3
فزاد استغراب إيليا؛ لأنه كان يظن أن ذلك الهدوء والرزانة والمعيشة الجديدة والاحتشام حلفاء لهم في غيبة رؤسائهم وفي محضرهم.
فخرج إيليا من أول حفلة حضرها، ونفسه الدينية قد جرحت جرحا أليما، وفي خروجه استوقفه على الباب صراخ كاهن يبكي ويصيح عند مرور الأسقف، وبعد الاستخبار ظهر له أن هذا الكاهن كان من القائلين بالطبيعتين والمشيئة الواحدة، وقد أغضب البطريرك صفرونيوس بشدة مقاومته فعاقبه البطريرك بأن «ربطه» أي قضى عليه بالامتناع عن إقامة القداديس والصلاة فوق المذبح. فتأمل إيليا في الكاهن وهو خارج، ورثى لحاله؛ لأن ذلك الضغط لا يقطع رزقه فقط بل يلقي عليه وعلى اسمه شبهة عدم الاستقامة في الإيمان ويقيد حريته.
وكان كثيرون من أكابر القدس قد حضروا هذه الحفلة؛ فأخذ إيليا والراهب ميخائيل يتأملان في سيدات أورشليم الجميلات الخارجات من القداس، وشبانها الذين كانوا في الظرف واللطف والكياسه أشبه بالسيدات، وكانت الأطالس والأثواب الحريرية والتيجان اللؤلؤية التي تكلل شعور السيدات في شبكة خصوصية * والروائح العطرية التي تفوح من تلك الملابس الجميلة والغضاضة البادية في الأجسام البضة النقية التي تحتها - كل ذلك يدل على أمة سعيدة في الظاهر غنية متمتعة بالملاذ والأطايب. إلا أن الفقراء الذين كانوا صفوفا صفوفا تجاه الكنيسة وحول بابها وجدرانها، وهم بحالة يرثى لها من الشقاء والضعف والفقر، كانت حالتهم تدل إيليا الفتى الساذج على أن في تلك المدينة العامرة بغناها وأبهتها إنسانيتين؛ واحدة سعيدة وواحدة تعيسة، والمضحك أنه ظن لسذاجته أن الأولى مسيحية والثانية غير مسيحية؛ لأنها لو كانت مسيحية لشاركت إخوتها المسيحيين السعداء في خيرات الأرض ونعمها، وكانت مساوية لهم في المملكة.
فبقي إيليا مفكرا بعد كل هذه المناظرة المختلفة يمشي بجانب الراهب ميخائيل الذي كان يفكر مثله أيضا، وكان يقول في نفسه، وهو ماش مفتكرا بضرب الأسقف الشماس: ماذا أصنع بعد ما رأيته؟ هل أدخل تحت يد هذه السلطة التي لا تخجل من الإساءة إلي وإهانتي حتى أمام الناس مع أنني في دخولي تحت يدها أتنازل لها عن أثمن شيء عندي، وأعطيها أكثر مما تعطيني. هل أرضى لنفسي أن تكون في المستقبل في منزلة ذلك الكاهن المسكين الذي أهانوا إيمانه، وقيدوا حريته من أجل شيء صغير. لا لا. إنني أحب الرهبانية. أحب معيشتها الهادئة الاشتراكية. أحب الأناشيد جماعات جماعات تحت سقوف الكنائس الكبرى والأديرة العميقة حيث تتجاوب الأصداء فيها كأن الجو مأهول بملائكة تردد أصوات النشيد والصلاة مع المنشدين والمصلين - ولكنني أحب قبل كل شيء حريتي، وشرف نفسي؛ فإنني ربيت في الحقول بين الأزهار والطيور حرا مطلقا مثلها؛ فإذا قيدت نفسي الآن هذا التقييد الذي يجعلني رمة هامدة حرمت نفسي أعظم نعم الله وأكبر اللذات الروحية، وأعني بها الحرية. فماذا أصنع يا ترى؟ ماذا أصنع؟ أأترك هذه أم أترك ذاك؟ وإذا تركت الرهبانية فماذا أصنع في العالم؟ ومن أين أعيش؟ وأين أذهب في معترك هذه الحياة؟
ولما علم الراهب ميخائيل باضطراب نفس ذلك الفتى في هذا الشأن أشفق عليه إشفاق من سبقه إلى هذه الأفكار في صباه، وإذ سأله الفتى الإرشاد والنصح تردد الراهب وبقي ساكتا. فبكى الفتى، وقال: إنني وحيد فريد في الدنيا، وقد جعلك الله في طريقي؛ لتكون لي مرشدا، فلماذا تضن علي بثمرة اختبارك. أما أنت إنسان ومسيحي مثلي؟ أنسيت قول الإنجيل: من طلب منك فأعطه ومن سألك فلا ترده. إنني لا أطلب منك ذهبا ولا فضة ولا أكلفك عناء، وإنما أطلب رأيك. فقل لي ماذا أصنع في هذه الحياة التي تركني الله فيها وحدي؟
فاغرورقت حينئذ عينا الشيخ ميخائيل بالدمع؛ فقرع كتف الفتى بيده تحببا إليه، وأجاب: هل تحب أن نشهد معا بزوغ الشمس غدا يا بني؟ فأجاب إيليا: نعم، أحب ذلك. فقال الراهب: وافني غدا بعد الفجر إلى جبل الزيتون، وهنالك نشهد بزوغ الشمس، ونتحادث على انفراد في الموضوع الذي طلبت رأيي فيه.
الخطبة على الجبل
وفي فجر اليوم التالى بكر إيليا إلى جبل الزيتون؛ لأنه لم ينم في الليل إلا قليلا. فوجد الراهب الشيخ ينتظره تحت أرزة هناك، وكانت الشمس لا تزال بعيدة، وجيش النجوم في السماء الصافية آخذ في الفرار أمام عروس النور، وكان البرد قارصا، وريح الصباح تهب شديدة على الأرزة فتئن أغصانها لذلك أنينا شديدا.
4
अज्ञात पृष्ठ