Uncovering the Covered Meanings and Expressions in Al-Muwatta
كشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطا
अन्वेषक
طه بن علي بوسريح التونسي
प्रकाशक
دار سحنون للنشر والتوزيع
संस्करण संख्या
الثانية
प्रकाशन वर्ष
١٤٢٨ هـ
प्रकाशक स्थान
دار السلام للطباعة والنشر
शैलियों
ترجمة المؤلف
* اسمه ونسبه ومولوده:
هو محمَّد الطاهر بن محمَّد الطاهر بن محمَّد بن محمَّد الشاذلي بن عبد القادر بن محمَّد بن عاشور. وأمه فاطمة بنت الشيخ الوزير محمَّد العزيز بن محمَّد الحبيب بن محمَّد الطيب بن محمَّد ابن محمَّد بو عتَّور.
أصل عائلته بلاد الأندلس، ثم انتقلت إلى سلا ببلاد المغرب ثم إلى تونس.
وُلِد الشيخ ابن عاشور بقصر جده لأمنه بالمرسى في جمادى الأول ١٢٩٦ هـ سبتمبر ١٨٧٩ م.
نشأ مترجمنا في كنف جده الشيخ الوزير محمَّد العزيز بوعتور، وبعناية والده الشيخ محمَّد ابن عاشور. فاهتمتا به اهتمامًا دينيًا وتربويًا. «فأقبل الفتى من السنة السادسة من عمره على مسجد سيدي أبي حديد المجاور لبيتهم بنهج الباشا بتونس. فحفظ به القرآن الكريم ورتله على الشيخ المقر محمَّد الخياري. وحفظ مجموعة من المتون العلمية كابن عاشر. «والرسالة». «والقطر»، ونحوهما مما كان يُعنى المؤدِّبون بتلقينه لتلامذتهم الصغار».
* شيوخه:
لا شك أن الإمام ابن عاشور ﵀. كان حريصًا على تحصيل العلم والمعرفة، سماعًا وقراءة على مَن تأهّل في ذلك، وبرز في فنه، واشتدَّ عوده في ميدانه.
- فتخرج على الشيخ عبد القادر التميمي في تجويد القرآن، وعلم القراءات، وبخاصة في رواية قالون.
- وعلى الشيخ محمَّد النخلي، درس عليه من كتب علوم الوسائل «القطر» و«المكودي على الخلاصة» و«مقدمة الإعراب» في النحو و«مختصر السعد» في البلاغة و«التهذيب» في المنطق. وتخرَّج به في أصول الفقه بدراسة الحطَّاب على «الورقات»، و«التنقيح» للقرافي، وفي الفقه المالكي بكتاب «ميارة على المرشد» و«كفاية الطلب على الرسالة».
1 / 7
-وقرأ على الشيخ محمَّد صالح الشريف كتاب خالد الأزهرية، و«القطر» لابن هشام. و«المكودي على الخلاصة» في النحو. و«السُّلَّم» في المنطق، وفي علوم العقائد: «مختصر السعد على العقائد النسفية» و«التاودي على التحفية» في الفقه.
- وعن الشيخ عمر بن عاشور «لامية الأفعال» وشروحها في الصرف، و«تعليق الدماميني على المغني» لابن هشام في النحو، و«مختصر السعد» في البلاغة، و«الدردير» في الفقه. و«الدرَّة» في الفرائض.
ودرس على الشيخ محمَّد النجار الشريف كتاب «المكودي على الخلاصة» في النحو. و«مختصر السعد» في البلغة. و«المواقف» في علم الكلام. و«البيقونيَّة» أو «غرامي صحيح» في مصطلح الحديث.
- وقرأ على الشيخ محمَّد طاهر جعفر «شرح لمحلي على جمع الجوامع» في أصول الفقه. و«الشهاب الخفاجي على الشفاء» للقاضي عياض في السيرة النبوية.
- وعلى الشيخ أحمد جمال الدين «القطر» في النحو، و«الدردير» في الفقه.
- وعلى الشيخ محمَّد صالح الشاهد «الدردير».
- وعلى لشيخ محمَّد العربي الدرعي «كفاية الطالب على الرسالة» في الفقه.
* والملاحظ أن لبعض شيوخه الكبار أثرًا واضحًا في تكوينه، وفي منهجه المعرفي. وأخص بالذكر شيخين ذاع صيتهما في ذلك الزمن، وكان لهما وقع كبير في الأوساط العلمية في تونس. أولهما: الشيخ سالم بو حاجب (ت ١٩٢٤ هـ) أحد المصلحين والمحققين الأذكياء. فنظرًا لنباهة هذا الشيخ، وعلو كعبه في العلم لازمه الشيخ ابن عاشور فقرأ «صحيح البخاري» بشرح القسطلاني. قراءة تحقيق بجامع الزيتونة، كما قرأ عليه على ذلك النمط أجزاء من «شرح الزرقاني على موطأ مالك».
ثانيهما: الشيخ محمَّد العزيز بوعتور (ت ١٩٠٧ هـ) الذي كانت له عناية خاصَّة بحفيده الشيخ محمَّد الطاهر ابن عاشور فإضافة على قراءة الطالب على شيخه بعض أمهات الكتب فإن الأستاذ دوَّن له بخط يده مجموعًا فريدًا، جمع له به عيون الأدب، ونصوص الحكم وبدائع النظم والنثر.
