كان مصطفى معجبا بهذا النظام الصارم الدقيق؛ فكل شيء يتم بالضبط كما يجب أن يتم؛ ولهذا فالكلمة هنا ليست كلمة، ولكن في سبيلها يحارب المرء الجيوش، أما حارس الليل فقد تولاه زكريا، أما رقيب النهار فقد احتاج إلى مائة جنيه، تسلمتها زوجته بالضبط في الميعاد.
والليل، والزنزانة، والهمس، وانبلج السر الأكبر.
إن معهم في المعتقل - نفس السجن - شيوعيين وشيوعيات، وللنساء موعد فسحتهن وللرجال موعد، بل هي مواعيد أربعة، موعد لحرماتهم من المسجونات، وموعد للشيوعيات، ثم للرجال منهم، ثم للشيوعيين الرجال؛ يدخل هؤلاء ليخرج إلى الفناء هؤلاء. وكانت الجماعة، حتى قبل أن يلاحظ مصطفى، قد لاحظت أن شيوعية معينة تتلكأ دائما، لتكون آخر من تدخل قسمهن، وبتتبعهم الحذر الذكي إلى حيث تتجه عيون المتلكئة حددوا الهدف.
مصطفى، ذلك الذي يرتدي جلبابا بلديا أبيض، حليق الشارب والذقن، رغم إيغاله في الإيمان بكل ما تؤمن به الجماعة، الصعيدي الأفندي الوسيم الذي ترتعش له قلوب العذارى؛ أي عذارى، من هاواي أو من الحبشة، من لوس أنجيلوس أو الأنفوشي! شاب ذكر، يكاد يكون مصنوعا كله من مادة رجالية خالصة، وهو وحده الذي لا يعرف، بينما كل البنات والسيدات، وحتى الشبان والرجال يعرفون، ويوقنون، ودائما كلمة: يا خسارة على شبابه، تلمحها أذنه وأحيانا عيناه، صاعدا عربة السجن أو هابطا منها؛ في يده الحديد، أو خاليا من الحديد، قريبا من قفص المتهمين، أو همسة تأتيه عالية من بعيد. حتى القاضي، أحس مرة أنه ينظر إليه نظرة حسرة، وكأنما حسدا لأب له كل هذا الابن! وقلب سوزان يدق، وما أغرب هذا القلب وهو يدق! فكأنما لا مبادئ ولا عقائد، ولا نيران تحول بينه وبين الدق، إذا أراد أن يدق، حتى وهو يتعمد ألا يراها، ولم يرفع عينه عن الأرض، طوال الأسبوع الأول كان يدرك أن قلبها كل مرة كان يزداد دقا.
ولكن خافضا بصره أو رافعه، كان لا بد أن تلتقي العين بالعين مرة، وهذه المرة دق قلبان؛ قلب من فولاذ عمره ما دق، وقلب من الوجد كان قد ذاب، حتى تحول إلى عهن منفوش! شيوعية رقطاء، ولكن سبحانك ربي! توزع الملامح على من تشاء بغير حساب، لكأنها من بنات حور العين. حكمتك! تؤتي الملك من تشاء، وتمنح عيونا ما وقع عليها وجه إلا وخر صريعا لمن تشاء! أنت الخالق ولكل خلق لك حكمة، ولا بد لخلقها هذا من حكمة، ولكنها أبدا لا يمكن أن تكون حكمة أن يدق لها قلبك يا مصطفى! مستحيل.
عيناه اللتان سمرهما في الأرض، يشدهما إلى أعلى مغناطيس أعتى من كل جاذبية، يشدهما في الوقت المناسب تماما، وفي اللحظة المناسبة لتستمر الومضة، وأمام عينيها تسترخيان، تثقل أجفانهما يتنومان، يسلبان الإرادة، يظلان مسمرين.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فالشيء بالشيء، حتى الشيء يحس بالشيء، فما بالك والشباب شباب مصطفى، والطرف الآخر صاحبة هذا القوام والوجه والعيون؛ سوزان! كل هفة ثوب منها تخاريف مجانين، صواعق مستأنسة، ومستأنسة وترعش الجبال! ما بالك وقوة أعظم من السجن والمتريولوزات المصوبة، والسور العظيم الذي يفصل بين فناء الرجال وفناء النساء، واستعجال الشاويشية والشاويشات، والصفافير، واختلاف المذاهب وعداء المذاهب، وكل ما يستطيع الكون أن يتآمر به؛ ليبعد كائنين أو شيئين أو قوتين ... كلها قد جربت وفشلت، تساقطت واحدة إثر الأخرى وفي الحال؛ فعبر السور العظيم كانت قوة الجذب أعتى من كل القوى، كأن حدثا كونيا قد أوقف كل شيء، ولخص الزمن والأيام في لحظة تتجمع فيها كل لحظاته، وتلتقي متسائلة محمومة محيرة، لا خيرة لها في أمرها، أربع عيون كأنها قد تحولت إلى أطراف أربعة لكائن أرقى واحد، كائن سيظل باقيا ما بقيت الحياة على سطح الأرض.
أربع عيون وكل ما سواها عدم، كل شيء، حتى نفسيهما أصبحا عدما، وإرادتهما عدما، فالموجود الوحيد صانع الحدث الصاعق، هو رعد اللقاء وبرقه، والجذب! الجذب الذي أبدا لا يقاوم؛ لتبدأ المرة الأولى الخجلى، بصباح الخير، تهمسها سوزان ، والوقفة الأولى المرتعشة وقفة مصطفى عند ثالث خشبة من بعد الخشبة المكسورة، في السور الفاصل بين العالمين! الأرض ترتعش، الأيدي المتشبثة بالخشب ترتعش، وحين جنت مرة وتماسكت الأيدي، ارتعشت هي والأرض والخشب والحديد، ووصلت الرعشة عنان السماء، بل وكادت أرجل الشاويش المنتظرة والشاويشة المسئولة تضحك ارتعاشا هي الأخرى؛ فقد تاه الولد في البنت، وتاهت البنت في الولد.
وأصبح الحدث هو الحديث الوحيد الدائر بين جانبي السور.
وفي اليوم الرابع بعد الحدث، استدعوه، أو هكذا خيل إليه أنه هو الذي ذهب وحده إلى الطابق الثالث.
अज्ञात पृष्ठ