كانت الكلمات ثابتة، هامسة، كل كلمة منها كفيلة بخرق القائم بين الدنيا والآخرة، وبين أي موت وأي حياة، وليس في المسائل نقاش، ولكن أمرا كهذا لا بد أن يناقش، وبدأ مصطفى - بعدما انصعق سبع مرات - في مرة يفتح فمه، فإذا بصفعة صوتية تأتيه من خلفه، من عملاق صنديد لا ترحم نظراته، كان واقفا خلفه: ألم أقل لك يا مولانا؟ لقد سحرته، الشيطانة ركبته! قال الشيخ بنفس همسه الباتر الذي لا ذرة هوادة فيه: أتعرف معنى هذا يا مصطفى؟ - ما معناه يا سيدي وأميري؟ - ما دامت الشيطانة قد ركبتك فقد حل دمك أنت قبل أن يحل دمها هي، فإرادتنا من إرادته، وأمرنا من أمره، ومن يعصينا يعصيه، ويصبح أشد عداوة لنا من كل أعدائنا. - ولكني لم أعص. - فلتطع إذن؛ فالتردد عصيان قادم. - لست مترددا. - اقتلها إذن! تقتلها؟ أليس كذلك يا مصطفى؟
من سابع بئر في قراره جاء صوته: اقتلها! - غدا إن شاء الله يا مصطفى. - غدا إن شاء الله. - في نفس موعد لقائكما. - في نفس موعده. - على بركة الله يا بني، اذهب.
وكانت الخطة أن يطيل قدر ما أمكن في عملية القتل؛ لينشغل الجميع في الحادث، فقد تم ترتيب أن يهرب سبعة هامون من الكبار، في اثناء انشغال الكل بالقتل، وضرب عصفورين بحجر.
عصفورين!
أم سوزان وأنت يا مصطفى! •••
حتى السؤال الذي ظل يلح على شيخه به، وكان سرا بينه وبينه: ولماذا هي؛ هي بالذات؟ - لأنها الأجمل! - ولكن الجمال ... - جمال العدو قوة له وضعف لنا. - ولماذا أنا بالذات؟ - لأنك المطمع؛ نقطة قوتنا، وأيضا نقطة ضعفنا. - ألا يمكن لأحد؟ ... - لا يمكن! •••
النصف الثاني للفسحة يبدأ بعد الذهاب إلى الدورات، السير فيه بطيء دائري في فناء ضيق، أناس يبدون كالمجانين؛ ذابت ملابسهم، وبليت أحذيتهم، ونمت منهم اللحى. شباب وشيوخ، وجماعات وملحدون، أنت يا مصطفى لن تفعل في اللحظة المناسبة، أكثر من أنك ستكسر عظام حنجرة، عظام، مجرد عظام، سوزان الجميلة هي السحر الذي دوخك.
إذ الحقيقة فليس هناك سوى عظمة؛ مجرد عظمة هشة هي التي أصبحت تحول بينك وبين بداية الخلد.
أدخلت كل يد من يديها في ثغرة بين عمودين، أطبقت بيديها على رأسه من الخلف في تساؤل ملهوف. جذبت الرأس إلى أمام فجأة، فاقشعر بدنه رعبا، وبرزت جبهته من ناحيتها. مدت ومطت شفتيها ولمست بهما جبهته؛ لتعرف إن كان محموما؛ فقد كان أصفر شاحب الوجه تماما، ويرتجف، ضغطت بشفتيها بكل ما تملك من قوة فوق الجبين، حتى شحبت من الضغط أيضا شفتاها، ولم تعرف إن كانت ما أحست به حمى كانت عنده، أم حمى ولدها ضغط الشفتين، عيناه مفتوحتان إلى آخرهما، وموجهتان تماما إلى وجهها، ولكن لا يراها، أوقف السمع والبصر.
بارتجافة أمسكها من كتفيها، ووسط البحر العميق قذف مرة واحدة بنفسه؛ التفت كل يد حول رقبتها النحيلة وأطبقت عليها، ذهلت يداه، انتظر انتفاضة انزعاج، إشاحة احتجاج، ولكن الرقبة بقيت ساكنة وديعة بين يديه، بل مالت الرقبة إلى ناحية، كي تلمس الساحرة بخدها يده، كما تفعل القطة حين تطمئن إلى اليد التي تربت عليها.
अज्ञात पृष्ठ