ولتكن الحركة الثامنة عشرة هي حركة «الارتعاش»
trembling ، ليس بالمعنى الذي يفهمه الفلكيون، والذي لا أعتقد فيه كثيرا، إلا أن هذه الحركة تواجهنا حين نجد في البحث الشامل عن ميول الأجسام الطبيعية، وينبغي - فيما يبدو - أن تمثل نوعا بذاتها، إنها أشبه بحركة الأسر الأبدي إن جاز التعبير، أي عندما تكون الأجسام في وضع ليس هو الأمثل لطبيعتها إلا أنه ليس وضعا موئسا، هنالك ترتجف الأجسام ارتجافا مستديما ، وتعيش في عدم الاستقرار، لا هي تقنع بمكانها، ولا هي تجرؤ على المضي قدما، تجد هذه الحركة في قلب الحيوانات ونبضها، وهي لا بد موجودة في جميع الأجسام التي تعيش في حالة بين بين، بين يسر وعسر، ومن ثم تجاهد تحت الضغط أن تحرر نفسها فتصد، ثم تعاود المحاولة ثانية وهكذا دواليك. (19)
ولتكن الحركة التاسعة عشرة والأخيرة هي الحركة التي قلما ينطبق عليها اسم الحركة، ولكنها في الحقيقة حركة، ولنطلق عليها حركة «الرقاد»
repose
أو حركة «النفور من الحركة»، بهذه الحركة تقف الأرض في كتلتها نفسها بينما أطرافها تتحرك تجاه الوسط لا تجاه مركز تصوري، بل تجاه الاتحاد، هذه أيضا هي الرغبة التي بها تبغض جميع الأجسام العالية الكثافة الحركة، ولا ترغب إلا في شيء واحد هو ألا تتحرك، ومهما تستفز لكي تتحرك وتستثر بألف طريقة فإنها تبقى محتفظة بطبيعتها (ما وسعها ذلك)، وإذا أرغمت على الحركة فإنها تتحرك - فيما يبدو - لا لشيء إلا لكي تستعيد سكونها ووضعها، وفي هذه العملية تظهر نفسها نشطة حقا وتبذل جهودا رشيقة وسريعة (كأنها في سأم فعلا ولا تصير على أي تأخير)، ونحن لا نملك إلا رؤية جزئية لهذه الرغبة؛ لأن الأجسام العينية هنا على الأرض ليست كثيفة لأقصى درجة، بل هي ممزوجة ببعض الروح، وذلك بفعل الأجرام السماوية وتأثيرها.
ها نحن أولاء قد عرضنا المبادئ أو العناصر البسيطة للحركات والميول والقوى النشطة الأوسع انتشارا في الطبيعة، ورسمنا فيها معالم قسط غير يسير من العلم الطبيعي، ولست أدعي استحالة إضافة أنواع أخرى، كما أن التقسيمات نفسها قد تعدل لتلائم الخطوط الحقيقية للأشياء على نحو أفضل، وقد تختزل إلى عدد أصغر، ولكني لا أعني أن هذا مجرد تقسيم تجريدي، كما لو أن على المرء أن يقول: إن الأجسام ترغب في حفظ ذاتها أو في النمو أو التكاثر أو الاستمتاع بطبائعها الخاصة، أو أن حركات الأشياء تميل إلى المحافظة والمصلحة الخاصة، إما بالكل (كما في حالة المقاومة والارتباط)، أو بالوحدات الكبيرة كما في حركة «الاحتشاد الأكبر» و «الدوران» و«النفور من الحركة»، أو بالصور الخاصة كما في الحالات الأخرى، فرغم صحة هذه الأشياء إلا أنها تظل نظرية وقليلة الجدوى ما لم تتحدد مادتها وبنيتها تحديدا صحيحا، غير أنها في الوقت الحالي ستكون كافية ومفيدة جدا في تقدير هيمنة القوى، وفي استقصاء شواهد الصراع التي تشكل موضوعنا الحالي.
فبعض الحركات التي قدمتها لا يقهر على الإطلاق، وبعضها أقوى من البعض وبوسعها أن تقيده وتكبحه وتتحكم فيه، والبعض يمتد إلى مسافات أبعد، والبعض يفوق غيره في الوقت والسرعة، والبعض يكلأ غيره ويقويه ويزيده ويسرعه.
إن حركة «المقاومة»
indestructibility
هي حركة عنيدة تماما ولا تقهر، أما حركة «الارتباط»
connection/bonding
فلست على يقين من أنها لا تقهر، إذ إني لا أجزم بأن هناك فراغا، سواء كان فراغا مجتمعا في مكان واحد أو كان ممتزجا بالمادة، غير أني موقن من شيء واحد، وهو أن السبب الذي دفع ليوسيبوس وديمقريطس إلى القول بوجود الفراغ (وهو أنه لولا وجود الفراغ لما استطاعت نفس الأجسام أن تحتوي وتملأ الأماكن على اختلاف أحكامها) هو سبب زائف؛ ذلك أن المادة قادرة على أن تطوي ذاتها في المكان وتنشرها داخل حدود معينة، دون تدخل فراغ، وليس ثمة فراغ في الهواء عشرون ضعفا من الفراغ الموجود في الذهب، وهو ما تحتمه فرضيتهما. وأنا على قناعة كافية بذلك بالنظر إلى القوى الشديدة للأجسام الهوائية (وإلا لظلت طافية في مكان فارغ مثل ذرات الغبار)، وإلى براهين أخرى كثيرة، أما عن الحركات الأخرى فهي تحكم وتحكم بدورها وفقا لقوتها وكميتها وسرعتها وقوة دفعها والمواتيات والمعوقات التي تقابلها.
مثال ذلك: إن هناك بعض المغناطيسات المدرعة بوسعها أن تمسك بأثقال حديدية ستين ضعف وزنها، إلى هذا الحد تهيمن «حركة الاحتشاد الأصغر» على «حركة الاحتشاد الأكبر»، ولكن إذا زاد الوزن عن ذلك فإنها تستسلم، وبوسع رافعة ذات طول معين أن ترفع ثقلا ضخما، إلى هذه الدرجة تهيمن حركة «الحرية» على حركة «الاحتشاد الأكبر»، ولكن إذا زاد الثقل عن ذلك تستسلم، والجلد المشدود حتى درجة معينة لا ينقطع ، إلى هذه النقطة تهيمن حركة «التماسك» على حركة «التوتر»، ولكن إذا زاد التوتر عن ذلك ينقطع الجلد وتستسلم حركة «التماسك»، والماء المنسرب من شق بحجم معين، إلى هذه النقطة تهيمن حركة «الاحتشاد الأكبر» على حركة «التماسك»، ولكن إذا كان الشق صغيرا جدا فإن حركة «الاحتشاد الأكبر» تستسلم، وتسود حركة «التماسك»، وإذا وضعت مسحوق كبريت بسيط في بندقية بها رصاصة وأطلقت النار فإن الرصاصة لا تنطلق، في هذه الحالة تهيمن حركة «الاحتشاد الأكبر» على «حركة المادة»، ولكن إذا وضعت بارودا فإن «حركة المادة» في الكبريت تسود، إذ تؤازرها هذه الحركة وحركة «الاجتناب» في النيتر (النترات)، وهكذا في البقية، فشواهد الصراع (التي تشير إلى هيمنة القوى، وفي أية مقادير ونسب هي تهيمن أو تستسلم) يجب أن يبحث عنها في كل مكان باجتهاد شديد ومتواصل.
