ضحك، قهقه، انطلق يجري إلى دورة مياه المدير، نظر أيضا وأمعن في التحديق؛ لا أثر لوجهه، الصابونة الغالية معكوسة في المرآة، الفوطة، فوطة المدير العام التي ينشف بها يده، وأجزاء من وجهه وجسده في بعض الأحيان! هناك، لونها بمبي، بها البقعة الحمراء ذاتها التي كانت موجودة بالأمس؛ السيراميك الزاهي، أعاد النظر، مطلقا لا أثر لوجهه، كل شيء إلا وجهه أو رقبته أو أي جزء منه، يده فردها إلى آخرها أمام المرآة، ولكنه يرى اليد ولا يرى صورتها! جرى إلى حجرة «شمس»، التي تمتلك جهاز التسجيل الوحيد؛ لتسمع عليه طوال ساعات العمل أغانيها المفضلة، استأذن منها فلم ترفض، لم تقبل! انكبت على «التريكو» وكأنها مستغرقة تماما فيه، أخرج الميكروفون من جراب الجهاز، تنحنح، ضغط على الأبيض والأحمر ليسجل، أنا - وتردد - فلان الفلاني، العاقل الكامل العقل، سيداتي سادتي، والآن إليكم الفقرة التالية من برنامج أقوال الصحف، حيث ينتقل الميكروفون إلى إذاعة خارجية للوصف التفصيلي لمباراة كرة القدم بين الزمالك والكروم. وشك حلو يا كابتن لطيف، أظن كفى! أوقف التسجيل، ضغط زرار الترجيع، أدار الجهاز، نفس أغنية وردة: وحشتوني، استمع واستمع، ووصل إلى حيث الرقم الذي بدأ التسجيل عنده، ووردة شغالة، ولا أثر لصوته! استمر يسمع، ليس هناك إلا: وحشتوني وحشتوني، استمع إلى أن انتهى الشريط ولا أثر! الحقوني . جرى هابطا الأدوار كلها، نفس سعاة وعلامات ومصليات كل دور. في لهوجته داس بكل ثقله على قدم عواطف وكيلة العلاقات العامة الحامل في شهرها الثامن، لم تصرخ ولم تحتج! وصل إلى الشارع. على الباب الرئيسي وقف يصرخ بأعلى صوته، الناس تروح وتجيء، لا أحد يلتفت، لا رأس يرتفع! ملأه الغيظ تماما، والله لأعلمها! خلع كل ملابسه، قطعة قطعة، وتعمد أن يقذف كل عابر بقطعة، ويزيحها (اللوح البارد)، وينظر إلى أعلى وكأنه غسيل سقط من حبل يلقيه أصحابه. إنها ملابسي أنا يا حمقى! أنا هنا واقف عريان كما ولدتني أمي! ها هو ذا جسدي كله، أنا هنا، يا أولاد الحلال، والله العظيم، أنا أهه، أنا هنا، يا محسنين أنا هنا، التفتوا حتى، اضربوني، أنبوني، موتوني، يا أولاد الكلب! أنا هنا، الحق لا بد أن أبصق عليكم. استمروا غير مدركين أو مبالين، وكأن لا شيء يخجل، وكأن لا شيء أبدا يحدث، النجدة! الحقوني يا هوه، لا بد جننت، أو أنكم جميعا جننتم! زوجتي، المنقذة، النجدة! بيتي، أولادي، عقلي كله لا بد هناك. جرى، انحشر في الأوتوبيس! دفع الناس بغلظة، خيل إليه أنهم تمايلوا، فقط تمايلوا وكأن لا آدمي هو السبب، أصدر أصواتا منكرة، لم يسمع إلا الكمساري يقول: تذاكر! قرص سيدة، لم تتحرك، عضها في ردفها، لم يرتعش لها ردف! لم يأبه أحد. قفز من الأوتوبيس؛ فاستمراره فيه جحيم سيفقده عقله. أمام عمارتهم وقف. تطلع، زوجته تطل من الشرفة، لمحها من أسفل ونصفها مدلى تنشر الغسيل، نط قلبه من الفرح، لم ينتظر المصعد، أخذ السلالم قفزا واثنتين اثنتين، دق الجرس. دق ودق ودق. وكأن لا أحد هناك! لا جواب. جلس على البسطة وكاد يبكي؛ لقد رآها تنشر الغسيل، وهي بالتأكيد في الداخل، جاء بائع العيش، دق الجرس، فتح له الباب رجل يرتدي فانلة بحمالات وبنطلون بيجاما أحمر! من أنت؟ إنت مين؟ الرجل يسأل بصوت عال: عايز كام رغيف مقمرا؟ اندفع ناحية الباب. دفع الرجل الضخم الذي لم يتحرك ودخل، رأى زوجته مقبلة . نط قلبه نطتين، الآن سيعود إلى الكون، ويعود إلى الكون اتزانه وعقله، قابلها فاتحا ذراعيه، أطبقهما على الهواء؛ فالرجل الضخم كان قد أخذ العيش، وأغلق الباب، واندفعت هي تتعلق برقبته دون داع مطلقا، وكأنما لتغطيه. جاء طفل يبكي، هل هو ابنه؟ هو فعلا عمرو ابنه. حملت الطفل بيد ولفت يدها الأخرى بصعوبة حول رقبة الرجل، زوجها؛ هكذا فهم! يا مجرمون! هذا بيتي، هذه زوجتي، هذا ابني، فمن يكون هذا الطويل الضخم الهايف؟ هل مات هو وتحول إلى أثير لا يراه أحد؟ ولكن الأثير لا يرى، هو يرى. الأثير لا يسمع، هو يسمع. الأثير لا يدرك، هو يدرك. المجرم يزيح زوجته في تبرم، وكأنما هو زوجها، وقد بدأ يملها. إنه حي. أنا حي. هذه يدي، أعضها فتؤلمني، أليست هذه أصابع تتحرك أمامي؟ أليست هذه ساقا؟ إنها مؤامرة! أهم قد طلوه بطلاء كالرجل الخفي، بحيث لم يعد يراه أحد؟ ولكن منظاره هناك، وهو قطعا غير حر وغير مكبل، أيقفز في الهواء ويوقف شعورهم رعبا؟ أنا موجود يا كلب أنت وهي، انت يا ابني، انت ابني أنا، هذا يا عالم بيتي.
فرت الدموع من عينيه، بكى صامتا، ثم رافعا صوته إلى آخر المدى؛ جعير كان كفيلا بأن يفرج عليه الجيران وجيران الجيران والشارع كله. ولكن - وكأنه مات - يبكي، ووحده الذي يسمع، يا ربي، عبدك أنا، موجود، فأمر عبيدك أن يروا! دخل حجرة الرجل، انتقى قميصا وبدلة وحذاء ورباط عنق، ارتداها. أكبر وأوسع منه. تصور أنه حين يخرج إلى الصالة على الأقل سيوقفونه بتهمة السرقة. بنت يا «رقية» أنا عبده حبيبك، أنا «دودة» كما كنت تدللينه. هذا الركن احتوانا، عيناك كم احتضنتاني، حضنك اندسست فيه، عمرو، أنا أبوك، أنا بابا. أنا دادي، أنا الذي طالما تعلقت برقبته، وطلبت منه الكرة والبسكليتة والشيكولاتة. لم يعد يستطيع، انطلق كالقذيفة، فتح الباب، أخذ السلالم قفزا قفزا، حتى البواب المؤدب لم يأبه له، تعمد أن يقفز فوق سطح عربة تاكسي، ويزحف فوق المقدمة؛ حتى يغطي الزجاج الأمامي ويعمي السائق. والسائق سائق، لا يتوقف! من تاكسي إلى تاكسي إلى عربة. عاد للمؤسسة، تعمد أن يصفع رجل الأمن صفعة، لا بد دوى لها المكان، فلم يسمعها، ولا جرى الرجل وراءه، في ومضة صعد إلى الدور الأول، ليس هو الأول؛ لقد كان مقر رئيس مجلس الإدارة، ولكنه لم يجد رئيس المجلس ولا مقرا له، لافتة كانت في مكانهما معلقة، لافتة شركة «الكودمو» بالعربية والإنجليزية. أيكون قد أخطأ؟ هبط، قطع الشارع طولا وعرضا. من المؤكد أنها المؤسسة؛ هذا هو المستشفى المجاور، هذه هي محطة المترو، هذا هو الكوبري العلوي. عاد يجري، الدور الثاني تعمد ألا يقرأه. الدور الثالث كان فعلا دوره الثالث؛ حيث يوجد مكتبه، الحجرة التي يجلس فيها صغيرة، وطالما اشتكى من صغرها، ووعدوه بحجرة أكبر، ولكنه على أي حال يجلس في حجرة بمفرده. فتح الباب، انفتح؛ الأثاث هو الأثاث، المكتب مكتبه، ولكن الجالس عليه ليس هو. سيدة، شديدة الأناقة مندمجة في حديث خطير مع زبون. هذه مؤسسة، وليست «بوتيك»! هذا مكتبه، إنه موظف هام، والحديث عن صفقة شامبو، لا أقل من عشرين في المائة! يقف مصعوقا يسمع. قاوم الزبون، لانت السيدة، وافق الزبون. تمت الصفقة دون أدنى انتباه له. قبلة على اليد الناعمة انتقلت بسرعة إلى الخد الأيمن، ثم عبرت إلى الأيسر، مارة بالشفتين ... لا اعتراض ولا مانع.