1 / 8
* وظائفه العلمية والإدارية والشرعية:
دخل الشيخ ابن عاشور ميدان التدريس في جامعة الزيتونة، وترقى في سلَّم مما أهله أن يكون من ذوي الر\ُّتب العليَّة. وخاض مناظراته ونجح في جميع امتحاناته. حتى أصبح مقدمًا بين أقرانه، ماسكًا بزمام التعليم والتربية والتوجيه. فأخذ يتفنن في إفادة الطلبة، وإتحافهم بضروب من التحقيقات النادرة فدرس «الشرح المطول» للتفتراني. وكتاب «دلائل الإعجاز» للجرجاني في البلاغة. و«شرح المحلي لجمع الجوامع» للسبكي في أصول الفقه، و«مقدمة ابن خلدون» وهي كما لا يخفى من الأمهات في نقد التاريخ، وأصول علم الاجتماع. ودرس «ديوان الجماسة» لأبي تمام. ودرس أيضًا في الحديث «موطأ» الإمام. وأقرأ «تفسير البيضاوي» بحاشية الشهاب.
كما تمرس مترجمنا ﵀ على جانب ذلك بالأعمال الإدارية والوظائف الشرعية، التي تأهل لها بمواهبه الفائقة العالية. كما شارك في المؤسسات العلمية والثقافية، وأسهم في إدارتها وتنشيطها بعزم وهمة. فتقلب في عدة وظائف تتعلق بالتعليم وإدارته. وبالمكتبات بالإصلاح. فعُيِّن مرات عديدة في مجلس إصلاح التعليم بجامع الزيتونة. وبحكم وظيفته الشرعية، عُين عضوًا في النظارة العلمية وقاضيًا أو كبير أهل الشورى في المجلس الشرعي. وباشر مشيخة الجامع الأعظم في هذه السنوات (١٩٣٢ - ١٩٣٣) و(١٩٤٥ - ١٩٥٢ م) وإثر الاستقلال التونسي عُين عميدًا للجامعة الزيتونية (من سنة ١٩٥٦ إلى ١٩٦٠ م).
كما عُين الشيخ ابن عاشور قاضيًا مالكيًا بالمجلس الشرعي، ثم مفتيًا ثم شيخًا للإسلام على المذهب المالكي (سنة ١٩٣٣ م).
ونظرًا لبعد صيته في العلم، وتبحُّره في علوم الآلة أي الاجتهاد، وتوسعه في اللغة العربية. انتُخِب عضوًا بالمجمعين: مجمع اللغة العربية بالقاهرة (سنة ١٩٥٠ م) والمجمع العلمي العربي بدمشق (سنة ١٩٥٥ م).
* تلاميذه:
يعتبر الشيخ ابن عاشور معلم الأجيال. فقد طال عمره. وبارك الله له فيه، حتى
1 / 9
تتلمذ عليه الصغار والكبار، وانتفع القاصي به والداني. فمن أشهر تلاميذه ابنه العلَّامة المحقق محمَّد الفاضل ابن عاشور. والعلَّامة محمَّد الشاذلي النيفر، والعلامة محمَّد الحبيب ابن الخوجة وغيرهم من العلماء والباحثين.
* مكانته العلمية وثناء العلماء عليها:
قال فيه شيخ الأزهر العلَّامة المحقق قرنه في الدراسة محمَّد الخضر حسين: «وللأستاذ فصاحة منطق، وبراعة بيان. ويضيف إلى غزارة العلم، وقوة النظر، صفاء الذوق، وسعة الاطلاع في آداب اللغة ... وبالإجمال ليس إعجابي بوضاءة أخلاقه، وسماحة آدابه بأقل من إعجابي بعبقريته في العلم».
وقال فيه العلَّامة المصلح الشيخ محمَّد البشير الإبراهيمي قائلًا: عَلَم من الأعلام الذي يعدُّهم التاريخ الحاضر من ذخائره. فهو «إمام مُتبحّر في العلوم الإسلامية، مستقلٌ في الاستدلال. واسع الثراء من كنوزها. فسيح الذرع بتحملها. نافذ البصيرة في معقولها، وافر الاطلاع على المنقول منها، أقرأ وأفاد، وتخرَّجت عليه طبقات ممتازة في التحقيق العلمي.
وقال الدكتور العلمي عبد الرحمن العثيمين: «من أفاضل الرجال في عصرها، أدركته ولم يُقدَّر لي رؤيته -وهو بلا شك- من محاسن العصر، ونوادر الرِّجال. رئيس المفتين المالكيين في تونس. وشيخ جامعة الزيتونة بها ... خلف مكتبة حافلة بنوادر المخطوطات والمطبوعات. وألَّف آثارًا جليلة.