علينا أيضا أن نجري دراسة جادة لطرائق وأسباب استسلام الحركات، فهل هي مثلا تتوقف تماما، أم هي تظل تقاوم ولكنها تغلب على أمرها؟ ففي الأجسام التي هنا على الأرض ليس ثمة راحة حقيقية، لا في الكلات ولا في الأجزاء، بل هناك فحسب مظهر الراحة، وهذه الراحة الظاهرية تنجم إما عن «التوازن» وإما عن «الهيمنة» المطلقة للحركات: عن «التوازن» في حالة الموازين التي تقف ساكنة إذا كانت الأوزان متساوية، وعن «الهيمنة» في حالة الجرار المثقوبة، حيث يمكث الماء في مكانه ويمنع من السقوط بهيمنة حركة «الارتباط»، إلا أن على المرء أن يلاحظ (كما قلت آنفا) كم تبذل الحركات المستسلمة من جهد، فإذا ثبت شخص أرضا، ممددا ومربوط الذراعين والرجلين، أو مقيدا بطريقة أخرى، إلا أنه يحاول بكل قوته أن يقوم، فإن مقاومته ليست أقل وإن كانت غير ناجحة. إن الموقف الحقيقي هنا (أي ما إذا كانت حركة الاستسلام منعدمة بواسطة «الهيمنة» أم أن المقاومة مستمرة وإن كنا لا نراها) ربما سيظهر في تزامن الحركتين وإن غم علينا في صراعهما، ولنجر تجربة في الرماية على سبيل المثال: احسب المدى الذي تقطعه الرصاصة المنطلقة من البندقية في خط مستقيم (قبل أن تنحدر) أو
at point-blank range (كما يقولون)، ثم انظر ما إذا كان الرمي إلى أعلى سيجعل الرمية أوهن من الرمي إلى أسفل، حيث حركة الجاذبية تعضد حركة الرمي.
علينا أيضا أن نجمع قواعد «الهيمنة» التي نجدها، مثلا: قاعدة أنه كلما كان الخير المستهدف من الحركة أعم كانت الحركة أقوى، هكذا فحركة «الارتباط» المتضمنة في وحدة العالم أقوى من حركة الجاذبية المتضمنة في اتحاد الأجسام الثقيلة، مثال آخر: قاعدة أن الرغبات التي هي خبرات خاصة لا تسود عامة على الرغبات التي هي أميل إلى الخير العام، إلا حيث تكون المقادير صغيرة، ويا ليتها تكون القاعدة في السياسة! ••• (49) وفي المرتبة الخامسة والعشرين بين شواهد الامتياز سأضع «الشواهد المشيرة»
suggestive instances ،
90
أي الشواهد التي تومئ إلى أو تشير إلى منافع بشرية؛ ذلك أن مجرد القدرة أو المعرفة في ذاتهما إنما تعظمان الطبيعة البشرية ولا تجعلانها سعيدة؛ لذا فمن بين جملة الأشياء ينبغي أن ننتقي تلك التي هي أنفع للبشرية، على أنه سيكون لدينا فرصة أفضل للحديث عن هذه عندما نعرض للمتضمنات العملية، كما أنني في عملية التفسير نفسها سوف أقيض مكانا في كل موضوع ل «الجدول الإنساني»
human chart
أو «قائمة الأشياء التي يليق بنا أن نرغب فيها»، ذلك أن الرغبة الصحيحة هي جزء من العلم، شأنها شأن الأسئلة الصحيحة. ••• (50) وفي المرتبة السادسة والعشرين بين شواهد الامتياز سأضع «الشواهد المتعددة الغرض»
multipurpose instances ،
91
وهي تلك الشواهد التي تتعلق بمواضيع متنوعة وتحدث بتواتر كبير، وهي بذلك تعفينا من الكثير من الجهد والبراهين الجديدة، والموضع الصحيح للحديث عن الآلات والأجهزة نفسها هو حين آتي للحديث عن التطبيقات العملية ومناهج التجريب، وتلك التي تم اكتشافها بالفعل ووضعت قيد الاستخدام سوف أتناولها في التاريخ الخاص بكل فن، وسأضع الآن بعض الملاحظات العامة عنها كمجرد أمثلة لهذا الاستخدام المتعدد الغرض.
يعمل الإنسان على الأجسام الطبيعية (إلى جانب مجرد التجميع والتفريق) بسبع طرق معينة: باستبعاد كل ما يعيق ويربك بالضغط والمط والهز ... إلخ، بالحرارة والبرودة، بالاحتفاظ بالشيء في مكان ملائم، بتقييد وضبط الحركة، بتوافقات معينة أو بتبادل موقوت وملائم، أو بتسلسل وتعاقب لبعض ما سبق أو كله. (1)
بخصوص الطريقة الأولى: ثمة اضطراب كبير يسببه الهواء العام الذي ينتشر من حولنا ويمارس ضغطا، وتسببه أشعة الأجرام السماوية؛ لذا فإن كل ما يساعد على استبعادها قد يعد بحق من الأشياء «المتعددة الغرض»، يندرج تحت هذا مادة وسمك الأوعية التي توضع فيها الأجسام التي نهم بأن نشتغل عليها، وكذلك وسائل إغلاق الأوعية بإحكام بتصليبها أو بما يسميه الكيميائيون «معجون الحكمة»
putty of wisdom ، كذلك من الأشياء المفيدة جدا عزل الهواء عن طريق كسب سائل فوق سطح، كما يحدث عندما يسكبون زيتا فوق النبيذ أو عصير أعشاب، والذي ينتشر على قمة النبيذ مثل الغطاء ويحميه جيدا من الهواء. والمساحيق أيضا مساعدة؛ لأنها - رغم احتوائها على بعض الهواء - تطرد قوة الهواء الطلق المحيط، مثلما يحدث عندما يحفظون الكروم والفاكهة في الرمل والدقيق. الشمع أيضا والعسل والقار ومثل هذه المواد الصمغية تستخدم استخداما جيدا لكي تجعل عزل الهواء أكثر إحكاما وتزيل تأثيرها وتأثير الأجرام السماوية، وقد جربنا أيضا في بعض الأحيان وضع الوعاء أو الأجسام الأخرى داخل الزئبق وهو الأكثف بلا منازع بين المواد التي يمكن سكبها حول الأشياء. الكهوف أيضا والتجاويف تحت الأرضية مفيدة للغاية في منع التعرض للشمس وللتأثير الفتاك للهواء الطلق، وفي شمال ألمانيا يستخدمونها كمخازن للحنطة، وهذا أيضا ما يرمي إليه حفظ الأشياء تحت الماء، وأذكر أني سمعت بمن كان يحفظ قرب النبيذ في بئر عميقة (لكي تبقى باردة)، ثم نسيها فمكثت هناك سنوات طويلة، وعندما استخرجها وجد أن النبيذ لم يعد تفها عديم النكهة بل كان أطيب مذاقا ونكهة؛ بسبب امتزاج أجزائه - فيما يبدو - امتزاجا أكثر دقة واكتمالا، فإذا تطلب الأمر أن تغمر الأجسام في عمق الماء - النهر مثلا أو البحر - دون أن يمسها الماء، ودون أن تعزل في أوعية مختومة بل تكون محاطة بالهواء فقط، فإن من المفيد أن نستخدم ذلك الوعاء الذي استخدم أحيانا تحت الماء فوق السفن الغريقة، لكي يتمكن الغواصون من البقاء تحت الماء طويلا ومن التنفس بين الحين والحين، وهو عبارة عن حوض معدني أجوف يغمر في الماء بحيث يكون قعره موازيا لسطح الماء، وهو بذلك يحمل معه إلى قاع البحر كل الهواء الذي يحتويه. يقف هذا الوعاء على ثلاثة أقدام، بطول أقل قليلا من قامة إنسان، بحيث كلما نفد نفس الغواص فإن بوسعه أن يضع رأسه في تجويف الوعاء ويأخذ نفسا ثم يستأنف العمل، وقد سمعت عن جهاز اخترع مؤخرا يشبه السفينة الصغيرة أو القارب، يمكن أن يحمل الناس تحت الماء لمسافة معينة، على أن أي جسم يمكن أن يعلق بسهولة تحت مثل هذا الوعاء الذي وصفته، وهذا ما جعلني أورد هذه التجربة.
