ويأخذه من البيئة الاجتماعية مجانا. أرى أجناس البشر في الشرق والغرب فرسا ويونانيين ورومانيين وسوريين ومصريين ويهودا وسلافيين ولومبارديين وفنداليين ومغوليين وأتراكا وهونيين وقوطا وفرنكا وهنودا وصينيين
11
وبرابرة مختلفة تتكرر فيهم الإنسانية على ممر القرون والأجيال وتنقى من الحيوانية والجهالة والشهوات المفسدة فيمدون أيديهم بعضهم إلى بعض متصافحين متصالحين بعد طول الشقاق والنزاع، ويعيشون في الأرض بسلام وأمن وسعة وفضيلة تامة كأنهم إخوة في عائلة واحدة. - يا بني، هذا ما أراه في أحلامي وأوهامي منذ الآن، ولذلك قلت لك إن إصلاح الأرض مسألة علمية لا مسألة دينية، وأورشليم القديمة يجب أن تفسح مجالا لأورشليم الجديدة. فيا أيتها الأحلام الذهبية والأوهام الخيالية أتكونين يوما حقيقة مجسمة؟ يا أيتها الإنسانية التعيسة أتبلغين يوما طور الكمال هذا أم تبقين إلى الأبد في اضطراب وبغض وفساد وحروب وشقاء كما أنت الآن؟ ويا أورشليم الجديدة أتصنعين يوما ما عجزت عنه أورشليم القديمة؟
الله يعلم ذلك يا بني ولا يعلمه أحد غيره، ولذلك لا أذكر لك ما ذكرته كحقيقة مطلقة؛ بل كرأي لي لك أن تبحث فيه وترى فيه رأيك. فيا ولدي العزيز، كلنا في هذه الأرض عرضة للخطأ وهدف للضلال، وربما أثبت المستقبل بعد مليون سنة مثلا أو نصف مليون أن هذا القصر العلمي الذي رسمته معك الآن إنما هو قصر في الهواء، وأن الحقيقة الحقيقية هي ما نودي به في حقول الجليل على شواطئ بحيرة طبرية منذ ستمائة سنة من أن المعيشة في الطبيعة بلا هم ولا غم هي المعيشة الإنسانية الحقيقية، وأن البعد عن صل المال وأفاعي الجاه والعالم لهو الخير المطلق، وهذا ما يصبو إليه قلبي كما ذكرت لك آنفا، وإن كان عقلي متعلقا بذاك. أجل ياصديقي، إن هذه الصورة الجليلية لهي الصورة السماوية التي تقبض على نفسي بمقابض من حديد بالرغم عنها، وكل ما حاولت أن أقول إن ذلك في من تأثير العادة والتربية ينادي منادي الطبيعة في داخلي هذا النداء الطويل: كلا كلا. هذه هي الطريقة المستقيمة. هذا هو سبيل السعادة الممكنة. اخرجوا اخرجوا إلى الطبيعة يا أبناءها، وعيشوا فيها بعيدين عن مفاسد الثروات والمدنيات. كونوا كطيور السماء وزنابق الحقل لا تهتم بشيء؛ لأنها تجد في الطبيعة كل شيء. اهدموا القصور حيث تعشش الرذائل المختلفة. أخربوا المدن حيث تسود الشرور. مزقوا الكتب وانبذوا العلوم والفنون فإنه يكفينا منها كلها علم النفس الذي يشعر به كل واحد منا، ولا تطمعوا في السعادة والراحة والكمال والإصلاح من طريق الدنيا، فإنها كالماء المالح كلما شرب منه الإنسان ازداد عطشا - وعلى هذا يخيل لي عند سماعي هذا الصوت الهائل أن العالم الآن خارج عن محوره شاذ عن طريقه فترتعد فرائصي لذلك، وأهم بأن أفر منه إلى البرية لأعيش هادئا سعيدا مطمئنا، وأعرف من ذلك الصوت السري الخارج من دمي السبب الذي من أجله كان واضعو الشرائع الدينية يحرمون على الإنسان التمتع بالدنيا.
