1
لا لا إنني لا أريد الابتعاد عن إيليا مسيحي. فادفنونني في مزرعته بجانب قبر الراهب ميخائيل. هناك يراني إيليا في كل يوم ويسلم علي في كل صباح ومساء، وإنني إذا كنت قريبة منه هكذا فلا أكون وحدي؛ بل يكون لي بجانبي مؤنس إذا مر قرب قبري دفأت عظامي بحرراة أنفاسه، وهشت له حجارة قبري. (وكان إيليا في أثناء هذه القراءة يجهش في البكاء عند كل سطر أو سطرين كأن عينيه وجدتا نبعا جديدا من الدمع. فلما انتهى إلى هنا عاد إلى خاتمة الدفتر؛ ليقف على آخر عواطف أستير بعد وقوفه على الأسباب التي ذكرتها، فقرأ في الصفحتين الأخيرتين ما يلي):
نعم نعم، إنني أرى الموت آتيا. حمدا لك يا إلهي فإنك أنقذتني من جناية الانتحار وقتل النفس، بل إنك يا إلهي أنقذتني من الحياة نفسها؛ لأنني لم أكن على ثقة من مقدرتي على الانتحار، فكنت أخشى أن أجبن حين الشروع فيه أو تعود إلي غريزة الحياة بعد تمام عافيتي فأعود إلى التمسك بها، أما الآن فلا جبن ولا ضعف ولا خوف، غدا ستطلع الشمس ولكن تكون أستير غائبة. غدا يناديها أمها وأبوها فتكون جثة باردة و«هو» ماذا يصنع حينئذ؟ وما يقول؟ وبم يفتكر؟ آه إنني لم أعد أقدر على لفظ اسمه بفمي، يا إلهي احرسه بعدي، أواه هل يكون سعيدا أو تعيسا في مستقبل حياته؟ وا أسفاه إنني اختبرت الحياة ورأيت ما فيها من الشناعة والقبح والدناءة، فمن الصعب فيها على محبي الجمال المطلق والنقاء وطهارة الأخلاق أن يعيشوا مسرورين مرتاحين. أف إنني لا أزال أذكر ما رأيته من أفعال الناس في حياتي. لا أزال أذكر الوحوش البشرية الشرهة المرتدية بملابس جميلة تحيط بي وتصرف أنظارها إلي كأنها تريد ابتلاعي. لا أزال أذكر تنازع هذه النفوس الصغيرة واقتتالها على الأمور الأرضية التافهة اقتتالا يسقط فيه الخجول الظريف اللطيف العفيف، ويقوم الخشن الغليظ الوحشي الكثيف. لا لا. ما أحلاك أيها الموت فتعال وأرحني من هذه الحياة الدنيئة. إن حفرتك الهادئة الجميلة هي ملجأ أمين من كل فظائع وشرور هذه الحياة. هي مكان الراحة الأبدي الذي يرفرف عليه ملاك الجمال جمال الهدوء والسكون والسلام بعد شناعة القلق والاضطراب. فما أحلى وأطيب الرقاد في ذلك المكان، ولكن يا للذة العظمى والحلاوة الكبرى لو كان «هو» معي. (فمسح إيليا دموعه هذه المرة أيضا وهو يشهق شهيقا شديدا، وكان قد أتى على آخر الدفتر، ولم يبق في الصفحة الأخيرة غير عبارة واحدة مسطرة بحروف مضطربة؛ لأن اليد التي كتبتها كانت ترتجف من دبيب الحمى والموت. فقرأها إيليا فكانت كما يلي):
الوداع ... صرت عاجزة عن الكتابة ... فاقرأ من قبيل الوداع الفقرات الثلاث الأخيرة من كتابي إليك لما كنت في المزرعة.
فتذكر حينئذ إيليا هذا الكتاب فأخرجه من جيبه، وأخذ يتلوه ويقبله باكيا، ولما لم يعد قادرا على إتمام تلاوة الدفتر لشدة تأثره طواه ووضعه في جيبه وهو يبكي بكاء الأولاد، ثم خرج مسرعا من الغرفة يقصد قبر أستير، ولكنه لم يصل إليه حتى وجد هناك فوق التراب الذي لم تكن مرت بعد ساعتان على انهياله على نعش الفتاة - رجلا ممددا على الأرض بطول القبر وهو يبكي. فعرف إيليا أرميا لأول نظرة، ولما وقعت عين أحدهما على الآخر أجهشا كلاهما في البكاء.
فمن يعلم أن أستير لم يسرها وهي تحت التراب هذا الإخلاص من محب عاقل ومحب مجنون.
الفصل الرابع والعشرون
الخاتمة
هكذا كانت نهاية هذه القصة المؤلمة التي مزج فيها المؤلف دموعه بدموع إيليا، وربما بدموع القارئ أيضا.
وفي تلك الليلة لم يزر الكرى جفن إيليا، ولما أصبح الصباح لزم فراشه لاعتلال طرأ عليه، ومنذ هذا اليوم عاوده ضجره القديم فصار سكوتا منقبضا لا يلتفت إلى شيء ولا يبالى بشيء، ولما سمع الشيخ سليمان باعتلاله أسرع إليه شديد الاهتمام بأمره.
अज्ञात पृष्ठ