ثمة مزية أخرى للإغلاق المحكم والتام للأجسام، فهو لا يمنع الهواء الخارجي من الدخول فحسب (وهو ما تحدثت عنه للتو) بل يمنع روح الجسم أيضا - التي هي عملية داخلية - من الهرب، فكل من يشتغل في الأجسام الطبيعية يتعين عليه أن يكون متيقنا من الكميات الكلية التي لديه، أي أن يكون متيقنا من أنه لا شيء قد تبخر أو تسرب، فعندئذ - وعندئذ فقط - تحدث تغيرات عميقة في الأجسام عندما تمنع الطبيعة الفناء ويمنع الفن أيضا فقدان أو تبدد أي جزء، وقد سادت فكرة زائفة بخصوص هذه المسألة (والتي إذا صحت لما عاد هناك أمل في حفظ كمية معينة دون نقصان)، وهي أن أرواح المواد والهواء - الذي قد تخلخل من جراء درجة عالية من الحرارة - لا يمكن الاحتفاظ بأي منها في أي وعاء مختوم، إذ لا بد أن يتسرب من خلال المسام الدقيقة التي في الوعاء، وقد جر الناس إلى هذا الاعتقاد تلك التجربة الشائعة التي فيها يوضع كوب مقلوب فوق ماء به شمعة أو ورقة مشتعلة، إذ ينتج عن ذلك أن يسحب الماء إلى أعلى، وكذلك تجربة أكواب الحجامة التي تسحب اللحم إلى أعلى عندما تسخن فوق لهب، فهم يظنون في كلتا التجربتين أن الهواء المتخلخل يطرد ومن ثم تقل «كميته»، وبالتالي يرتفع الماء أو اللحم عن طريق حركة «الارتباط»، غير أن هذا خطأ كبير؛ لأن الهواء لم يقل في «الكمية»، بل انكمش في المكان، ولا تبدأ الحركة التالية للماء أو اللحم إلا حين ينطفئ اللهب أو يبرد الهواء؛ ولذا يضع الأطباء إسفنجا مشربا بماء بارد على أكواب الحجامة، وعليه فلا داعي للخوف الزائد من هروب الهواء أو الأرواح بسهولة، فرغم أن أصلب الأجسام لها حقا مسامها الخاصة، إلا أن الهواء أو الروح لا يسمح لنفسه أن يتخلخل لمثل هذه الدرجة المفرطة، مثلما أن الماء يأبى أن يهرب من خلال شق دقيق. (2)
بخصوص الطريقة الثانية من الطرق السابعة المدرجة، لاحظ - بصفة خاصة - أن الضغط وأشباهه من القوى العنيفة لها أقوى التأثير في إنتاج حركة في المكان، كما في الآلات أو القذائف، حتى إنه قد يسبب دمار الأجسام العضوية ودمار القوى التي تتألف كليا من الحركة، فالضغوط تدمر كل نوع من الحياة، بل تدمر كل لهب ونار، وتدمر وتشل كل آلة، ولها القدرة أيضا على تدمير القوى التي تتألف من ترتيب الأجزاء وتباينها الكبير، كما في الألوان (الزهرة المرضوضة ليس لها نفس اللون الذي للزهرة السليمة، وقطعة الكهرمان الكاملة ليست بلون نفس القطعة وهي مسحوقة)، كذلك الشأن في الطعوم، فالكمثرى الفجة ليس لها نفس المذاق الذي لكمثرى ضغطت باليد وطريت فصارت أكثر حلاوة بدرجة واضحة، غير أن هذه القوى العنيفة ليس لها تأثير كبير على التحولات والتغيرات الأبرز للأجسام المتشابهة؛ لأنها لا تكسب الأجسام حالة جديدة ثابتة ومستديمة، بل حالة مؤقتة تجهد دائما لكي تتحرر وتعود إلى صورتها الأصلية، على أننا لن نعدم فائدة إذا نحن أجرينا تجارب دقيقة في هذا السياق، لنرى ما إذا كان تكثيف أو خلخلة جسم متجانس تماما (كالهواء والماء والزيت ... إلخ) إذا أحدثناه بعنف يمكن أن يصير دائما وثابتا ويصبح نوعا من الطبيعة، وهذا الأمر ينبغي التحقق منه أولا بمنحه - ببساطة - فسحة من الوقت، ثم التحقق منه باستخدام أدوات وتوافقات، وقد كنت قمينا أن أفعل ذلك بسهولة (لو أنه خطر ببالي) عندما كنت أضغط الماء (كما ذكرت آنفا) بطرقه وكبسه قبل أن يتفجر. لقد كان ينبغي علي أن أترك الكرة المفلطحة بضعة أيام قبل أن أخرج الماء؛ لأشاهد بالتجربة هل يملأ في الحال نفس الحجم الذي كان له قبل التكثيف، فإذا لم يفعل ذلك لا على الفور ولا بعد قليل؛ لأمكن التحقق بوضوح من أن التكثيف ثابت، أما إذا فعل لتبين أن الارتداد للحالة الأصلية قد حدث، وأن الانضغاط كان مؤقتا، وكان علي أن أفعل شيئا مماثلا لذلك مع الهواء في البيض الزجاجي: كان علي أن أضع ختما محكما عليها فور الشفط القوي، ثم كان علي أن أترك البيض مختوما بعض الأيام، وعندها فقط أرى ما إذا كان الهواء يسحب من الفتحة مع صفير، أو ما إذا كانت نفس الكمية من الماء تندفع إلى الداخل عند الغمر كالتي كانت حرية أن تدخل في البداية إذا لم تكن ثمة فترة انتظار، فمن المحتمل (أو على الأقل جدير بالاختبار) أن هذا حدث أو يمكن أن يحدث باعتبار أن لمضي فترة من الوقت تأثيرا مماثلا في الأجسام التي هي أقل تجانسا بعض الشيء، حين تنثني عصا بالضغط فإنها بعد زمن معين لا يمكنها أن ترتد كما كانت، ولا ينبغي أن يعزى ذلك إلى أي نقصان في كمية الخشب في ذلك الوقت؛ لأن الشيء نفسه سيحدث لشريحة من الصلب (بعد فترة أطول) الذي لا يتبخر، ولكن إذا لم تنجح التجربة بمجرد مرور الوقت فلا تترك المشروع، بل حاول استخدام مساعدات أخرى، فإنه ليكون ذا نفع كبير إذا كان بالإمكان فرض طبائع ثابتة مستقرة على الأجسام بواسطة القوى العنيفة، بهذه الطريقة يمكن للهواء أن يتغير إلى ماء بالتكثيف، ويمكن عمل كثير من مثل هذه الأشياء، فالإنسان هو سيد الحركات العنيفة أكثر مما هو سيد الحركات الأخرى. (3)