* آثاره العلمية:
تنوَّعت مصنفات الشيخ ابن عاشور، فشملت ضروبًا من الثقافة الإسلامية، بل لعلها تناولت جميع جوانبها. وأشهر أعماله وأعظمها تفسيره للقرآن الموسوم بـ «التحرير والتنوير» «مضى فيه الشيخ على نمط فريد في عصرنا الحاضر، يُداني به كبار أئمة التفسير المعتمدين. ويجنح بطلابه فيه إلى مختلف الطرق، تمكينًا لهم من فهم النص القرآني فهمًا كاملًا، وتدريبًا لهم على الغوص على لطائف معانيه وإشارته غوصًا يسمح لهم بالانتباه إلى دقائقه، مع التربية لملكاتهم والصَّقل لمواهبهم،
1 / 10
والارتقاء بأذواقهم».
وخاض الشيخ ﵀ غمار علم أصول الفقه، فوضع فيه تأليف تدل على عمق فهمه لعلم الشريعة وأصولها وفروعها، بل على علوِّ كعبه في المنقول والمعقول. فوضع وهو في سنِّ مبكرة «حاشية على تنقيح الفصول» للقرافي.
ولعل ما يشدُّ انتباه الباحث المهتم بهذه الشخصية الباحث على النَّهل من ينابيعها كتاب «مقاصد الشريعة الإسلامية» هذا الكتاب الذي يُعدُّ فذًا في بابه، ومفخرة لأهل المغرب عامةً ولأهل تونس خاصةً. وهو ما دعا كثيرًا من الباحثين إلى التنويه بشأن الكتاب، وإبداء الإعجاب به، من بينهم الأستاذ الدكتور محمَّد سعيد رمضان البوطي الذي قال: «من أهمِّ ما يمتاز به هذا الكتاب فيما أعتقد، أنه أول مؤلف يعالج موضوعًا من أبرز وأهم الموضوعات في أصول الفقه. ألا وهو مقاصد الشريعة الإسلامية، ويفرده بالبحث والتحليل ... لا ريب أن صنيع العلامة المرحوم ابن عاشور يُعدُّ تأسيسًا كبيرًا لذاتية هذا العلم، ورسْمًا لإطاره الذي ميَّزه عن غيره».
كما اعتبره الباحث الدكتور عبد المجيد النَّجار بأنه تطوير وتهذيب. ويقرب من ذاك الكتاب الفذ، كتابه الآخر القيم الموسوم بـ «أصول النظام الاجتماعي في الإسلام» الذي حُظي باهتمام الدارسين والباحثين وأولوه عناية خاصة.
وخاض الشيخ ابن عاشور الحديث، فألف حول «الموطأ» كتابه «كشف المغطى» -موضوع بحثنا هذا- وحول «صحيح البخاري» واضح كتابه المسمى بـ «النظر الفسيح عند مضايق الأنظار في الجامع الصحيح» أوضح فيه جملة من
1 / 11
المسائل أشكلت على شراح البخاري، وتعرض لجملة من القضايا استعصت على كثير من العلماء.
أما نشاطه في علوم اللغة، والأدب فاضح ومتميز. فساهم الشيخ ابن عاشور بقسط مفيد في تحقيق جملة من عيون الكتب وأمهات المصنفات مثل عمله في «ديوان النابغة الذبياني» و«ديوان بشار بن بُرد» و«الواضح في مشكلات شعر المتنبي» للأصفهاني، و«سرقات المتنبي ومشكل معانيه» لابن السراج، و«قلائد العقيان ومحاسن الأعيان» لأبي نصر بن خاقان، وشرح المقدمة الأدبية للإمام المرزوقي، ووضعَ «أصول الإنشاء والخطابة» و«موجز البلاغة». إضافة إلى دراسات فكرية. ومقالات أدبية ذات صفة نقدية. وبالجملة فجهود الشيخ ﵀ في اللغة والأدب كبيرة ونافعة بل إنه يعتبر فارس هذا المضمار، وإمامًا لا يشقُّ له غبار.
* وفاته:
وبعد عُمر مَديد قضاه الشيخ ابن عاشور بين البحث والتدريس، والعلم والتأليف. توفي رحمه الله تعالى يوم الأحد ١٣ رجب ١٣٩٣/ ١٢ أو ت ١٩٧٣. ودُفن بمقبرة الزلاج.
1 / 12
* أهمية الكتاب:
لهذا التصنيف جملة من المزايا والفوائد نلخصها فيما يلي:
- ارتباط هذا التأليف بكتاب «الموطأ» للإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة، والذي جمع بين دفتيه الفقه والحديث. وذلك بوضعه للمحدثين منهجًا في انتقاء الأحاديث والرجال، وطريقة للفقهاء في استنباط الأحكام واستخراج الأصول وبناء الفروع عليها.
فليس من الهين التعرُّض لمثل هذا الكتاب المبارك والفذ بالشرح والتعليق.
- في هذا «الكشف» خدمة لفقه الإمام كالك ﵀، وإضافة جادة لشراح «الموطأ» بل تجد فيه استدراكات قيِّمة، وفوائد جمَّة يندر وجودها في المطولات من الشروح، جادت بها قريحة الشيخ ابن عاشور، ونطقت بها عبقريته العلمية.
- تناول الشيخ أغلب أبواب «الموطأ» بالتعليق والتوضيح تارة، وبتوسيع أحيانًا أخرى في الشرح، كما أنه أقدم على بيان مواطن فيها إشكال أو إبهام، أو «فصل نزاع» بين الشراح أو ترجيح ما يتراء له منها.
