ولأول مرة أحس أني لست أنا ملتقى خيوط، ولا دائرة بالأمر القدري حول محوره، ولا يهمه أن يتلقى النور من هذه الشمس بالذات، أو يكتب عن هذا الموضوع، الذي يشغل الناس جميعا، الآن بالذات، أقرأ أو لا أقرأ، وجميع ما أقرؤه غير مضطر لاختزانه، أو إمعان التفكير فيه؛ فلم يعد عقلي في حاجة إلى مذاكرة ما يقع، أي: مما يقع، وشبح الامتحان الكتابي قد اختفى من أمامه.
صادقا مع نفسي لم أحس بطعم سعادة حقيقية، مثلما أحسست وأنا لثلاثة أيام بنهارها ولياليها لا أتحرك من فراشي، زوجتي تعتبرني لا بد مريضا، فحتى حين أطلب الطعام، وأنا نصف جالس، ألمح الاستنكار البين في عينيها، ولكنها في قرارة نفسها تقنع نفسها، أني لا بد أستعد لعمل عظيم، ومن حقي أن أستعد له بالطريقة التي تحلو لي. وما دامت الطريقة هذه المرة هي التمدد في الفراش المنكوش، وملاءاته التي يحل كل يوم موعد تغييرها، فكم كان لي معها من تصرفات تستغربها، تنتج في النهاية شيئا تكون هي أول السعداء به.
ماذا لو عرفت أن لا شيء وراء الأكمة، وأن لا كتابة بعد الآن؟! ماذا لو أدركت أنها لو احتجت أو عارضت، فسأترك كل شيء وأمشي لو اضطررت؛ بلاد الله لخلق الله.
طال الرقاد حتى أصبح الذهاب إلى الحمام مشقة - وأي مشقة - ألهث لها، وأحس أني وكأني أسافر على أقدامي عدة أميال، وغسيل الوجه لم يعد يوميا بالضرورة! ماذا لو حدث كلما أحسست باتساخه؟ وغسيل الأسنان باعتباره عادة راسخة، أحس بالقلق طوال اليوم، إذا لم أفعلها بكوب من الماء الدافئ والمعجون بجوار الفراش.
في الأيام الأولى كنت أقضي اليوم في أحلام يقظة، تعيد لي خصوبة أحلام اليقظة في طفولتي، وعبر رحلة الثماني كيلو مترات من المشي ذهابا وعودة إلى المدرسة، أكتفي من الجرائد بالمنشتات، ثم أكتفي فقط من أجل العادة وحدها بتسلمها دفعة واحدة، ثم إرقادها بجواري على أمل أن أعود إليها في المساء. والمساء يجدني مشدودا إلى التليفزيون، حفظت البرامج عن ظهر قلب، ولا حلقة أجنبية أو محلية تفوتني! ثم ضج جسدي بهذا النشاط التليفزيوني والإذاعي، وشيئا فشيئا زهقت من الصورة، ثم زهدت في الموسيقى، ثم أخرست اللاسلكيين تماما، وحتى أحلام اليقظة استهلكتها جميعا، ولم يعد عقلي قادرا على اختراع أدوية مثيرة أمضي فيها الأحلام، حتى حدث الأمر الذي لا أعرف بالضبط، أني كنت طوال الوقت أتوقع حدوثه، أو أني دون أن أدري - وباللاوعي كما يقولون - كنت أخاف حدوثه؛ بدأت ساقي اليمنى تتورم، ثم أعقبتها اليسرى، بلا ألم ولا أعراض جلطة. من ناحية - وكدارس طب - قلقت كثيرا أن تكون جلطة في الأوردة العميقة للساقين، ورحت أتصور كيف ستتكون الجلطات في بحيرات الدم الوريدية في عضلات الساقين، يعقبها لا بد زحف إلى أعلى حتى يشل التجلط وريدي الفخذين العظيمين، ويا حبذا لو زحفا إلى البطن حيث يتحد الاثنان، ويكونان الأورطى الوريدي ، وأكون قد انتهيت!
ومن ناحية أخرى وجدت فيما حدث المنفذ والمهرب.
فالآن وبعد أن بدأت ألمح في عيون زوجتي أشياء، كالتي كانت تحفل بها نظرات بطلة المرآة المقعرة، الآن عندي سبب وجيه تماما للرقاد؛ فالجلطة - أو الاشتباه فيها - أول تعليمات علاجها الرقاد تماما، ورفع الساق وعدم الحركة مطلقا.
وحتى ولو لم تكن هذه هي تعليمات كبار الأطباء والجراحين الذين عادوني، فأنا نفسي كنت قد فقدت الرغبة تماما في الحركة؛ أي حركة، ولو حتى لرفع رأسي وصدري ربع ارتفاعة لتناول الطعام والشراب، وبمثل ما فقدت الرغبة في الحركة؛ فقدت الرغبة في أشياء كثيرة جدا، أسأل نفسي: نفسك في إيه؟ الإجابة دائما واحدة: لا شيء أريد؛ لا الشوق أريد، ولا القلق على ابن أو زوجة أو صديق أو قضية! لا رغبة أبدا أبدا في أي شيء. وبدأت أورام السيقان تزداد، وتزحف إلى أسفل البطن، والأطباء يوصونني بعمل تمرينات رياضية؛ لتحريك أصابع الأقدام، وقبض وبسط عضلات الساق والأفخاذ؛ لدفع الدم للعودة، ولا أجد في نفسي ذرة رغبة في القيام بأي تمرين أو تحريك أية عضلة.
الموت قادم.
لا أراه؛ فهو ليس شبحا أو ملاكا أو قابلا للرؤية، ولكني أحسه، تماما كمقدم المساء حين ينتهي العصر، ويحتقن وجه الدنيا بالغروب، وتحس أن الظلام لا محالة سيتبع هذا. الليل، الصمت الأبدي، عدم الحركة في تمامها واكتمالها، وشمولها واستمراريتها! المذهل: لا استنكار، لا احتجاج، لا تفكير مطلقا في أي مقاومة! وهل يقاوم الإنسان مطلبا هو شديد الرغبة فيه؟! بل هو حتى لم يعد شديد الرغبة فيه، إنما هو الانتظار الصبور غير المتعجل! فليجئ حين يجيء؛ فالجسد مسجى لا يتحرك، والوعي بأنه هناك ممدد ومسجى وساكن، أو انتفاء الوعي سيان، وماذا يصنع الوعي من فارق، إلا أن يجعل الانتظار معدودا بالأيام والساعات، ومشوبا بالقلق؟! سيتكفل هذا الزاحف القادم بالقلق يستأصله، وبالانتظار ينهيه، كما يتكفل الظلام بإخفاء الأشياء جميعها؛ الجميل والقبيح، البعيد والقريب، الدافع للحركة والمانع لها.
अज्ञात पृष्ठ