ثالث الطرق السبع تتعلق بتلك الأداة العظيمة لعمليات الطبيعة والفن، وهي الحرارة والبرودة، من الواضح أن القوة البشرية في هذا الموضوع تظلع برجل واحدة، فنحن نمتلك حرارة النار، التي هي أقوى وأشد من حرارة الشمس (كما تصلنا) ومن حرارة الحيوانات بما لا يقاس، ولكننا لا نمتلك البرودة إلا ما يمكن أن نحصل عليه في الشتاء أو في الكهوف أو بإحاطة الأشياء بالجليد والثلج،
92
الذي قد يقارن في الدرجة بحرارة شمس الظهيرة في البلاد الاستوائية عندما تشتد بانعكاسات الجبال والجدران، هذه الحرارة والبرودة يمكن أن تتحملها الحيوانات لمدة قصيرة، ولكنها لا تقارن بحرارة التنور الفائر أو بالبرودة المناظرة لها في الدرجة؛ لذا فإن جميع الأشياء التي بيننا هنا تميل إلى الخلخلة والجفاف والنفاد، ولا شيء تقريبا يميل إلى التكثيف والطراوة إلا عن طرق المزج والطرق الاصطناعية؛ لذا فإن علينا أن نبذل غاية الجهد لجمع شواهد البرودة، مثلما يحدث - فيما يبدو - لدى تعرض الأجسام فوق المباني في البرد القارس، وفي الكهوف تحت الأرض، وفي الإحاطة بالثلج والجليد في أماكن عميقة محفورة لهذا الغرض، وفي إنزال الأشياء في الآبار، وفي تغطيتها بالزئبق والمعادن، وفي غمرها بالسوائل التي تحول الخشب إلى حجر، وفي دفنها في الأرض (يقال: إنها الطريقة التي يصنع بها الصينيون الخزف الصيني، حيث يقال: إن كتلا من المادة الملائمة لهذا الغرض تبقى تحت الأرض أربعين أو خمسين عاما، لكي تستخرج للورثة مثل نوع من المعدن الصناعي) ... وهلم جرا، علينا أيضا أن ندرس التكثيفات التي تحدث في الطبيعة والتي تنجم عن البرد، حتى إذا ما علمنا أسبابها فقد نطبقها في الفنون، مثلما نرى في تعرق الرخام والأحجار، وفي الندى المتكثف على زجاج النوافذ من الداخل تجاه الفجر بعد برد الليل، وفي تكون الضباب وتجمعه إلى ماء جوفي، والذي ينبجس في شكل ينابيع، وفي أي شيء آخر من هذا النوع.
إلى جانب الأشياء الباردة في اللمس، هناك أشياء وجد أن لها تأثيرا مبردا، وهذه أيضا لها تأثير مكثف، إلا أنها لا تعمل - فيما يبدو - إلا على أجسام الحيوانات، ولا تكاد تؤثر على أي شيء آخر، ولدينا أمثلة كثيرة على هذا الصنف بين الأدوية واللزقات، بعضها يكثف اللحم والأجزاء العينية، مثل الأدوية القابضة والمخثرة، وبعضها الآخر يكثف الأرواح، وأفضل مثال عليه الأدوية المنومة ، وهناك طريقتان يتم بهما تكثيف الأرواح بواسطة الأدوية المنومة؛ الأولى: بتهدئة الحركة، والأخرى: بطرد الأرواح، فالبنفسج والورد الجاف والخس والمواد اللطيفة والرقيقة تعمل - عن طريق أبخرتها اللينة والمبردة بلطف - على دعوة الأرواح إلى الاتحاد وتهدئة حركتها العنيفة والقلقة، كذلك ماء الورد الموضوع على الأنف في حالات الإغماء ينعش الأرواح المفرطة التفكك والتراخي ويرأمها، غير أن الأفيون - وأشباهه من المواد - تطرد الأرواح تماما بواسطة طبيعتها العدائية الخبيثة؛ ولذا فحين توضع على جزء خارجي فإن الأرواح تهرب على الفور من هذا الجزء ولا تعود إليه بسهولة، وحين تؤخذ داخليا فإن أبخرتها تصعد إلى الدماغ وتشتت الأرواح المحتواة في بطينات الدماغ تشتيتا تاما، وبينما تنسحب الأرواح ولا تجد مكانا تهرب إليه، فإنها تتحد وتتكثف، وأحيانا تختنق تماما وتخمد، ورغم ذلك فإن هذه الأفيونات نفسها في جرعات معتدلة، ومن خلال تأثير ثانوي (وهو التكثيف الذي يعقب الاتحاد) تقوي الأرواح وتنشطها وتكبح حركاتها الشعبية غير المقيدة، وكنتيجة لذلك تسهم بقدر كبير في علاج الأمراض وإطالة العمر.
ينبغي أيضا ألا نغفل تهيئة المواد لتلقي البرودة، مثال ذلك أن الماء الدافئ قليلا سوف يتجمد بسهولة أكثر مما يفعل الماء الشديد البرودة (!) وهكذا.