وهذه التعليقات وإن كان يغلب عليها أحيانًا الطابع اللغوي، فإنها في كثير من الأبواب تحقيقات فقهية نفيسة، بل مزجها الشيخ بمباحث أصولية مقاصدية نادرة، يتعذَّر الوقوف عليها في غير هذا الكتاب، مثلما فعل في تعليله معنى الصوم. وحقيقة الزكاة، وغايات الحج.
- ومما يشدُّ انتباه الباحث في «الموطأ» أو في الحديث اعتناء الشيخ ابن عاشور بنسخ ذلك الكتاب، ورجوعه إلى أكثر من رواية سيما نسخة يحيى بن يحيى الليثي الأندلسي. وقارن بينها وأعمل خبرته في الترجيح بينها، وهو ما يدل على أنه ﵀ كان دائمًا يروم التحقيق، وأنه يعاني الكثير من الصبر والتجلد من أجل الوصول إلى الحقيقة.
وفي الختام أسوق كلمة للدكتور العلَّامة عبد الرحمن العثيمين حول هذا الكتاب الذي قال: «كشف المغطى، صغير الحجم، عظيم النفع جدًا، يُغني عن المجلدات. وفيه مقدمة مقيدة إلى الغاية ..» (مقدمة تفسير غريب الموطأ لابن حبيب (١/ ١٢٥».
1 / 13
* عملي في هذا الكتاب:
- خرَّجت الآيات القرآنية التي استشهد بها المؤلف رحمه الله تعالى.
- خرَّجت الأحاديث النبوية تخريجًا علميًا مع بيان درجة كل حديث مستأنسًا بآراء العلماء المتقدمين. ومستعينًا بأحكام بعض المحدثين المعاصرين. وقد أنقل بعض التخريج عن غيري أحيانًا مع مراعاة الاختصار في ذلك.
وأما أحاديث «الموطأ» فأشير إلى الكتاب ثم الجزء والصفحة ورقم الحديث. وذلك تمشيًا مع طبعة العلَّامة المحقق بشار عواد معروف وهي أضبط طبعات «الموطأ» وأدقها حتى هذه اللحظة. وعند الاختلاف أو الترجيح أرجع إلى النسخة التونسية المخطوطة المضبوطة ضبطًا جيدًا والمحفوظة بالمكتبة الوطنية تحت رقم (١٠٠٧٢) وإلى غيرها من كتب شراح «الموطأ» كما خرَّجت الآثار وبينت درجتها من الصحة والضعف.
- ضبطت ما يحتاج إلى ضبط من الكلمات، وشكلت المرفوع من الأحاديث.
- ترجمت لبعض الفقهاء والمحدثين ممن يقتضي البحث العلمي التعريف بهم.
- خرَّجت الأبيات الشعرية. وضبطت نصوصها.
- عزوت الإحالات التي ذكرها الشيخ ﵀ إلى أماكنها من المصادر المطبوعة والمخطوطة، وما ندَّ منها عني نقلته عن غيري مصرحًا بذلك. وفي أثناء ذلك استدركت عليه بعض الهَناتِ سببها زلة قلم مع بيان الحجة والدليل، مقرونين بآراء العلماء والنقاد، مع الملاحظ أن مواطن الزَّلل في هذا الكتاب قليلة بالنسبة لمواطن التوفيق والإصابة.
- وضعت مقدمة للكتاب ضمنتها ترجمة موجزة موفية لائقة بالشيخ ابن عاشور، وبينت أهمية الكتاب ومواطن الإضافة فيه وأبرزت جوانب التحقيق عند صاحبه. ثم أشرت إلى طريقتي في تحقيق الكتاب التعليق عليه.
وفي الختام أحمد الله ﷿ أن وفقني لإنجاز هذا العمل. الذي أرجو أن يكون مقبولًا عنده، وفي ميزان حسناتي يوم ألقاه، كما أستغفره تعالى وأتوب إليه ممَّا وقع فيه قلمي من الزلل، أو طاش إليه خاطري من الوَهم والخلل. كما أشكر القائمين على دار سحنون الغرَّاء، وأسأل الله تعالى أن يُسدِّد خطاهم نحو مزيد من خدمة علوم
1 / 14
الشريعة وأهلها، ونشر آثار علماء هذه الديار التونسية إنه تعالى خير مرجو. وولي النعمة وولي التوفيق .. والحمد له أولًا وآخرًا.
وكتبه
د. طه بن علي بُوسريح التونسي
في ٧ رمضان ١٤٢٦ هـ.
