وهكذا لم يكن للمسلمين والمسلمات من حديث في تلك الليلة غير التشوق لفتح بيت المقدس والتحدث بآثارها.
فبعد مدة وردهم جواب أبي عبيدة «يأمرهم بالزحف، وأنه واصل في أثر الكتاب.» * فأشرقت وجوههم * وقد باتوا تلك الليلة كأنهم ينتظرون قادما يقدم عليهم من شدة فرحهم بقتال أهل بيت المقدس، وكل أمير يريد أن يفتح على يديه فيتمتع بالصلاة فيه، والنظر إلى آثار الآنبياء. فلما أضاء الفجر أذن وصلت الناس صلاة الفجر فقرأ يزيد لأصحابه:
يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا * (الآية)، ومن غرائب الاتفاق أن باقي أمراء الجند قرءوا في جندهم هذه الآية أيضا كأنهم كانوا على ميعاد واحد
9
وبعد ذلك نادوا «النفير النفير يا خيل الله اركبي.» * وبرزوا للقتال.
وكان أهل بيت المقدس قد استخفوا بالعرب ونبالهم، ولذلك كانوا يتعرضون لها في بادئ الأمر * وكان أول من برز للقتال حمير ونبالة اليمن * فأخذ الروم يرشقونهم بالنشاب من على الأسوار فتفتك بهم والنبالة ترشق الروم بالنبال. فلما رأى الروم أن النبال كانت تصيب رجالهم «فيتهافتون من سورهم كالغنم احترزوا منه بعد إهمالهم أمره، وستروا السور بالجحف والجلود وبما يرد النبل.» * إلا أن حامية المدينة كانت مع ذلك تحارب بجرأة وشجاعة وبشاشة، وهكذا مر اليوم الأول من القتال على غير طائل. «ولما غربت الشمس رجع الناس، وصلى المسلمون فرضهم، وأخذوا في إصلاح شأنهم وعشائهم. فلما فرغوا من ذلك أوقدوا النيران، واستكثروا منها؛ لأن الحطب كان عندهم كثيرا. فبقي قوم يصلون، وقوم يقرءون، وقوم يتضرعون، وقوم نائمون مما لحقهم من التعب والقتل.» * وفي اليوم التالي برزوا للقتال أيضا وحامية المدينة يظهرون الفرح ويضحكون، فمر هذا اليوم كاليوم الأول، وهكذا إلى اليوم العاشر * على غير طائل.
وفي اليوم الحادي عشر أشرقت على بيت المقدس راية أبي عبيدة يحملها غلامه سالم ومن ورائها الفرسان، وقد أحدقوا بأميرهم أبي عبيدة وخالد بن الوليد عن يمينه وعبد الرحمن بن أبي بكر عن يساره، وجاءت النساء والأموال، وضج الناس ضجة واحدة بالتهليل والتكبير، فأجابتهم القبائل، وارتجت المدينة لهذا الاستقبال الحافل * فضعفت قلوب المحصورين وقويت قلوب الحاصرين بهذا المدد العظيم الجديد. فذهب وجوه الجند والمدينة إلى مقام البطريرك قرب كنيسة القيامة
10
ليتشاوروا في أمرهم، ويبلغوه مقدم أمير العرب. فلما سمع البطريرك بهذا بغت بغتة شديدة؛ لأنه حسب أن الأمير الذي قدم هو الخليفة عمر بن الخطاب، وكان يعلم أن الخليفة لا يقصد فتح بلد حتى يكون كل العرب وراءه، ولكنه لما علم أن الذي قدم هو أبو عبيدة عامل الشام سكن خاطر الناس، وشجع قلوبهم بقرب وصول المدد إليهم، فعادوا إلى الحرب بالجرأة اللازمة.
11
अज्ञात पृष्ठ