وكان الثلاثة كثيرا ما يخرجون في ظلمة الليل سرا، ويقفون هناك ويصلون باكين الصلاة التي يصليها بنو إسرائيل دائما أمام جدار هيكلهم القديم في أورشليم، وهي: (يقول واحد) من أجل الهيكل المقدس العظيم (فيرد الجماعة) نقف بذلة وننوح. (يقول واحد) من أجل أسوار هذه المدينة الساقطة (فيرد الجماعة) نقف بذلة وننوح. (يقول واحد) من أجل مملكتنا التي بادت (فيرد الجماعة) نقف بذلة وننوح. (يقول واحد) من أجل رؤسائنا الذين ماتوا (فيرد الجماعة) نقف بذلة وننوح. (يقول واحد) آه تحنن على صهيون (فيرد الجماعة) واجمع شتات أورشليم. (يقول واحد) أعد سابق مجدك لصهيون (فيرد الجماعة) وانظر مترحما إليها ... إلخ.
وقد مرت عليهم ثلاثة أشهر على هذه الحال، وفي كل يوم كان يذهب أبو أستير لمشاهدة آثار المدينة، ويختلط بأهلها متزييا بزي اليونانيين والسوريين. أما أستير فإنها كانت تخرج أحيانا من المدينة مع أبيها، وتجلس على رابية عالية لترى منها هل المسيح آت أم لا؟ وفي أكثر الأحيان كانت تلازم أمها العجوز المقعدة في البيت وتخدمها. ففي ليلة أمس اشتهت أستير أن تشاهد عيد المسيحيين في بيت لحم فغضبت أمها من ذلك، ولكن أباها رضي بأخذها إلى بيت لحم، فذهبا للتفرج فيها فجرى لهما ما جرى.
فلما سمع إيليا هذه القصة صار يسأل نفسه، هل هذه العائلة ساذجة إلى هذا الحد حتى خاطرت بنفسها في القدس من أجل هذه المسألة، أم هنالك أمر آخر كتمته عنه أستير أو كتمه أهلها عنها، ولم يظهروا لها منه غير المسألة الدينية. إلا أنه كان يظهر في كلام أستير أنها مخلصة في قولها كل الإخلاص، ولذلك رجح إيليا السذاجة على السياسة.
وبعد السكوت حينا ابتدر إيليا الكلام، فقال: فأمك إذن الآن في المدينة يا أختي.
فلما سمعت أستير كلمة «أختي» من فم الشاب حصل ارتياح في نفسها لازدياد طمأنينتها. إنما تساءلت في نفسها: هل يجوز لمسيحي أن يدعوها أخته؟ ثم أجابت والدموع في عينيها لذكر أمها: نعم يا كيريه إيليا، وهي مقعدة لمرضها.
وكأن أستير بعد هذا الحديث رأت أنها فعلت ما كان عليها، ولذلك انزوت في إحدى الزوايا بداخل الكوخ. فعاد إيليا عن الباب متنهدا، وبقي الاثنان بعد ذلك ساكتين، ولكن «الهوى» في قلبه و«الهواء» في الخارج على أغصان الأرزة كانا يتكلمان ويزئران زئيرا شديدا.
وبعد نصف ساعة سمع صوت حوافر جواد ينهب الأرض نهبا، فنهض إيليا لعلمه أن أرميا قد عاد من المزرعة، ولكنه عجب من هذه السرعة؛ لأنه لم يكن يدري أن أرميا سار في ذهابه بسرعة الجواد، وعاد بسرعة الجواد؛ لكي لا يترك أستير مع إيليا وقتا طويلا.
وكانت أستير قد دفئت قليلا في داخل الكوخ، فغيرت ملابسها بالملابس الجافة التي جاءها بها أرميا، ثم ركبت الجواد وهمت بالمسير. فقال إيليا لأرميا: خذ بقياد الفرس يا أرميا وسر سيرا سريعا. فحك أرميا رأسه وأجاب: بل دعني أسير على مهل وراءه يا كيريه إيليا لأنني تعبت. فأخذ إيليا بقيادة الفرس، وسار أمامه دون أن يدري بالسبب الذي من أجله طلب أرميا أن يكون وراء، وهكذا سار الثلاثة بين العواصف والقواصف؛ إيليا أمام، وأستير في الوسط على ظهر الفرس، وأرميا وراء، وكان أرميا لا يرفع نظره منها.
ولما وصلوا إلى المزرعة كان الشيخ سليمان ينتظرهم فدنا وقبل رأس إيليا سرورا بفعله، ثم دفع أستير إلى بناته فاستقبلنها استقبال أخت وصديقة قديمة، وقد خصصن بها غرفة بجانب غرفتهن، فنامت أستير بقية الليل نوما هنيئا بعد أن عجبت كثيرا من هؤلاء المسيحيين.
الفصل الثاني عشر
अज्ञात पृष्ठ