***
1 / 15
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه
أما بعد، فقد كانت تَعْرض لي عند مزاولة «موطأ» مالك بن أنس ﵁، رواية ودراية ومطالعة، نُكَتٌ، وتحقيقات، وفتحٌ لمغلقات، ليست مما تهُون إضاعته، ولا مما تُبْخس بضاعته، فكنت حين أقرأته في جامع الزيتونة بتونس، عقدت العزم على وضع شرح عليه يفي بهذا الغرض، يجمع أشتات ما انقدح في الدرس وما قبلُ عرض، ألمُّ بما كتب الشارحون، وأنفل ذلك بما يقدحه زند الذهن عند التأمل في معاني آثاره ومنازع فقه صاحبه، وكنت شرعت في ذلك وكتبت جملة، ثم طرأت شواغل أعمال نافعة ضايقت أوقاتي عن الوفاء بذلك، فاقتنعت بإثبات أهم ما يلوح لي من النكت والمسائل، وكشفت المشاكل، أو تحقيق مبحث، أو فصل نزاع، أو بيان استعمال عربي فصيح، أو مفرد غير متداول؛ «فالموطأ» وإن كان قد شُرح بشروحٍ جمَّة، قد بقيت في خلاله نكت مهمة، لم تغص على دررها الأذهان، وهي إذا لاح شعاعها لا يهون إهمالها.
وبين أيدي الناس اليوم من شروح «الموطأ» جملة صالحة، وهي: «المنتقى» لأبي الوليد الباجي، وشرح محمَّد الزرقاني، وتعليق جلال الدين السيوطي. وبين يديَّ شروح أخر؛ منها: شرح لأبي بكر بن العربي المسمى «بالقَبس»؛ ومنها: جزء هو ربع ثالث من شرح أبي بكر بن العربي عليه المسمى «ترتيب المسالك»، وقطعة من «التمهيد» لأبي عُمر بن عبد البر تبلغ أواخر المرويات عن داود بن الحُصَين، وطالعت عند أحد العلماء من أصحابنا قطعة تبلغ إلى الحج من شرح اسمه «الأنوار في الجمع بين المنتقى والاستذكار» لمحمد بن أحمد بن سعيد المعروف بابن زَرْق (بتقديم
1 / 17
الزاي المعجمة على الراء المهملة)، ويقال: ابن زَرقون الأشبيلي المتوفي سنة (٥٨٦)، ولدي شرحُ غريب «الموطأ» المسمى: بالتعليق لأبي محمَّد بن السيد البطليوسي، وبعد أن أتممت جانبًا وافرًا من هذا التعليق صارت إلي نسخة من «المشارق» لعياض، ولم يكن قبل ذلك موجودًا لدي؛ فألحقت ما رأيت فيه زيادة فائدة بمواضع تفسير الغريب.
فهذه الشروح لا أجلب منها إلَّا ما يتعين جلبه للتنبيه على وهم أو تقصير، وما عداه أكِلُه إلى مطالعة الناظر المعتني، وأقتصر على ما ينفتح لذهني من الحقائق والألفاظ التي أشكلت أو أهملت أو أغفلت، وكلُّها وإن كانت قليلة وجيزة، تُعدُّ من النكت العزيزة، وليست القيمة للكاثر، ولا بالمكيال تكال المآثر، ولكن رُبَّ كلمة جامعة، تَجِد أذنًا سامعة؛ فتَرجَحُ صحائف واسعة، حقق الله الأمل، ووفق إلى خير العمل.
1 / 18
موطأ مالك بن أنس ﵀
إن أهل العلم ورجال السنة اتفقت كلمتهم على أن «الموطأ» ألفه الإمام مالك بن أنس ﵀، وكتبه بيده، وأنه أول كتاب أُلِّف في الإسلام من الكتب التي ظهرت بين أيدي الناس، وأنه قد رواه عن مالك جمهرة من أهل الحديث والفقه يتجاوزون الألف. قال ابن العربي في بعض كتبه: رواه عن مالك من أصحابه ألف أو يزيدون، وقد أحصاهم عياض في باب خصَّه من كتابه المعروف المسمى: «المدارك» فبلغ إلى ألف وثلاثمائة مرتبين على حروف المعجم، وكان الخطيب البغدادي عُني بإحصاء رواة «الموطأ»، فبلغ تسعمائة وتسعين راويًا.
وإنَّ التوفيق الذي بعث مالكًا ﵀ على تدوين «الموطأ» للُطفٌ ربانيٌ؛ جعله الله مثالًا لحملة سُنة رسوله ﷺ كيف يحقُّ لهم حملها وإبلاغها إلى الأمة، مما استخلصه من طرائق شيوخه. فقد رسم مالك بهذا الكتاب طريقته التي اتبعها ونوَّه بها في مجالس تحديثه ودروس علمه، وهي طريقة التمحيص، والتصحيح في الرواية، وتمييز من يستحق أن تحمل عنه السنة، وتبيين محامل الآثار المروية، بعد أن مضى زمن خُلط فيها بين الصحيح والسقيم، فإن التعطش إلى حفظ ما يؤثر عن رسول الله ﷺ قد شبَّ في نفوس علماء الأمة حين أذن عصر أصحاب رسول الله ﷺ بالانتهاء؛ فهرع الناس إلى الذين تلقوا العلم عن الصحابة وهم التابعون. وكان من هؤلاء مُكثر ومقلٌّ، هل ومشدِّد، وطفقوا يقيِّدون، ويحفظون، ويحدِّثون بجميع ذلك خيفة اندراس العلم،
1 / 19
فكانت أعصرُ ركب الناس فيها كل صعب وذلول، كما قال عبد الله بن عباس ﵁. ووجد أهل الأهواء، والنزاعات، ودُعاة الدول، والأحزاب في تلك الكثرة والسعة مخابئ دسُّوا فيها مفترياتهم، أو آثار غفلاتهم، فلا جرم أن أصبحت الأمة في حاجة إلى ضبط الصحيح من آثار رسولها ﷺ وأصحابه. وكان أهل المدينة أحق الناس بذلك الضبط، فإنها مازالت يومئذٍ عاضَّة على السن بنواجذها، مقتفية هدي رسول الله ﷺ وخلفائه وخاصةً أصحابه.