كما أن علينا - بالنظر إلى ندرة ما تقدمه لنا الطبيعة من البرد - أن نقتدي في ذلك بالصيادلة، إذ عندما يشح لديهم مكون بسيط يلجئون إلى أخذ بديل أو
quid pro quo
كما يسمونه، فيستخدمون الصبر بديلا عن البلسم، والسنا بديلا عن القرفة، كذلك علينا أن نفتش بعناية عما إذا كان ثمة أية بدائل للبرد، أي كيف يمكننا أن نحدث التكثيف بطريقة أخرى غير البرد، يبدو أن هناك أربعة أنواع فقط من التكثيف هي المعروفة حتى الآن؛ «الأول» يبدو أنه يحدث من خلال الضغط البسيط، وهو قليل الجدوى في إحداث تكثيف دائم؛ بسبب مرونة المواد وارتدادها، ولكنه قد يفيد كعامل مساعد، و«الثاني» يحدث من خلال انقباض الأجزاء الأكثف من الجسم بعد تبخر أو هروب الأجزاء الأدق، مثلما يحدث عندما تتصلب الأشياء بالنار أو عندما تسقى المعادن مرارا ... إلخ ، و«الثالث» بدمج الأجزاء المتجانسة من الجسم والأشد صلابة، والتي تم فصلها من قبل ومزجها بأجزاء أقل صلابة، كما في عودة الزئبق المصعد إلى حالته البسيطة، والتي تشغل حيزا أقل بكثير من حالته وهو مسحوق، والشيء نفسه قد يلاحظ في تنظيف جميع المعادن من الخبث، و«الرابع» يحدث من خلال التوافق، باستخدام مواد تتكثف بقوة ما خفية، هذه التوافقات ما زالت حتى الآن غير مدركة، وليس هذا بالأمر المستغرب، إذ ينبغي ألا تتوقع الكثير من بحث في التوافقات قبل أن نحرز تقدما في اكتشاف الصور والبنيات، وفيما يتعلق بأجسام الحيوانات، فمما لا شك فيه أن هناك أدوية عديدة تؤخذ داخليا وخارجيا أيضا تسبب تكثيفا كأنما بواسطة التوافق كما قلت آنفا، أما في الأشياء غير الحية فمثل هذا التأثير نادر، صحيح أن هناك لغطا كثيرا في الكتب وفي الشائعات معا عن قصة الشجرة التي بإحدى جزر الأزورس أو الكناري (لست أذكر أيهما) والتي تقطر بصفة دائمة، ومن ثم تزود الأهالي ببعض حاجتهم من الماء، ويتحدث باراسيلسوس عن عشبة تسمى
Sun-Dew (ندى الشمس) تمتلئ بالندى وقت الظهيرة تحت الشمس الحارقة حين تكون الأعشاب الأخرى جافة من حولها، وظني أن كلتا القصتين خرافية، أما إذا كانت صادقة فإن هذه الشواهد ستكون عظيمة الفائدة وأحق شيء بالدراسة، لست أتصور أيضا أن تلك الأنداء المعسولة - كالمن الذي يوجد على أوراق السنديان في شهر مايو - تتكون وتتكثف بسبب توافق أو خاصية لورق السنديان، ولكن في حين تسقط بالتساوي على جميع الأوراق فإنها تمسك ويحتفظ بها على ورق السنديان؛ لأنه متضام جيدا وليس مساميا شأن معظم الأوراق الأخرى.
أما عن الحرارة فإن لدى الإنسان حقا نصيبا وافرا منها وسطوة كبيرة عليها، غير أن الملاحظة والبحث شحيحان في بعض المسائل البالغة الضرورة مهما تبجح الكيميائيون. فالعمليات التي تتضمن حرارة جد شديدة يتم اقتفاؤها وملاحظتها، أما العمليات التي تتضمن حرارة ألطف وأقرب لطرائق الطبيعة فإنها تغفل ويغض عنها الطرف، ومن ثم تند عن الملاحظة؛ ولذا فنحن نرى في تلك الأفران التي تحظى بكل الاهتمام أن أرواح الأجسام تثار بشدة، كما في الأحماض القوية وبعض الزيت الكيميائية، بينما الأجزاء العينية تتصلب، وأحيانا تتثبت عندما يهرب العنصر الطيار، والأجزاء المتجانسة تنفصل والأجزاء غير المتجانسة تندمج وتتكتل في كتل أكبر، وأهم من ذلك ارتباط الأجسام المركبة، والبنيات الخفيفة تتحطم وتختلط، إلا أن عمليات الحرارة الألطف كان ينبغي أن تجرب وتستكشف، والتي كان يمكن أن تفضي إلى خلق واستخراج أمزجة أخف وبنيات أكثر انتظاما، على غرار عمل الطبيعة وبمحاكاة تأثيرات الشمس، والتي ألمعت إلى أمثلة منها في الشذرات الخاصة ب «شواهد التحالف»، فعمليات الطبيعة تتأدى بأجزاء أقل كثيرا وترتيبات أدق وأكثر تنوعا من عمليات النار كما نستخدمها الآن. إن الإنسان قمين حقا أن يزيد سلطانه إذا ما استطاع من خلال النار والقوى الصناعية أن يحاكي عمليات الطبيعة في النوع، ويتمها في القوة، وينوعها في العدد، وينبغي أن أضيف إلى ذلك: ويسرعها في الوقت، فالصدأ يستغرق وقتا طويلا لكي يعمل على الحديد، ولكن تأثير ال
sesquioxide
يظهر في الحال، وكذلك الشأن مع الزنجار والرصاص الأبيض، والبلور (الكريستال) يستغرق وقتا طويلا حتى يكتمل نموه، ولكن الزجاج ينفخ في لحظة، والصخور تأخذ سنوات لكي تتكون، ولكن قوالب القرميد تخبز سريعا ... وهكذا؛ ولذلك (لكي نعود إلى موضوعنا) ينبغي لجميع تنويعات الحرارة مع تأثيراتها المقابلة أن تجمع من كل مصدر وتدرس بجد ودأب: حرارة الأجرام السماوية خلال الأشعة المباشرة والمنعكسة والمنكسرة والمركزة في العدسات الحارقة وحرارة البرق واللهب والفحم المتقد ولهب المواد المختلفة، النار المفتوحة والنار المغلقة والنار المقحمة والنار المحتدمة، النار المعدلة بمختلف مواد الأفران، النار المثارة بالنفخ، النار الهادئة وغير المثارة، النار على مسافات مختلفة، النار وهي تسري خلال مختلف الوسائط، الحرارة الرطبة، مثل
Mary’s baths ، الروث، الحرارة الخارجية للحيوانات، الحرارة الداخلية للحيوانات، القش المخزون في مكان مغلق، الحرارة الجافة، مثل الرماد والجير والرمل الساخن، وكل صنف حقا من الحرارة بدرجاتها.
