فلتكن قد فعلت الكتابة ما فعلت، وليكن قد حدث ما حدث، بل فلأكن سأموت حتى، أقسم غير حانث أني قدرت الموت واستحضرته تماما، ووجدته ألف مرة أرحم، لم أعد أستطيع، أبدا لم أعد أستطيع! إني لأكاد أحسد إلى درجة البكاء، هؤلاء الزملاء الكتاب الذين يكتبون كل يوم، وعن كل وأي قضية؛ من السياسة إلى القصة، إلى العلم، إلى المذكرات، إلى الحب، إلى الأمومة إلى ... إلى ... إلى ... إلى أي شيء، كيف بالله يكتبون؟! ولماذا أجد القلم في يدهم سهلا، ودرجة الانفعال 37، لا تنخفض ولا تزيد، وضغط الدم لا يعلو ولا ينخفض، 120 على 80 بكل الصحة - واللهم مزيدا من الصحة - وبكل التعقل والمنطق، يكتبون ويكتبون ويكتبون، يوما بعد يوم بعد يوم، ألديهم آلة «زيروكس»، يضغطون على الزرار من هنا، فتخرج الصفحة زيروكسية مكتوبة جدا من هناك، أم «أنا» الحالة؟ فلا بد أن أحدنا هو الحالة قطعا.
وأيضا - ولثالث مرة - ما علينا. •••
طيب، أخذت المهنة وقلت أتدرب على إصلاح أجهزة الفيديو كاسيت؛ فلقد أخطأت ذات مرة، وأحضرت جهازا غير تقليدي، وحاولت تشغيله فأبى أن يعمل، وجربت جميع المشاهير وغير المشاهير من مصلحي الفيديو، حتى استوعبت العملية تماما مثلهم، وأصبحت أعرف البال، من سيكام، من الأوتوماتيك بال سيكام، والأنظمة الثلاثة الأوتوماتيكية، والألوان التسعة والسبعة، ومثلهم أيضا أدركت أننا كلنا قد أخذناها فهلوة، وأن أقصى ما قضاه أي مهندس منهم، لدراسة هذا الجهاز الجديد، الذي سيقلب العالم رأسا على عقب في القريب العاجل جدا، لم يقض في الخارج أكثر من ستة أشهر، وهي في رأيي فترة غير كافية لدراسة نظرية - مجرد نظرية - التليفزيون، فما بالك بالتسجيل التليفزيوني العملي وأجزائه المعقدة الوظائف؟!
سأكون صناعيا علميا جدا، وحتى لو كان الأمر تغيير مهنة، فأنا كثيرا ما بشرت في أحاديثي «أيام الجد!» أن الإنسان في عالم المستقبل، لن يقصر عمره على مهنة واحدة، يقضي في روتينها محترفا كلية، وأن المستقبل يحمل للإنسان القدرة على أن ينتقل من جراح قلب إلى قافز باراشوت هاو إلى نجار موبيليا - أعرف جراح قلب في أمريكا، يعمل يومي السبت والأحد نجارا محترفا فعلا - إلى عازف أكورديون، إلى ما شاء من المهن والهوايات، خلال حياته الواحدة، بحيث لا يعتريه شهر أو أسبوع أو حتى يوم ملل واحد.
وجئت ببعض المراجع، وأحضرت تليفزيوننا القديم، وبدأت أدرس الدوائر ومصائد الأشعة والصمامات وأنصاف الموصلات «الترانسستور»، ولم يستغرق الأمر أكثر من أربعة أيام؛ لألقي بكل شيء جانبا؛ إذ كنت قد تركت أجمل أنواع المعادلات الكتابية الشاحذة للخيال المدرة للجمال، فهل أغرس نفسي في معادلات أبعد ما تكون عن التصور، وأقرب ما تكون إلى واقع صلب ينطح فيه الإنسان رأسه؟ لا كتابة، لا قراءة، لا دراسة؛ فلقد أخطأت، كان الواجب التكتيكي يقتضي مني، وقد قررت أن أتنحى، أن أتنحى عن عالم الأحرف كلية، والخيال إلى قلب الحياة نفسها، قلبها الصاخب المتدفق متعة، وليس إلى دوائر الترانسستور والتليفزيون، المغلقة حتى على نسمة الهواء.