ولم يكن الوضاعون والمدلسون بالذين تنفق بالمدينة خزعبلاتهم، ولا تروج ترهاتهم؛ إذ كانت المدينة مكتظَّة بأهل العلم والأثر، هجيراهم الرواية، والتحديث، ودراسة العلم، وديدنهم التمسك بالحق الصريح، فلو رمى أحد الوضاعين بين ظهرانيهم بحصاة لتَفوهُ، فإن المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طِيبها.
وقد خلص علم فقهاء المدينة إلى مالك بن أنس ﵀ وكانت زكانة رأيه، وصلابة دينه، وقوة نقده، قد هيأت له بتوفيق الله تعالى ذلك المقام الجليل، مقام الضبط، والتصحيح، والتحرير، حتى أيقنَّا أنه الذي بعثه الله على رأس المائة الثانية، مُجددًا للأمة أمر دينها، وماهيك بمثل هذا الأمر من الدين. فقد قال رسول الله ﷺ: «إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها». قال ذلك في
1 / 20
آخر سِنِي حياته المباركة، أي: في نحو سنة إحدى عشرة من هجرته، وقد ظهر مالك في العلم في حدود سنة إحدى عشرة ومائة ١١١ من الهجرة. وأخرج الترمذي وغيره عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم فآلا يجدون أحدا أعلم من عالم المدينة»، ورُوي عن سفيان بن عيينة أن عالم المدينة مالك ابن أنسن وروي أيضًا عن عبد الرزاق: أنه مالك بن أنس.
وهذا الحديث رواه الشافعي أيضًا في «مسنده»، والبيهقي في «سننه»،
1 / 21
والحاكم في «المستدرك»؛ فألحقه الحاكم بالصحيح. ومما يحقق ذلك أن مالكًا قد كان معاصروه بالمدينة وهم: عبيد الله العُمري، ومحمد بن أبي ذئب، ومحمد بن إسحاق، وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، ومحمد بن عبد العزيز الزهري. فما شُدَّت الرحال من سائر الأقطار إلَّا إلى مالك. وقد انقرض عصر مالك فما خلفه بالمدينة إلا عصر أصحابه، ولا يعرف بالمدينة في عصرهم فقهاء غيرهم.
لقد ضيَّق مالكٌ في شروط قبول الأخبار تضييقًا اسْتبرأ فيه لدينه، وقضى به حقَّ الاحتياط في موافقة صحة النسبة إلى رسول الله ﷺ، وما تواتر من حال المسلمين في زمانه وزمان الصحابة، روى الترمذي في آخر «جامعة» عن يحيى بن سعيد القطان أنه قال: «ما في القوم أحدٌ أصح حديثًا من مالك بن أنس، كان مالك إمامًا في الحديث».
وقد تقصَّيتُ مراجع شروط الصحة عند أهل الأثر؛ فوجدتها لا تعدو ثلاثة أشياء:
الأول: تحقُّق صدق الراوي فيما رواه، وهذا يندرج فيه شرط العدالة، واليقظة، والضبط، وعدم البدعة.
الثاني: تحقُّق عدم الالتباس، والاشتباه على الراوي، ويندرج في هذا صراحة طرق التحمُّل من انتفاء التدليس والتغفل.
الثالث: تحقُّق مطابقة المروي لما هو واقع من الأمر في زمن النبي ﷺ، ويندرج تحت هذا قواعد الترجيح بين المتعارضات، ومحامل المتشابهات، وتأويلها، والنسخ، ونحو ذلك.
فالأمران الأولان يعتمدان صحة السند وثقته، والأمر الثالث يعتمد صحة المعنى. وكان معظم رجال الحديث في عصر مالك لا يتوخون إلا صحة السند، وقد شغلهم ذلك عن تتبع الأمر الثالث، وربما كان بعضهم لا يعبأ بالأمر الثالث إذا عنَّ له ويجعل العمدة الأمرين الأولين، حتى قال بعضهم: «إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي»، مريدًا
1 / 22
صحته لهذا المعنى، وقد وقع هذا للشافعي كثيرًا في مسائل فقهه. أما مالك فقد جعل للأمر الثالث الحظ الأكبر، فكان بعد صحة سند الأثر يعرضه على عمل علماء المدينة من الصحابة والتابعين، وعلى قواعد الشريعة، وعلى القياس الجَلِي، فكان لا يعمل بخبر الواحد إذا خالف واحدًا من هذه الثلاثة، كما قال بِردِّ حديث خيار المجلس إذا حمل على ظاهر لفظه.