وعلينا فوق كل شيء أن نحاول أن ندرس ونميط اللثام عن تأثيرات وعمليات اقتراب الحرارة وابتعادها بالدرجات، وبالتدريج وباطراد وعلى فترات وعلى مسافات محددة وفترات محددة من الوقت، هذه التفاوتات المنظمة هي حقا بنت السماء وأم التكوين، ولا تنتظر أي نتيجة عظيمة من حرارة عنيفة مفاجئة أو منقطعة، وهذا شيء واضح جدا حتى في حالة النباتات، ولكن هناك أيضا تفاوتا عظيما في الحرارة في أرحام الحيوانات من جراء الحركة والنوم والطعام وانفعالات الأنثى الحامل، وأخيرا في رحم الأرض نفسها، الرحم الذي تتكون فيه المعادن والأحافير، يجد هذا التفاوت مكانه وقوته؛ الأمر الذي يكشف جهل بعض الخيميائيين من المدرسة المصلحة الذين ظنوا أن بوسعهم بلوغ طموحاتهم عن طريق الحرارة الثابتة للمصابيح وما شابهها من الأشياء تحترق بمعدل ثابت مطرد، وبحسبنا هذا من حديث عن عمليات وتأثيرات الحرارة، فليس هذا وقت بحثها بدقة قبل أن يتم بحث صور الأشياء وبنيات الأجسام ويكشف عنها الغطاء، فعندما تتم لنا معرفة النماذج سيكون الوقت قد أذن لكي نبحث عن أدواتنا ونستخدمها ونهيئها. (4)
طريقة العمل الرابعة هي بالاستمرارية والمواصلة (مرور الوقت) وهو أمين مخزن الطبيعة وناظرها، وأمين صندوقها بمعنى ما، وأنا أسميها الاستمرارية عندما يترك جسم ما لحاله فترة معتبرة من الزمن، محميا ومحصنا طوال ذلك من كل قوة خارجية؛ لأن الحركات الداخلية تشرع في ممارسة ذاتها والكشف عنها عندما تتوقف الحركات الخارجية والعرضية. إن أعمال الزمن لأدق وأخفى دبيبا من أعمال النار، فالنبيذ لا يمكن أن يبلغ ذلك الصفاء بالنار مثلما يبلغه من خلال مرور الزمن، ولا الرماد الذي تخلفه النار بأدق من التراب الذي تتحلل وتئول إليه الأشياء بكر العصور، وإن الدمج والمزج الفوري الذي تحدثه النار على عجل لأدنى بكثير من ذلك الذي يحدثه مرور الزمن، وإن التكوينات المتعددة والمتباينة التي تتخذها الأجسام خلال مرور الزمن (مثل أشكال التحلل المختلفة) لتفسدها النار أو الحرارة المتوسطة؛ لذا فنحن لا نخرج عن الجادة إذا سجلنا أن حركات الأجسام التي انحبست تماما تمارس نوعا من العنف عليها؛ وذلك لأن الحبس يعيق الحركات التلقائية للجسم، وعليه فإن مرور الزمن في وعاء مفتوح يحفز الانفصال، وفي وعاء محكم الإغلاق يحفز الامتزاج، وفي الوعاء المغلق بلا إحكام - بحيث يسمح بقليل من الهواء - يحفز التعفن، على أن شواهد عمل الزمن وتأثيراته ينبغي حقا أن تلتمس بدأب وتجمع بعناية من كل صوب وحدب. (5)
توجيه الحركة (وهو الطريقة الخامسة من طرق العمل) له أيضا تأثير لا يستهان به، وأنا أطلق هذا الاسم عندما أتحدث عن جسم يلتقي بآخر فيوقف حركته الأصلية أو يطردها أو يسمح بها أو يوجهها، وهو يتمثل عادة في أشكال الأوعية ووضعها، فالمخروط القائم يساعد على تكثيف الأبخرة في الإمبيق، أما المخروط المعكوس فيساعد تكرير السكر في الأوعية المستقبلة، وأحيانا ما يكون الالتواء مطلوبا، وأحيانا الضيق والاتساع على التوالي وهكذا، وكل تقطير يعتمد على هذا المبدأ: أن يفتح الجسم المتلقي الطريق لشطر من الجسم المتلقى ويغلقه عن شطر آخر، وليس كل تقطير أو توجيه آخر للحركة يحدث دائما من الخارج، بل يمكن أيضا أن يتم بواسطة جسم داخل الجسم، مثلما يحدث عندما يوضع الحصى في الماء لكي يجمع الوحل، وعندما تصفى الأشربة ببياض البيض فتلتصق به الأجزاء الأكثف ويمكن فصلها بعد ذلك، وقد بلغ الأمر بتلسيوس إلى أن يعزو أشكال الحيوانات إلى هذا التوجيه للحركة، فادعى أنها تعود إلى قنوات وانثناءات الرحم، وقد كانت تلك ملاحظة خرقاء وسطحية، وقد كان عليه أن يلحظ تكوينا مماثلا للأجنة داخل قشرات البيض جميعا، حيث لا تعاريج ثم ولا تفاوت، من الحق رغم ذلك أن توجيه الحركة يمنح الأشكال في حالة الصب والقولبة. (6)
العمل بواسطة التوافق (الانسجام) والنفور (وهو الطريقة السادسة) كثيرا ما يكون خبيئا في العمق، فهذه الخصائص السرية والخاصة (كما تسمى) «الانسجام (التعاطف) والكراهية»
sympathies and antipathies
هي إلى حد كبير فساد فلسفي، لا يمكننا أن نتوقع الكثير من اكتشاف توافقات الأشياء قبل اكتشاف الصور والبنيات البسيطة؛ ذلك أن التوافق لا يعدو أن يكون تماثلا متبادلا للصور والبنيات.
غير أن التوافقات الأكبر والأكثر عمومية ليست غامضة تماما؛ ولذا فإن علينا أن نبدأ منها، والتمييز الأول والأساسي بينها هو هذا: هناك أجسام تختلف فيما بينها في وفرة وندرة مادتها، ولكنها تتفق في البنية، وهناك أجسام أخرى تتفق في وفرة وندرة مادتها ولكنها تختلف في البنية؛ لذا فقد أصاب الكيميائيون - في مبادئهم الثلاثة - إذ لاحظوا أن الكبريت والزئبق يتخللان العالم - إن جاز التعبير - (فما أضافوه عن الملح باطل ولم يدخلوه ليشمل الأجسام الترابية واليابسة والثابتة)، أما هذان (الكبريت والزئبق) فيتراءى فيهما حقا نوع من التوافق الطبيعي من الصنف الأعم والأشمل، فهناك توافق بين الكبريت وبين الزيت والأبخرة الدهنية واللهب وربما مادة النجوم، وهناك توافق كذلك بين الزئبق وبين الماء وأبخرة الماء والهواء، وربما الأثير الخالص بين النجوم، ومع ذلك فهاتان المجموعتان الرباعيتان أو المملكتان العظيمتان من الأشياء (كل داخل نظامها) تختلفان اختلافا ضخما في مقدار المادة والكثافة، ولكنهما تتفقان اتفاقا وثيقا في البنية، مثلما هو ظاهر في حالات عديدة، من الجهة الأخرى تتفق المعادن بينها اتفاقا كبيرا في المقدار والكثافة (وخاصة حين تقارن بالنباتات ... إلخ)، ولكنها تختلف فيما بينها اختلافا واسعا في البنية، وبالمثل فعلى حين تختلف النباتات والحيوانات اختلافا لا نهاية له تقريبا في البنية، إلا أنها من حيث مقدار المادة أو الكثافة لا تختلف إلا في أضيق الحدود.