شارع المتعة والحياة، فلان؟ أهلا وسهلا، أو أهلين وسهلين، هاي جو، بالأحضان يطبق ضلوعي، وأنا قرأت لك، وأنا فاتني أن أقرأ، يا سلام يا عبقري! يا لسوء حظي! وبدلا من أن أستمتع أنا، أصبحت أنا وسيلة المتعة، وغير مسموح لي حتى بمشاركة «جمهور» الحاضرين مباذلهم الصغيرة أو الكبيرة أو رواية نكتة فاضحة؛ فأنا «فلان» المفكر «المهول»، والاستنكار ينبثق كالدش البارد المفاجئ، إذا حدث وحاولت - مجرد محاولة - أن أهرج، وهل يسمح حتى في أيام الوثنية للآلهة بالتهريج؟! وأعود آخر الليل شديد التأنيب لنفسي؛ فالعاصفة الهوجاء التي قوبلت بها، تنتهي في آخر السهرة بسلام كسلام صداقة انتهت، وكأن الواحد يقول لنفسه: ها هو آخر يطلع زينا، والظاهر كلهم كده، صيت ولا غنى، وأهه كله بكش! لم يقبلني صخب الحياة ولم أقبله؛ فالناس يفضلون إذا صخبوا أن ينسوا العقل، فإذا حضر العقل أو كلام العقل ، فهم يصنعون شيئا من شيئين؛ إما يلغونه تماما بإحالته إلى محط سخرية، وأما يحيلونه تماما إلى عنصر عاقل كابت، كالوعي يثبتون له ولأنفسهم أنهم لا يقلون عنه «احتراما»، والنتيجة أن ينقلب الأمر إلى حالة تمثيل، تتوقف فيه الانطلاقة التلقائية، التي رغم كل ما يبدو فيها من هبوط، انطلاقة براءة الطفل، الذي يريد أن يلهو داخل الإنسان، وهكذا وببساطة تامة تنتهي المتعة، أي متعة. •••
وقلت: لقد مضت أحقاب، منذ أن لعبت دور الأب، وإذا كنت قد أنتجت أعمالا، فلماذا لا تلتفت الآن لإنتاج بشر؛ بشر تعطيهم ما أعطتك الحياة من خبرة؟ تجمعهم كل عشية وتعيدها أواصر عائلة، فككها التليفزيون الذي أخرس الحوار بين أفرادها، شلل النادي والكورة التي تولت مهمة التربية والأب، وأصدقاء السوء ليس وراء معظمهم سوى الشوائب، تنزعها كالشوك السام الذي يغرس كل يوم في الأقدام، وعليك بإبرة رفيعة متهالكة، وبمقاومة رهيبة من الولد صاحب القدم أن تنتزعها.
واكتشفت أني أبحث عن دور، أصبح مكانه حفريات التاريخ هناك، حيث ترقد مراكب الشمس، لو أمعنت في الصحراء قليلا، ستجد ملايين قبور عليها شواهد مكتوب فوقها: كائنات كانت آباء! فليرحمهم الله.
أب ماذا في هذا الزمن، الذي أراد النظام الذي يدير الكون الآن، أن يفكك العائلة فيه؛ ليسهل على نفسه شراءها؟! أيد عاملة شابة، ترضى بالقليل وتعطي الكثير، ولا تسمع تعاليم الآباء، عن عمق مطالب الشعوب والفئات منذ أقدم العصور، آلات منتجة حديدة غير مثقلة بتاريخ مطالبات ونقابات، وإنما هي ابنة «رجل بستة مليون دولار» و«جي آر» و«سوالين» جديدة، تشكلها وتعطيها ما شاءت من بنج بونج وتنس وكورة، ومنطق ساحق رهيب، دراسة ماذا وأنت تستطيع كجرسون في فندق أو حتى شيال، أو مصادق للسائحات العجوزات، أن تطلع لك في اليوم بعشرين أو ثلاثين جنيها بالتمام والكمال، تصرف وتشتري عربة، والجامعة والتعليم واللقب الذي تريده، ستجدها كلها ملفوفة في خرق قديمة، ألقيناها من نوافذ المناور في العمارات؟! ماذا يجدي الحديث عن سعد زغلول ومصطفى مشرفة وحتى فاروق الباز، أمام ثلاثين جنيها وعربة ولو «سيات»، يلمسها المراهق لمسة اليقين كل يوم، ويحيلها لصناديق بيرة وشحنة بنات وطريق صحاري سيتي وهات إيدك، إلى حديث عن المجد القديم، والمجد ها هو أمامك جديدا «نوفي» تحت أمرك، ودقيقة واحدة ويكون رهن طلبك، وإذا أرقك ضميرك هاك بلبوعة قادمة من بيروت، تزيل كل الآلام وتحقق جميع الأحلام، وتصبح إذا أردت في ومضة كسرى أنوشروان!
كان الله واحدا والأب واحدا، وفي البدء كان الكلمة، بالطبع الكلمة الطيبة.
अज्ञात पृष्ठ