وإذا أحطنا بأسباب رواية الأخبار الموضوعة أو الضعيفة النسبة إلى رسول الله ﷺ وجدناها خمسة: افتراءً، أو نسيانًا، أو غلطًا، أو ترويجًا، أو إغرابًا.
فأما الكذب وهو شرها؛ لأنه لا يُقدم عليه إلا ضعيف الدين أو ضعيف العقل، وقد توخَّى مالك ﵀ للوقاية منه شدَّة نقده للرواية في صحة الدين، واستقامة الفهم، واتباع السنة.
قال سفيان بن عيينة: رحم الله مالكًا ما كان أشد انتقاده للرجل. وقال ابن المديني: لا أعلم أحدًا يقوم مقام مالك في ذلك.
وقال أحمد بن صالح: ما أعلم مالكًا روى عن أحد فيه شيء.
وقال مسلم بن الحجاج في الأحاديث المعنونة بـ «باب إن الإسناد من الدين».
عن بشر بن عمر قال: سألت مالكًا عن رجل، فقال لي: هل رأيته في كتبي؟ قلت: لا. فقال: لو كان ثقةً لرأيته في كتبي.
وقال أبو عمر بن عبد البر في ترجمة ثَور بن زيد الدَّيلي من كتاب «التمهيد» قال: كان (زيد بن ثور) ينسب إلى رأي الخوارج والقول بالقدر، ولم يكن يدعو إلى
1 / 23
شيء من ذلك.
قال أحمد بن حنبل: هو صالح الحديث وقد روى عنه مالك ﵀.
فتحصَّل من هذا أن لا تجد في رجال «الموطأ» أحدًا تُكُلِّم فيه بنقد حاله، وقد عرض ذلك لبعض رجال الأسانيد في غير «موطأ» مالك إما بندرة وإما بأكثر.
وأما النسيان والغلط فتوخى عنهما مالك ﵀ إذ اشترط أن يكون الراوي من أهل المعرفة والفقه.
روى ابن وهب عن مالك، أنه قال: ما كنا نأخذ الحديث إلا من الفقهاء، وقال: أدركت بهذه البلدة (يعني المدينة) أقوامًا لو استسقى بهم القطر لسقوا، ما حدَّثت عن أحدٍ منهم شيئًا؛ لأنهم كانوا ألزموا أنفسهم خوف الله والزهد (أي فحسب)، وهذا الشأن (يعني رواية الحديث) يحتاج إلى رجل معه تُقىً، وورع، وصيانة، وإتقان، وعلم، وفهم فيَعلَم ما يَخرج من رأسه وما يصل إليه غدًا. وروى عياض في «المدارك» أن مالكًا قال: اختلفت أيامًا إلى زيد بن أسلم، أسأله عن حديث عمر؛ أنه حمل على فرس في سبيل الله، فيحدثني، لعله يدخله شكٌّ أووهم فأتركه. وذكر مسلم بن الحجاج في الأحاديث المعنونة بعنوان «الإسناد من الدين» عن أبي الطاهر عن ابن وهب قال: قال لي مالك: اعلم أنه ليس يسلم رجل حدث بكل ما سمع، ولا يكون إمامًا أبدًا، وهو يحدِّث بكل ما سمع.
ومن الحيطة لتجنب الغلط، كان مالك ﵀ يشدِّد في رواية الحديث بالمعنى. قال عياض في «المدرك»: قال مالك: لا ينبغي للمرء أن ينقل لفظ النبي ﷺ
1 / 24
إلا كما جاء، وأما لفظ غيره فلا بأس بنقله بالمعنى، وإنما رَخص في زيادة مثل الواو والألف في الحديث والمعنى واحد.
وقد عرف من طريقة جمهور الصحابة في الرواية حرصهم على أداء مقالة النبي ﷺ كما سمعوها .. وفي حديث البخاري في أوائل كتاب الصلاة: أن عمر سأل حذيفة: هل يعلم حديث رسول الله في الفتنة، فقال حذيفة: قلت أنا كما قاله، أي: كما قاله رسول الله ﷺ لا يغير منه شيئًا، وروى الترمذي في آخر «جامعه»: أن مالك بن أنس كان يشدد في حديث رسول الله في الياء والتاء ونحوهما. وفي حديث أبي هريرة في «البخاري» أن رسول الله ﷺ قال: «إن عفريتا تفلت علي البارحة أو كلمة نحوها» إلخ. فهذا يدل على أن أبا هريرة كان يتوخى ألفاظ النبي ﷺ.
وأما الترويج فمالك ﵀ قد أعرض عن التصنُّع والتحسين في طرق الرواية، وكان يكرَّر أن يقول: قال أبو عبيدة بن محمَّد بن عمار بن ياسر لبعض أهل التصنع: «إذا أخذتم في الساذج تكلمنا معكم، وإذا أخذتم في المنقوش قمنا عنكم». ومن أجل هذا لا تراه يتشدد في تحديد صيغ التحديث ولا في التزام التصريح بـ «قال رسول الله» ﷺ، فكان أغلب الأحاديث المرفوعة في «الموطأ» هي بصيغة «أن رسول الله».