والتوافق التالي بين التوافقات الأكثر عمومية هو التوافق بين الأجسام الفردة وبين تلك التي تزودها بأسباب المعيشة، أي المواد الأساسية والغذاء؛ لذا فإن على المرء أن يبحث في أي مناخ وفي أي تربة وفي أي عمق يتكون كل معدن، كذلك الأمر بالنسبة للأحجار الكريمة، سواء المنتجة في الصخور أو في المناجم، وفي أي نوع من التربة تنمو الأشجار المختلفة والأجمات والنباتات أفضل نمو وتزدهر أعظم ازدهار، وكذلك المخصبات الأكثر عونا سواء السماد بأنواعه أو الطباشير أو رمل البحر أو الرفات ... إلخ، وأيهما هو الأكثر ملاءمة وعونا لكل نوع من التربة، كذلك من الأشياء المعتمدة على التوافق بشدة: غرس وتطعيم الأشجار والنباتات وطرائقه المختلفة، أي ما هي النباتات الأنسب للتطعيم على هذا الصنف أو ذاك من النبات أو الشجر؟ من التجارب التي يمكن أن تكون شائقة في هذا الصدد - والتي سمعت أنها أجريت حديثا - تجربة تطعيم أشجار الغابة (لم يجرب حتى الآن عادة إلا مع أشجار الحديقة)، والنتيجة أن يزداد الورق والجوز زيادة كبيرة ويقدم الشجر ظلا أكثر، وبنفس الطريقة يجب أن يلاحظ الغذاء الخاص بكل نوع من الحيوان والغذاء الذي لا يصلح له، فاللواحم لا يمكنها البقاء إذا غذيت على الأعشاب، وهذا أيضا هو السبب في نظام ال
Feuillans
93 (رغم أن إرادة الإنسان لها سطوة أكبر على جسدها مما هو لدى الحيوانات الأخرى) اختفى تقريبا بعد إجراء التجربة (كما يروى)، كأنما الطبيعة البشرية لم تحتملها، يجب أيضا أن نلاحظ المواد المختلفة في التعفن والتي تتولد منها مخلوقات دقيقة.
وتوافقات الأجسام الرئيسة مع تابعيها (فالأشياء التي ذكرتها قد تعد كذلك) أمر واضح تماما، وقد أضيف إلى هذه توافقات الحواس مع موضوعاتها، وحيث إن هذه التوافقات واضحة كل الوضوح وملاحظة جيدا وممحصة بدقة، فقد تلقي ضوءا على التوافقات الأخرى الخفية الكامنة.
غير أن التوافقات والتنافرات أو الصداقات والعداوات بين الأجسام (فقد سئمت من كلمتي:
sympathies
و
antipathies ؛ بسبب الخرافات والغباوات المرتبطة بهما) تنسب خطأ إلى حكايات خرافية أو تمتزج بها، أو تند عن المعرفة بسبب الإهمال، فإذا قيل: إن هناك عداوة بين الكروم والكرنب لأنهما عندما يزرعان متجاورين لا ينموان على ما يرام، فإن السبب واضح، وهو أن كليهما عصاري ماص للماء منهك للتربة، ومن ثم فإن كليهما يسرق من الآخر، وإذا قيل: إن هناك توافقا وصداقة بين الذرة والقنطريون
cornflower
العنبري أو الخشخاش البري؛ لأن هذه النباتات تنمو حصريا تقريبا في الحقول المزروعة، فقد كان ينبغي عليه أن يقول بدلا من ذلك: إن هناك عداوة بينها؛ لأن كلا الخشخاش والقنطريون ينموان من عصير معين في التربة تتركه الذرة وترفضه، ومن ثم فإن بذر الذرة يجهز الأرض لنموهما. ثمة عدد كبير من مثل هذه الترابطات الزائفة، أما عن الحكايات الخرافية فينبغي أن تستأصل تماما، يبقى هناك مخزون ضئيل جدا من التوافقات التي تم إثباتها بتجارب مؤكدة، مثل توافق المغناطيس والحديد والذهب والزئبق ... إلخ، وهناك بعض الحالات اللافتة وجد في التجارب الكيميائية أنها تتصل بالمعادن، وأكثرها شيوعا (وهو عدد قليل على كل حال) يوجد في بعض الأدوية، والتي بسبب خواصها السرية والخاصة (كما يسمونها) لها علاقة بالأعضاء أو الأمزجة
humors
أو الأمراض أو أحيانا بالطبائع الفردية، ولا يفوتنا أن نذكر التوافقات بين حركات وأطوار القمر وبين أحوال الأجسام الدنيا بقدر ما يمكن أن تجمع وتقبل من خلال تجارب في الزراعة والملاحة والطب، أو من أي منحى آخر بتمحيص دقيق وصادق، أما الشواهد العامة على التوافقات الأكثر خفاء وسرية فكلما كانت أقل وأندر ازدادت حاجتها إلى البحث الجاد من خلال التقارير والروايات الصادقة والأمينة، شريطة أن يتم ذلك بدون حماقة أو سذاجة، بل بتحري درجة قصوى من التحوط والقناعة المرتابة (إن جاز التعبير)، ويبقى هناك توافقات الأجسام التي ليست اصطناعية في طريقة عملها ولكنها متعددة الغرض في تطبيقها، والتي علينا بالتأكيد ألا نغفلها بل نبحثها بملاحظة دقيقة، وهي تضام أو اتحاد الأجسام، والذي قد يكون سهلا أو صعبا، ويتم بالتركيب أو بمجرد التراص، فبعض الأجسام تمتزج وتندمج معا بسهولة وحرية، وبعضها بصعوبة وكراهة، المساحيق مثلا تندمج أفضل اندماج بالمياه، والكلس (الجير) والرماد بالزيوت، وهكذا وعلينا ألا نكتفي بجمع الشواهد على ميل الأجسام (أو نفورها) للامتزاج، بل نجمع أيضا شواهد على ترتيب أجزائها وتوزعها وهضمها بعد امتزاجها، وأخيرا على مدى غلبتها بمجرد أن يتم المزج. (7)
وتبقى الطريقة السابعة والأخيرة من طرق العمل السبع، وهي العمل الذي تتبادل فيه الطرق الست الأخرى وتتناوب، ولكن قبل أن يتعمق بحثنا أكثر في كل واحدة على حدة فلن يكون من الحكمة أن نعطي أمثلة، إنه شيء صعب في الاكتشاف وبالغ التأثير في التطبيق أن نطور سلسلة من هذا النوع من التناوب ونكيفه لنتائج معينة، غير أن البشر يفتقرون إلى الصبر افتقارا تاما، سواء في البحث أو في التطبيق، رغم أنه هو هو خيط المتاهة في كل الأعمال العظيمة، ولكن بحسبنا هذا كمثال على تعدد الأغراض. ••• (51) في المرتبة السابعة والعشرين والأخيرة بين شواهد الامتياز سأضع «شواهد السحر»
instances of magic ،
94
