2 *
ثم سكت الشيخ. فقال إيليا بعد أن تأمل قليلا: ولكن ماذا كنت تريد أن يصنع البطريرك يا أبت؟ فهنا لطم الشيخ الجدار بقبضته لطمة شديدة وصاح: كنت أريد أن يكون رئيس الشعب لا مرءوسه. قائده لا تابعه. فإننا نريد رؤساء يواجهون الشر والفساد وجها لوجه بلا خوف ولا رياء، ويضربونه ضربة قاتلة بدل ستره وإخفائه جبنا وضعفا. إننا نريد رؤساء يربون الشعب تربية جديدة أساسها العدل والحق والصدق ومكافأة أصحاب الكفاءة الشخصية؛ لكي يتقدم القادرون العادلون الصادقون النافعون، وينزوي العاجزون والمتزلفون، ولا تقل: إن الشعب يسخط ويغضب من الضغط عليه، فإن هذا ليس بضغط؛ بل هو تدريب وتربية، وإذا كان الطفل يغضب من أبويه لتأديبهما إياه في صغره فإنه متى كبر وصار رجلا عاقلا يجثو باحترام أمام أبويه شكرا لهما؛ لأنهما درباه على الرجولية ولم يتركاه طفلا جاهلا. فلو كنت مكان البطريرك لقاومت العامة وفحصت أمر الشيخ والفتاة. فإذا وجدته جاسوسا عاقبته وأطلقت فتاته، وإذا وجدته بريئا أطلقتهما معا انتصارا للعدالة والحق ولو قامت علي الدنيا كلها؛ إذ بدون هذا لا يتم إصلاح في الأمة.
وكان الشيخ سليمان قد تحمس عند هذا الكلام تحمسا شديدا. فسكت هنيهة. ثم صاح ثانية: وهل تظن يا إيليا أنك غير مشترك في الذنب الذي حصل. ألا تعلم أن شاهد الشر شريك فيه إذا لم يبذل جهده لإزالته. فهل صنعت حتى الآن شيئا لإخراج الفتاة من سجنها حيث تتعذب عذابا شديدا. يا أيها الشاب، إن ضميرا بشريا يتألم الآن في دير العذراء؛ لأنهم يضغطون عليه. إن نفسا بشرية تطلب الآن الموت ولا تجده فرارا من تغيير معتقدها المجبول بلحمها وعظامها. إن صوتا يستغيث الآن بالله ولا مغيث له، وأنت من أسباب هذا كله. فضع نفسك يا إيليا مكان هذه النفس؛ افترض أن اليهود سجنوك في هيكل لهم ليجبروك على جحود دينك ومسيحك، ويعلموك أن مبادئ المشنا والتلمود والتوراة أسمى من مبادئ الإنجيل؛ لأنها مصدره، ويكرهوك على ترك المبدأ السامي الذي تتمسك وتحيا به نفسك. فماذا كنت تصنع؟ أما كنت تقتل نفسك أو تقتل سجانك إذا لم تجد في وجهك غير هذا الوجه؟ وإذا سمعت أن أحدا هجم على الهيكل لإنقاذك ألا تراه عادلا ذا حق بذلك، بل من واجباته ذلك؛ لأنه يرفع الاضطهاد عن ضمير بشري.
وكان الشيخ يتكلم وإيليا ينتفض من التأثر. فلما أتى الشيخ على كلامه ضاق الشاب ذرعا، وكاد يخنقه غيظه وانفعاله، فوثب وخرج من الغرفة كالسهم المارق. ثم اتجه نحو باب المزرعة، وخرج منه عائدا إلى جبل الزيتون، وهو شارد الفكر لا يعي على شيء، ويظهر أن ضميره انتبه بعد كلام الشيخ انتباها شديدا، ولذلك كان يعض أصابعه وهو سائر في طريقه ندما على أنه لم يأخذ على البطريرك عهدا أن يوصي الراهبات بأن لا يتعرضن لمعتقد الفتاة.
وهكذا بقي إيليا في ذلك النهار يتيه في جبل الزيتون من مكان إلى مكان حائما حول الدير ومستنقطا نوافذه وجدرانه طالبا أرميا؛ ليسأله ماذا صنع؟ متسائلا ماذا يصنع؟ ولما خيم الظلام اشتد وخز ضميره وجزعه لعناء حبيبته وخيل له أنه يسمع بكاءها وصوتها يستغيث على ما ذكرته له تيوفانا. فجلس الشاب في الظلام والبرد الشديد على أكمة تجاه الدير، ولبث هناك شاخصا في نوافذه المشرفة على الحديقة، ولكنه قبيل منتصف الليل بعد التفكير طويلا نهض على حين بغتة، وتسلل نحو الدير، فتسلق جدار الحديقة، وهبط إلى الداخل، ونفسه في أشد حالات الاضطراب والانفعال.
الفصل العاشر
أنا أعرف الله
وفي تلك الدقيقة برز القمر من وراء الأفق يعمم نوره الأبيض اللطيف سطوح الدير، فاستاء إيليا من ذلك؛ لأن النور فضاح. إلا أنه رأى في ظل الأشجار التي كانت مغروسة بجانب نوافذ الدير في الحديقة مخبأ حسنا.
فانسل إيليا نحو تلك الأشجار، وأخذ يصغي بكل جوانحه لعله يسمع شيئا في داخل الدير. فلم تمض عليه دقيقة حتى ارتعدت فرائصه لأصوات هائلة بعيدة كانت واردة من جهة المدينة. فخشي أن يكون العرب هاجمين حينئذ على الدير، ولكن الحقيقة كانت أن جيشا ثانيا وصل إلى المدينة بعد الجيش الأول، وكان صراخه هذا لإرهاب أهل المدينة كما أوصاه أبو عبيدة.
وبعد انقضاء دقيقة أخرى لم يسمع إيليا في أثنائها شيئا انتقل متسللا متنصتا كلصوص الليل من نافذة إلى نافذة، وكانت كل النوافذ مغلقة لفصل الشتاء، وما زال سائرا حتى وصل إلى آخر نافذة فسمع فيها صوتا ضعيفا كزفير وبكاء.
अज्ञात पृष्ठ