ثم إن إيليا أردف كلامه السابق بقوله: ومصداقا لقولي أيتها السيدة الكريمة، أذكر لك شيئا عن صاحب هذا القبر الكريم الذي أجفلت منه لمجرد معرفتك أنه راهب. هل سمعت يا سيدتي بمبادئ وأخلاق الراهب ميخائيل؟ هذا الراهب صرف كهولته في جمع المال من أهل المال، ولكنه توفي ولا فلس في صندوقه؛ لأنه كان يوزعها كلها على الفقراء والمساكين، وكان عنده جميع الفقراء على السواء مسيحيين ويهودا ومجوسا؛ لأنهم كلهم عيال الله كما كان يقول. هذا الراهب اضطهده بعض الناس حسدا وبغضا، وأساءوا إليه، وقطعوا رزقه، ولكنه كان يباركهم إلى آخر نسمة من حياته، وفي ساعة موته أشار إلي فدنوت منه، فقال لي وهو يجود بنفسه: إذا سافرت إلى بلادي يوما ورأيت أحدا منهم فقل لهم إنه يقرئكم السلام، ويطلب أن تصلوا من أجله. هذا الراهب طرد من سلك الرهبانية؛ لأنه خطب خطبة لام فيها الحكومة ورجال الدين؛ لاضطهادهم اليهود في سوريا وفلسطين، وكان كلما مر في طريقه بيهودي فإذا كان فقيرا يحسن إليه بشيء من المال وإذا كان غير فقير استوقفه وحادثه وآنسه وذلك على سبيل الاحتجاج على اضطهاد الحكومة لبني جنسه، وقد قلت لك إنه كان «يحسن» إلى الفقير، والصحيح كما كان يقول إنه كان يفي له «الدين» الذي عليه. هذا الراهب عاش في هذه المزرعة عشرين سنة، وليس بين الناس هنا وفي القدس واحد يقول إنه أساء إليه بشيء ما طول حياته حتى ولا الكهنة الذين كانوا في خلاف معه. هذا الراهب إذا جادل الناس بعضهم بعضا أمامه في الدين كان يعبس ويقطع حديثهم بقوله: فلنبحث يا أولادي في ما نعلمه ونفهمه من شئون الأرض أما شئون السماء فإننا لا نعلمها، وحسبنا أن نكون صالحين طاهري القلوب مسلمين أمورنا إلى الله تعالى فنعيش كلنا في الأرض إخوانا في إخوان مهما اختلفت مذاهبنا. - هذا أيتها السيدة هو الراهب الذي أجفلت من ذكر اسمه. أفكنت ترفضين مباحثته كما رفضت مباحثتي لو كان حيا؟
وكانت أستير مصغية إلى إيليا أشد اصغاء. فلما فرغ من كلامه قالت: إذن لم يكن هذا الراهب مسيحيا؟
فقهقه إيليا قهقهة تكاد تسمع من المزرعة وأجاب: بل كان مسيحيا يا أختي؛ لأن هذه هي المسيحية الحقيقية.
فسكتت أستير هنيهة، ثم أجابت: حقا هذه أول مرة أسمع بها مثل هذا الكلام عن مسيحي، ولكن كيف كان إيمانه به؟
وقد نطقت أستير بهذا الكلام على غير وعي تقريبا. فترك إيليا حينئذ الضحك، وصار يفكر بجد واهتمام في الجواب الذي يجيبها به؛ ذلك لأنها إنما قصدت بسؤالها السؤال عن إيمان الراهب ميخائيل بالمسيح، والبحث في ذلك معها صعب لعدة أسباب منها رغبته في أن تكون مسيحية، وإلا فلا يمكنه الاقتران بها، وهذا يقتضي مباحثتها في ذلك بحثا دينيا لا بحثا عقليا. فشرع أولا في البحث الديني فأجاب: يا سيدتي، تسألينني سؤالا غريبا؛ إذ كيف يكون الإنسان مسيحيا ولا يؤمن بالمسيح؟
وكانت أستير قد تحمست من كلام إيليا الذي قال لها فيه إنه يحتمل أن تكون مرسلة إليه من العناية الإلهية لهدايته. فجمعت قواها كلها لمباحثته في أمر كانت قد سمعت كثيرا من المباحثات فيه لعلها تهديه، ويا للغرابة. إن هذه هي أول مرة بدأت بها تميل إلى إيليا، ولكن لا لا. لا غرابة في ذلك؛ لأن هذه هي أول مرة بدأت بها تهدم الحاجز الاجتماعي الذي كان بينها وبينه، ومتى انهدم هذا الحاجز مست نفسها نفسه بحكم الطبع فتتآخيان بأمن وسلام.
أما نفس إيليا فإنها لم تكن محتاجة هذا الهدم ليحصل التآخي بينها وبين نفس أستير؛ لأن هذا التآخي حصل لها من النظرة الأولى.
فلما سمعت أستير جواب إيليا ابتسمت وقالت: وأنت يا كيريه إيليا اصدقني. أتؤمن به أيضا؟ فأجاب إيليا برزانة: بلا شك أيتها السيدة، وإنني آسف لأنك لا تؤمنين أنت به أيضا. فابتسمت أستير وأجابت: هل تغضب إذا جهرت بكل رأيي كما يغضب أبناء مذهبك أو تريد أن أسكت؟ فقال: لا لا تكلمي يا سيدتي، فقالت أستير: إنني أؤمن بالمسيح يا كيريه إيليا، ولكنني أؤمن بالمسيح الحقيقي الذي لم يأت بعد، ولا بد أن يأتي.
فنظر إيليا حينئذ ضاحكا إلى تينك الشفتين الورديتين اللتين كان يخرج منهما هذا التجديف على الاسم الذي يفديه بدمه، وقال في نفسه: لو خرج هذا التجديف من شفتين غير هاتين الشفتين لعضضتهما وقطعتهما بأسناني؛ لأنني إذا كنت أبحث في الكائنات والفلسفات بحثا عقليا مجردا عن كل تقليد فإنني أضع دائما فوق كل بحث وكل علم اسم الذي مس يوما بأصبعه الإلهية صورة الكمال السماوية فكان مثالا لها في هذه الحياة المملوءة بالصغائر والنقائص والشرور.
فبعد أن فكر إيليا هنيهة أجاب: يا أيتها السيدة أأنت إسرائيلية أم لا؟ فقالت أستير: نعم إسرائيلية. فقال: ألا تعتقدين بصحة التوراة؟ فأجابت أستير: بلا شك أعتقد بها. فقال إيليا: فالتوراة كتابك المقدس يشهد أن المسيح قد أتى.
अज्ञात पृष्ठ