وكان لا يرى فرقًا بين أن يقول المحدث: حدثنا، أو أنبأنا، أو أخبرنا، أو سمعت، أو العنعنة، أو أن رسول الله قال، وقال لأصحابه (حين سألوه أنَقُول: حدثنا أو أخبرنا) «ألست فرغت لكم نفسي، وأقمت لكم زلل الحديث، وسقطه فقولوا حدثنا أو أخبرنا». قال إسماعيل بن أبي أويس سئل مالك عن حديث: أسماع هو؟ فقال: منه سماع ومنه عَرْض وليس العرض عندنا بأدنى من السماع، وكان البخاري يرجِّح العنعنة على قول الراوي: إن فلانًا قال، ومن الغريب أن البخاري روَى
1 / 25
حديث أبي سعيد (قول النبي ﷺ): «ليس فيما أقل من خمسة أو شق صدقة» وهو من رواية مالك في «الموطأ» إلا أن أصحاب مالك رووه بلفظ: «أن رسول الله قال ....» ورواه يحيى بن سعيد عن مالك بلفظ «عن رسول الله أنه قال». والبخاري لم يجرك يحيى بن سعيد فرواه عن مسدد، عن يحيى.
وكان مالك لا يرى فرقًا في السماع بين أن يقرأ المحدث على رواته، وبين أن يقرأ بعضهم عليه، وهو يسمع والبقية يسمعون، وقد ذكر البخاري في: باب القراءة والعروض على المحدث من كتاب العِلم من «صحيحه» فقال: سمعت أبا عاصم يذكر عن سفيان الثوري، ومالك أنهما يريان القراءة والسماع جائزًا، وأن القراءة على العالم وقراءته سواء. قال عياض: كان مالك ينكر أشدَّ الانكار على من يقول: لا يجوز العرض. بل كان مالك يرى العرض خيرًا من السماع (أي: السماع من فم الشيخ) إذا كان يقرأ متثبتًا، فكان أكثر رواية أصحاب مالك عنه هي: طريقة القراءة عليه، فيقوم أحد الرواة واقفًا يقرأ من كتاب مالك، ومالك يسمع، وقد جاء مرة بعض أهل خراسان للسماع من مالك، وكان أهل خراسان لا يرون العرض؛ فطلب من مالك السماع، فلم يجبه، فشكاه الخراساني إلى قاضي المدينة، وقال: جئت من خراسان ونحن لا ترى العرض، وأبى مالك أن يقرأ علينا، فحكم القاضي بأن مالكًا يقرأ له. قيل لمالك: أأصاب القاضي الحق؟ قال: نعم.
وأما التفاخر فقد أعرض عنه مالك أيَّما إعراض، قال له بعض أصحابه: إن فلانًا يحدثنا بالغريب، فقال مالك: من الغريب نفِرُّ، وقال له بعض من رأى كتابه: ليس في كتابك غريب، فقال مالك: سررتني.
وقد أدرك مالك عائشةَ ابنة طلحة بن عبيد الله، وهي تابعية فلم يأخذ عنها، فقيل
1 / 26
له في ذلك، فقال: رأيت فيها ضعفًا، ولو روى عنها لزاد في عواليه، ولكان بينه وبين عائشة أم المؤمنين راوٍ واسطة واحدة.
ولم يكن مالك حريصًا على الإكثار من الرواية، فكان يقول: ليس العلم بكثرة الرواية، وإنما هو نورٌ يقذفه الله في قلب من يشاء. قال سليمان بن بلال قاضي المدينة في عصر مالك: لقد وضع مالك «الموطأ» وفيه أربعة آلاف حديث فمات مالك وهي ألف حديث ونيف، يخلصها عامًا عامًا بقدر ما يرى أنه أصلح للمسلمين، وأمثلُ في الدين. وذكر ابن العربي عن ابن الجبَّاب: أن مالكًا روى مائة ألف حديث، وجمع في «الموطأ» عشرة آلاف حديث، ثم لم يزل يعرضها على الكتاب والسنة ويخبُرُها بالآثار والأخبار حتى رجعت إلى خمسمائة، وقال الكِيَا الهَرَّاسي: كان «الموطأ» تسعة آلاف حديث؛ فلم يزل مالك ينتقيها حتى بقي سبعمائة.
أظهر مالك طريقته التي سار عليها في الرواية في كتابه «الموطأ»، فأثبت فيه أحسن ما صح عنده من الآثار المروية عن رسول الله ﷺ، وما روي عن الخلفاء الراشدين، وفقهاء الصحابة، ومن بعدهم من فقهاء المدينة، وما جرى عليه عملهم بالمدينة مما يرجع إلى تلقي المأثور عن عمل رسول الله ﷺ، والخلفاء الراشدين، وقضاة العدل، أئمة الفقه.
وَبوَّب ذلك على أبواب بحسب ما يحتاج إليه المسلمون في عباداتهم، ومعاملاتهم وآدابهم، من معرفة العمل فيها الذي يكون جاريًا بهم على السنن المرضي شرعًا، فإن الأمة ما قصدت من حفظ كلام رسول الله ﷺ وأفعاله إلا للاقتداء به في أعمالهم، وقد تبعه على هذا التبويب البخاري، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، ومسلم في خصوص العنوان بالكتب من «صحيحه».
1 / 27