فيا صديقي العزيز، هذان طرفان لا اتفاق بينهما إلا في النهاية؛ أحدهما: يمثل أورشليم الجديدة، والآخر يمثل أورشليم القديمة، ونفسي تتردد بينهما متألمة منذ تحرر عقلي، وحصلت على قوة الفكر. فلما سألتني عن رأيي في دخولك إلى أورشليم القديمة أثرت الاضطراب في نفسي؛ لأنك ذكرتني مصارعاتي الباطنية بيني وبين عقلي. فاضطررتني إلى الجهر بكل ما في ضميري بالرغم عني.
ولقد أطلت عليك الكلام يا بني، ولكن شجعني على ذلك إصغاؤك إلي بكليتك. أما الآن فقد فرغت تقريبا. فلك الخيار بعد كل ما ذكرته لك أن تكون من جنود أورشليم القديمة أو جنود أورشليم الجديدة. إنما بقي علي بعد كل ما ذكرته لك وما رأيته في الصلاة أمس أمام القبر وعلى باب الكنيسة أن أكمل هذه الملاحظات بما يوجب ضميري علي ذكره لفتى مثلك تحدثه نفسه بالانتظام في سلك الخدمة الدينية.
قصة الشيخ الراهب
يا بني، إنك ولا ريب تحب أن تعرف شيئا من تاريخ حياتي. فإنك ترى أنني شيخ بيضت السنون شعره، ومن كان بسني هذا وهو يعتقد بما بسطته لك آنفا فإنه يدل بذلك على أنه لقي في زمانه اضطهادا شديدا من البشر، وهذا شأن المصائب يا بني، فإنها أعلى المدارس وأسماها؛ لأنها هي التي تشحذ همم النفوس، وتقطعها عن صغائر هذه الدنيا، وتصرفها إلى المعيشة الجدية التي يكون فيها للإنسان غرض شريف عمومي يسعى إليه. ففي السن الذي أنت فيه الآن تقريبا كنت مثلك يا بني وحيدا فريدا في هذه الحياة؛ بل إنك أنت الآن أسعد مني لما كنت في سنك إذ لك أم تضمك وتدفئك تحت جنحي حنانها، وأما أنا فقد كنت بلا أم ولا نسيب ولا صديق، فكأنني خرجت من الأرض أو نحت من صخورها، ولكن مع انفرادي هذا في الحياة يا بني لم أجبن ولم أشك؛ لأنني أعرف مراحم العناية الإلهية التي لا تترك من يجعل نفسه أهلا لمساعدتها وحمايتها، ولم أسب البشر الذين تركوني من كل صوب؛ لأن سذاجتي كانت ترى حينئذ أنني لم أعمل بعد عملا يستحق اهتمامهم والتفاتهم، فإذا أهملت فالذنب لي وحدي لا لهم، ولذلك عزمت على أن أعمل ما يستوجب اهتمامهم بي ويرفعني من وهدتي ، ولكنني قلت في نفسي ماذا أعمل؟ هنا كنت في حيرة كحيرتك الآن؛ هل أجعل غرضي الوحيد نفسي فقط فأتاجر وأزرع وأصنع، أم أجعل غرضي في الحياة محبة الناس ونفعهم فأضحي حياتي كلها من أجلهم؟ وا أسفاه يا بني، إنني كنت أجهل يومئذ ما أعلمه الآن من أن للخير أبوابا عديدة. كنت أجهل أن الذي يخرج من الأرض قبضة من الحنطة مثلا أو يصنع للناس آلة يحتاجون إليها، إنما ينفع الناس كما ينفعهم الذي ينقطع إلى إرشادهم وتعليمهم، وهذا ما جعلني أختار الخدمة الروحية؛ فدخلت أحد الأديرة في بلادي، بلاد الكلدان، ونفسي تتلهب شوقا للعمل ونفع الناس، وكنت قد رأيت ما في الهيئة الاجتماعية من الفساد والظلم؛ لاستئثار فئة من الناس بكل خيرات الأرض وقوى البشر، فعزمت أن أكون سيفا ذا حدين؛ فكنت أذهب حافيا مكشوف الرأس بحالة يرثى لها إلى منازل الأغنياء وقصور الكبراء، وهناك مثل يوحنا المعمدان، كنت أقرعهم بسوط التأديب، وآخذ منهم مالا لإخوانهم الفقراء، وكان الذي يتمنع منهم عن إعطائي أنادي باسمه على السطوح إنه ليس بمسيحي، ولذلك كانوا يعطونني خوفا ورهبة لا سخاء، وكنت بعد جمع ما أجمعه كل يوم أنطلق إلى الأحراش والطرق وأكواخ المساكين، وهناك أوزعه على مستحقيه، وقلبي في غبطة وسعادة من صنعي هذا.