وأعني بهذا الاسم تلك الشواهد حيث المادة أو العلة الفاعلة ضئيلة أو صغيرة بالقياس إلى عظم المعلول أو النتيجة التي تنجم عنها، ومن ثم فحتى إذا كانت شائعة فإنها تبقى أشبه بمعجزة، البعض في النظرة الأولى، والبعض حتى بعد ملاحظة يقظة، لا تقدم الطبيعة هذه الشواهد من تلقاء ذاتها إلا على نحو شحيح، فماذا تراها فاعلة عندما تفض جعبتها بعد أن تكتشف الصور والعمليات والبنيات؟ هذا ما سوف يكشفه المستقبل وتبديه الأيام، ولكن هذه النتائج السحرية (وفقا لتخميني الراهن) تحدث بثلاث طرق؛ تحدث أولا: من خلال التكثير الذاتي، كما في حالة النار، وما يسمى السموم النوعية، وأيضا: في الحركات التي تزداد قوة بالانتقال من عجلة إلى عجلة، وتحدث أيضا بإثارة أو جذب في جسم آخر، كما في حالة المغناطيس الذي يثير ما لا يحصى من الإبر دون أن يفقد أي شيء من قوته، وكما في الخميرة وما شابهها، وتحدث ثالثا: في توقع حركة كما في الحالة التي ذكرتها عن البارود والمدفع واللغم. تتطلب الطريقتان الأوليان بحثا في التوافقات، وتتطلب الثالثة قياس الحركات. ليس لدي حتى الآن أي مؤشرات وثيقة بما إذا كان ثمة أي طريقة لتغيير الأجسام من خلال أجزائها الصغرى أو ال
minima (كما يسمونها)، ولتحويل البنيات الأدق للمادة (والتي تحدث في كل صنف من تحول المادة، بحيث يمكن للفن أن يعمل في زمن قصير ما تنجزه الطبيعة خلال التفافات كثيرة)، ومثلما أتغيا ما هو صلب وحق لكي أحقق أهدافي النهائية العليا، سأظل أمقت كل ما هو فارغ طنان، وأبذل وسعي للتخلص منه. ••• (52) أكتفي بذلك عن «شواهد الامتياز» أو «شواهد الطبقة الأولى»، ولكن ينبغي أن أذكر بأنني في «أورجانوني» هذا إنما أتناول المنطق لا الفلسفة، ولكن لما كان منطقي يوجه ويرشد الفهم حتى لا يقبض بكلابات العقل الصغيرة على تجريدات محضة ويتشبث بها، بل يخترق الطبيعة بالفعل ويكتشف خواص الأجسام وقواها وقوانينها المنقوشة في المادة، ومن ثم فإن هذا العلم لا ينبع من طبيعة العقل فقط بل من طبيعة الأشياء، فلا عجب إذن أن يمتلئ بإيضاحات وملاحظات مبثوثة في تضاعيفه وتجارب في الطبيعة كأمثلة على الفن الذي أعلمه. من الواضح إذن مما أسلفت قوله أن هناك سبعة وعشرين نوعا من «شواهد الامتياز» هي: الشواهد الانفرادية، وشواهد الانتقال، والشواهد الكاشفة، والشواهد المتوارية، والشواهد المقومة، وشواهد التشابه، والشواهد الفريدة (الفذة)، وشواهد الانحراف، والشواهد الحدية، وشواهد القوة، وشواهد الصحبة والعداء، والشواهد الإضافية، وشواهد التحالف، والشواهد الفاصلة، وشواهد التباعد، وشواهد الباب أو البوابة، وشواهد الاستدعاء، وشواهد الطريق، وشواهد التكملة، والشواهد الباضعة، وشواهد القصبة أو المسطرة، وشواهد العدو، وجرعات الطبيعة، وشواهد الصراع، والشواهد المشيرة، والشواهد المتعددة الغرض، والشواهد السحرية. تتميز هذه الشواهد عن الشواهد العادية بأن استخدامها يتعلق تحديدا إما بالنظرية أو بالتطبيق أو بكليهما معا. فيما يخص النظرية فإنها تساعد إما الحواس أو الفهم: الحواس، كما في «شواهد المصباح» الخمسة، والفهم إما بتسريع الطريقة الاستبعادية للوصول إلى الصورة كما في «الشواهد الانفرادية»، وإما بحصر ما هو مثبت (إيجابي) للصورة وتعيينه بدقة، كما تفعل «شواهد الانتقال» و«الشواهد الكاشفة» و«شواهد الصحبة» وكذلك «الشواهد الإضافية»، وإما بالارتفاع بالفهم وإرشاده إلى الطبائع العامة والشائعة، والذي تعمله إما مباشرة كما تفعل «الشواهد المتوارية» و«الشواهد الفريدة» و«شواهد التحالف»، أو بدرجة عالية كما تفعل «الشواهد المقومة»، أو بدرجة ضئيلة فحسب كما تفعل «شواهد التشابه»، أو بإرشاده إلى الصورة العظيمة أو بنية الكل، كما تفعل «الشواهد الحدية»، أو بالتحذير من الصور والعلل الزائفة كما تفعل «الشواهد الفاصلة» و«شواهد التباعد»، وأما فيما يخص الجانب العملي فإن «شواهد الامتياز» إما أن تعينه أو تقيسه أو تسهله؛ تعينه بأن تبين من أين نبدأ حتى لا نكرر ما قد عمله غيرنا، كما تفعل «شواهد القوة» أو تبين ما يجب أن نرمي إليه إذا واتتنا الفرصة، كما تفعل «الشواهد المشيرة»، وتقيسه ب «الشواهد الرياضية» الأربعة، وتسهله ب «الشواهد المتعددة الغرض» و«شواهد السحر».
مرة أخرى: بعض هذه الشواهد السبعة والعشرين ينبغي أن نجمعه الآن منذ البداية ودون انتظار بحث خاص في الطبائع، تلك هي: «شواهد التشابه» و«الشواهد الفريدة» و«شواهد الانحراف» و«الشواهد الحدية» و«شواهد القوة» و«شواهد الباب أو البوابة» و«الشواهد المشيرة» و«الشواهد المتعددة الغرض» و«الشواهد السحرية»، فهذه الشواهد إما تساعد أو تعالج الفهم والحواس، أو تؤثث ممارستنا بصفة عامة، أما بقية الشواهد فإن علينا جمعها عندما ننتهي من وضع «قوائم الحضور» بغرض تفسير أي طبيعة معينة، فالشواهد التي منحت وتميزت بهذه «الامتيازات» هي مثل الروح بين شواهد الحضور العادية، ومثلما قلت في البداية فإن القليل منها يساوي الكثير من البقية؛ لذا فعندما نكون بصدد تشييد قوائمنا ينبغي أن نجد في البحث عنها بكنه الهمة ونضعها في «قوائم»، وقد تعين علي أن أتناولها أولا؛ لأني سوف يتعين علي أن أتحدث عنها فيما يلي.
ولكن علي الآن أن أمضي إلى تناول «مساعدات الاستقراء وتصويباته»، ثم إلى «الأشياء العيانية» و«العمليات الكامنة» و«البنيات الكامنة»، وغيرها من الأشياء التي أحصيتها بترتيب مناسب في الشذرة 21، فأنا أريد في النهاية (شأن الأوصياء المخلصين والأمناء) أن أسلم الناس ثروتهم عندما يكون فهمهم قد تحرر من الوصاية وبلغ سن الرشد، الأمر الذي يترتب عليه بالضرورة تحسن حالة الإنسان وبسط سلطانه على الطبيعة؛ ذلك أن الإنسان إثر «السقوط» خسر في الوقت ذاته حالة البراءة، خسر سيادته على الخلائق، وكلتا الخسارتين يمكن تعويضهما إلى حد ما حتى في هذه الحياة: الأولى بالدين والإيمان، والثانية بالفنون والعلوم؛ ذلك أن «اللعنة» لم تجعل الخلق مطرودا تماما وأبدا، وإنما بمقتضى القرار الإلهي: «بعرق جبينك تغمس خبزك» (التكوين 19: 3)، فإن الإنسان، بجهوده المتنوعة (لا بالمجادلات بالتأكيد ولا بالطقوس السحرية) يجبر الخلق - أخيرا وبقدر - على أن يزوده بخبزه، أي بحاجات حياته البشرية.
अज्ञात पृष्ठ