تكوم في ركن منهارا، ولكن قشعريرة حمى جعلته ينتفض. لا بد هناك خطأ جسيم ما. انطلق صاعدا هابطا باحثا عن رئيسه مدير المستخدمين. لا توجد لافتة واحدة لأي مدير. حجرات مرقمة مختلفة، أبوابها في درجات الأهمية، وكأنها حجرات سرية، انتقى أكثرها أهمية. بقدمه وساقه ركل الباب ودخل.
كان اجتماعا يضم وجوها شقراء وحمراء وبعضها أسمر. المناقشات هادئة جدا، والطرقة مكيفة بجهاز صامت، لا صوت له، والكلام يكاد يكون همسا. زعق وزعق وزعق، وظل يزعق حتى انحشر الصوت في حنجرته، وانحاش صوته، وأصبح لا يستطيع سوى مواء كمواء القطط الشريدة الجائعة، أدرك أن لا فائدة!
صعد إلى سطح العمارة، فتح نافذة الدور الأخير العاشر. دون لحظة تردد - مخافة أن يتراجع، أو يعدل - فتح النافذة.
قفز. حين وصل جسده إلى الشارع، تكومت حينذاك فقط جثة مهشمة الوجه، مدشدشة الرأس، التف حولها مئات من محبي الاستطلاع، واللاحول واللاقوة إلا بالله! كثرت التعليقات. فرق أمناء الشرطة وعساكر الأمن الناس. جاءت عربة الإسعاف. فتح محضر. مجهول الهوية ذكروا، إلى النيابة أحيل الدوسيه، أشر الوكيل، دفنت الجثة.
قيد الحادث ضد مجهول، أخذ الدوسيه رقم 19502 محفوظات.
أنصاف الثائرين
في الليل لما خلا إلا منه، ولم يكن الشاكي، وليس حتى ذلك الرضا المؤقت عن النفس بعد عمل باهر. تائه! الهدف مهم، حتى المشاكل حين تقع تصبح هدفا. المهم ماذا بعد؟ بكلمة انتهى الإشكال، دقائق معدودة حدث فيها كل شيء، حين يجيء الليل وأنت لا تعرف لمن، وإلى أين تذهب. حين يجيء الليل ويسحب الكائنات. كل إلى عشه ومستقره ومقامه، ووحدك تبقى، وحدك، وحولك لا يوجد سوى الظلام واللاهدف. حينذاك يعود الليل شيئا آخر؛ عمى أصاب الشمس، أو غولا ابتلع الدنيا والناس، ولا تتحول أرض النهار كالعادة إلى ليل، وقد تغير منها اللون فقط، تصبح الأرض المستوية بحرا، ليس مجرد تشبيه؛ تتحول حقا إلى بحر، الريح أمواجه، والظلام آفاقه، والإضاءات البعيدة أو القريبة مراسيه ومناراته.
وفي الليل لما خلا إلا من الشاكي، صوت عباس يدندن، يطرد الوحشة، لكن الدندنة تؤكدها، يعلو الصوت، يغني، يطلب الونس، فيتحدث إلى الليل المسكون بالظلام الراسخ العميق. في الليل لما خلا، الجمال الوحيد في صوت عباس، أنه يجعلك تتذكر عبد الوهاب وهو يغنيها، وبحنجرته الحلوة يستأنس كون الظلام، ويضيء على مدى الصوت الرخي أنيق الشموع.
अज्ञात पृष्ठ