يا بني، إن من لم يعط شيئا في زمانه لا يعلم لذة العطاء. نعم، إنني كنت لما آخذ الشيء أتلذذ بأخذه؛ لأنني لا آخذه لنفسي، ولكني كنت أجد أن لذة العطاء أضعاف لذة الأخذ؛ ذلك أن العطاء فعل من أفعال العناية الإلهية لأنها مصدر كل عطاء، فالذي يعطي يكون نائبا عنها ورسولا من قبلها، وهذا سبب لذته العظمى، ولذلك لا نجد في الكون كله شيئا أجف وأثقل من قلوب الذين لم يتعودوا العطاء، ولنشفق على هؤلاء المساكين يا بني؛ لأن العناية الإلهية لم تجدهم أهلا لأن يكونوا من رسلها، وكنت قد عاهدت نفسي على أن لا أترك الشمس تغيب على قطعة نقود في جيبي، فلما كنت أعود من سياحاتي اليومية في الأحراش والطرق والأكواخ وجيبي فارغ كنت أشعر بلذة الذي قضى واجبه وفرغ جيبه ليملأ قلبه، ولكن لما كان يبقى في جيبي ولو فلس واحد كنت أشعر أنه نار يحرقني؛ لأنني كنت أعتبر أنني سرقت ما ليس لي. يا بني، هنا أحد مصادر الفساد ومنابع الشرور، فإن اليوم الذي نرى فيه نحن خدمة الله تعالى أن كل فلس يدخل في يدنا إنما هو ملك للفقير لا ملكنا، ونعطيه إياه بأمانة وشرف بدل جمعه في صناديقنا، فذلك اليوم يوم ملكوت الله المنتظر في عالمنا هذا؛ لأننا يومئذ نكون من حزب الضعفاء والفقراء لا هم لنا إلا إسعاد شعبنا بدل التزلف للكبراء والأغنياء مشاركة لهم في الأموال التي يستقطرونها من دماء الأمة.
فلما مضت علي بضع سنوات في هذه الحالة تضجر الأغنياء مني، وسخط رفاقي ورؤسائي علي، وكان ضجر أولئك لأنني كنت أنغص عيشهم وأذكرهم بالموت الذي نسوه في اندفاعهم في هذه الدنيا، وأنبه نفوس الصغار عليهم، وكان سخط هؤلاء لكراهتهم صنع الخير على غير أيديهم؛ فلم يلبث أن انتشر بين الناس أن الراهب ميخائيل يجمع المال من الناس بحجة الفقراء ويخبئه في الأحراش، ففي شيخوخته سيجتمع لديه ثروة عظيمة. يا بني، إنني لما سمعت هذه التهمة لأول مرة سقطت على الأرض جاثيا باكيا، وسألت الله أن يقويني على احتمالها ولا يعاقب أصحابها، وبعد التفكر مليا وجدت أن الناس معذورون بتصديق هذه التهمة لقياسهم عملي على أعمال باقي الناس. فلم أعد أقدر أن أصنع شيئا مما كنت أصنعه قبلا؛ فعدلت عن جمع المال من الأغنياء للفقراء، ولم أستأ من عدولي هذا لتركي فقط مساعدة المساكين الذين تعودوا مساعدتي؛ بل أيضا لتخلص الأغنياء من سوط الحق الذي كنت أقرعهم به، وأجبرهم على وفاء ديونهم لبني جنسهم.
अज्ञात पृष्ठ